مركز التجارة العالمي
وهي:
تأصيل شرعي مفصل
لحدود استهداف «المدنيين» في القتال
لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية
أ.د/ محمد بن عبدالله المســعري
لندن
الأثنين: 06 ربيع ثاني 1423هـ
الموافق: 17 يونيو-حزيران 2002 م
جزى الله كل من أعان على طبعها، وتوزيعها، وجمع التوقيعات عليها، وترجمتها إلى أكثر من لغة، خير الجزاء!
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال
سؤال: كثر الخوض والكلام في ما وقع من تفجيرات هائلة في أمريكا فمن مؤيد ومبارك، ومن مستنكر ومندد. فما هو الصواب في هذه المسألة الشائكة؟! أفتونا مأجورين، مع بسط المسألة بسطاً يزيل الشبهات، ويريح القلب، لكثرة الاشتباه عند الناس، ونجوم النفاق، ومسارعة المنافقين في تولي أمريكا، والتحالف معها، وعرض مساعدتها بالقتال معها، وغموض الفتاوى وإجمالها من العلماء!
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام والتبريك التامة الدائمة على النبي الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المخلصين المجاهدين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أشهد ألا إله الله وحده لا شريك له، ولا ولد أو والد، ولا ند، ولا نظير، ولا ولي من الذل، ولا من غير إذن شفيع. وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صاحب الحوض المورورد، والمقام المحمود، المخصوص بشرح الصدر، ورفع الذكر، المبعوث إلى الأسود والأصفر، والأبيض والأحمر، سيد الرفعة والعز، صاحب لواء الحمد، وأشهد أن سيدنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم الطاهرة البتول، وروح منه، مسيح الله، سيد الوجاهة والمجد، وأشهد أن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. شهادة أدخرها ليوم البعث والنشور؛ أما بعد:
ننبه أولا أن نحواً من هذه الأسئلة قد وجه إلى صاحب السماحة الشيخ الإمام حمود العقلا الشعيبي، قدس الله سره، وأثابه، ورفع درجته، فأجاب بجواب هو هذا الذي سنفصله فيما يلي في جوهره، إلا أنه، لاستعجال السائلين، جاء مختصراً بعض الشئ، مع بعض غموض في جوانبه، بالإضافة إلى مآخذ ضئيلة على صياغته.
ومعلوم أن سماحته كان قد اعتقل من قبل النظام السعودي القمعي الخبيث وزج به في السجن لأكثر من شهرين في الحبس الانفرادي، وذلك قبل ست سنوات، بالرغم من مكانته العلمية الرفيعة، فهو من أبرز علماء الإسلام في هذا العصر، وبالرغم من كبر سنه فقد كان تجاوز السبعين آنذاك، ورغم كونه ضريراً يحتج إلى مساعدة مستمرة، وإلي قائد دائم. فسماحته لا يستطيع أن يجهر بكل ما يمكن الجهر به، وحاله كما وصفنا، فهو مكره مضطر مقهور، وهو، إن شاء الله، معذور مشكور. ثم عند مراجعة هذا البحث مراجعة نهائية وإعداده للنشر فجعنا، كما فجعت الأمة، بنبأ وفاة الشيخ الإمام، وانتقاله إلى جوار ربه، وذلك يوم الجمعة 05/11/1422هـ، الموافق 18/01/2002م، قدس الله سرَّه، ورفع درجته مع النبيين والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. وقد ألحقنا ترجمة مختصرة مختصرة للشيخ الإمام في آخر هذه الرسالة، فلتراجع.
وفتوى الشيخ الإمام هذه قد أهمََّّت نظام آل سعود فقام نايف بن عبد العزيز، وزير القمع والإرهاب (الداخلية) السعودي، بمسائلة الشيخ الإمام عن الفتوى، وهل هي من إملائه بالفعل، فقال سماحته نعم. فسكت نايف، ولم يقم بأي إجراء آخر، ولعل الفتوى صادفت هوىً في نفسه لأنه من المعلوم أن نايف بن عبد العزيز قد انضم إلى الجناح المعادي لأمريكا قبل عدة سنوات، لا حباً في الإسلام والمسلمين، ولا لحمية وطنية أو قومية، ولكن لأنه أدرك، بعقليته «البوليسية» المتخلفة البطيئة، بعد فوات الأوان، أن أمريكا تعد لآل سعود الذبح، وستعمل، في الوقت المناسب، على تصفيتهم، وقد بدت تباشير هذا الآن واضحة جلية: هذه هي «مكافئة نهاية الخدمة» التقليدية المعتادة للخونة والعملاء: {وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
لذلك استخرنا الله في كتابة هذا البحث مفصلاً، مع زوائد نافعة إن شاء الله، بدلاً من الإحالة إلى فتوى سماحة الشيخ الإمام، والاكتفاء بذلك، لما ذكرنا من اعتبارات، نسأل الله أن يرينا الحق حقاً، ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه، عليه نتوكل، وبه نتأيد.
ولتحرير المسألة لا بد من تقرير عدة أمور:
أولاً: أن أمريكا بلد ديموقراطي تتخذ فيه القرارات من الشعب مباشرة، أو من وكلائه بطريقة غير مباشرة. هذا هو المثال الدستوري، ويصدقه الواقع العملي إلى حد بعيد، مع أن للدوائر الرأسمالية، وجماعات الضغط، وبخاصة الصهيونية منها، دور فعال، يفوق حجمها، ونسبتها العددية بكثير، إلا أن الشعب الأمريكي بجملته هو الحكم النهائي، ولو بعد حين، ولو بعد صراع في دوائر اتخاذ القرار ومؤسسات المجتمع، وبعد جدل ونقاش طويل في الأوساط الشعبية والإعلامية. فالشعب الأمريكي هو الذي يتخذ القرارات، وبخاصة المصيرية منها، مثل قرارات الحرب والسلم، وأفراده كلهم مشاركون فعلياً، أو مقرون سكوتياً. فهو بالقطع من الشعوب الفاعلة، بل لعله أكثر شعوب الدنيا فعالية. وهو ليس شعباً من المستضعفين المغلوبين على أمرهم، كما هو حال عامة المسلمين في العصور المتأخرة للأسف الشديد. فالشعب الأمريكي له مشاركة إيجابية، بالفعل أو الإقرار والسكوت، في صياغة السياسات الأمريكية، وهو يتحمل، لا محالة، كفلاً من الوزر والمسؤولية، لا سيما أنه شعب يتصف أفراده، في الجملة، بالذكاء والنشاط ومحبة العدالة والحرية، وفيه نزعة تدين قوية.
وقد قال الله، تباركت أسماؤه، عن فرعون وقومه: {فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين}، (الزخرف؛ 43:54). ولا يوجد في العالم من يزعم أن قوم فرعون أكثر مشاركة في اتخاذ القرار من الشعب الأمريكي، أو أن حكام أمريكا أكثر طغياناً وقمعاً لشعبهم من فرعون لشعبه. فالشعب الأمريكي إذاً أعظم مسؤولية، وأولى أن يوصف بـ«خفة» العقل، وأكثر استحقاقاً لمسمَّى «الفسق». فالشعب الأمريكي بمجمله ليس «بريئاً»، بل هو مذنب مسؤول، ولو لإهماله الفاحش، وتقصيره البين في محاسبة حكامه على سياساتهم الخارجية الإجرامية.
على أن الولايات المتحدة الأمريكية تمارس تصرفاتها الدولية، لا سيما فعاليات الحرب، بوصفها كيان دولي واحد أي دولة تمثل أمة واحدة، لها شخصيتا الاعتبارية أو المعنوية حسب القانون والعرف الدولي، لذلك لا بد من معاملتها كشخصية واحدة، فحربها حرب لكل واحد من حملة تابعيتها، وسلمها كذلك، وكل تصرفاتها. فإذا استحق المدنيون من حملة تابعيتها معاملة معينة مثلاً، فلا بد أن يسري ذلك عليهم جميعاً فرداً فرداً من غير تمييز، إلا من أعلن عدم موافقته، وفارقهم، وتميَّز، واعتزل حسياً إلى جانب بحيث يمكن تمييزه عمن سواه. فإذا أعلنت حرباً على سبيل المثال، فكل مواطن ومقيم في أراضيها محارب، إلا إذا أعلن معارضته للحرب، واعتزل جانباً بحيث يمكن تركه، وعدم التعرض له بفعاليات قتالية، ..، وهكذا.
ثانياً: لا شك أن أمريكا دولة كافرة، أي أن نظامها نظام كفر، ودارها دار كفر، وهي بلد كافر، أي أن أغلب سكانها من الكفار، وأمريكا هذه، أعني الولايات المتحدة الأمريكية، قد اعتدت وتعتدي على المسلمين في كل مكان وترتكب في حقهم المجازر والفظائع، وتدعم أعداء المسلمين، وفي مقدمتهم إسرائيل في فلسطين المغتصبة، وروسيا في الشيشان المعذبة، والهند في كشمير المظلومة، وغيرهما. فهي في حالة حرب مع المسلمين حكماً وفعلاً. وهي في أكثر البلاد إما مخرجة للمسلمين من ديارهم ومقاتلة لهم في الدين، مهما انكرت وكابرت، أو معينة على إخراجهم وقتلهم وتعذيبهم وفتنتهم.
وهي، أي أمريكا، كذلك في حالة حرب مباشرة وفعلية ضد العراق، تستخدم فيها الوسائل العسكرية، وشتى فعاليات الحرب، ومن ذلك انتهاك المجال الجوي العراقي بالطائرات الحربية، والقصف الجوي المستمر لشتى الأهداف العسكرية والمدنية، وهم معترفون بتلك الأعمال القتالية، التي هي من أعمال الحرب، وفعاليات الحرب، التي يبررونها بأنها وفق ما يسمونها بـ«الشرعية الدولية»، أي قرارات مجلس الأمن الطاغوتية، الذي تسيطر عليه أمريكا سيطرة مطلقة، وتمتلك فيه حق النقض (الفيتو).
فما نسمعه من «جعجعة» هذا الأيام بأنهم يخوضون الآن، بعد الضربة، حرباً مع عدو «غير منظور»، لا تعرف صورته أو يرى وجهه، جهل بالحقائق وعمى عنها، أو هو كذب وتضليل متعمَّد، وهذا هو الذي نرجحه، لتضليل الشعب الأمريكي، والرأي العام العالمي. لأن الحقيقة التي لا ريب فيها: أنهم هم الذين يعادون الإسلام والمسلمين، وهم الذين جاءوا من وراء البحار وأعلنوا الحرب
على العراق، وما زالوا يحاربونه بالفعل، أي يقومون بفعاليات قتالية، تشارك فيها قواتهم المسلحة، وأجهزة استخباراتهم، ووسائل إعلامهم، في كل يوم. فحالة الحرب، بكل المقاييس المتعارف عليها بين الأمم والشعوب منذ القدم، موجودة منذ عدة سنوات، فهي لم تبدأ بضربة نيويورك وواشنطن.
هذه الحرب العدوانية بدأتها أمريكا وحلفاؤها، ولم يبدؤها المسلمون. هذه الوقائع المحسوسة لا تغيرها تبريرات القوم بالإشارة إلى قرارات الأمم المتحدة، أو «عدوان» العراق على الكويت، أو أنهم جاءوا بناءً على طلب بعض حكام العرب والمسلمين: هذا كله ربما جاز لهم أن يستندوا إليه في الزعم أنهم «محقون»، وأن حربهم «عادلة»، أو مبررة «مشروعة»، ولكنه لا يلغي الواقع الحسي وهو: أن حالة الحرب قائمة بالفعل، وأنها على قدم وساق.
أما تبريراتهم التي يزعمون فهي باطلة من الناحية الشرعية، أي من وجهة نظر الإسلام، وهي وحدها التي تهمنا. ومن أراد التفصيل فعليه بكتابنا «الأدلة القطعية، على عدم شرعية الدولة السعودية»، وبخاصة الباب المتعلق بأزمة الخليج، والأبواب المتعلقة بالأمم المتحدة.
وهي، أي هذه التبريرات، باطلة من الناحية الواقعية، فـ«تحرير» الكويت الذي زعموا، أي احتلاله في الحقيقة من قبل أمريكا، قد تم منذ أوائل 1991. فما الذي جعل القوات الأمريكية أولى بالبقاء في الكويت من القوات العراقية؟!
ونزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، الذي قرروا، قد حصل وفرغ منه منذ أواخر 1993م، وبقيت لجنة نزع السلاح بعد ذلك لا عمل لها إلا التجسس على العراق، كما اعترف بذلك أعضاؤها، وافتضح حالها، وأصبحت أضحوكة العالمين.
هذا يبين كذب وزير الخارجية الأمريكي كولن پاول، مجرم الحرب، عندما زعم، و«براءة الأطفال في عينيه»، في شهادته أمام الكونجرس الأمريكي مؤخراً: (نحن لم نذهب غازين هناك، ولم نقصف أحداً، أو دخلنا في جزيرة العرب عنوة، وإنما هرعنا بدعوة الدول الإسلامية للمساعدة في «تحرير» الكويت، ودعم «الأمن» والاستقرار. نحن لا نعادي الإسلام والمسلمين!)، أو كلاماً نحو هذا وبمعناه.
ما شاء الله كان: فقوات من هذه الباقية في جزيرة العرب حتى هذه الساعة، التي تفرض الحصار المستمر على العراق، والتي قتلت أكثر من مليون من أطفال العراق، وما زالت تقتل المزيد كل يوم، وقتلت أكثر من مائتي ألف من المدنيين البالغين، وما زالت تقتل المزيد كل يوم، والتي دمَّرت للبنية التحتية للعراق دماراً شبه كامل، وما زالت تقصف وتدمر؟! أهي قوات غازية من «المريخ» تتكون من كائنات «خضراء» اللون؟! هل يظن وزير الخارجية الأمريكي أن المسلمين، وبقية البشر في شتى أنحاء العالم، جمع من البلهاء والمغفلين؟!
ثم ماذا يعني بـ«الدول الإسلامية»؟! أيعني الشعوب الستضعفة المغلوبة على أمرها، إن كان كذلك فقد كذب جهاراً، أم يعني أوليائه، بل أذنابه من الحكام، وليس منهم أحد جاء بانتخاب أو تصرف بتفويض شعبي، فأين هي «ديموقراطيته» المزعومة، وحربه الجارية الآن تحت شعار: (حرية دائمة)؟! لقد مل الناس هذا الدجل والهراء، ولم يعد أحد ينخدع بهذه الحملات الديماجوجية، اللهم إلا الشعب الأمريكي الذي يريد أن ينام مستريح البال بعد أن خٌدِع أو خدع نفسه بهذا التبرير السخيف المضحك.
الجدير بالذكر أن الإرهابي القاتل كولن پاول هذا هو نفسه الذي قال: (في الحقيقة ... هذا العدد لا يهمني كثيراً)، وذلك جواباً على من سأله عن عدد القتلى العراقيين في مجزرة «عاصفة الصحراء» عقيب انتهائها. أما نحن فيهمنا هذا العدد جداً: إنه يفوق المائتي الف قتيل عراقي مسلم، أكثرهم من المدنيين.
ويزداد بطلان هذه التبريرات وضوحاً إذا علمنا أن قرارت الأمم المتحدة المزعومة هي في الحقيقة قرارات ما يسمَّى بـ«مجلس الأمن الدولي»، الذي تمتلك فيه أمريكا حق النقض المطلق. فلم تصدر تلك القرارات من «الجمعية العامة» للأمم المتحدة حتى يقال أنها تمثل، ولو إلى حد ما، إرادة «المجتمع الدولي»، ولم تتم صياغتها بطريقة «ديوقراطية»، ولو شكلاً، بالرغم من أن القوم قد ملؤوا الدنيا ضجيجاً انهم هم دعاة «العدل»، و«حقوق الإنسان» و«الديوقراطية».
ومعلوم أنه يستحيل صدور قرار من «مجلس الأمن» هذا، منذ نشأته، إلا إذا وافقت عليه أمريكا نظراً لتملكها لحق «النقض». غير أن الحال ازداد سوءً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوطه عن مراتب الدول الفاعلة وانتقال السلطة فيه إلى طغمة إجرامية تشبه عصابات المافيا، لا هم لها إلا الثراء غير المشروع وغسيل الأموال، فلم تعد روسيا تمتلك حتى الجرأة على التقدم بمقترحات مستقلة، دع عنك معارضة الأهواء الأمريكية.
وبريطانيا، وهي عضو دائم يمتلك كذلك حق «النقض»، تسير في ركاب أمريكا بدون قيد أو شرط منذ أكثر من عقدين وذلك: إما للحصول على فتات الموائد، أو لتحين فرص الزلات الأمريكية لطعنها من الخلف، أو للأمرين معاً، وهي في الجملة تمارس، ولو في الظاهر فقط، دور «كلب الحراسة» للسيد الأمريكي، كما قال المفكر الأمريكي البرفيسور ناعوم تشومسكي، وقد بالغ في ذلك فهي لا ترقى إلى مستوى «كلب الحراسة»، وإنما هي «كلب نباحة»، ووصفها جورج جالاوي، عضو البرلمان البريطاني نفسه، بأنها: (راقصة هز بطن لأمريكا)!
وفرنسا أكثر خسة وجبناً وضعفاً من أن تواجه أمريكا مباشرة، وهي التي لم تستطع تحمل «خمار» بنات صغار في مدارسها، فنسيت «لائكيتها»، ونسيت مبادئ الثورة الفرنسية «العظيمة»، وقامت تتخبط، وتتصرف بطريقة تشبه «المبرسمين» و«السكارى»، و«المجانين». إن من مساخر الدنيا أن تحتسب فرنسا في عداد الدول «العظمى» التي تمتلك حق النقض!
أما الصين، وما أدراك ما الصين، وهي العضو الدائم الخامس المالك لحق «النقض» فهي حريصة على تجنب المواجهة مع أمريكا حتى تستكمل تصنيع نفسها، وبناء قوتها النووية، ثم يكون حينئذ لكل حادث حديث.
وبلفظ آخر أن جميع قرارت المجلس على طول العقد الأخير من القرن العشرين هي، لا محالة، قرارات أمريكية محضة. فأمريكا هي التي تشرع، وتنفذ، وتحكم، وتقضي، وتشهد وتعاقب: فهي الشاهد والخصم والحكم، بالتناقض مع كل مبادئ القضاء العادل في جميع النظم والشرائع. هذه هي الهيمنة المطلقة، وهذا هو «التسلط» المطلق المفضي لا محالة إلى «الفساد» و«الظلم» المطلق.
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي شارك فيه المجاهدون الأفغان مشاركة فعالة، ظنت أمريكا أنها أصبحت هي القوة المطلقة التي لا قوة فوقها، فازدادت طغياناً وعتواً ونفوراً وكفراً، ونسيت أن الله سبحانه وتعالى أقوى منها وهو قادر على إذلالها وتحطيمها: {إن بطش ربك لشديد v إنه هو يبدئ ويعيد v وهو الغفور الودود v ذو العرش المجيد v فعال لما يريد}.
ثالثاً: أن الذي يحكم العلاقات بين المسلمين وغيرهم، كما أسلفنا، هو الإسلام، كما هو معَّرف في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان، وليست المناورات والألاعيب السياسة أو المصالح الشخصية، أو ما يتوهم أنه من مصالح الأمم والشعوب المادية. هذا هو معنى الإسلام: أن يكون التسليم الكامل المطلق لحكم الله ورسوله، وضده الكفر والتمرد على أمر الله وحكمه، والطعن في ربوبيته وسيادته، ثم اللعنة الأبدية، والنار السرمدية.
وقد بين الكتاب العزيز، والسنة النبوية ذلك بياناً كافياً شافياً حاسماً، بحيث أصبحت الأحكام في هذا الباب من المقطوع به، المعلوم من الدين بالضرورة، بحيث يكفر منكره، ويخرج من الإسلام بجحده. ومن أهم تلك الأحكام أن العلاقة مع الكفار الحربيين هي علاقة عداء وحرب وجوباً لازماً لا هوادة فيه، ما دامت حالة الحرب قائمة، وأن توليهم ونصرتهم، والمشاركة في القتال معهم ضد المسلمين، في هذه الحالة كفر وردة، وليس فقط ذنباً شنيعاً من كبائر الذنوب فحسب.
ومن توليهم ونصرتهم، المخرجة من الملة، معاونتهم في حربهم على المسلمين بسلاح، أو مال، أو قلم، أو لسان (بما في ذلك الفتاوى، والخطب، والقصائد، والأناشيد، والأغاني، والقصص، والمسرحيات، وغيرها من أسليب الأدب، والفن، والدعاية)، حتى ولو كان هؤلاء المسلمون معتدين ظلمة، ومن شنيع ذلك: الحرب معهم، وإعطائهم القواعد الحربية أو تمكينهم من استخدامها، والسماح لهم باستخدام الأراضي أو الأجواء الإسلامية معبرا لقتال أحد من المسلمين. وقد أصلنا ذلك بأدلته، وفصلناه غاية التفصيل، بل أشبعناه إشباعاً، في كتنبنا المسمَّى: «الموالاة والمعاداة»
لاحظ أننا نفهم أحكام «الموالاة والمعاداة» فهمها الصحيح، إن شاء الله، وهو أنها تتعلق بالكفار المحاربين المعتدين فقط لا غير. أما غير المحاربين فالعلاقة معهم علاقة إحسان ورحمة على جميع المستويات: المستوى الفردي والجماعي والدولي، فلا تقتصر العلاقة على العدل والمعاملة بالمثل فقط. ويجوز أن تكون علاقة «مودة» و«صداقة» حميمة وتبادل الزيارات والهدايا على المستوى الفردي، لا سيما مع ذوي القربى والجيران، وكذلك ابتدارهم بالتحية والسلام وردها عليهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع موتاهم.
فنحن بحمد الله لا نوافق الجهلة من أتباع «الدعوة الوهابية»، المعروفين بالسطحية وتفاهة الفكر، المتسمين بـ«السلفية» زوراً وبهتاناً، من حزب آل سعود وفقهائهم الأشرار، الذين يتظاهرون بالتقوى، ويتصنعون الورع تصنعاً في مسخهم لمفهوم «الموالاة والمعاداة» حتى أصبح «تجهماً» في وجه كل كافر مسالم، وتنفيراً لكافة بني الإنسان من الإسلام، رحمة الله المهداة إلى الإنسانية، بل إلى العالم أجمع. ولما جاءت ساعة الحسم، حين تجب «المعاداة» حقاً في مواجهة العدو الحربي، عدو الله ورسله، انبطح هؤلاء عند أقدام «السيد» الأمريكي، يلعقون حذائه، ويطلبون منه العون، ويحاربون تحت رايته أهل الإسلام، فنجم نفاقهم، وظهر ما يكانوا يبطنون من الكفر وبغض أهل الإسلام، وكراهية الخير للمسلمين، وبان لكل ذي عينين أن «برائهم» المزعوم من الكفار، الذي يجعجعون به في كل مكان، ما كان إلا أكذوبة «صلعاء»، وما هو إلا نفور «عنصري» أو عداء قبلي أو قطري أو قومي، لا علاقة له بالإسلام، ولا مدخل له في الإيمان. فالحمد لله الذي فضحهم فأظهر نفاقهم، وكشف كذبهم ودجلهم.
وقد أوضحنا هذا في فتوى سابقة معنونة «وجوب نصرة أفغانستان» بينا فيها: أن كل من شارك أو أعان أمريكا في قتالها للأفغان، أو أعلن بذلك، كفر بذلك وأصبح مرتداً حربياً تسري عليه أحكام المرتدين الحربيين المفصلة هناك، كما ذكرنا منهم بالإسم: العميل الهندو-أمريكي برفيز مشرف، دكتاتور پاكستان، وبرهان الدين رباني، رئيس التحالف الشمالي في أفغانستان، وغيرهم من الخونة والعملاء، السفلة الأشقياء. ودعونا جماهير المسلمين، وأهل الشوكة منهم خاصة، إلى التحرك لإلقاء القبض على هؤلاء الخونة المرتدين، وتقديمهم إلى القضاء الشرعي، ثم إنفاذ أحكام الله فيهم.
ونزيد هذا هنا بياناً فيما يتعلق بما يسمًَى «تحالف المعارضة الشمالي» في أفغانستان الذي كان، قبل الأحداث، منغمساً في صراع دموي، أي حرب أهلية، ضد نظام طالبان الذي بسط سيطرته على الأغلبية الساحقة من أرض أفغانستان وسكانها. فنقول أن حال هذا «التحالف» من الناحية الشرعية لا يخرج عن واحدة من الاحتمالات التالية:
الاحتمال الأول: إذا سلمنا بأن نظام طالبان، لسيطرته على أكثر أفغانستان، وتوطيده الأمن والاستقرار في الجملة، هو الحكومة الفعلية لأفغانستان، بحكم الأمر الواقع. وإذا لاحظنا كذلك أنه في الجملة نظام إسلامي، على قصور شديد، وعقلية جامدة منغلقة، بل هي بدائية متخلفة، وجوانب غامضة لم تتضح بعد، مثل موقفهم من الأمم المتحدة وغيرها من طواغيت الكفر الدولية، وهي مواقف تعود في الأرجح إلي قصور الفقه، وليس لسوء النية. إذا سلمنا بذلك فلا مناص من تصنيف «التحالف» بأنه «فئة باغية»، أي جماعة متمردة على صاحب الولاية الشرعية. ونظراً لسطيرة هذا «التحالف» على بعض الأراضي، وهيمنته على بعض السكان، وامتناعه بالقوة المسلحة، فهو يعد« «طائفة ممتنعة» تقاتل وتحارب حرب بغاة متمردين. هذا قبل الأحدات الأخيرة، أما بعد الأحداث الأخيرة وعرض «التحالف» أن يتعاون مع أمريكا في قتال طالبان، وطلبه منهم الدعم والمساعدة، وتزويدهم بالمعلومات الاستخباراتيه، بهذا ارتد قادة التحالف، والعالمين بذلك، المقرين له، من جنوده ورجالاته عن الإسلام، إن كانوا مسلمين من قبل، وأصبحوا «مرتدين حربيين» تسري على كل واحد منهم أحكام المرتد الحربي، التي فصلناها في «وجوب نصرة أفغانستان»، وإليكها على وجه التلخيص:
(1) هدر دمه، واستحقاقه للقتل، لأنه محارب لله ورسوله كما هو في آية المائدة، إذا قدر عليه، ولم يكن تاب قبل القدرة عليه.
(2) انفساخ نكاحه، وسقوط ولايته على القاصرين من أولاده وذوي قرابته، وسقوط ولايته في النكاح عن من كانت له ولاية نكاح عليهن من النساء من ذوي قرابته.
(3) إباحة ماله، ووجوب استيفائه، عند القدرة، إلى بيت مال المسلمين، أو أخذه غنيمة من قبل المجاهدين. فلا تجوز للمسلمين وراثته، ولا يرث هو (أو هي) من المسلمين.
(4) عدم جواز دفنه في مقابر المسلمين، لأن الدفن مع المسلمين كرامة لا يستحقها إلا المسلم، وهو (أو هي) كافر حربي مرتد، وليس بمسلم. وعدم جواز الوقوف على قبره، أو الاستغفار له، بنص الآية الكريمة.
(5) معاملته بالمعاداة والبغضاء والمقت التي يستحقها كل كافر حربي. ومعلوم أن المسلمة لا تحل لكافر، وأن المرتدة ليست كتابية، فلا تحل لمسلم. ويكفر كل من رضي بحاله، أو استحل مصاهرته، إذا بلغه هذا الحكم، واطلع على أدلته، وقامت عليه الحجة فيه، ولم يكن معذوراً بإكراه ملجئ.
(6) لا فرق بين الرجال والنساء في هذا الحكم. فالمرأة المرتدة الحربية، المباشرة للقتال فعلاً، يهدر دمها كالرجل الحربي سواء، ولو كانت محاربتها تقتصر على الغناء وإلقاء الشعر، كما عامل النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قينات قريش المحاربات له فقط بالغناء والشعر، فأهدر دمائهن، وأمر بقتلهن، مع نهيه العام عن قتل النساء، وتشديده في ذلك.
أما «التحالف الشمالي» بوصفه «طائفة ممتنعة» فيصبح حينئذ «طائفة متنعة كافرة مرتدة» تقاتل قتل أهل الكفر والردة، كما هو مبين في كتب الفقهاء، ومن ذلك ضرب أعناق «العيون» و«الجواسيس» منهم، وكذلك «المتسللين» من القوات الخاصة، بدون رحمة ولا هوادة، مهما زعم هؤلاء أنهم مسلمون أو تلفظوا بالشهادتين.
إلا أن نسائهم، وهن في الأغلبية الساحقة من قعيدات البيوت، وهن أميات لا يعلمن شيئاً من الأحكام الشرعية، وغافلات لا يدرين ماذا يجري في العالم، يجب معاملتهن معملة أسرى المسلمين الموجودين في أيدي الكفار، فيعمل على تحريرهن من الأسر، وإفهامهن الوضع، وتثقيفهن بالإسلام، وبعد انقضاء عدة الاستبراء، وهي وضع الحامل أو حيضة واحدة أو شهر لمن يأسن المحيض أو الائي لم يحضن، بعد ذلك يزوجن بالأكفاء من الصالحين والمجاهدين، وكذلك أطفال هؤلاء المرتدين من الرجال إنما ولدوا تحت اسم الإسلام، وأمهاتهم كما أسلفنا مسلمات مقهورات، فيلحقوا بأمهاتهم، لأن الإسلام دائماً وأبداً، يعلو ولا يعلى عليه.
هذا الاحتمال الأول هو التصوير الأقرب لواقع الحال، وهو الذي ندين الله به، ونرى تطبيق المترتب عليه من الأحكام.
الاحتمال الثاني: أن «التحالف الشمالي»، على عجره وبجره، هو الحكومة الشرعية لأنه كان سابقاً في الحكم على طالبان، ثم خرجت عليه طالبان، بدعم باكستان، ومن ورائها قوى دولية أخرى، فسيطرت على أكثر أفغانستان، وحاصرت «التحالف الشمالي»، الذي هو صاحب الولاية الشرعية، في مكان ضيق. ولكن «صاحب الولاية الشرعية» ما زال موجوداً بالفعل، ممتنعاً بالقوة، متصرفاً في مناطق سلطانه كما تتصرف الدولة، فضلاً عن كونه معترفاً به من أغلب الدول في العالم. فطالبان هي «الفئة الباغية»، وليس التحالف الشمالي.
نقول: ليس هذا هو التصوير الصحيح للواقع، ولكن دعنا نسلم به جدلاً، وأنه الواقع كما هو، فماذا يترتب على ذلك؟ وهل يختلف الحكم بعد هذه الأحداث الأخيرة الخطيرة؟
نقول: أنه بمجرد عرض «التحالف» أن يتعاون مع أمريكا في قتال طالبان، التي هي في هذا التصوير «الفئة الباغية»، وطلبه منهم الدعم والمساعدة، وتزويدهم بالمعلومات الاستخباراتيه، بهذا ارتد قادة التحالف، والعالمين بذلك، المقرين له، من جنوده ورجالاته عن الإسلام، إن كانوا مسلمين من قبل، وأصبحوا «مرتدين حربيين». هذا كفر بواح، عندنا فيه من الله برهان، فالولاية الشرعية التي سلمنا جدلاً أنها كانت موجودة قبل ذلك، قد سقطت، أو بلفظ أدق فنيت وعدمت، وأصبح نظام «التحالف الشمالي» نظام كفر، إن لم يكن كذلك من قبل، كما فرضنا جدلاً، ومن باب التساهل في البرهان. وهو فوق ذلك نظام كفر من نوع خاص، فليس هو:
(1) نظام كفر أصلي مستقر، أغلب مواطنيه من الكفار، كحال أمريكا وبريطانيا،
(2) وليس هو نظام كفر استقر وطال عليه الأمد بتقصير المسلمين وتخاذلهم، بالرغم من كونهم أغلبية المواطنين، بعد أن كان إسلامياً ثم انقلب إلى الكفر كنظام أتاتورك الكافر الخبيث في تركيا،
(3) ولا هو نظام كفر استقر وطال عليه الأمد بجهل المسلمين وتضليل «المشايخ» و«الملالي»، بعد ظهور الكفر البواح، كما هو حال نظام آل سعود، الطاغوتي القذر، في جزيرة العرب، الذي لا زالت الجماهير العريضة تظنه إسلامياً.
(4) بل هو، وفق فرضيتنا الذي سلمنا بها جدلاً في أول النقاش، كان إسلامياً، ثم أظهر الكفر البواح كنظام، وارتد القائمون عليه كأفراد، فيجب على المسلمين، أفراداً وجماعات وطوائف وكتل، عند الاستطاعة، «منابذته» بالسيف فور ذلك، كما هو في حديث عبادة بت الصامت، حتى لا يظهر الكفر ويسيطر، ثم يدوم ويستقر، ويحكم الكفار والمرتدون ويهيمنوا.
والاستطاعة، كانت موجودة، وتتمثل في طالبان، الذين أصبحوا، بحكم الأمر الواقع بوصفهم الفئة الأقوى، والأقرب للحق، على عجرهم وبجرهم، وبموجب أحكام الضرورة، هم النظام الشرعي، الذي تجب مناصرته، والقتال تحت رايته. وما قلناه، في الاحتمال الأول، عن كيفية التعامل مع «التحالف الشمالي»، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وطائفةً ممتنعةً، ينطبق بحروفه ها هنا بدون أدنى تغيير.
الاحتمال الثالث: كل من طالبان و«التحالف الشمالي» ليس شرعياً، وكل واحد منهم عنده حق وباطل، فالأمور متشابكة، والمواقف غامضة. فنقول: نسلم لكم بهذا جدلاً، ولكنها لم تعد الآن بحمد الله غامضة فبمجرد عرض «التحالف» أن يتعاون مع أمريكا في قتال طالبان، وطلبه منهم الدعم والمساعدة، وتزويدهم بالمعلومات الاستخباراتيه، وقاتل بالفعل تحت رايتهم، بهذا ارتد قادة التحالف، والعالمين بذلك، المقرين له، من جنوده ورجالاته عن الإسلام، إن كانوا مسلمين من قبل، وأصبحوا «مرتدين حربيين». وما قلناه تحت «الاحتمال الثاني» ينطبق هنا كذلك، بل من باب أولى.
ومهما فرضت وتخيلت من الأحوال، فلن يجدي ذلك شيئاً في إخراج «التحالف الشمالي» من حمأة الردة والكفر، بسبب توليهم للكفار، ومقاتلتهم للمسلمين مع الكفار، وتحت راية الكفار: هذه هي قاصمة الظهر، وورطة الأبد، لا مخرج منا إلا بالاعتراف بالذنب، والإقرار بالردة، فإعلان التوبة، ثم التلفظ بالشهادتين مرة أخرى، وصرف الأسنة عن المسلمين وتوجيهها إلى الكافر الحربي. أما قبل ذلك فلا مناص من وجوب تطبيق الأحكام المذكورة تحت «الاحتمال الأول» عليهم، من كل مسلم قادر، «طالبان» وغيرها.
وإنه لمن المؤسف حقاً، وما تدمي له قلوب المخلصين، أن نرى «ميوعة» وتملصاً من تطبيق هذه الأحكام الشرعية بدون مداهنة أو هوادة على مستحقيها من الخونة والعملاء، المرتدين الأشقياء، من أمثال برهان الدين رباني، وبرفيز مشرف، وآل سعود، من قبل كبريات الحركات الإسلامية السياسية، ونحن نصرح ها هنا، ولا نلمح كما كنا نفعل في السابق من الأزمنة، أننا نقصد في المقام الأول «الإخوان المسلمين» في العالم العربي، و«الجماعة الإسلامية» في پاكستان وشبه القارة الهندية، والعديد من الفصائل «السلفية». لا بد لنا من أن نفترض أن الدوافع هي الحزبية البغيضة (برهان الدين رباني محسوب مثلاً على «الجماعة الإسلامية» و«الإخوان المسلمين»، أو المداهنة في دين الله خوفاً على العطايا المالية، والمصالح الدنيوية، التي يسميها القوم، زوراً وبهتاناً: «مصلحة الدعوة»، لا سيما وأنه لم يأت من هؤلاء رد شرعي مفصل مؤصل على ما ذكرناه مختصراً أعلاه، وهو مؤصل في مواضعه المذكورة بكل تفصيل وإشباع، وخاصة بعد صدور تلك الفتوى الشنيعة التي تحل للمسلمين في الجيش الأمريكي قتل وقتال إخوانهم في أفغانستان، مع كون أهم موقعيها، وهو الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، تراجع عنها، وتبرأ علناً منها، إلا أن ذلك لا يكفي، ولا يشفي!
فعلى الجماعات الإسلامية السياسية أن تتقي الله في أمتها ونفسها وأن تفك الارتباط فوراً مع هذه الأنظمة والحركات المخذولة العميلة، وتجهر وتصرح بعدم شرعيتها، وأن لا تتخاذل عن مواجهتها بدعوى الحكمة المكذوبة، وحقن الدماء المعصومة. نقول لهؤلاء جميعاً إن مواقفكم المداهنة المتخاذلة مسخت جماعاتكم إلى أعمدة للأنظمة الطاغوتية، وانحطت بأعمالكم إلى مجرد أعمال خيرية «تخديرية» تؤكد مقولة اليساريين أن الدين «أفيون الشعوب».
إن إفلاسكم في الميدان السياسي، وعجزكم عن اقناع الجماهير بانتخابكم، كما هو بين في پاكستان والأردن مثلاً، لبرهان ساطع على أن الجماهير قد فقدت الثقة بكم، ولم يعد ينطلي عليها نفاقكم ومداهنتكم، وإن الحكام يستخدمونكم دروعاً لأنظمتهم الشيطانية النتنة، فإذا فرغوا منكم أو من بعضكم، ألقوا بكم في المزابل والمراحيض: ألا تستيقظون؟! ألا تستحون؟!
أليس من التضليل والإساءة إلى الأمة جميعها أن تدعوا - معشر «الإخوان المسلمين» في الأردن - الناس إلى التظاهر، ثم تقومون بإلغاء المظاهرة قبيل قيامها بساعات فقط، كما فعلتم في الأردن في الماضي القريب احتجاجاً على مجازر الاجتياح الإسرائيلي، بدعوى الخوف من سفك الدماء؟! سبحان الله: ألم يكن احتمال سفك الدماء وارداً عندما دعوتم لها قبل ذلك بأيام قليلة؟! نحن نعلم أن الواقع، وطبيعة النظام الأردني لم تتغير في تلك الأيام المعدودة، فهل تغير نظام الكون خلال أيام قليلة؟! أم تغيرت الأحكام الشرعية في بحر بضعة أيام؟! أم أنكم حمقى تدعون، بدون تفكير وتدبر، إلى أمر يؤدي إلى سفك الدماء، ثم تستفيقوا من غفلتكم متأخرين؟! أم لعل بعض الألسنة الخبيثة صدقت عندما زعمت أنكم «عملاء» للنظام الأردني، وأنكم إنما دعوتم للمظاهرة عالمين بأنها ستلغى في حينه وذلك إفشالاً لمظاهرات أخرى من جهات أخرى كانت تحت الإعداد، وذلك خدمة لأسيادكم في النظام الأردني؟! إن صحت الأخيرة فهي والله قاصمة الظهر: إنها الخيانة العظمى لله ورسوله وللمؤمنين، والردة الصريحة، المؤدية إلى اللعنة الأبدية والنار السرمدية! نريد منكم برقية عاجلة توضح هذا بما لا لبس فيه: ألا هل بلغت؟! أللهم فاشهد!
رابعاً: عودة إلى الموضوع الرئيسي نقول: مما لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية تحرم استهداف النساء والأطفال والشيوخ الكبار والرهبان، وكل من لم يشارك في القتال ويباشره ضد المسلمين، أي تحرم ابتدائهم بالقتال أشد التحريم. فلا نطيل بذكر الأدلة لا سيما أن أئمة الكفر، ورؤوس الظلم والعدوان والضلالة، مجرمي الحرب، الإرهابيين القتلة: بوش وبلير حفظوها وأصبحوا يرددونها!!
وقد بقي المسلمون ملتزمين بذلك طوال عصورهم، لا يخرج عليه إلا مجرم فاسق، ولا نذكر ولا واقعة واحدة حصل فيها هذا بالفعل، ومن كان عنده علم بواحدة منها فليتحفنا بها مشكوراً لنشجب فاعلها ونلعنه على أعواد المنابر.
إلا أن الغرب الكافر في هذه العصور الحديثة، خصوصاً بعد اختراع الطائرات، وأسلحة الدمار الشامل، شرع في استهداف المدنيين، وما يسمُّونه بـ«القصف الاستراتيجي» للمدن والمنشئات المدنية. ولم تتورع أمريكا من قصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان بالقنابل الذرية، مهلكة أكثر من ثلاثمائة ألف نسمة بريئة، بالرغم أن اليابان كانت على وشك الاستسلام، وإنهاء الحرب، وقد بدأت المفاوضات في هذا الاتجاه فعلاً، وبالرغم من أن شعبها كان مغلوباً على أمره تحت حكم امبراطوري عسكري. وقبل ذلك بقليل قصفت بريطانيا مدينة دريسدن الألمانية بالقنابل الحارقة فأهلكت أكثر من مائتي الف نسمة بريئة من الألمان، وهم بنو عمومة الانجليز ويدينون بالنصرانية مثلهم، وكانوا مغلوبين على أمرهم تحت حكم «نازي» متجبر، أهلكتهم في ليلة واحدة، مع أن دريسدن ليست بالمدينة الصناعية أو العسكرية، وهي ضئيلة القيمة الاستراتيجية. بل إن شرهم أدرك الحيوان والنبات، حيث قاموا في فييتنام، مثلاً، بإتلاف الغابات على نطاق واسع، بالإضافة إلى القصف الواسع، وزرع الألغام الذي أهلك في الجملة من ثلاثة إلى أربعة ملايين فييتنامي. وجرائم القوم كثيرة تعد بالمئات، فلا نطيل بذكرها ها هنا، فلعلنا نفردها برسالة مستقلة.
فالقوم إرهابيون دمويون قتلة، مجرمون ظلمة، لا يعرفون الرحمة، وإن كانوا يجيدون الكلام الجميل المنمق عنها، والتباكي عليها: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام v وإذا تولَّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد v وإذا قيل له اتق الله: أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد}، (البقرة؛ 2:204-206).
فاستهداف المدنيين ابتداءً، هذه «البدعة» الملعونة، من اختراعهم هم، وليس لأهل الإسلام فيها، ولله الحمد والمنة، أي مشاركة مطلقاً.
ويكفيك لمعرفة عقليانهم المظلمة الإجرامية، ونفوسهم الخبيثة الشيطانية جواب سفيرة أمريكا لدى الأمم المتحدة آنذاك الإرهابية المجرمة/ مادلين أولبرايت على من سألها قائلاً: [سمعنا بأن نصف مليون طفل قد ماتوا (يعني: بسبب الحصار والعقوبات المفروضة على العراق)، أقصد أن هذا عدد من الأطفال أكثر ممن مات في هيرشيما. هل هذا الثمن مستحق (يعني: مقابل ما تزعمه أولبرايت من مصالح مترتبة على العقوبات والحصار)؟!]، فأجابت: [نحن نعتقد أن هذا الثمن مستحق..]. هذا ما رآه ملايين من البشر في البرنامج التلفزيوني الشهير «ستين دقيقة» المبثوث على الهواء بتاريخ 12 مايو 1996م.
لاحظ أن هذه الدموية المجرمة، الملعونة بلعنة الله وملائكته والناس أجمعين، لم تجادل في العدد المذكور (نصف مليون طفل) مطلقاً، فالأمر لا يخلو من أثنتين:
الأول: أن العدد صحيح لا جدال فيه، لا سيما أنه بني على تقديرات حذرة لمنظمات طبية وخيرية أمريكية، وهذه مصيبة كبرى.
الثاني: أنها لا تبالي بصحة العدد فلا فرق عنده بين نصف مليون طفل قتيل، أو عشرة ملايين، فهم في نظرها، على التحقيق، من الحشرات أو الجرذان، لا بأس بإبادتها، والتخلص منه. فإن كان هذه، فهذه، والله، أعظم وأشنع.
ونحن نرجح أن كلا من الاعتبارين صحيح: فالعدد صحيح، ولا جدوى من الجدال فيه، و،الأمر هين، في نظر أولبرايت، فلا بأس من إبادة تلك «الحشرات» المزعجة!
وأولبرايت تتكلم هنا بصيغة الجمع: [نحن نعتقد أن هذا الثمن مستحق..]، معبرة عن وجهة نظر الإدارة الأمريكية بصفتها الجماعية الرسمية، لا عن رأيها الفردي الخاص، تجاه ما يسمونه بـ«المجتمع الدولي»، وليس في حديث خاص، أي في التحليل النهائي عن وجهة نظر أغلبية الشعب الأمريكي، وقد كوفئت على هذا وغيره بالترقية فأصبحت وزيرة الخارجية الأمريكية بعد ذلك.
وإذا كان العدد صحيحاً بتاريخ 12 مايو 1996م، فما هو العد بتاريخ 10 سبتمبر 2001، أي قبل ضربة نيويورك وواشنطن؟! لا أحد يدري، ولا أحد في الغرب «الإنساني» «الديموقراطي» يبالي، إلا مجموعة عنيدة من البرلمانيين الإنجليز «المشاغبين»، من أمثال «توني بين»، و«جورج جالاوي»، و«جيريمي كوربين»، وغيرهم من الشرفاء، وبعض النبلاء الأحرار من الأمريكيين وغيرهم مثل وزير العدل الأمريكي السابق «رمزي كلارك»، كانت وما تزال تطالب، بدون جدوى، حتى بحت أصواتها، وأوشك اليأس أن يستحوذ عليها، برفع الحصار الإجرامي، والعقوبات القاتلة عن العراق. وآخر تقديراتهم أن القتلى من الأطفال قد تجاوز عددهم المليون وربع المليون، بالإضافة إلى مئات الألوف من قتلى البالغين، وعشرات الألوف من أحوال السرطان، والدمار شبه الكامل للبنية التحتية للعراق التي كلف إنشاؤها مئات الألوف من ملايين الدولارات. وعند أمريكا، وحلفائها، من الحقد والشر والغطرسة مزيد.
وإليك نموذج آخر من «الإنسانية»، ومحبة «العدل» و«الحرية» الذي تتحلى به أمريكا: [سننسف بطاريات «سام» الملعونة. إنهم يعلمون أننا نمتلك بلدهم، نمتلك أجوائهم ... نحن نملي عليهم كيف يعيشون وكيف يتكلمون. هذه هي عظمة أمريكا الآن. هذا أمر طيب (أي: يجعلك تشعر بالسعادة)، لا سيما أن هناك نفط كثير نحتاجه..]، هكذا تكلم العميد (البريجادير جنرال) ويليام لوني في مقابلة له مع الـ«واشنطن پوست» المنشورة بتاريخ 30/أغسطس/1999م، مشيراً إلي القتل الوحشي لمئات من المدنيين العراقيين، من الرجال والنساء والولدان، خلال نحو من عشرة آلاف طلعة قامت بها القوات الجوية الأمريكية والبريطانية على العراق في الأشهر الثمانية الأولى من عام 1999م فقط!
وبهذه المناسبة، مناسبة ذكر فظائع الحصار الإجرامي على العراق، والطلعات الجوية المتكررة، والقصف العشوائي الذي لا ينقطع، بهذه المناسبة نهدي هذه القصة، قصة ثمامة بن أثال الحنفي، إلى أولئك الذين يطعنون في نبوة سيدي أبي القاسم محمد، رسول الله وخاتم النبيين، لما فعله ببني قريضة، وهو وايم الله جزاء عادل على نقضهم العهد. وإليك قصة ثمامة:
v كما جاءت في «سنن البيهقي الكبرى» بتمام طولها: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن بن إسحاق ثنا سعيد المقبري عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: (ان إسلام ثمامة بن أثال الحنفي، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دعا الله حين عرض لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما عرض له أن يمكنه الله منه وكان عرض له وهو مشرك فأراد قتله. فأقبل ثمامة معتمرا وهو على شركه حتى دخل المدينة فتحير فيها حتى أخذ وأتي به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأمر به فربط إلى عمود من عمد المسجد فخرج عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما لك يا ثمامة، هل أمكن الله منك؟!»، قال: (وقد كان ذلك يا محمد: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالا تعطه!)، فمضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتركه حتى إذا كان الغد مر به فقال: «ما لك يا ثمام؟!»، فقال: (خيرا يا محمد: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالا تعطه)، ثم انصرف عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه: (فجعلنا المساكين نقول بيننا ما نصنع بدم ثمامة والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة!)، فلما كان الغد مر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «مالك يا ثمامة؟َ»، فقال: (خيرا يا محمد: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسل مالا تعطه!)، فقال رسول الله: «اطلقوه فقد عفوت عنك يا ثمام»، فخرج ثمامة حتى أتى حائطا من حيطان المدينة، فاغتسل فيه، وتطهر، وطهر ثيابه، ثم جاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقال: (يا محمد: والله لقد كنت وما وجه أبغض إلي من وجهك، ولا دين أبغض إلي من دينك، ولا بلد أبغض إلي من بلدك، ثم لقد أصبحت وما وجه أحب إلي من وجهك، ولا دين أحب إلي من دينك، ولا بلد أحب إلي من بلدك> وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. يا رسول الله إني كنت قد خرجت معتمرا وأنا على دين قومي فبشرني صلى الله عليك في عمرتي!)، فبشره، وعلمه فخرج معتمرا، فلما قدم مكة وسمعته قريش يتكلم بأمر محمد من الإسلام قالوا: (صبأ ثمامة!)، فأغضبوه فقال: (إني والله ما صبوت، ولكني أسلمت، وصدقت محمداً، وآمنت به: وايم الذي نفس ثمامة بيده، لا يأتيكم حبة من اليمامة، (وكانت ريف مكة) ما بقيت حتى يأذن فيها محمد، صلى الله عليه وسلم!)، وانصرف إلى بلده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يسألونه بأرحامهم: أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام! ففعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم]، هذا إسناد متصل صحيح، غاية في القوة، صرح فيه الإمام ابن إسحاق بالتحديث. وقد أخرج الأئمة البخاري، ومسلم، وابن حبان، والليث بن سعد، وأحمد وغيرهم هذا الحديث من طرق كثيرة مطولة ومختصرة، ولكن هذا هو أتمها في نسق واحد، ونص البخاري مثله باختصار طفيف.
ألا ما أسعدك يا قريش، وأنت زعيمة الكفر في جزيرة العرب، المنغمسة في حرب الله ورسوله، الموغلة في عداوتهما، المخرجة له ولأصحابه من أوطانهم وأموالهم وأهلهم، بـ«شدة» أبي القاسم، رسول الله وخاتم النبيين، الذي ضرب أعناق الخونة من بني قريظة، وما أتعسك أيها الدنيا اليوم بـ«إنسانية» أمريكا و«ديموقراطيتها»!
إن مما يؤسف له حقاً أن كثيرا من «العلماء» نظروا إلى جانب الرحمة والعطف، والمغفرة والتسامح والعفو، وهو وايم الله حسن جميل، ولكنهم نسوا (أو تناسوا) ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الدولة الكافرة المجرمة، من تقتيل وتدمير وإفساد في كثير من أقطار الدنيا، والأقطار الإسلامية خاصة، بدون أن تأخذها في ذلك رحمة ولا شفقة بالمستضعفين المغلوبين، وبدون أن ترعى إلَّا ولا ذمة.
ولما كان بعض هؤلاء «العلماء» ممن يشار إليه بالبنان، وبعضهم مكنته دول، أو دويلات معينة، من برامج تلفزيونية أسبوعية، أو قلدتهم مناصب الفتيا والتوجيه، وجب علينا الإجابة على شبههم، التي يبررون بها مواقفهم. ونحن نفترض، كما هو الواجب الشرعي في إحسان الظن بالمسلمين، أنهم يعتقدون ما قالوا حقيقة، ولم يقولوه إلا عن قناعة، وليس إرضاءً لسلطان، أو مداهنة لكافر. ونحن ندعوا الله أن يكون واقعهم في حقيقة الأمر كذلك، كما هو في علم الله، لأن الأخرى عظيمة جداً، في غاية الشناعة: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى، من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون v إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا، فأولئك أتوب عليهم، وأنا التواب الرحيم v إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين v خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب، ولا هم ينظرون}، (البقرة؛ 2:159-162).
الشبهة الأولى: أن بيننا وبين أمريكا عهود ومواثيق يجب علينا الوفاء بها
والجواب على هذه الشبهة يكون من وجوه:
الوجه الأول: إذا سلمنا، جدلاً، أن بين المسلمين وبين دولة أمريكا عهود ومواثيق ملزمة، انعقدت انعقاداً صحيحاً، فلماذا لم تف أمريكا بهذه المواثيق والعهود، وتوقف اعتداءاتها وأذاها المتكرر على الشعوب المسلمة، وفي مقدمتها الحرب العدوانية الإجرامية ضد العراق على مدى السنوات العشر الفائته، والهجوم الإجرامي الوحشي الآن على أفغانستان. والمعروف أن العهود والمواثيق تلزم المتعاهدين بالوفاء بالعهد، على حد سواء وبكيفية متوازنة، فإذا لم يفوا به انتقض عهدهم، يقول الحق، تبارك وتعالى: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}، (التوبة؛ 9:12). ونقض العهد عظيم جداً، والعقوبة عليه فادحة للغاية، في الدنيا والآخرة، فقد قتل النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، كل من أنبت من يهود بني قريظة ولم يفرق بينهم، قال ابن حزم في المحلى تعليقا على حديث: (عرضت يوم قريظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من أنبت قتل)، قال ابن حزم : [وهذا عموم من النبي صلى الله عليه وسلم، لم يستبق منهم عسيفا ولا تاجرا ولا فلاحا ولا شيخا كبيرا وهذا إجماع صحيح عنه]، المحلى ( 7 / 299(، وكان هذا بعد نقضهم العهد، ونزولهم على حكم سعد بن معاذ، رضي الله عنه، فحكم فيهم حكماً شديداً: (قتل المقاتلة، وسبي النساء والذرية)، فأقر النبي، عليه وعلى آله من الله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، ذلك الحكم مصرحاً بأنه حكم الله من فوق سبع سماوات. هذا شديد جداً، وثابت قطعاً، لا سبيل إلى رده إلا بإنكار نبوة محمد، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهو ما يردده المستشرقون والمنصرون للطعن في نبوته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: [وكان هديه صلى الله عليه وسلم إذا صالح أو عاهد قوما فنقضوا، أو نقض بعضهم، وأقره الباقون، ورضوا به: غزا الجميع، وجعلهم كلهم ناقضين كما فعل في بني قريظة وبني النظير وبني قينقاع، وكما فعل في أهل مكة، فهذه سنته في الناقضين الناكثين]. وقال أيضا: [وقد أفتى ابن تيمية بغزو نصارى المشرق لما أعانوا عدو المسلمين على قتالهم فأمدوهم بالمال والسلاح، وإن كانوا لم يغزونا ولم يحاربونا ورآهم بذلك ناقضين للعهد، كما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم بإعانتهم بني بكر بن وائل على حرب حلفائه]، انتهى كلام ابن القيم إلا أنه وهم، كما وهم الكثير من أهل العلم، في اسم القبيلة، وإنما هي: بكر بن كنانة، أبناء عم قريش.
الوجه الثاني: أن الموجود من العهود والمواثيق أبرمته معهم أنظمة غير شرعية، تحكم بالكفر، فلا ولاية لها على المسلمين أصلاً، ولا يمكن أن تتعاقد باسمهم، حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط. وهذه الأنظمة غير مرضية أو منتخبة أو مبايعة من المسلمين، أو في الأقل من أهل القطر الذي تحكمه، ولا هي منتخبة انتخاباً ديموقراطياً، بل هي أنظمة نتنة عفنة، وحكومات قمعية دكتاتورية متسلطة، قد اغتصبت السلطة من المسلمين، الذين هم أصحاب السلطة وأهلها، ونكلت بهم، ونهبت أموالهم، فعقودها ومواثيقها غير منعقدة، بل هي بمثابة المعدوم شرعاً، فالأمة غير ملزمة بها أصلاً.
وأمريكا تعرف هذا جيداً، بل هي التي «خلقت» بعض هذه الأنظمة الطاغوتية المتجبرة الظالمة، وثبتت أركانها، ووطدت سلطانها، وسلطتها على رقاب شعوبها، في حين يتمتع شعبها بالديموقراطية والحرية وشئ من العدل:
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس؟!
الوجه الثالث: أنه على فرضية كون الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، وجماعته التي يسمونها «القاعدة»، وراء الضربة فهو ليس ملزماً بالاتفاقيات التي عقدتها أي دولة من دول العالم، إسلامية كانت أم لم تكن، مع أمريكا أو بريطانيا، وغيرها من دول الكفر، لأنه لا يحمل تابعية أية دولة من دول العالم، بل هو فرد مستقل، يقود جماعة مستقلة، قد انحازت جانباً، وآذنت أمريكا وغيرها من الدول المعتدية على المسلمين، المحاربة لهم، آذنتهم بحرب، وقد نبذ كل فرد من أفرادها تابعيتهم السابقة، وتبرأ منها، أو أسقطت عنه بظلم حكومة موطنه السابق. دليل ذلك: قصة أبي بصير كما هي ملخصة هنا بعد قليل، ومفصلة للغاية في بحث مستقل. وكذلك حركة طالبان ليست لها أي اتفاقيات مع أي دولة في العالم، ولم يعترف بها أحد، اللهم إلا السعودية والإمارات وپاكستان، وهي لم تحارب هؤلاء، وهي حركة مستقلة أو دولة مستقلة لا تلزمها الاتفاقات المعقودة بين تلك الدول الثلاث وسائر دول العالم أصلاً، فليس عليها محذور شرعي من توجيه الضربات إلى العدو الكافر الحربي المعتدي إلى أن تنتهي حالة الحرب.
الوجه الرابع: أن الزاعمين لذلك جازفوا باتهام المسلمين بالأحداث قبل أن يثبت شرعا أن المسلمين وراء الأحداث، أو أنهم شاركوا فيها حتى يقال إنهم نقضوا العهد، إن كان ثمة عهد كما يزعمون. فإذا لم يثبت بعد أننا قمنا بالتفجير ولم نشارك فيه فكيف نكون قد نقضنا العهود أصلاً، وكيف يرد الاحتجاج به. اللهم إلا الغرض الدنئ، والنية المبيتة، وهي لا تستبعد على العدو، ولكن على «علماء» المسلمين؟!
ما سمعنا أحداً منهم يدعوا إلى التريث، بل ذهب بعضهم للتبرع بالدم، أو كتابة التعازي في سجلات السفارة الأمريكية: فهلا تبرعوا بالدم لفلسطين أو كشمير، أو العراق أو الشيشان، أو كتبوا التعازي في سفارات العراق وفلسطين، إذن لذهبت أعمارهم في المستشفيات والسفارات، ولما وجدوا وقتاً لغير هذا، لكثرة مصائب المسلمين، والمذابح اليومية التي يعانون منه. فيا للعار يا معاشر «العلماء»!
بل إن «التسريبات» الإعلامية الأخيرة تشير إلى «تورط» بعض آل سعود من الجناح المعادي لأمريكا في دعم الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، كما كشفت ذلك مؤسسات التصنت الأمريكية ونشرته مجلة «نيو يوركر». وقد سبق لنا مراراً التأكيد على أن تفجير الخبر في عام 1996م هو، في الأرجح، من فعل جناح آل سعود المعادي لأمريكا، وقد تردد اسم الأمير (تركي بن عبد الله بن عبد العزيز)، ابن ولي العهد السعودي، في هذا الخصوص. فما المانع من أن يكون هذا «الجناح» وراء هذه العملية تخطيطاً وتمويلاً، مستغلاً حماس بعض الشباب المسلم، واستعدادهم للاستشهاد، مع ضعف الوعي السياسي، مستخدماً لهم «آلة مستهلكة» للتنفيذ؟!
ولماذا تم استبعاد تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية، وهو من الجناح المعادي لأمريكا، وله ثأر خاص عند أمريكا الذي يعتقد هو وغيره أنها وراء مقتل أبيه الملك فيصل، لماذا تم استبعاده قبل «الضربة» بأسابيع قليلة؟! وما هي خلفيات هذا الاستبعاد الذي أمر به جناح الملك فهد، عميل أمريكا، بل عبدها المخلص؟! لا سيما أن العملية، أي عملية نيويورك وواشنطن، على درجة عالية من التخطيط تشعر بتورط دولة أو جهاز استخبارات فيها؟! وما هو دور بكر بن محمد بن لادن، وكيل الملك فهد الخاص في نهب أموال مشاريع الحرمين، ولماذا كثر تردده، قبيل الضربة، على العواصم الأوروبية؟! من حقنا أن نتسائل، وإن كنا لا نتوقع أي إجابة سريعة.
فإن كان كذلك فليس للمسلمين، ولا للشيخ المجاهد أبي عبد الله أسامة بن لادن، علاقة بهذه «الضربة» لأن القائمين بها، تخطيطاً وتفكيراً وتمويلاً، يكونون حينئذ من آل سعود، وهؤلاء كفروا وارتدوا، إن سلمنا جدلا أنهم كانوا مسلمين قبل ذلك، فأصبحوا مرتدين كفاراً محاربين بدعوتهم الأمريكان لضرب العراق وتدميره، وقتالهم تحت الراية الأمريكية. ومن المعلوم أن كل آل سعود سكت وأيد ودافع عن تلك الجريمة الشنعاء، ولم يبلغنا أن أحداً منهم أعلن توبته، وجدد شهادته، وحوّل سلاحه من اتجاه العراق إلى اتجاه أمريكا. فإن صح هذا فيكون حلفاء أمريكا، بل عملاؤها، من آل سعود هم الذين طعنوها من الخلف، ونقضوا عهودهم ومواثيقهم معها وهي التي جاءت للمحافظة على «عروشهم وكروشهم وقروشهم»: كلاب مسعورة متصارعة، يقتل بعضها بعضاً، وينهش بعضها بعضاً، فما شأن المسلمين بذلك، ولم يتم تحميلهم المسؤولية؟!
الشبهة الثانية: وهي الأهم والأخطر: أن القتلى أبرياء لا ذنب لهم، والجواب عن هذه الشبهة من عدة أوجه:
الوجه الأول: روى الصَعْب بن جَثَّامَة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه سئل عن أهل الديار من المشركين يبيّتون فيصاب من نسائهم وذرياتهم، قال: «هم منهم». هذا حديث صحيح متصل، من أصح أحاديث الدنيا، أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد من طرق كثيرة، والطبراني في معجمه من طرق كثيرة، وكذلك في «مسند الشاميين»، والبيهقي، وابن حبان، والجارود، والحميدي، والشافعي، والحاكم، وغيرهم. وهو متواتر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة، رواه عن الإمام محمد بن شهاب الزهري كل من الأئمة: مالك، وسفيان بن عيينة، وشعيب، ويونس بن يزيد، ومعمر، وصالح بن كيسان، ومحمد بن عمرو، وعبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، ومحمد بن إسحاق بن يسار، ومسلم بن خالد الزنجي، وغيرهم. وقد توبع الزهري تابعه حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عباس به، وهي متابعات في غاية الصحة كذلك. ونسارع إلى التنبيه أن بعض الروايات اندرج فيه كلام للزهري يقول فيه: (ثم نهى عن ذلك يوم حنين)، فظنه بعض الرواة جزءً من الحديث المرفوع المتصل، وهو ليس كذلك، وإنما هو من مراسيل الزهري، ولا تقوم الحجة بمرسل، فوق كون مراسيل الزهري من أضعف المراسيل على كل حال. كما أنه ليس في نفس الموضوع قطعاً، فالنهي عن قتل النساء والذراري والعجزة، أي قصدهم بنية قتلهم، ثابت صحيح من طرق أخرى، وقبل حنين بكثير. وهذا في «البيات»، وما هو في حكمه من تعذر التبين والتمييز، فهذا غير هذا، وموضوع هذا غير موضوع هذا فحكم هذا غير حكم هذا!
فهذا الحديث الصحيح، سنداً ومتناً، الصريح يدل على أن النساء، وكذلك الأطفال، وهم بالقطع أبرياء لا ذنب لهم، لأنهم غير مكلفين، وقد رفع عنهم القلم، وكذلك من لا يجوز قتله منفردا يجوز قتلهم إذا كانوا مختلطين بغيرهم، ولم يكن التمييز ممكناً، لأنهم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن «البيات»، وهو الهجوم ليلا، و«البيات» لا يمكن فيه التمييز، فأذن بذلك لأنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا.
والقوم، أي الأمريكان وحلفاؤهم، يفعلون ذلك ليل نهار، في العراق، والآن في أفغانستان، وغيرهما ويسمونه «الضرر الضمني»، ( Collateral Damage )، ويتوسعون فيه غاية التوسع، ويحتجون به في كل مناسبة.
ولسنا نزعم أن حادث «مركز التجارة العالمي» هو هذا، فواقعه مختلف بعض الشئ، كما سنبين قريباً، إن شاء الله، ولكن هذا برهان قاطع على أن بعض «الأبرياء» يجوز قتلهم في أحوال مخصوصة.
وهذا الحكم يسري بدون شك على الذين لم يقاتلوا مع دولهم ولم يعينوهم لا بالبدن ولا بالمال ولا بالرأي والمشورة، ولا بالدعاية أو الخطابة أو الشعر، ولا غير ذلك، فهذا الصنف لا يجوز قتله بشرط أن يكون متميزا عن غيره، غير مختلط به، أما إذا اختلط بغيره ولم يمكن تميزه فيجوز قتله تبعا وإلحاقا مثل كبار السن والنساء والصبيان والمرضى والعاجزين والرهبان المنقطعين، قال ابن قدامة: [ويجوز قتل النساء والصبيان في البيات وفي المطمورة إذا لم يتعمد قتلهم منفردين، ويجوز قتل بهائمهم يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم، وليس في هذا خلاف]، (لمغني والشرح 10 / 50(. وقال: [ويجوز تبييت العدو، قال احمد بن حنبل لا بأس بالبيات، وهل غزو الروم إلا البيات، قال ولا نعلم أحدا كره البيات]، (لمغني والشرح 10 / 503(.
الوجه الثاني: أن القادة المسلمين كانوا يستعملون في حروبهم مع الكفار ضربهم بالمنجنيق ومعلوم أن المنجنيق إذا ضرب لا يفرق بين مقاتل وغيره، وقد يصيب من يسميهم هؤلاء بالأبرياء، ومع ذلك جرت سنة المسلمين في الحروب عليه، قال ابن قدامة رحمه الله: [ويجوز نصب المنجنيق لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وعمرو بن العاص نصب المنجنيق على أهل الإسكندرية]، (لمغني والشرح 10 / 503(. وقال ابن قاسم رحمه الله في الحاشية: [ويجوز رمي الكفار بالمنجنيق ولو قتل بلا قصد صبيانا و نساءا وشيوخا ورهبانا لجواز النكاية بالإجماع، قال ابن رشد رحمه الله: النكاية جائزة بطريق الإجماع بجميع أنواع المشركين]، (لحاشية على الروض 4 / 270).
قلت: لم يثبت من طريق تقوم بها الحجة أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، نصب المنجنيق على الطائف، وإن وردت روايات عدة في النفس منها شئ، أكثرها مرسل، ولا تقوم الحجة بمرسل، أو متصل ضعيف، لا يصلح كذلك للاحتجاج، واشتهر ذلك عند الفقهاء المتأخرين. وجاءت روايات أن أهل الطائف هم الذين تعلم بعضهم صناعة المنجنيق واستخدموه فعلاً ضد المسلمين إبا حصارهم الطائف.
وعلى كل حال نحن نعلم بالضرورة من التاريخ أن المنجنيق كان معروفاً مشهوراً في زمن نبي الله الخاتم، عليه وعلى آله أزكى الصلاة وأتم التسليم، بل قبل ذلك بأزمنة طويلة، وبعد ذلك بأزمنة طويلة، حتى استبدل بالمدفعية الحديثة. كما أن واقعه معلوم علم يقين وهو أنه آلة لقذف الكتل الثقيلة، وهي من الصخر عادة، وربما كتل ملبدة تحتوي مواد حارقة لدك الحصون والأسوار والتحصينات، وربما تجمعات الجنود، كالمدفعية الحديثة تماماً، فالأصل فيه وفي استخدامه الإباحة المطلقة، كما هو الأصل في الأشياء: أعياناً، وأفعالاً، وأقوالاً، على ما أصلناه في كتابنا الموسوم بـ«كتاب التوحيد» غاية التأصيل. ومن المحال
الممتنع أن يكون حراماً أو مكروها وأن يقبض نبي الله الخاتم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من غير بيان لذلك. ولكن استخدام المنجنيق وقع في عهد الصحابة، وهو مما يشتهر، وتسير به الركبان، فأجمعوا عليه، ونقل ذلك تواتراً، فهذا إجماع متيقن، لا شك في صحته.
لاحظ قول الفقهاء: «من غير قصد»، أي من غير قصد للنساء والذرية، وإنما يقصد، ويبذل الجهد في إصابة جدران الحصن، أو الخندق، أو البنية العسكرية، والمعدات القتالية،أو تجمعات الجنود، وما شابه، فقط لا غير، لأن قصد غير المقاتلة من النساء والأطفال والرهبان ومعتزلي القتال، ونحوهم، جريمة محرمة أشد التحريم. وحينئذ يمكن أن تصيب القذائف الضالة، والشظايا أو الحطام المتطاير، بعض غير المقصودين، بالضرورة الحسية، وليس عن قصد ونية، فيترتب على ذلك قتلهم. فهذا كذلك برهان قاطع على أن بعض «الأبرياء» يجوز قتلهم في أحوال مخصوصة.
الوجه الثالث: أن جمهور فقهاء المسلمين أجازوا قتل (الترس) من المسلمين إذا كانوا أسرى في يد الكفار وجعل الكفار هؤلاء المسلمين ترسا يقيهم نبال المسلمين، وخشيت الهزيمة أو الضرر البالغ على المسلمين، مع أنه لا ذنب لهؤلاء المسلمين المتترس بهم، وهؤلاء، بالقطع في الأصل، أبرياء، دماؤهم معصومة، لا يجوز قتلهم. وقد قال ابن تيمية رحمه الله: [وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم.]،(لفتاوى 28 / 546 - 537، جـ 20 / 52(، وقال ابن قاسم رحمه الله في الحاشية: قال في الإنصاف: وإن تترسوا بمسلم لم يجز رميهم إلا أن نخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار، وهذا بلا نزاع (لحاشية على الروض 4 / 271). فهذا كذلك برهان قاطع على أن بعض «الأبرياء» يجوز قتلهم في أحوال مخصوصة.
ولعله من الطريف أن نلاحظ أن المسلمين لم يستخدموا (التترس)، أي (الدروع البشرية) قط، حتى في عصر الانحطاط هذا: فهاهم الطالبان لم يمنعون الأجانب من مغادرة البلاد، ولم يخطر ببالهم إبقائهم «ترساً». وإنما أكثر الكفار من استخدامه، فاضطر الفقهاء إلى درس المسألة والافتاء فيها، لأن شيئاً من ذلك لم يقع على زمن النبي، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، فقد كان مشركوا العرب أنبل من هذا!
الوجه الرابع: أن من يسمُّونهم الأبرياء ليسوا ضرورة من الأبرياء حقاً في المفهوم الشرعي المنضبط: فمن كان في الپنتاجون (مبنى وزارة الدفاع الأمريكية) هل هم من الأبرياء؟! وقد أحس القوم بذلك فركزوا في وسائل إعلامهم على «مركز التجارة العالمي»، لاستغلال عواطف الناس ومشاعرهم من هول الصدمة، وفظاعة المصيبة، وشدة المأساة، وعتَّموا وتكتموا على ما أصاب الپنتاجون، لهذا الاعتبار، وكذلك لما فيه من الخزي والفضيحة لهم حيث ضربت قمة القيادة العسكرية الأمريكية هذه الضربة المؤلمة المذلة، وبهذه السهولة المذهلة، فأصبحت أضحوكة للعالمين. هذه القيادة العسكرية التي أعماها حب الانتقام فلم تعد تفكر إلا بذبح أكبر عدد ممكن من الخصوم الحقيقيين أو المتوهمين، والإساءة إلى أسرى الحرب في أفغانستان، وشحنهم كالدواب عبر المحيطات إلى مركز الاعتقال في كوبا، مما زاد سخرية الناس منها، بدلاً من إعادة «الاعتبار» المنشود إليها.
والسؤال هو: لم نسمع من هؤلاء المتباكين على «الأبرياء» أي تفريق بين الحالتين، إن كانوا صادقين وجادين؟! فضلاً عن كون «مركز التجارة العالمي» يعمل فيه عادة حوالي خمسين ألف نسمة، أكثرهم من نخب رجال المال والصناعة والأمن والإعلام، فمحال أن لا يوجد فيهم عدد لا يستهان به ممن هو مشارك في العدوان الأمريكي على المسلمين برأي ومشورة أو مال واقتصاد أو إعلام ولسان، بل وببد وسلاح. فليس كل من كان أو يتوقع أن يكون في «مركز التجارة العالمي» من الأبرباء، بل إن بعضهم من أكابر المجرمين، المستحقين للقتل، لا سيما إذا صح أن الأدوار العشرة العليا من البرج الأول كانت غطاءً تجارياً لبعض أقسام وكالة الاستخبارات المركزية ( CIA )!
ومن فيه من الأبرياء، إن وجدوا، ومن المسلمين، وقد كان فيه بلا شك منهم، قيل أنهم نحو الألفين، رحمهم الله وغفر لهم، قتلوا بالتبع وبسبب الاختلاط، لا عن قصد لهم، كما هو الحال في «البيات» و«التترس».
فأولئك الذين لم يباشروا القتال مع دولهم المحاربة لكنهم معينون لها بالمال أو الرأي أو التحريض والدعاية والإعلام، لا يسمون أبرياء، بل هم مجرمون محاربون، وهم في عرف الفقهاء من «أهل الردء» (أي أهل العون والمساعدة(. قال ابن عبدالبر رحمه الله في الاستذكار: [لم يختلف العلماء فيمن قاتل من النساء والشيوخ أنه مباح قتله، ومن قدر على القتال من الصبيان وقاتل قتل]، الاستذكار ( 14 / 74(. ونقل الإجماع أيضا ابن قدامة رحمه الله في إباحة قتل النساء والصبيان وكبار السن إذا أعانوا أقوامهم، وقال ابن عبدالبر رحمه الله: [وأجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل دريد بن الصمة يوم حنين لأنه كان ذا رأي ومكيدة في الحرب، فمن كان هكذا من الشيوخ قتل عند الجميع]، التمهيد ( 16 / 142(. ونقل النووي رحمه الله في شرح مسلم في كتاب الجهاد الإجماع على أن شيوخ الكفار إن كان فيهم رأي قتلوا. ونقل ابن قاسم رحمه الله في الحاشية، قال: [وأجمعوا على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد]، ونقل عن ابن تيمية رحمه الله هذا الإجماع، ونقل عن ابن تيمية أيضا أن أعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم. ولم نذكر رأي ابن حزم لأنه أشد وأنكى فهو يجيز قتل الكل إلا النساء والأطفال والعسفاء (الخدم) حتى غير المباشرين للقتال، لأن النص إنما جاء بهؤلاء فقط، لا غير، ونحن لا نوافقه على هذا الرأي.
الوجه الخامس: هناك صنف آخر من المدنيين الذين لا يباشرون القتال ومع ذلك ليسوا أبرياء، ويجوز قصدهم بالقتل وأعمال القتال، ألا وهم من احتل أرض غيره، وأخرجه منها، وصادر مساكنه وحاز ثروته. فهذا النوع معتدي حربي بمجرد وجوده فوق الأرض التي احتلها، وبمجرد وضع يده على الأموال التي حازها. والواجب طبعاً تجاه هؤلاء هو فقط إخراجهم وانتزاع الأموال منهم، سلماً وبحكم محكمة في أول الأمر، فإن امتنعوا بالقوة المسلحة صاروا كلهم حربيين ممتنعين بالقوة المسلحة لا فرق بين يباشر القتال من القوات المسلحة وغيرهم، ومن لم يباشره من المدنيين، أو من سوف يباشره اليوم أو غد من قوات الاحتياط. وهذا هو واقع إسرائيل، الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين. فهؤلاء عدوانهم هو مجرد وجودهم بذواتهم فوق أرض ليست لهم، وامتناعهم بالقوة المسلحة هو في حكم مباشرة القتال في حقهم. وباستطاعة كل واحد منهم أن يستقل السفينة أو الطائرة عائداً من حيث أتى: موسكو، ولندن، وبرلين، وباريس، ونيويورك، والدار البيضاء، وغيرها، فيحرز دمه وماله، وينجو بنفسه وأهله وولده، ويعيش في أمن وسلام، ونتعامل معه في بر ووئام!
نعم: يستثنى من ذلك من رفع عنه القلم ابتداءً كالأطفال، وانتهاءً كالمجانين ومن كان في غيبوبة دائمة (كوما)، فهؤلاء غير مكلفين، ومن المحال أن يكونوا من ثم معتدين، فلا يجوز قصدهم بالقتل والقتال إلا إذا تعذر تمييزهم، أو في أحوال التترس وما شابهه كما سلف. أما زوال العقل المؤقت بنوم أو سكر فهذا لا يغير صفة من حل به، تماما كالجندي المقاتل الذي يغلبه النوم في خندق، يقاتل ويقتل بلا شك.
وبهذا يظهر بطلان ادعاء مفتي مصر، الطنطاوي الدجال، عندما زعم أن من نفذ عملية استشهادية في فلسطين ضد «المدنيين» الصهاينة ليس بمجاهد وليس بشهيد. فالرجل إما جاهل مركب، لا يعرف حقيقة الواقع، ولا ماهيات الأشياء، فليس هو من ثم أهلاً للفتيا، أو خائن كذاب يتزلف إلى أسياده حكام مصر، عملاء أمريكا وإسرائيل المنافقين، وهذا هو ما يغلب على ظننا بسبب ماضيه الأسود، وفتاواه المنكرة المتناقضة، فهو عن أهلية الفتيا أبعد.
إذاً هذه الشبهة أن المقتولين كلهم من «الأبرياء» أوهى من خيوط العنكبوت، لا يرددها إلا جاهل عامِّي، لا يعرف دقائق فقه الحرب وإشكالياته والسلام وشروطه، أو كذاب مغرض، لا شك في خبث نيته، لا سيما المتغافلين أو المتهربين من التعليق على مصاب الپنتاجون. وقد ذكرنا مزيداً من أقول العلماء في هذا الخصوص في الملحق، فلتراجع.
وأقوال العلماء هذه ليست معصومة، ولكنها نتاج عقول مفكرة اجتهدت عبر القرون، على ضوء الكتب والسنة، للوصول إلى حكم الله في هذه المسائل الشائكة، فلا يجوز إهمالها، أو الإعراض عنها لمجرد أن «الكاوبوي» الأمريكي غاضب، أو الشعب الأمريكي «المدلل» مصاب يتألم!
إن مثل أمريكا ها هنا هو مثل الكلب العقور الذي آذى الناس بضراوته: هذا معضوض مجروح، وهذا هارب متعثر سقط فانكسرت يده، وذاك يرتجف من الفزع، وأسعد المارة حظاً من أزعجه النباح فقط. ثم قيض الله له من حمل عليه ولم يزد على أن وطأ على ذنبه، لا غير، فعوى هذا الكلب العقور وعوت بعوائه عشيرته من الكلاب، ولا عجب فكلهم في الصفات «الكلبية» سواء. ولكن ما بال «علماء» المسلمين يشاركون في النباح والعواء؟! هل انقلبوا «كلاباً» نابحة، أم خشوا أن تنهشهم الكلاب: نرجو الله أن تكون هي الثانية، وليست الأولى، فهي مخزية جداً!
v فصل: جواز مقابلة العدوان بالمثل
من المقطوع به، والمعلوم من الدين بالضرورة، أنه يجوز معاملة المعتدي بمثل عدوانه:
v قال، جل جلاله، وسمى مقامه: {الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين}، (البقرة؛2:194). هذا في غاية البيان، بل فيه ملمح لطيف إذ سمَّى الله مقابلة العدوان عدواناً حيث قال: {فاعتدوا عليه}، مع كونها حق وعدل مأمور به في حقيقة الأمر، وذلك للتأكيد على أنها قد تشبه العدوان الابتدائي، وهو عدوان بحق، في مظهرها ونوعها ونتائجها على الأنفس والأموال. والأمر في الآية، وإن كان الأصل فيه الوجوب، إلا أنه ها هنا للإباحة، بقرينة الآية التالية.
v حيث قال، تباركت أسماؤه، جل وعز: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}، (النحل؛ 16:126). وهذه كسابقتها، ولكن فيها زيادة بيان، بأن الأمر المذكور للإباحة، لا للوجوب: فإن شئنا عاقبنا، وإن شئنا عفونا وصبرنا، وهو أفضل.
على أنه ينبغي أن يعلم أن العفو إنما يكون عن مقدرة، أما من عجز أو تكاسل عن الأخذ بحقه فهذا عاجز معذور أو متكاسل مذموم، وليس هو أهل لثواب الصابرين المتسامحين، أي أن «سلام الشجعان» الذي يتمشدق به الخونة في فلسطين، وعلى رأسهم المنافق الكبير المرتد ياسر عرفات، لا وجود له في العالم، مهما طبَّل له هؤلاء السفلة وزمَّروا، وفي الآيات التالية زيادة إيضاح لهذا سنذكره إن شاء الله بعد قليل.
وفي هذه الآية الكريمة نفسها ملمح آخر حيث سمَّى الله ما يصيبنا من ظلم ابتداءً «عقوبة»، مع أن العقوبة في الأصل لا تكون ابتداءً على الإطلاق، وإنما تكون عقوبة لذنب ارتكب، أي تترتب على قيام المعَاقَب بفعل مذموم سابق، وهي من ثم مشروعة حسنة. فلم سمَّى الله ما وقع علينا من ظلم عقوبة؟! هذا والله أعلم لبيان أن الظلم قد يقع تحت مسمَى «العقوبة»، فإذا كانت تلك العقوبة غير مشروعة، فهي على التحقيق ظلم وعدوان، بغض النظر عن مسمّياتها، ولنا الحق في معاقبة المعتدي بالمثل. وخير مثال لذلك «عقوبات» الأمم المتحدة الإجرامية الكافرة لليبيا والعراق، وغيرهما.
v وقال، جل جلاله، وسمى مقامه: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون v وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفى وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين v ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل v أنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم v ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، (الشورى؛42:39-43). هذا في غاية الوضوح والبيان: فيه، كما اسلفنا، الحث على الانتصار وطلب القصاص والنصرة، فإن تمكن الإنسان منه ثم عفى وصبر فتلك هي العزيمة بحق، وتلك هي الدرجة العالية بحق، وليس «سلام الشجعان» الذي يروج له الدجاجلة الخونة في فلسطين. لاحظ ها هنا ذكر السيئة جزاءً لسيئة سابقة أحدثها المعتدي مما يوجب القطع بأن المعاملة بالمثل مشروعة، ولو بفعل من جنس ما ارتكبه المعتدي، ولو كان ذلك الفعل سيئة في ذاته وعدواناً لو وقع على وجه المبادرة والابتداء، ولكنه ها هنا حلال جائز مسموح به على وجه الجزاء والمعاقبة والقصاص.
v وقال جل من قائل: {وقاتلوا المشركين كافة، كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين}، (التوبة: 9:36). ها هنا لفظة «كما» تفيد المماثلة والتشبيه، هي عامة في كل ما يتصور فيه المماثلة، كما بينته الآيات السابقة.
نعم التركيز هنا على القتال جميعاً كافة، كما يقاتلوننا جميعاً كافة، وصدق الله: هذا هو واقعهم عبر العصور في الحروب الصليبية الأولى، وفي الحروب الصليبية الأخيرة، كهذه التي شنت على العراق: لا يحاربون إلا في تحالفات كبيرة، وتكتلات ضخمة، مع أن أمريكا كانت كافية وفوق الكافية للعراق، بل ولعشرة أضعاف العراق، وهي الآن كافية وفوق الكافية لأفغانستان، ولمائة بلد في حجم وقدرات أفغانستان. فالواجب على المسلمين أن ينهضوا لحربهم كافة، ولكن الواقع، للأسف الشديد، أن أكثر المسلمين خذل وتقاعس، بل إن بعضهم خان وكفر وارتد بمشاركته الكفار في قتالهم للمسلمين كما فعل آل سعود في الحرب على العراق، فأصبحوا، هم ومن وافقهم وأيدهم، ورضي بفعلهم، عالماً غير متأول أو مكره، مرتداً حربياً، وكما يفعل پرفيز مشرف في حربه مع الأمريكان ضد المسلمين الأفغان، فأصبح هو وطغمته ومن وافقه مرتدين حربيين كذلك، وكذلك بل شر من هؤلاء «التحالف الشمالي» الأفغاني.
ما جاء في الآيات السابقة عموم لا يجوز تخصيصه، إلا ببرهان من الله، فتجوز مقابلة كل عدوان أو سيئة أو عقوبة بمثلها، إلا إذا ورد نص يمنع من المقابلة بالمثل، فيجب العدول عن المثل إلى ما يكافئه، وفق تحديد الشرع، من العقوبات، كما هو الحال في انتهاك أعراض النساء بالاغتصاب بالقوة، وهو من أنواع المحاربة، فيقابل هذا بالقتل أو الصلب أو القطع من خلاف، وليس بالاغتصاب، وكذلك اغتصاب الذكور باللواط، لأن الفروج محرمة مطلقاً، إلا بملك يمين أو نكاح، وأدبار الرجال محرمة مطلقاً، بغض النظر عن رضا المفعولة بها أو المفعول به أو عدم الرضا، لأن هذا حق خالص لله. والنظرة المدققة تبين أن العدوان في حالة الاغتصاب إنما هو في استخدام القوة والإكراه، وليس في العمل الجنسي بذاته، وجماع الزوجين من أطيب الطيبات المباحات، بل هو من القربات، فهو إحسان، وليس عدوان.
أما «المثلة»، أي الاعتداء على جثث القتلى بالتقطيع والتشويه، وقطع الرؤوس وحملها على أسنة الرماح، والتطواف بها في البلاد، وعرضها على جماهير الناس، هذه المثلة قد اختلف فيها العلماء: هل تجوز فيها المماثلة أم لا، وهذا خلاف فرعي هين، والأرجح أنها عدوان كغيره من العدوان، تجوز فيه المعاقبة بالمثل، إلا أن الترفع عن ذلك أفضل، لأن القدرة على جثث القتلى موجودة، إلا أن يرى الإمام أو أمير الجند مصلحة راجحة في ذلك، كما فعل عمرو بن العاص في حصار الأسكندرية عندما عبث أهلها برؤوس القتلي، وتقاذفوها بالمنجنيق، ففعل بهم مثل ذلك فارتدعوا، وسلموا الرؤوس المقطوعة.
والمعتدي ها هنا، وهو البادئ بالعدوان أو ارتكاب السيئات، أو فرض العقوبة غير المشروعة، لم يحدد الشرع نوعه، فينطبق ذلك على كل معتدى: لا فرق بين مسلم وكافر، وذكر أو أنثى، وأبيض وأسود، إلا أن العدوان الواقع تحت سلطان الإسلام أو الذي يمكن النظر فيه قضائياً في دار الإسلام يرجع فيه إلى القضاء، الذي يمكِّن المعتدًى عليه من أخذ حقه، والقصاص من العدوان بمثله، وكذلك الحال تحت كل سلطان مستقر، له قضاء وسلطة تنفيذ، وليس هذا بحثنا، وإنما ننظر إلى حالة الحرب. ولا شك أن عدوان الكفار الحربي أشد لأنه بالإضافة إلى تفاصيله الجزئية، هو من الناحية الإجمالية الكلية عدوان على الإسلام وأهله، ولا يكاد يخلو من محاولة إذلالهم وإبادتهم وفتنتهم عن دينهم، كما هو مشاهد في الواقع المحسوس، فمقابلته بالحزم أوجب.
وقصد النساء والأطفال والخدم، وكذلك من كان في حكمهم، من غير المقاتلة لعجزهم، أو معتزلي القتل من الرهبان ودعاة السلام، والـرافضـين للخدمة العسكرية أيا كانت دوافعهم، وذلك على الأرجح والأحوط من أقوال العلماء، قصد أولئك بالقتل هو بلا شك: عدوان شنيع، وظلم فظيع.
ومن الظلم والعدوان، على الأرجح والأحوط كذلك من أقوال العلماء، تدمير المرافق العامة كالطرق ومحطات توليد الكهرباء، ومحطات تصفية أو تحلية المياه، ومنشئات الصرف الصحي، والمصانع غير العسكرية وبخاصة مصانع الأدوية والأغذية والأكسية وغيرها من ضروريات الحياة، وكذلك تعمد تسميم مياه الشرب أو تلويثها. ومن الظلم والعدوان، على الأرجح والأحوط كذلك من أقوال العلماء، فرض الحصار على الأقوات والمياه والأدوية لإماتة الناس جوعا وعطشاً ومرضاً.
هذا كله ارتكبته أمريكا صراحة في حق العراق وشعبه من المسلمين، وهي في حالة حرب فعلية معه كما أسلفنا، فصار من حق كل مسلم قادر، لأن المسلمين أمة واحدة، حربها واحدة، وسلمها واحدة، أن يعاقب المعتدي، وهو ها هنا أمريكا، بمثل ذلك: فتستهدف نساؤها وأطفالها، ومنشئاتها، ويسعى في حصارها وتجويعها ومقاطعة بضائعها، وغير ذلك وهو من جنس ما فعلت، ومما جنته يداها مباشرة، جهاراً نهاراً، في العراق. دع عنك ما أقرته أو شاركت فيه من الجرائم والفظائع في فلسطين، والبوسنة، وكشمير، وغيرها، والآن، عند كتابة هذه السطور، في أفغانستان، إن لم يصرفهم الله بمنه وكرمه، أو يقمعهم بمدد من عنده.
وما وقع في «مركز التجارة العالمي» لم يبلغ عشر معشار حجم جرائمها، ولو وقع مثله، ومثله، ومثله، ما تم القصاص العادل منها. هذا هو الحق الذي يظهر لمن نظر إلى المسألة من كل جوانبها، نظر المبصرين المستنيرين، لا نظر العور أو العميان. وأكثر القتلى هناك مات سريعاً، بدون تعذيب كبير، في حين أن القتلى في العراق أكثرهم يموت ببطء بالحروق والتسمم والأمراض وفي مقدمتها السرطان الذي قتل عشرات الآلاف حتى الآن. فما وقع ما زال دون القصاص العادل بكثير.
وهذا هو الذي يدل عليه أيضاً النظر السليم، والفكر المستقيم: أن القول بالمنع من مقابلة العدوان والظلم بما يماثله ويكافئه، من غير تجاوز للقصاص العادل والمقابلة المتوازنة، يفضي لا محالة إلى تجرئة المعتدين والمجرمين على أفعالهم الخبيثة البشعة، وتجاوزاتهم الإجرامية الشنيعة،لا سيما تجاه المستضعفين المغلوبين على أمرههم، آمنين العقوبة، ومن (أمن العقوبة أساء الأدب) كما قال الحكماء، كما هو ثابت بالأدلة الحسية القاطعة التي تمتلئ بها كتب التاريخ، فليس هو من الخيالات أو الفرضيات، بل هي وقائع حصلت يقيناً وتكررت. ومن أوضح أمثلة ذلك:
ــ امتناع الطرفين المتقاتلين في الحرب العالمية الثانية، على ضراوتهم ووحشيتهم، وإجرامهم الثابت الذي لا شك فيه، واحتقارهم للحياة الإنسانية، من استخدام السلاح الكيمياوي، أي الغازات السامة، ضد بعضهم البعض خشية المعاملة بالمثل.
ــ ومثال آخر: الردع النووي الذي كان، وما يزال، له دور فعال في منع اندلاع الحرب العالمية الثالثة.
ــ ومثال ثالث: تأكيد أمريكا وحلفائها المتكرر، بطريق مضحكة مملة تثير السخرية والاشمئزاز، أن حربها العدوانية الحالية على أفغانستان ما هي إلا حرب على «الإرهاب،» وعلى تنظيم «القاعدة» الإرهابي، وليست هي حرباً على الشعب الأفغاني، أو على الإسلام والمسلمين، بل وقيامها بـ«قصف» تجمعات الاحئين بالمواد الغذائية وإمدادات الإغاثة.
هذه «نغمة» جديدة لم نألفها من أمريكا، وهي بلا شك من بركات «صفعة» نيويورك وواشنطن، وإلا فهذا وزير دفاعها رامسفيلد، المتغطرس الغبي، يؤكد على «حق» إسرائيل في اغتيال رؤوس الفلسطينين، وغير ذلك مما تقوم به من الفظائع في أرض فلسطين، قبل أقل من أسبوع من ضربة نيويورك وواشنطن.
إن أسلوب الردع والضرب المبرح هو وحده المجدي مع هؤلاء الكفرة المحاربين المعتدين، اللئام المتغطرسين:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
والعقلاء مجمعون أن ما يؤدي يقيناً وحتماً إلى الضرر يجب منعه كالضرر نفسه ولا فرق. وهكذا جاءت هذه الشريعة المعصومة الخاتمة: أن الضرر يزال، وأن لا ضرر ولا ضرار، وأن الوسيلة المؤدية حتماً إلى الحرام أو الضرر، هي نفسها حرام.
من هذا كله يظهر بلا ريب أن ما حدث في «مركز التجارة العالمي» وإن كان فظاعة شنعاء، وجريمة كبرى لو كان على وجه المبادرة والابتداء، إلا أنه مشروع جائز على وجه مقابلة العدوان بالمثل، ومعاقبة المعتدي بما هو من جنس عمله، كما هو في حقيقته البينة بعد النظر المدقق، والفكر المستنير. وهذا هو فعلاً واقع المسلمين لوقوع العدوان الأمريكي المباشر عليهم في العراق، على مدار السنوات العشر الفائتة، والآن في أفغانستان، وفي غيرهما مباشراً وغير مباشر، وعما قريب على العراق ثانية، وإيران، والصومال، وكل ذلك بالإضافة إلى العدوان الدائم المستمر على الإسلام والمسلمين في فلسطين.
وهو كذلك واقع أهل اليابان لوقوع العدوان عليهم بالسلاح النووي، بل إن لأهل اليابان الحق في استخدام السلاح النووي، وما هو مثله أو دونه من أسلحة «الدمار الشامل»، ضد أمريكا كذلك، جزاءً على ما جنته يداها. هذا هو الحق الذي نزل به الوحي من فوق سبع سماوات، وهو الذي يجب الإيمان به عند كل من كان يؤمن بالله واليوم الآخر: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.
v فصل: حق الأفراد والجماعات في إعلان الجهاد
بقيت مسألة ألا وهي ما زعمه البعض: (أن إعلان الجهاد، وممارسة العمليات القتالية ضد العدو، إنما هي من صلاحيات «ولاة الأمور»، أي من صلاحيات الدولة، وليس للأفراد أو الجماعات أن يباشروا ذلك، فإن فعلوا كانوا مفتئتين على «ولي الأمر»، آثمين غير مأجورين، مستحقين من ثم للعقوبة).
نقول: ليس هذا هكذا على إطلاقه بمسلم، كما سنبين بعد قليل، ولكن دعنا نسلم به جدلاً، وللتنزل في المناظرة، فنقول:
أولاً: أنه، ومع التسليم بذلك، أي التسليم بالباطل جدلاً، فإن حجة القوم داحضة لأن إعلان الحرب إنما يجب على من يبتدئها. أما من أُعلِنت عليه الحرب، أو تمت مهاجمته أو العدوان عليه بالفعل، سواء كان ذلك بإعلان حرب مسبق من المهاجم أم لم يكن، كأن يكون هجوماً مباغتاً، أو خديعة ونقضاً للعهد، أو غير ذلك، من كانت هذه حال فلا حاجة له لإعلان حرب أصلاً، لأن الحرب قد أعلنت، فحالتها موجودة، وفعالياتها ستتبع عن قريب، أو قد وقعت فعلاً، وهي على قدم وساق، فمن كان هذا حاله فله أن يعلن الحرب، وله أن لا يعلن. نعم يتم في الغالب الإعلان لأن ذلك تترتب عليه تفعيل قوانين خاصة تتعلق بالتعبئة العامة، وحالة الحرب والطوارئ، وقيود معينة تؤثر على المواطنين. هذه هي الضرورة الحسية، وهو كذلك العرف الدولي المستقر منذ أقدم الأزمنة. ولا فرق في ذلك بين كون المعلن للحرب، البادئ بها، محقاً أو مخطئاً، عادلاً أو ظالماً: فالبحث في إعلان الحرب، وليس في عدالتها ومشروعيتها!
وقد بينا آنفاً أن حالة الحرب موجودة بالفعل، وقد أعلنتها أمريكا منذ أكثر من عشر سنوات على العراق قطعاً، وربما قبل ذلك بكثير، وأنها مستمرة حتى هذه اللحظة، وأنها على قدم وساق. وأن أمريكا قد ارتكبت فيها من المجازر الوحشية ضد المدنيين، والأهداف المدنية،
والمؤسسات الاقتصادية المدنية، والبنية التحتية المدنية في العراق. هذه المجازر، وذلك الإفساد والتدمير، يفوق الخيال، ويعز على الوصف. وهي، أي أمريكا، تدعم إسرائيل، ذلك الكيان السرطاني الصهيوني الخبيث، دعماً يتجاوز كل الحدود. وهي كذلك داعمة ومقرة لروسيا على جرائمها في الشيشان، وللهند على جرائمها في كشمير، وخرقها لـ«الشرعية الدولية» المكذوبة. وهي مقرة متساهلة مع الصرب في جرائمهم وفظائعهم في البوسنة والهرسك، ثم كوسوفو. وانتظروا عما قريب جريمة جديدة من جرائمها في مقدونيا: فهي معادية للإسلام والمسلمين، مقاتلة لهم، أو معينة على قتالهم، وإخراجهم من ديارهم. فأي إعلان حرب يلزم بعد هذا؟!
إما إعلان الشيخ المجاهد أبي عبد الله أسامة بن محمد بن لادن الحرب على أمريكا، حتى ولو سلمنا جدلاً أنه لم يكن صاحب صلاحية في إعلان مثل هذا الأمر الخطير، فهو في حقيقته مجرد توضيح للأمر الواقع، وأن الحرب على قدم وساق، ولفت للأنظار لها، وحشد للأمة لمواجهتها، وذلك إبراءً للذمة، وخروجاً من أي شبهة، ولقد أحسن وأجاد، وحذر وأنذر وأعذر، واحتل المرتبة «الأدبية» و«الأخلاقية» العليا، والتزم كلمة التقوى، وكان هو أحق بها وأهلها، تاركاً أمريكا ورئيسها الذي ضرب السودان وأفغانستان عام 1998م من غير إعلان حرب، ولعله كان يتقلب في أحضان «مونيكا لوينسكي»، أو غيرها من الساقطات، تاركا إياه في المرتبة الائقة بهم: المرتبة الأخلاقية السفلى، فجزى الله الشيخ المجاهد أسامة بن لادن عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
فأمريكا هي البادئة بالحرب، المبتدرة للعدوان، والمسلمون هم المعتدى عليهم، المسفوكة دماؤهم، المنتهكة أعراضهم، المدمرة ديارهم، فالحرب على قدم وساق، لا تحتاج إلى إعلان، وهي الآن كذلك بعد الهجوم الإجرامي الوحشي على أفغانستان، والاجتاح الصهيوني الوحشي لفلسطين بضوء أمريكي أخضر: أشد وضوحاً، وأكثر دموية.
ثانياً: أن جمهور الفقهاء، إن لم يكن إجماعهم، على أنه إذا غزى الكفار بلاد المسلمين فقد أصبح الجهار فرض عين على أهل ذلك القطر ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، إلى آخر مسلم في الدنيا، حتى تحصل الكفاية، ويطرد العدو مجرجراً أذيال الخيبة والعار، وتطهر البلاد من كفره ورجسه. في هذه الحالة لم يعد الناس بحاجة إلى استنفار، فكل فرد، وكل جماعة تجتمع على أمير، تقاتل بقدر استطاعتها. ولا يحتاج الولد لإذن الوالد، ولا الزوجة لإذن الزوج، ولا أحد لإذن أمير. وهذا هو الحال فالقوات الأمريكية، حتى هذه اللحظة، تحتل جزيرة العرب، وهي قد باضت فيها وفرخت، وتنشر فيها الفواحش والزنا واللواط، وهي تحاصر العراق، وتقتل أهله، وتدمر منشئاته يومياً. وأكثر الحكام في قبضتها. فأحسنهم حالاً أسير في قبضتها، لا يملك من أمره شيئاً، ومن كان هكذا سقطت ولايته، ولم تعد تجب طاعته، ولا نعتقد أن هذا واقع أياً منهم، بل الظاهر أنهم قد تولوها وقاتلوا المسلمين تحت رايتها فأصبحوا مرتدين كفاراً حربيين، أي أصبحوا مع أمريكا في معسكر واحد: معسكر الكفر. وفي مقدمة هؤلاء آل سعود وآل الصباح، اللئام الفسقة، و«الحمار البليد» حسني مبارك، والعميل الهندوكي الأمريكي پرفيز مشرف، فهل ينتظر من مرتد حربي كافر أن يدعوا المسلمين لقتال أوليائه وأحبابه، من الكفار المعتدين المحاربين، وهم المثبتون لعرشه، الممكنون له من رقاب المسلمين؟!
نعم: أرونا «ولي الأمر» الشرعي الذي تجب طاعته، ولا يجوز الافتئات على سلطته حتى نكون أول المبايعين له، المنضوين تحت لوائه؟! ما ثمَّت في العالم حاكم في بلاد المسلمين إلا وهو مرتد معلوم الردة، أو مغتصب للسلطة ساقط الشرعية، اللهم إلا نظام طالبان، على عجره وبجره، وغموض شديد في واقعه، وهو الآن في حكم المعدوم، قد لجأ إلى القرى واشعاب، ورؤوس الجبال. وكل هؤلاء الحكام متورط في موالاة الكفار وعمالتهم، وخيانة الأمة وبيع قضاياها، أو في أحسن الأحوال: في التقصير الفاحش والإهمال الإجرامي لمصالحها، والإقبال على نهب المال العام، والثراء غير المشروع، وشهوات البطون والفروج.
ثالثاً: كما أسلفناأن نظام «الطلبة» في أفغانستان، على عجره وبجره، هو في الأرجح النظام الشرعي، أي أن طالبان هم ولاة الأمر في أفغانستان شرعاً، فضلاً عن امتلاكهم، إلى ماض قريب، سلطة الأمر والنهي فعلياً. وهؤلاء قد آووا الشيخ المجاهد أسامة بن لادن، ووفروا له الحماية، فمن المستبعد جداً أن يقوم بشئ ذي بال من غير مشورتهم وإذنهم، فليس هو متمرد على «ولي الأمر» ولا هو مفتئت على سلطة «ولي الأمر» هذا، إذا كان هو وراء «ضربة» نيويورك وواشنطن أو غيرها.
على أن القول بـ (أن إعلان الجهاد، وممارسة العمليات القتالية ضد العدو، إنما هي من صلاحيات «ولاة الأمور»، أي من صلاحيات الدولة، وليس للأفراد أو الجماعات أن يباشروا ذلك، فإن فعلوا كانوا مفتئتين على «ولي الأمر»، آثمين غير مأجورين، مستحقين من ثم للعقوبة) ليس مسلماً هكذا على إطلاقه، بل هو على التحقيق كذب وباطل، بدليل قصة الصحابي المجاهد أبي بصير، وهو عتبة بن أسيد بن جارية الثقفى نسباً، القرشي حلفاً، لأنه كان حليف بني زهرة أخوال النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وقد درسناها دراسة مفصلة كاملة في بحث مستقل بعنوان «قصة أبي بصير»، لكننا نكتفي ها هنا بجوهر القصة كما أخرجها الإمام البخاري في ختام حديث الحديبية الطويل:
v حيث قال الإمام البخاري في «الجامع الصحيح المختصر»: [حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال أخبرني الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زمن الحديبية]، فساق الحديث المتضمن لقصة الحديبية بتمام طوله، كما هو في صلب وملاحق «قصة أبي بصير»، حتى قال: [ثم رجع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين رآه: «لقد رأى هذا ذعراً»، فلما انتهى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله: قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم!)، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد»، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، تناشده بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي، صلى الله عليه وسلم، إليهم]، إلى آخر الحديث، حديث الحديبية. والحديث قد جاء بأسانيد كثيرة، وراه شتى أصحاب الصحاح والسنن والمعاجم والسير والمغازي والتواريخ مطولاً ومختصراً كما هو محرر في بحثنا المسمَّى: «قصة أبي بصير».
v وكان أبو العاص بن الربيع، زوج زينب بن محمد، صلوات الله وسلامه عليهما، قد أخذه أبو بصير أسيراً وبعث به إلى المدينة كما أخرجه البيهقي في «سنن البيهقي الكبرى»: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي وأبو سعيد بن أبي عمرو وأبو نصر منصور بن الحسين بن محمد المفسر قالوا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أبو زرعة الدمشقي ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين (ح) وحدثنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن بن إسحاق قال فحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: رد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع على النكاح الأول بعد ست سنين (لفظ حديث أحمد بن خالد) وفي رواية يونس: بالنكاح الأول لم يحدث شيئا بعد ست سنين ورواه أبو داود من حديث سلمة بن الفضل وغيره عن بن إسحاق وهذا لأن بإسلامها ثم بهجرتها إلى المدينة وامتناع أبي العاص من الإسلام لم يتوقف نكاحها على انقضاء العدة حتى نزلت آية تحريم المسلمات على المشركين بعد صلح الحديبية ثم بعد نزولها توقف نكاحها على انقضاء عدتها فلم تلبث إلا يسيرا حتى أخذ أبو بصير وغيره أبا العاص أسيرا وبعث به إلى المدينة فأجارته زينب، رضي الله تعالى عنها، ثم رجع إلى مكة ورد ما كان عنده من الودائع وأظهر إسلامه فلم يكن بين توقف نكاحها على انقضاء العدة وبين إسلامه إلا اليسير]، هذا في غاية الصحة من ناحية الإسناد، وفيه إشارة ضمنية مختصرة إلى مجمل قصة أبي بصير، وأنه أسر أبا العاص وبعث به إلى المدينة.
فقصة أبي بصير، كما برهنا عليه في بحثنا المسمى بها، صحيحة متواترة أخرجها أهل السير وجمهور الأئمة في صحاحهم، وسننهم، ومسانيدهم، ومعاجمهم بأصح الأسانيد التي تقوم بها الحجة اليقينية القاطعة. وهم متفقون على جوهرها، وعند بعضهم زيادات عن البعض لا تغير في جوهر مضمونها شيئاً فالمتون كلها متوافقة لا تنافر بينها ولا اضطراب، وهي، أي المتون، في غاية الاستقامة. فلا عجب أن تلقتها الأمة بالقبول واعتمدها الفقهاء لاستنباط شتى الأحكام، التي ذكرنا طرفاً منها هناك.
نعم: لم يتطرق الفقهاء القدامى إلى قضية «إعلان الأفراد للحرب» في إطار قصة أبي بصير، ولا غيرها، إلا عرضاً كما فعل في المغني، وذلك لأن «الفلاسفة» و«العباقرة» الذين يزعمون ذلك لا يجوز للأفراد لم يكن قد خلقوا في العالم، ولم تشتمل عليهم أرحام أنثى بعد، ثم خرجوا علينا هذه الأيام مرددين هذا اللغو والهذر، ليس لإحقاق الحق، وتحرير المسألة، ولكن خدمة لساداتهم من الكفار والمنافقين. نسأل الله أن يدحض حجتهم، وهي بحمد الله داحضة، باطلة زاهقة، وأن يكسر شوكتهم، وأن يختم في أعناقهم بالذلة والمسكنة، كما فعل بعصاة بني إسرائيل الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، إنه ولي ذلك والقادر عليه: إله الحق آمين، إله الحق آمين، إله الحق آمين!
فهذا أبو بصير يحارب قريشاً بمفرده فيقتل ويغنم، ثم تنضم إليه عصابة صغيرة، دون المائه، فيفعلون بقريش الأفاعيل، قتلاً، وأسراً، وسلباً في نفس الوقت الذي كانت الهدنة بين قريش وبين محمد بن عبد الله، رسول الله، وخاتم النبيين، بأبي هو وأمي، عليه صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، سارية المفعول، لكن لم يكن أبو بصير ولا من معه طرفاً فيها. كل ذلك ورسول الله الخاتم وهو «ولي أمر» المسلمين بحق مقر لذلك غير معترض عليه.
فكيف إذا لم يكن ثمة «ولي أمر» شرعي أصلاً، أو دخل العدو ديار المسلمين فقتل ولاة الأمور أو أسرهم أو حولهم إلى عمالته وخدمته، كما هو حال المسلمين اليوم: هل يسقط الجهاد ويبطل، أو يصبح حق الدفاع عن النفس الثابت في جميع الملل والأديان والشرائع غير ذي موضوع؟!
والدولة الإسلامية ما هي إلا كيان تنفيذي لرعاية مصالح الأمة وفق قناعاتها، وإنفاذ فروض الكفايات التي أناطها الشرع بالأمة بوصفها أمة لأن الأمة هي المخاطبة بالأحكام الشرعية في جملتها، وكل فرد من أفرادها بمفرده. فليست الدولة الإسلامية كياناً «مقدساً»، أو كنيسة كاثوليكية، ولا هي «ظل الله» في الأرض، وليس ثمة «حق إلهي» للملوك أو النبلاء أو الرؤساء، بل هي، أي الدولة الإسلامية، مؤسسة بشرية دنيوية محضة. ومن باب أولى ليست هي آخر مراحل «تطور» العقل في تصاعده الجدلي كما زعم الفيلسوف «هيجل». كل هذه الخرافات والتصورات الوثنية عن الدولة لا مكان لها في الإسلام، ولله الحمد والمنة.
هذا برهان قاطع على أن الفرد المسلم، والعصابة المنحازة المسلمة، يجوز لها أن تمارس كل فعاليات الحرب، حتى بدون إذن الإمام وموافقته، وحتى ضد من التزم الإمام تجاههم بعود ومواثيق تمنع أعمال الحرب، بشرط أن لا تكون تحت سلطانه أصلاً، وأن لا تكون من حملة تابعيته، حتى ولو كان هذا الإمام هو أبو القاسم محمد بن عبد الله، رسول الله وخاتم النبيين، صلوت الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله. وهذا هو بداهة، بالضرورة العقلية والحسية والشرعية، حال من يحمل تابعية دولة من دول دار الكفر، لأن الحاكم هناك معدوم شرعاً، لسقوط ولايته، مهما بلغت قوته ونفاذ سلطته واقعاً وفعلاً، وبغض النظر عن وجود إمام للمسلمين في مكان آخر، وبغض النظر عن وجود معاهدات لهذا الإمام مع دولة أو دول دار الكفر.
فأفعال أبي بصير وصحبه فعاليات جهاد مشروع، وليس هي «حدثا» كالذي ذمَّه النبي، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، في مثل قوله: «لعن الله من أحدث حدثاً، أو آوى محدثاً». أي أن الأمر ليس كما يزعم عميل المباحث السعودية: السافل القذر «الشخة» فالح الحربي، أخزاه الله وأبعده، ومقته ولعنه، في حق الشيخ المجاهد أبي عبد الله أسامة بن لادن، وطالبان التي آوته.
v فصل: هل كان «الاستشهاديون» في نيويورك آثمين لنقضهم الأمان؟
ومسألة أخرى ألا وهي ما زعمه البعض: (أن القائمين بالعملية إنما دخلوا الأراضي الأمريكية بـ«تأشيرة»، والتأشيرة أمان بلا ريب، فهم بفعلهم هذا قد نقضوا العهد والميثاق، وهذا غدر، والغادر لا يكون شهيداً، بل مجرماً، فهذا إجرام، وهم مجرمون، وليسوا شهداء)
فنقول: ما شاء الله: القوم يزدادون تفريعاً و«فهماً» للمسائل في كل ساعة، ونحن نزيدهم الآن فقهاً وعلما فنقول:
صدقتم: التأشيرة، التي تمنح في هذا العصر، أمان ولا شك، فالذي يحصل عليها من السلطة المعتبرة يسمح له بدخول أراضي الدولة المانحة بالكيفية والحدود والشروط المحددة في التأشيرة، ويعد آمنا على نفسه وماله وعرضه ما دام ملتزماً بشروطها، ويتمتع بكثير من حقوق أهل البلد وفق تفاصيل نظام تلك الدولة، ويتوقع الإنصاف من الجهات الإدارية والقضائية إذا اُعتدي عليه أو أُخِذ ماله، فحامل التأشيرة محترم النفس والمال، وهم يتوقعون منه المعاملة المحترمة بالمثل في أقل تقدير، حتى ولو لم يقولوا ذلك صراحة، لأنه من المحال الممتنع أن يأذنوا له بدخول بلدهم، وأن يكونوا آذنين له، في نفس الوقت، بالعدوان على أنفسهم وأموالهم، هذا لا يوجد في العالم قط، وهو من البداهة بحيث لا ينص عليه، ولا يتلفظ به.
هذا هو جوهر الأمان ولبه، فهذا عقد أمان لا شك فيه، مكتوباً كان أو غير مكتوب، مطبوعآ في «جواز» أو «وثيقة» السفر، أو غير مطبوع، لأن تلك شكليات وتفاصيل إجرائية، لا تؤثر في جوهر العقد وحقيقته. والمسلم إذا دخل دار حرب بأمان ممن له صلاحية إعطاء الأمان، أي بتأشيرة معتبرة، لا يحل له أن يخونهم في أنفسهم وأموالهم، لقوله، تقدست أسماؤه: {وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولاً}، (الإسراء؛ 17:34)، نزلت في مكة، ولقوله: {يا أيها الذين آمنوا: أوفوا بالعقود}، (المائدة؛ 5:1)، ولقوله: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} ، (التوبة؛ 9:7)، من آخر ما نزل في المدينة، ولقوله، عليه وعلى اله الصلاة والسلام: «المسلمون عند شروطهم»، ولقوله: «لا يصلح في ديننا الغدر»، ولقوله: «لكل غادر راية يوم القيامة عند أسته، ينادى: هذه غدرة فلان بن فلان»، أو كما قال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وعلى ذلك جمهور فقهاء الإسلام، إن لم يكن إجماعهم. قال في المغني: [فإن خانهم، أو سرق منهم، أو اقترض شيئاً وجب عليه ردّ ما أخذ إلى أربابه، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان رده عليهم، وإلا بعث به إليهم، لأنه أخذه على وجه حَرُم عليه أخذه، فلزمه رد ما أخذ، كما لو أخذه من مال مسلم]، كذا في «المغني مع الشرح الكبير»، (10:515 وما بعدها).
وحتى لو دخل بلدهم بتأشيرة مزوّرة، ظنوها صحيحة، أو بتأشيرة بإسم شخص آخر ظنوه أنه هو، فكل ذلك لا يجعله في حل من «عهد الأمان» والتزاماته، كما أسلفنا. وقد ضرب الإمام محمد بن الحسن الشيباني، رحمه الله، للتزوير والغش أمثلة وصوراً كانت معلومة في عهده، وقال بمثل قولنا، وذلك في كتابه العظيم: «السير الكبير»، (2:507 وما بعدها)، الذي يعد أول كتاب في «القانون الدولي»، فالتزوير أو انتحال شخصية أخرى: غش وكذب وخداع محرم، لا يجوز الإقدام عليه: فإن فعله فاعل فإن الحرام المرتكب لا يجوز أن يؤدي إلى إبطال الحق الواجب، ومحال أن تنوب المعصية عن الطاعة، أو أن تقوم المعصية مقام الطاعة: فإن الله لا يمحو الخبيث بالخبيث، ولكن يمحو الخبيث بالطيب.
كما أننا أقمنا في رسالتنا المسماة: «قصة أبي بصير»، البرهان الصحيح، السالم من المعارضة المعتبرة، على صحة القول: (أن من كان تحت سلطان الكفار يحمل «تابعيتهم»، أو يتمتع بحمايتهم في إطار «حق اللجوء الساسي» أو «حق الإقامة الدائمة» ولم يقع عليه عدوان أو إكراه في الدين، ولم تنتهك له حرمة، أو يصادر له مال، أو يخرج من دياره، من كان هذا حاله فلا يجوز له البدء في قتالهم إلا بعد نبذ على سواء وإعلان حرب صحيح، تجنباً لـ«الغدر»، وحفظاً لـ«العهد»)،
هذا هو الحق، الذي لا يجوز خلافه، أو الاستثناء منه، إلا ببرهان من الله. وقد جاء البرهان من الله باستثناء أحوال منها:
أولا: في حالة الاضطرار أو الإكراه، ككثير من الفارين من الحكام الجبابرة، أو الحروب، أو المجاعات المهلكة، من المظلومين والمغلوبين على أمرهم: فقد يحتاج الإنسان حينئذ إلى تزوير الوثائق، أو انتحال شخصية أخرى، أو الكذب في بعض المعلومات لدخول بلد قد يأمن فيها، إما للترافع بعد ذلك أمام سلطاتها وقضائها، أو باليقاء فيها متخفياً، أو للعبور منها إلى مأمن آخر. ولو صرح هذا المضطر، عند طلب التأشيرة، بواقع حاله: لم يأمن من سفارتها، أو حرس حدودها، أن يعيدوه إلى من فر منهم، فتضرب عنقه، أو ينكل به ويعذب، أو يسجن بغير حق، أو لم يأمن أن يرفض طلبه، فيقتل في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، أو يهلك في المجاعة، أو غير ذلك من المصائب. ولما كانت الضرورة تقدر بحسبها وجب على أهل هذا الصنف الاكتفاء بما ذكرنا، ولم يجز لهم الزيادة على ذلك بالاعتداء علي من دخل بلدهم في نفس أو مال.
الثانية: حالة الحرب، وهي التي تهمنا ها هنا. فقد جاءت الرخصة صريحة في موضوعنا، إذ ثبت:
(أ) أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد رخص في الكذب على العدو الحربي، وفي خداعه، وقال: «الحرب خدعة».
(ب) أنه، صلى الله عليه وعلى آله، أمر محمد بن مسلمة باغتيال كعب بن الأشرف، الذي كان محارباً لله ورسوله، وإليك ما حدث، وكيف حدث، وأنه عين الحالة التي ندرسها، وقد أقر النبي، صلى الله عليه وعلى آله، كل ذلك:
v كما جاء في «المعجم الكبير»: [حدثنا إسماعيل بن الحسن الخفاف ثنا أحمد بن صالح ثنا بن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن عقيل بن خالد عن بن شهاب حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحرض عليهم كفار قريش في شعره]، ثم وصف حال المدينة آنذاك، وصبر النبي، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه على الأذى، حتى قال: [فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى المسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة الأنصاري ثم الحارثي وأبا عيسى بن حبر الأنصاري والحارث بن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط فأتوه عشية في مجلسه بالعوالي فلما رآهم كعب بن الأشرف أنكر شأنهم، وكان يذعر منهم، وقال لهم: (ما جاء بكم)، قالوا: (جاء بنا حاجة إليك)، قال: (فليدنو إلى بعضكم ليحدثني بها!)، فدنا إليه بعضهم فقال: (قد جئناك لنبيعك أدراعا لنا لنستنفق أثمانها!)، فقال: (والله لئن فعلتم، لقد جهدتم، منذ نزل بكم هذا الرجل!)، فواعدهم أن يأتوه عشاء حين يهدي عنه الناس، فجاؤوه، فناداه رجل منهم، فقام ليخرج إليهم، فقالت امرأته: (ما طرقوك ساعتهم هذه بشيء مما تحب؟!)، قال: (بلى، إنهم قد حدثوني حديثهم!)، فخرج إليهم، فاعتنقه محمد بن مسلمة، وقال لأصحابه: (لا يسبقكم، وإن قتلتموني، وأياه جميعا!)، فطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته، فلما قتلوه، فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين] ثم أكمل القصة وأنهم كتبوا بينهم «صحيفة المدينة». وقد جاءت القصة بأصح الأسانيد التي تقوم بها الحجة عند البخاري، ومسلم، وأبي داود، والبيهقي، وغيرهما، وهي مشهورة معروفة، وقد جمعنا ذلك في الملحق.
هذه عينها إجراءات «التأشيرة»،في جوهوها:
(1) المجموعة تتجه إلى كعب بن الأشرف، حيث يقيم في حصنه في العوالي، فيفزع منهم، ويطلب أن يدنوا منه بعضهم. (المجموعة تتقدم بطلب التأشيرة، وصاحب الصلاحية حذر متخوّف)
(2) بعضهم يدنوا، ويكذب عليه، فيخدعه بدعوى أنهم في ضائقة مالية، ويريدون أن يبيعوه السلاح. (يتقدمون بطلب فيه خداع وكذب. كعب يغلبه الطمع في المال، والمكسب العسكري والسياسي بوضع اليد على السلاح، فينخدع).
(3) كعب بن الأشرف ينخدع، ويواعدهم، في المساء، عندما تهدأ حركة الناس. (كعب بن الأشرف، سيد الحصن، يعطي التأشيرة، والمجموعة تقبلها، أي أن «الأمان» انعقد)
(4) يأتوه على الموعد، ويناديه أحدهم، ولكن امرأته شاكة، فيطمئنها. (المجموعة تأتي للدخول عليه في حصنه، أي في سلطانه، تفحص محاولة الدخول ويدور حولها نقاش وشكوك، ويتقرر السماح لهم بالدخول)
(5) بدلاً من الصفقة المأمولة، والكسب المالي، يتم قتل كعب بن الأشرف، وينتهي أمره.
فثبت ما قلناه أن أخذ «التأشيرة» من المحارب بالكذب والخداع، مع وجود النية المسبقة لإيذائه أو النكال به أو التجسس عليه أو حتى قتله، حلال لا بأس به.
(ج) أنه، صلى الله عليه وعلى آله، أمر باغتيال أبي رافع بن أبي الحقيق في عملية مشابهة لعملية كعب بن الأشرف، ونجحت العملية، وهي كذلك في الملحق.
نعم: لم يعزب عن علمنا أن اليهود اتهموا النبي، صلى الله عليه وعلى آله، بالغدر لذلك، واستمروا في اتهامه إلى اليوم، وتبعهم على ذلك فريق من المستشرقين، وستبقى التهمة إلى يوم القيامة. وهذه كلها مزاعم متناقضة لأنه إن كان محمد، صلى الله عليه وعلى آله، رسول الله حقاً، فقوله وفعله وإقراره هي شريعة الله بحق، وإن كان متنبئاً كاذباً، فما هو فيه من الكذب على الله أعظم من «الغدر» المزعوم بكعب بن الأشرف. فالسؤال إنما يكون عن النبوة: هل تثبت لمحمد، صلى الله عليه وعلى آله، أم لا، وليس عن هذه المسألة الفرعية الثانوية، فمزاعمهم هي تنكيس للقضية بجعل الأصل فرعاً، والفرع أصلاً: ولكن هكذا تنقلب القضايا على من مسخ الله عقله، وطمس على قلبه، وغلبت عليه شقوته، وأبي إلا أن يحتجز قراراً بئيساً في نار جهنم، والعياذ بالله!
على أن الولايات المتحدة الأمريكية وصهاينة إسرائيل، كذبة دجاجلة، فهم يفعلون مثل هذا حتى في السلم. وكثير من رجالات سفاراتهم، من المتمتعين بالحصانة الدبلوماسية، هم في الحقيقة جواسيس من منسوبي الاستخبارات الأمريكية أو الموساد، وقد حصلوا على التأشيرة الدبلوماسية بمعلومات كاذبه، أي بالكذب والخداع، وهم يتجسسون على الدولة المضيفة، وهذا عدوان، بل هو من من أعمال الحرب، وهو خلاف العرف والآداب الدولية المستقرة، فهم «مطففون»: يكيلون بمكيلين، ومنافقون: يتكلمون بلسانين. أما الدولة الإسلامية فهي لا تتجسس ابتداءً إلا على العدو الحربي، أو مقابلة للعدوان بمثله على مبدأ «المعاملة بالمثل»، الذي سبق تقريره.
(د) الانقلاب العسكري: كما هو بين في قتل فيروز الديلمي والمتآمرين معه للأسود العنسي الكذاب كما هو ملخص في الملحق، ومحال إليه في المطولات التاريخية. ومهما أدرت الرواية على وجوهها المختلفة فإنك ستجد في جوهرها أن فيروزاً وصحبه:
(1) قد تظاهروا بالولاء للأسود العنسي الكذاب، وعملوا عنده في مناصب الدولة، مثل قيادة الجيوش، وحكم المناطق، وغير ذلك، أي أنهم أصبحوا من رجلالات الدولة والجيش. وفي أثناء هذه العملية خدعوه كما يخدع العدو الحربي، وتلفظوا عند اللزوم بألفاظ الكفر، فتظاهروا بالردة، وأقسموا له على صدقهم، وإخلاصهم له، وحسن نصيحتهم له، كل ذلك تطبيق دقيق للحديث: «الحرب خدعة»، وللرخصة في الكذب على العدو الحربي، والرخصة في التلفظ بالكفر لخداع العدو الحربي، بما في ذلك العمل في دولته وجيشه بنية الانقلاب عليه، ومقاتلته، بل وقتله في اللحظة المناسبة.
(2) قاموا بكافة الأعمال التمهيدية للإنقلاب، الذي نفذوه بأنفسهم، بعد إعدادات وترتيبات واسعة مع مجموعات جاهزة للوثوب على السلطة والإمساك بزمام الأمور حالة النجاح.
(3) بالرغم من حذر الأسود العنسي، وجودة شبكته التجسسية، التي كان يزعم أن معلوماتها تصله بالوحي لتأييد ادعائه للنبوة، فقد نجح «الإنقلابيون»، في الجملة، ولو جزئياً، في مخادعته، مع أنه بقي شاكاً متخوفاً متردداً.
(4) نفذت المجموعة العملية بمعونة من زوجة الأسود العنسي، فقتل الدجال، ثم تم التريث على الإعلان حتى اللحظة المناسبة، ثم أعلن في الوقت المناسب فكان ذلك بغتة لقوات الأسود العنسي الكذاب، وهم في الغالبية من الفرسان، فولوا هاربية آخذين معهم بعض الصغار رهائن.
هذه هي، بلا شك، صفة «الانقلاب العسكري» وحقيقته، بغض النظر عن المسميات. وتدل مجموع الروايات على أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بشَّر بمقتل العنسي قبيل وفاته هو، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بساعات، وأثنى على منفذ العملية فوصفه بالصلاح والبركة. ولا شك أن أخبار العملية أصبحت حديث المجالس، وسارت بها الركبان على عهد الصحابة، وهم مجمعون على إقرارها، والثناء على منفذيها، ولم يسمع في تاريخ الإسلام معترض أو ناقد لها من أهل القبلة. هذا إجماع يقيني قاطع من الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل الإسلام على مشروعية العملية، بل على استحبابها والثناء على فاعليها. فتطبيق «الحرب خدعة»، والترخيص في الكذب على العدو الحربي وإشعاره بالأمان الموهوم، يسري على العدو الحربي الداخلي، أي الذي هو أصلاً من أهل الدار، كما هو في حالة الأسود العنسي، والخارجي، الذي أتى غازياً من الخارج، أو الذي يقيم خارج الدار، كما هو في حالة كعب بن الأشرف، على حد سواء.
وعلى كل فمبحثنا في هؤلاء الشباب الذين قيل أنهم قاموا بالعملية، وذكرت أسماؤهم، وهي تدل على أنهم من المسلمين، وأنهم من إتباع الشيخ المجاهد أبي عبد الله أسامة بن محمد بن لادن. فإن صحت القصة كما هي: فهؤلاء من أتباع بن لادن، وهم، بالقطع، ابتداءً في حالة حرب مشروعة صحيحة معلنة مع أمريكا، فتقدموا بنية خداعها بمعلومات كاذبة طالبين التأشيرة، فانخدعت أمريكا وأعطتهم إياها، وبعد أن دخلوا ورتبوا أمورهم، وأكملوا تدريباتهم ضربوا ضربتهم. هذا مطابق حرفياً لقصة كعب بن الأشرف، وكل ذلك لا بأس به، بل هؤلاء قد أحسنوا وأجادوا.
وإذا أرادت أمريكا أن لا يتكرر مثل هذا فعليها:
(1) إما إنهاء حالة الحرب، بوقف الهجوم الوحشي على أفغانستان، ووقف العدوان بكل صوره على العراق، ووقف الدعم للعدوان الصهيوني، ووقف الدعم للعدوان الهندوكي على أهل كشمير، ووقف عدوانها على المسلمين في جنوب الفيليبين، ووقف دعمها للحكومة الفيليبينية في هذا الخصوص، وكذلك سواء بسواء في الشيشان، وعدم تثبيت عروش الحكام الطواغيت النتنى في بلاد المسلمين الذين لم تنتخبهم شعوبهم، حينئذ، وفقط حينئذ، تضع الحرب أوزارها.
فإذا وضعت الحرب أوزارها، ورفرف الأمن والسلام على الجميع، وعاد العدل والبر والإحسان المتبادل، فستجني أمريكا من المنافع الحقيقية، والمصالح الدائمية ما هو أكثر بكثير من المصالح الكاذبة الموهومة التي حصلوا عليها بعدوانهم. ونحن نضمن لها أن المسلمين سوف يحسنون معاملتها، ولا يحتاج أي أمريكي أن يخاف على نفسه من مسلم، بل ولا حتى من أن يروع بقناع مفزع في عيد الـ«هالووين»، لأن ترويع المسالمين من الناس، جداً أو هزلاً، حرام لا يجوز!
(2) أو الإصرار على عقد هدنة أو صلح منضبط صحيح مع كل طالب تأشيرة بعينه، وهو ما يتضمن ضرورة الاعتراف بأنها في حالة حرب مع الإسلام والمسلمين، فتكون ملزمة بكل ما يترتب على ذلك وفق العرف الدولي الساري، والمعاهدات والمواثيق الدولية التي التزمت هي بها، خصوصاً اتفاقيات «جنيف» المتعلقة بأسرى الحرب، أي أن تكون ملزمة بالتخلي عن ما تسميه «مكافحة الإرهاب»، والاعتراف بأنها في حالة «حرب تقليدية» حقيقية، بكل معانيها والتزاماتها وفق الأعراف والمواثيق الدولية، وهذا هو ما ترفض أمريكا الاقرار به حتى هذه اللحظة بكل إصرار وعناد. وهذا سوف يتضمن، لا محالة، إقرار أمريكا لكل فرد مسلم، ولكل جماعة إسلامية، بالأهلية الدولية، فتعامله كأنه دولة، فتنهدم نظرياتها عن الدولة، والحرب و«الإرهاب».
بهذه البراهين الباهرة، والحجج القاهرة، انهزم القوم وسقط كل ما شغبوا به، وجادلوا عنه: {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين}. ولا عجب فهم يجادلون دفاعاً عن أهوائهم، ومصالح أسيادهم، وليس للحق، لذات الحق، لإحقاق الحق، ابتغاء وجه «الحق» تبارك وتعالى، لذلك خذلهم الله وأدحض حجتهم، فلله الحمد والمنة على حفظ الذكر: قرآناً وسنة، تتضح به المحجة، وتقوم به الحجة.
هذا الذكر المحفوظ، القرآن والسنة، هو «سفينة نوح»: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك: اللهم نجنا بمفازتنا، وألحقنا بنبينا، وتجاوز عن تقصيرنا وجهلنا، وتجاوزاتنا وذنوبنا وجرائمنا. نحن أهل الذم والعقوبة، وأنت أهل الحمد والمغفرة.
ونحن واثقون مطمئنون أن هذا هو الحق بأدلته، ونحن بعون الله به مستمسكون، وإليه داعون، حتى ولو شٌهِرت علينا السيوف، وحاربتنا الدنيا بأسرها: فألجأتنا إلى رؤوس الجبال أو إلى أعماق البحار ما زادنا ذلك إلا يقيناً بأننا على الحق وأنهم على الباطل.
إلا أن رجائنا في الله كبير، وأملنا فيه وطيد أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويعز الإسلام والمسلمين والمجاهدين وأن يذل ويخذل أمريكا واتباعها ومن أعانها، وأن يختم لهم في الدنيا بالخزي والهزيمة والعار، وفي الآخرة باللعنة والنار، دار البوار، وبئس القرار. إنه ولي ذلك والقادر عليه: آللهم إننا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، عليك نتوكل وبك نتأيد.
إلى متى هذا «التطفيف»،وهذه «الإزدواجية» في المعايير والمقاييس؟ أليس من الغريب حقاً أن نسمع الصياح والاستنكار على عملية «مركز التجارة العالمي» من كل جانب ولم نسمع شيئاً يقترب منه، اللهم إلا همهمة هزيلة مخزية، بل مضحكة، عندما أغارت أمريكا بطائراتها وصواريخها على مصنع الأدوية في السودان فدمرته على من في داخله من موظفين وعمال فماتوا، وحرمت السودان من المنتوجات الدوائية، واضطرته إلى شرائها بالعملة الصعبة من الخارج، وهو بلد فقير، بالإضافة إلى خسارة رأس المال الفادحة. فماذا يسمى هذا؟ فهل ما فعلته أمريكا في مصنع السودان لا يعتبر «إرهابا»؟ وما فعله هؤلاء في أمريكا يعتبر «إرهابا»؟ لماذا نسمع الشجب والتنديد لما حصل في أمريكا ولم نسمع أحدا ندد أو شجب تدمير أمريكا لمصنع السودان على من فيه؟ علما بأن أمريكا خرقت الأعراف الدولية فقد فعلت فعلتها النكراء من غير إعلان حرب، ولا تحذير مسبق، مع أن لها سفارة في السودان، وكانت علاقتها البلوماسية مع السودان مستمرة!
نعم: هناك فرق جوهري: أن القائمين بعملية «مركز التجارة العالمي» ضحوا بأنفسهم، وأبادوا ذواتهم، وتجاوزوا الخوف الغريزي الأكبر: الخوف من الموت. في حين أن الرئيس الأمريكي الذي أصدر الأمر بضرب السودان، كان آمناً في بيته وراء البحار، ولعله كان يتمرغ في أحضان إحدى «الحسناوات».
نعم: الفرق كبير بين جند الإسلام، المجاهدين الأبطال المخاطرين بأنفسهم في رؤوس الجبال وأعماق الأودية من أرض أفغانستان، وبين جند أمريكا المتسترين وراء الطيران الهائل، والتكنولوجيا الضخمة، ثم أخيراً وراء الجنود الكنديين والبريطانيين والأتراك المغفلين!
نسأل الله أن يبدل أمن رؤوس أمريكا، والملأ من أهلها، خوفاً، ورعباً، وهلعاً: جزاءً لترويعهم الأبرياء، وإهلاكهم الحرث والنسل، وسعيهم في الأرض بالفساد، ونشرهم الزنا واللواط والفواحش، واعتداء وسائل إعلامهم بالسخرية والاستهزاء المتكرر على مقام الألوهية السامي الرفيع، ومقامات أنبياء الله الكرام، وبخاصة سيدنا المسيح بن مريم: آمين، آمين، آمين.
وفي الختام نستنهض همم المسلمين في كافة أرجاء الدنيا إلى نصرة إخوانهم المستضعفين المعذبين ليس فقط في فلسطين، بل كذلك في أفغانستان وكشمير والشيشان والعراق والفيلبين، بكل أنواع النصرة بالنفس والمال واليد واللسان. وأقل ذلك ما هو ميسور حتى للمرضى والمعوقين، بل وللفقراء والمفلسين:
(1) الدعم المعنوي والأدبي للمجاهدين المخلصين بالثناء عليهم، والدفاع عن أعراضهم، وجعلهم حديث المجالس، وترديد الأناشيد في مدحهم وذكر مناقبهم، وتلقين الصغار ذلك كله حتى لا ينسى، ويبقى حياً تتوارثه الأجيال، ومواصلة الدعاء لهم، لا سيما في القنوت وصلاة الليل.
(2) مقاطعة أمريكا ومحاربتها اقتصادياً بطريقة فعالة صارمة، وهي في نفس الوقت «عقلانية» متوازنة، ومن ذلك:
(أ) الامتناع البات عن شراء المنتوجات الأمريكية، وهي كل ما كتب عليه: (صنع في الولايات المتحدة الأمريكية)، أو كتب عليه: (منتوج الولايات المتحدة الأمريكية)، بالنسبة للفواكه والخضروات والمنتوجات الزراعية، بدون استثناء، إلا ما تبيحه الضرورة الشرعية المعتبرة كالأدوية المحتكرة التي لا تنتج إلا في أمريكا فقط ولا ينتجه غيرها، ونحو ذلك، مع الاهتمام البالغ على وجه الخصوص بمقاطعة ما يسمَّى بالبضائع «الثمينة» كالسيارات والمعدات الثقيلة ونحوها.
ونحن، بهذه المناسبة، ننصح مستوردي هذه البضائع، ووكلاء الشركات الأمريكية، خصوصاً وكلاء السيارات الأمريكية، بسرعة تصفية هذه الوكالات والتخلص منها، وأن يكونوا مع أمتهم، لا مع عدوها، وأكثرهم
قد كسب فيما مضى المال الكثير، فحسبهم ذلك وكفى، فليشكروا الله على ما سبق من نعمه بالمشاركة في هذا الجهاد السهل الميسور، الذي لا سلاح فيه ولا شوكة، وليحولوا أموالهم إلى الاستثمار الصناعي والزراعي، وكل ما يلزم لتحقيق الأمن الغذائي للأمة ولإحداث ثورة صناعية فيها، وإلا فليبشروا بلعنة الله وغضبه، وليبشروا بالخسائر والضرر وزوال النعمة قريباً، بإذن الله.
(ب) الامتناع البات عن شراء واستهلاك الكوكا كولا والبيبسي كولا وغيرها من «الماركات» الأمريكية المعروفة المشهورة، لأنها إنما تصنع من مادة أمريكية، وبترخيص خاص من شركات أمريكية، وإن تمت تعبئتها محلياً؛ وكذلك ما هو من جنسها، لا سيما ما كان مشهوراً بإسمه بحيث يعد رمزاً أو علماً أمريكياً؛ وكذلك كل ما كتب عليه، أو علمنا بدليل قاطع صنع من مادة أو مواد أو أجزاء ومكونات أمريكية، وبأذون أمريكية، حتى ولو كانت تعبئته تعبئة محلية، أو تجميعه تجميعاً محلياً؛
والواجب على الناشطين الإسلاميين أن يبدؤوا فورا بإعداد قوائم لمثل هذه البضائع حتى يتم توزيعها على أوسع نطاق، مع مراعاة الدقة التامة، والتأكد من المعطيات بالأدلة القاطعة، وتأصيل ذلك بمراجعه وأسانيده مكتوباً، والابتداء بالأشهر والأهم والأغلى من البضائع والخدمات. وقد وجدت بالفعل الكثير من المواقع الإلكترونية التي تحتوي قوائم بأسماء البضائع والمؤسسات الأمريكية والإسرائيلة، منها على سبيل المثال، لا الحصر:
http://www.inminds.com
http://www.BoycottUSA.com
http://www.BoycottIsrael.com
هذه المقاطعة ليست قصراً على أفراد المسلمين، بل هي على المسلمين من أصحاب المحال التجارية والمؤسسات آكد وأولى. ونحن ننصح ملاك مصانع التعبئة والتجميع أن لا يخذلوا أمتهم بالتمادي في دعم العدو بتعليب وتجميع منتجاته، بل أن يبحثوا فوراً عن البدائل، وهي بحمد الله كثيرة موفورة: في شرق وجنوب شرق آسيا، وجنوب أفريقيا، ودول شرق أوروبا، وبعض دول غرب أوروبا لا سيما المحايدة منها كالسويد وسويسرا، وإلا خسروا أموالهم بعد خسارة دينهم، والوقوع في غضب ربهم!
(ج) مقاطعة الشركات والموسسات والمتاجر والمطاعم الأمريكية مثل: ماكدونالد، دجاج كنتاكي، هارديز، أسواق سيفواي، ونحوها، وذلك بغض النظر عن منشأ ما تقدمه من أطعمة أو تبيعه من بضائع أو تقدمه من خدمات، وذلك بغض النظر عن تابعية أو جنسية أو هوية أو دين مالك أو مدير ذلك الفرع المحلي. فالمقاطعة إنما هي لها بذاتها بوصف تحمل اسم أو تابعية العدو أي «التابعية الأمريكية»، ولأنها من رموز العدو وشعاراته المعروفة. وتعد الشركة الأم أمريكية إذا كان أكثر رأسمالها أمريكيا، أو كان تسجيلها الرئيسي في أسواق المال والبورصات الأمريكية. ونحن مطمئنون إلى نصر الله، وأن هذه المؤسسات سوف تغلق أبوابها قريباً ثم ترحل من بلاد المسلمين، بإذن الله، فعلى «العقلاء» من العاملين فيها سرعة البحث عن وظائف بديلة، قبل فوات الأوان!
(د) عدم التوجه إلى أمريكا للسياحة أو النزهة مطلقاً، أو للدراسة، أو العلاج، إلا لضرورة ملجئة، أو زيارة ذوي القربى لموجب شرعي لا مفر منه، أو لعمل من أعمال الدعوة والجهاد لا بد من التوجه هناك لأدائه.
(هـ) عدم فتح أي حساب مصرفي في البنوك الأمريكية وفروعها، وإغلاق وتصفية الحسابات الموجودة الآن. ولا يستثنى من ذلك إلا ما تقتضيه الضرورة القصوى لمن كان مقيماً هناك لعلاج، أو ما شابه. وحتى في حالة الضرورة الملجئة يجب الاكتفاء بإيداع مبالغ محدودة تفي بالغرض الضروري، مع ابقاء كل ما سوى ذلك في مصارف غير أمريكية. وبهذه المناسبة فإننا نحذر الجميع أن أمريكا ستقوم لا محالة بتجميد أرصدتهم، ومصادرتها ونهبها، إن عاجلاً أو آجلاً، بحجة «محاربة الإرهاب»، أو غيرها من الدجل والهراء. فهل يرضى عاقل، مسلماً أو غير مسلم، لأمواله بالضياع. وهل تطيب نفس شريف أن يمكن عصابة مجرم الحرب، الإرهابي القاتل جورج بوش، وطغمته الحاكمة في واشنطن، وصديقه شارون «رجل السلام» على حد تعبير بوش، من أمواله لتمويل مزيد من جرائمهم، وإرهابهم، وقنابلهم؟!
(3) مقاطعة إسرائيل، ذلك الورم السرطاني الخبيث في فلسطين، مثل مقاطعة أمريكا، بتطبيق ما اقترحناه أعلاه، بل ما هو أشد وأغلظ: فلا حاجة مثلاً إلى الذهاب إلى إسرائيل لدراسة أو علاج مطلقاً، ولا إلى فتح حسابات في مصارفهم الملعونة، والحمد لله. فالواجب أن يتجنب ذلك الكيان الصهيوني الملعون البغيض على كل حال كما تتجنب النجاسات، وأن ينبذ كما تنبذ الشياطين.
(4) التحدث عن هذه الحملة لكل أحد ودعوته لتبنيها، والالتزام بمقتضاها، وإعلامه بموجباتها وملابساتها، ومتابعة ذلك بصفة مستمرة، والتواصي به، وجعله حديث المجالس، وإذاعة انجازاتها وإحصائياتها ونشره في كل وسيلة متاحة.
(5) تنبيه المخالفين للمقاطعة بلطف أولاً، ثم ملاحقتهم بالألقاب الساخرة مثل: (محب أمريكا)، و(صديق إسرائيل)، و(عشيق مونيكا لوينسكي)، ونحوها، ولا بأس بكتابة ذلك على سياراتهم، وجدران بيوتهم ونحوه، فإن لم يرتدعوا فالتوبيخ والتبكيت والشجب، ثم التشهير في المجالس، ثم المقاطعة، والوصم بالنفاق والخيانة، واللعن على رؤوس الأشهاد.
هذه النصرة التي ذكرنا في غاية السهولة، وهي مقدورة لكل أحد، لأنها مجرد مواقف سلبية، وامتناع عن أفعال معينة، لا غير، ولا تكلف إلا الوعي المرهف، وحضور الذهن والبال، وترك البلادة والتخلص من الشعور بعدم المسؤولية، والخروج من حالة الغفلة وعدم المبالاة، ونتائجها مع ذلك عظيمة هائلة، لا يقدر مداها الحقيقي الآن إلا الله تبارك وتعالى، لا سيما وأن التقارير الأولية تشير إلى انخفاض حجم التداول في بعض البضائع والخدمات الأمريكية بنسبة تربو على 50% في عدد من الأقطار الإسلامية، وبلاد الخليج العربي خاصة، بناءً علي فعاليات فردية متفرقة غير منسقة. فكيف ستكون مكاسب الأمة من مثل هذه الحملة المنظمة المركزة الصارمة؟! سترى الأمة عجباً من ذلك، وما لم يكن بحسبانها، عند تحققه، بإذن الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ v إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ v لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ v قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ v رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ v لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ v عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ v لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ v إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، (الممتحنة؛ 60:1-8).
وصلى الله على حبيبنا محمد، خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه المخلصين المجاهدين، وبارك وسلم تسليماً كثيراً.
أ.د/ محمد بن عبدالله المســعري
لندن
الأثنين: 06 ربيع ثاني 1423هـ
الموافق: 17 يونيو-حزيران 2002 م
[تابع: ملحق نصوص من أقوال أهل العلم في هذا الموضوع]
__________________
الدكتور محمد بن عبدالله المسعري
أمين عام تنظيم التجديد الإسلامي، والناطق الرسمي له.
Muhammad@tajdeed.net
[ تنبيه الجهاز الإداري ]
07-18-200208:17 AM
محمد المسعري الأمين العام، والناطق الرسمي 1 مشاركاته: a199 إنضمامه: Nov 2000
ملحق
نصوص من أقوال أهل العلم في هذا الموضوع
v جاء في «بدائع الصنائع»،(ج: 7 ص: 100): [ولا بأس بالإغارة والبيات عليهم؛ ولا بأس (بقطع) أشجارهم المثمرة وغير المثمرة، وإفساد زروعهم لقوله تبارك وتعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين}، أذن سبحانه وتعالى (بقطع) النخيل في صدر الآية الشريفة ونبه في آخرها أن ذلك يكون كبتا وغيظا للعدو بقوله تبارك وتعالى وليخزي الفاسقين ولا بأس بإحراق حصونهم بالنار وإغراقها بالماء وتخريبها وهدمها عليهم ونصب المنجنيق عليها لقوله تبارك وتعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين}، ولأن كل ذلك من باب القتال لما فيه من قهر العدو وكبتهم وغيظهم ولأن حرمة الأموال لحرمة أربابها ولا حرمة لأنفسهم حتى يقتلون فكيف لأموالهم ولا بأس برميهم بالنبال وإن علموا أن فيهم مسلمين من الأسارى والتجار لما فيه من الضرورة إذ حصون الكفرة قلما تخلو من مسلم أسير أو تاجر]
v وفي «الهداية شرح البداية»، (ج: 2 ص: 137): [ولا بأس برميهم، وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر، لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص ولأنه قلما يخلو حصن من مسلم فلو امتنع باعتباره لانسد بابه وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم لما بينا ويقصدون بالرمي الكفار لأنه إن تعذر التمييز فعلا فلقد أمكن قصدا والطاعة بحسب الطاقة وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة لأن الجهاد فرض والغرامات لا تقرن بالفروض،...]، [وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يمثلوا لقوله عليه الصلاة والسلام لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا والغلول السرقة من المغنم والغدر الخيانة ونقض العهد والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول ولا يقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا مقعدا ولا أعمى لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب ولا يتحقق منهم ولهذا لا يقتل يابس الشق والمقطوع اليمنى والمقطوع يده ورجله من خلاف والشافعي رحمه الله تعالى يخالفنا في الشيخ الفاني والمقعد والأعمى لأن المبيح عنده الكفر والحجة عليه ما بينا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن والذراري وحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال هذه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت قال إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب أو تكون المرأة ملكة لتعدي ضررها إلى العباد وكذا يقتل من قاتل من هؤلاء دفعا لشره ولأن القتال مبيح حقيقة ولا يقتلوا مجنونا مخاطب إلا أن يقاتل فيقتل دفعا أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر لأنه من لتوجه الخطاب نحوه وإن كان يجن ويفيق فهو في حال إفاقته كالصحيح]
v وفي «المبسوط للسرخسي» (ج: 10 ص: 65): [وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على الطائف وأمر أسامة بن يزيد رضي الله عنه بأن يحرق وحرق حصن عوف بن مالك. وكذلك أن تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم وإن كان الرامي يعلم أنه يصيب المسلم وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يحل له ذلك وهو قول الشافعي لما بينا أن التحرز عن قتل المسلم فرض وترك الرمي إليهم جائز. ولكنا نقول القتال معهم فرض وإذا تركنا ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم ولأنه يتضرر المسلمون بذلك فإنهم يمتنعون من الرمي لما أنهم تترسوا بأطفال المسلمين فيجترؤن بذلك على المسلمين وربما يصيبون منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر مدفوع إلا أن على المسلم الرامي أن يقصد به الحربي لأنه لو قدر على التمييز بين الحربي والمسلم فعلا كان ذلك مستحقا عليه فإذا عجز عن ذلك كان عليه أن يميز بقصده لأنه وسع مثله ولا كفارة عليه ولا دية فيما أصاب مسلما منهم لأنه إصابة بفعل مباح مع العلم بحقيقة الحال والمباح مطلقا لا يوجب عليه كفارة ولا دية والشافعي يوجب ذلك ويقول هذا قتل خطأ لأنه يقصد بالرمي الكافر فيصيب المسلم وهذا هو صورة الخطأ. ولكنا نقول إذا كان عالما بحقيقة حال من يصيبه ثم الرمي لم يكن فعله خطأ بل كان مباحا مطلقا وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان وله في أيديهم جارية مأسورة كرهت له غصبها ووطئها لأنهم ملكوها عليه والتحقت بسائر أملاكهم فلو غصبها منهم أو سرقها كان ذلك منه غدرا للأمان وقد ضمن أن لا يغدر بهم ولا يأخذ شيئا من أموالهم إلا بطيب أنفسهم، وإن كانت مدبرة أو أم ولد لم يكره له ذلك لأنهم لم يملكوها عليه فهو إنما يعيد ملكه إلى يده ولا يتعرض لملكهم بشيء فلم يكن ذلك منه غدرا للأمان ألا ترى أنهم لو أسلموا كان عليهم ردها بخلاف الأمة، وإن كان الرجل مأسورا فيهم لم أكره له أن يغصب أمته أو يسرقها لأنه ما كان بينه وبينهم أمان ولكنه مقهور فيهم مظلوم]
v وفي «بدائع الصنائع» (ج: 7 ص: 101): [وكذا إذا تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم لضرورة إقامة الفرض لكنهم يقصدون الكفار دون الأطفال فإن رموهم فأصاب مسلما فلا دية ولا كفارة. وقال الحسن بن زياد رحمه الله تجب الدية والكفارة وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله. وجه قول الحسن أن دم المسلم معصوم فكان ينبغي أن يمنع من الرمي إلا أنه لم يمنع لضرورة إقامة الفرض فيتقدر بقدر الضرورة والضرورة في رفع المؤاخذة لا في نفي الضمان كتناول مال الغير حالة المخمصة أنه رخص له التناول لكن يجب عليه الضمان لما ذكرنا كذلك ههنا. ولنا أنه كما مست الضرورة إلى دفع المؤاخذة لإقامة فرض القتال مست الضرورة إلى نفي الضمان أيضا لأن وجوب الضمان يمنع من إقامة الفرض لأنهم يمتنعون منه خوفا من لزوم الضمان. وإيجاب ما يمنع من إقامة الواجب متناقض وفرض القتال لم يسقط. دل أن الضمان ساقط بخلاف حالة المخمصة. لأن وجوب الضمان هناك لا يمنع من التناول، لأنه لو لم يتناول لهلك. وكذا حصل له مثل ما يجب عليه فلا يمنع من التناول فلا يؤدي إلى التناقض. ولا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار لأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم عليه إلا إذا اضطروا إليهم، والله تعالى أعلم.
فصل: وأما بيان من يحل قتله من الكفرة ومن لا يحل: فنقول الحال لا يخلو إما أن يكون حال القتال أو حال ما من القتال، وهي ما بعد الأخذ والأسر: أما حال القتال فلا يحل فيها قتل امرأة ولا صبي ولا شيخ فان ولا مقعد ولا يابس الشق، ولا أعمى ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف ولا مقطوع اليد اليمنى ولا معتوه ولا راهب في صومعة ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس وقوم في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب، أما المرأة والصبي فلقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا امرأة ولا وليدا وروي أنه عليه الصلاة والسلام رأى في بعض غزواته امرأة مقتولة فأنكر ذلك وقال صلى الله عليه وسلم هاه ما أراها قاتلت فلم قتلت ونهى عن قتل النساء والصبيان، ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال فلا يقتلون. ولو قاتل واحد منهم قتل، وكذا لو حرض على القتال أو دل على عورات المسلمين أو كان الكفرة ينتفعون برأيه أو كان مطاعا وإن كان امرأة أو صغيرا لوجود القتال من حيث المعنى وقد روي أن ربيعة بن رفيع السلمي رضي الله عنه أدرك دريد بن الصمة يوم حنين فقتله وهو شيخ كبير كالقفة لا ينتفع إلا برأيه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، والأصل فيه أن كل من كان من أهل القتال يحل قتله سواء قاتل أو لم يقاتل وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض وأشباه ذلك على ما ذكرنا فيقتل القسيس والسياح الذي يخالط الناس والذي يجن ويفيق والأصم والأخرس وأقطع اليد اليسرى وأقطع إحدى الرجلين وإن لم يقاتلوا لأنهم من أهل القتال. ولو قتل واحد ممن ذكرنا أنه لا يحل قتله فلا شيء فيه من دية ولا كفارة إلا التوبة والاستغفار لأن دم الكافر لا يتقوم إلا بالأمان ولم يوجد وأما حال ما من القتال وهي ما بعد الأسر والأخذ فكل من لا يحل قتله في حال القتال لا يحل قتله من القتال وكل من يحل قتله في حال القتال إذا قاتل حقيقة أو معنى يباح قتله بعد الأخذ والأسر إلا الصبي والمعتوه الذي لا يعقل فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا قاتلا حقيقة ومعنى ولا يباح قتلهما من القتال إذا أسرا وإن قتلا جماعة من المسلمين في القتال لأن القتل بعد الأسر وهما ليسا من فأما القتل في حالة القتال فلدفع شر القتال وقد وجد الشر منهما فأبيح الشر وقد انعدم الشر بالأسر فكان القتل بعده وهما ليسا من أهلها والله سبحانه وتعالى أعلم].
v وفي «بدائع الصنائع» (ج: 7 ص: 102): [فصل: وأما بيان من يسع تركه في دار الحرب ممن لا يحل قتله ومن لا يسع فالأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين إما إذا كان الغزاة قادرين على عمل هؤلاء وإخراجهم إلى دار الإسلام وإما إن لم يقدروا عليه فإن قدروا على ذلك فإن كان المتروك ممن يولد له ولد لا يجوز تركهم في دار الحرب لأن في تركهم في دار الحرب عونا لهم على المسلمين باللقاح وإن كان ممن لا يولد له ولد كالشيخ الفاني الذي لا قتال عنده ولا لقاح فإن كان ذا رأي ومشورة فلا يباح تركه في دار الحرب لما فيه من المضرة بالمسلمين لأنهم يستعينون على المسلمين برأيه وإن لم يكن له رأي فإن شاؤوا تركوه فإنه لا مضرة عليهم في تركه وإن شاؤوا أخرجوه لفائدة المفاداة على قول من يرى مفاداة الأسير بالأسير. وعلى قول من لا يرى لا يخرجونهم لما أنه لا فائدة في إخراجهم وكذلك العجوز التي لا يرجى ولدها وكذلك الرهبان وأصحاب الصوامع إذا كانوا حضورا لا يلحقون وإن لم يقدر المسلمون على حمل هؤلاء ونقلهم إلى دار الإسلام لا يحل قتلهم ويتركون في دار الحرب لأن الشرع نهى عن قتلهم ولا قدرة على نقلهم فيتركون ضرورة. وأما الحيوان والسلاح إذا لم يقدروا على الإخراج إلى دار الإسلام أما الحيوان فيذبح ثم يحرق بالنار لئلا يمكنهم الانتفاع به وأما السلاح فما يمكن إحراقه بالنار يحرق وما لا يحتمل الإحراق كالحديد ونحوه فيدفن بالتراب لئلا يجدوه والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل وأما بيان ما يكره حمله إلى دار الحرب وما لا يكره فنقول ليس للتاجر أن يحمل إلى دار الحرب ما يستعين به أهل الحرب على الحرب من الأسلحة والخيل والرقيق من أهل الذمة وكل ما يستعان به في الحرب لأن فيه إمدادهم وإعانتهم على حرب المسلمين، قال الله سبحانه وتعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، فلا يمكن من الحمل].
v وفي «أحكام القرآن» للإمام الجصاص (ج: 5 ص: 273): [باب: رمي حصون المشركين وفيهم أطفال المسلمين وأسراهم. قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري لا بأس برمي حصون المشركين، وإن كان فيها أسارى وأطفال من المسلمين ولا بأس بأن يحرقوا الحصون ويقصدوا به المشركين وكذلك إن تترس الكفار بأطفال المسلمين رمي المشركون وإن اصابوا أحدا من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة وقال الثوري فيه الكفارة ولا دية فيه وقال مالك لا تحرق سفينة الكفار إذا كان فيها اسارى من المسلمين لقوله تعالى لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إنما صرف النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لما كان فيهم من المسلمين ولو تزيل الكفار عن المسلمين لعذب الكفار وقال الأوزاعي إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين لم يرموا لقوله ولولا رجال مؤمنون الآية قال ولا يحرق المركب فيه أسارى المسلمين ويرمى الحصن بالمنجنيق وإن كان فيه أسارى مسلمون فإن أصاب أحدا من المسلمين فهو خطأ وإن جاؤا يتترسون بهم رمي وقصد العدو وهو قول الليث بن سعد وقال الشافعي لا بأس بأن يرمى الحصن وفيه أسارى أو أطفال ومن أصيب فلا شيء فيه ولو تترسوا ففيه قولان أحدهما يرمون والآخر لا يرمون إلا أن يكونوا ملتحمين فيضرب المشرك ويتوقى المسلم جهده فإن أصاب في هذه الحال مسلما فإن علمه مسلما فالدية مع الرقبة وإن لم يعلمه مسلما فالرقبة وحدها قال أبو بكر نقل أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه قد يصيبهم وهو لا يجوز تعمد بالقتل فدل على أن كون المسلمين فيما بين أهل الحرب لا يمنع رميهم إذ كان القصد فيه المشركين دونهم وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال هم منهم وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال أغر على هؤلاء يا بني صباحا وحرق وكان يأمر السرايا بأن ينتظروا بمن يغزونهم فإن أذنوا للصلاة أمسكوا عنهم وإن لم يسمعوا أذانا أغاروا وعلى ذلك مضى الخلفاء الراشدون ومعلوم أن من أغار على هؤلاء لا يخلو من أن يصيب من ذراريهم ونسائهم المحظور قتلهم فكذلك إذا كان فيهم مسلمون وجب أن لا يمنع ذلك من شن الغارة عليهم ورميهم بالنشاب وغيره وإن خيف عليه إصابة المسلم فإن قيل إنما جاء ذلك لأن ذراري المشركين منهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصعب بن جثامة قيل له لا يجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم في ذراريهم أنهم منهم في الكفر لأن الصغار لا يجوز أن يكونوا كفارا في الحقيقة ولا يستحقون القتل لفعل آبائهم في باب سقوط الدية والكفارة وأما احتجاج من يحتج بقوله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية في منع رمي الكفار لأجل من فيهم من المسلمين فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف وذلك لأن أكثر ما فيها أن الله كف المسلمين عنهم لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم وذلك إنما تدل إباحة ترك رميهم والإقدام عليهم فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين لأنه جائز أن يبيح الكف عنهم لأجل المسلمين وجائز أيضا إباحة الإقدام على وجه التخيير فإذا لا دلالة فيها على حظر الإقدام فإن قيل في فحوى الآية ما يدل على الحظر وهو قوله لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم قيل له قد اختلف أهل التأويل في معنى المعرة ههنا فروي عن ابن إسحاق أنه غرم الدية وقال غيره الكفارة وقال غيرهما الغم باتفاق قتل المسلم على يده لأن المؤمن يغم لذلك وإن لم يقصده وقال آخرون العيب وحكي عن بعضهم أنه قال المعرة الإثم وهذا باطل لأنه تعالى قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منا لقوله تعالى لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه ولم يضع الله عليه دليلا قال الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم فعلمنا أنه لم يرد المأثم ويحتمل أن يكون ذلك كان الموطأ في أهل مكة لحرمة الحرم ألا ترى أن المستحق للقتل إذ لجأ إليها لم يقتل عندنا وكذلك الكافر الحربي إذا لجأ إلى الحرم لم يقتل وإنما يقتل من انتهك حرمة الحرم بالجناية فيه فمنع المسلمين من الإقدام عليهم خصوصية لحرمة الحرم ويحتمل أن يريد ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد علم أنهم سيكونون من أولاد هؤلاء الكفار إذ لم يقتلوا فمنعنا قتلهم لما في معلومه من حدوث أولادهم مسلمين وإذا كان في علم الله أنه إذا أبقاهم كان لهم أولاد مسلمون أبقاهم ولم يأمر بقتلهم وقوله لو تزيلوا على هذا التأويل لو كان هؤلاء المؤمنون الذين في أصلابهم قد ولدوهم وزايلوهم لقد كان أمر بقتلهم وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترسوا بالمسلمين لأن القصد في الحالين رمي المشركين دونهم ومن أصيب منهم فلا دية فيه ولا كفارة كما أن من أصيب برمي حصون الكفار من المسلمين الذين في الحصن لم يكن فيه دية ولا كفارة ولا أنه قد أبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة فصاروا في الحكم بمنزلة من أبيح قتله فلا يجب شيء وليست المعرة المذكورة دية ولا كفارة إذ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره والأظهر منه ما يصيبه من الغم والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك وقول من تأوله على العيب محتمل أيضا لأن الإنسان قد يعاب في العادة باتفاق قتل الخطأ على يده]، انتهى كلام الإمام الجصاص، نقلناه بطوله لترى الفرق بين الفقه الجيد، والتهريج الرخيص!
v وجاء في في «الأم»، (ج: 4 ص: 239) كلام جميل لإمام الأئمة، الإمام الشافعي، إليك بعضه: [ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يعمد قتل النساء والولدان لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهم أخبرنا سفيان عن الزهري عن ابن كعب ابن مالك عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى الذين بعث إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان قال الشافعي لا يعمدون بقتل وللمسلمين أن يشنوا عليهم الغارة ليلا ونهارا فإن أصابوا من النساء والولدان أحدا لم يكن فيه عقل ولا قود ولا كفارة فإن قال قائل ما دل على هذا قيل أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الصعب بن جثامة الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وأبنائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم منهم وربما قال سفيان في الحديث هم من آبائهم قال الشافعي رحمه الله تعالى فإن قال قائل قول النبي صلى الله عليه وسلم هم من آبائهم قيل لا عقل ولا قود ولا كفارة فإن قال فلم لا يعمدون بالقتل قيل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمدوا به فإن قال فلعل الحديثين مختلفان قيل لا ولكن معناهما ما وصفت فإن قال ما دل على ما قلت قيل له إن شاء الله تعالى إذا لم ينه عن الإغارة ليلا فالعلم يحيط أن القتل قد يقع على الولدان وعلى النساء فإن قال فهل أغار على قوم ببلد غارين ليلا أو نهارا قيل نعم أخبرنا عمر ابن حبيب عن عبدالله بن عون أن نافعا مولى ابن عمر كتب إليه يخبره أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون في نعمهم بالمريسيع فقتل المقاتلة وسبى الذرية قال الشافعي رحمه الله تعالى وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بقتل ابن أبي الحقيق غارا دلالة على أن الغار يقتل وكذلك أمر بقتل كعب بن الأشرف فقتل غارا فإن قال قائل فقد قال أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بقوم ليلا لم يغر حتى يصبح قيل له إذا كان موجودا في سنته أنه أمر بما وصفنا من قتل الغارين وأغار على الغارين ولم ينه في حديث الصعب عن البيات دل ذلك على أن حديث مخالف لهذه الأحاديث ولكنه قد يترك الغارة ليلا لأن يعرف الرجل من يقاتل أو أن لا يقتل الناس بعضهم بعضا وهم يظنون أنهم من المشركين فلا يقتلون بين الحصن ولا في الآكام حيث لا يبصرون من قبلهم لا على معنى أنه حرم ذلك]، انتهى المنقول من «الأم».
v وفي «روضة الطالبين»، (ج: 10 ص: 245): [ولو كان في البلدة أو القلعة مسلم أو أسير أو تاجر أو مستأمن أو طائفة من هؤلاء فهل يجوز قصد أهلها بالنار والمنجنيق وما في معناهما فيه طرق المذهب أنه إن لم يكن ضرورة كره ولا يحرم على الأظهر لئلا يعطلوا الجهاد بحبس مسلم فيهم وإن كانت ضرورة كخوف ضررهم أو لم يحصل فتح القلعة إلا به جاز قطعا والطريق الثاني لا اعتبار بالضرورة بل إن كان ما يرمى به يهلك المسلم لم يجز وإلا فقولان والثالث وبه أجاب صاحب الشامل إن كان عدد المسلمين الذين فيهم مثل المشركين لم يجز رميهم وإن كان أقل جاز لأن الغالب أنه لا يصيب المسلمين والمذهب الجواز وإن علم أنه يصيب مسلما وهو نصه في المختصر،...، فإن هلك منهم هالك فقد رزق الشهادة، قاله أبو إسحاق].
v وفي «روضة الطالبين»، (ج: 10 ص: 244): [التاسعة: يجوز للإمام محاصرة الكفار في بلادهم والحصون والقلاع وتشديد الأمر عليهم بالمنع من الدخول والخروج وإن كان فيهم النساء والصبيان واحتمل أن يصيبهم ويجوز التحريق بإضرام النار ورمي النفط إليهم والتغريق بإرسال الماء ويبيتهم وهم غافلون ولو تترسوا بالنساء والصبيان نظر إن دعت ضرورة إلى الرمي والضرب بأن كان ذلك في حال التحام القتال ولو تركوا لغلبوا المسلمين جاز الرمي والضرب وإن لم تكن ضرورة بأن كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم فطريقان: أصحهما على قولين أحدهما يجوز رميهم كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد والثاني المنع وهذا أصح ثم القفال. ومال إلى ترجيح الأول مائلون، والطريق الثاني القطع بالجواز ورد المنع إلى الكراهة وقيل في الكراهة على هذا قولان ولو تترسوا بهم في القلعة فقيل هذه الصورة أولى بالجواز لئلا يتخذ ذلك حيلة إلى استبقاء القلاع لهم وفي ذلك فساد عظيم وقيل قولان وإن عجزنا عن القلعة إلا به. قلت: الراجح في الصورتين الجواز، والله أعلم. ولو كان في البلدة أو القلعة مسلم أو أسير أو تاجر أو مستأمن أو طائفة من هؤلاء فهل يجوز قصد أهلها بالنار والمنجنيق وما في معناهما فيه طرق المذهب أنه إن لم يكن ضرورة كره ولا يحرم على الأظهر لئلا يعطلوا الجهاد بحبس مسلم فيهم وإن كانت ضرورة كخوف ضررهم أو لم يحصل فتح القلعة إلا به جاز قطعا والطريق الثاني لا اعتبار بالضرورة بل إن كان ما يرمى به يهلك المسلم لم يجز وإلا فقولان والثالث وبه أجاب صاحب الشامل إن كان عدد المسلمين الذين فيهم مثل المشركين لم يجز رميهم وإن كان أقل جاز لأن الغالب أنه لا يصيب المسلمين والمذهب الجواز وإن علم أنه يصيب مسلما وهو نصه في المختصر].
v وقال الإمام الكبير أبو محمد علي بن حزم في «المحلى»، (ج: 7 ص: 295): [ولا يعقر شيء من نحلهم ولا يغرق ولا تحرق خلاياه. وكذلك من وقعت دابته في دار الحرب فلا يحل له عقرها لكن يدعها كما هي وهي له أبدا مال من ماله كما كانت لا يزيل ملكه عنها حكم بلا نص، وهو قول مالك وأبي سليمان. وقال الحنفيون والمالكيون يعقر كل ذلك فأما الإبل والبقر والغنم فتعقر ثم تحرق وأما الخيل والبغال والحمير فتعقر فقط. وقال المالكيون أما البغال والحمير فتذبح وأما الخيل فلا تذبح ولا تعقر لكن تعرقب أو تشق أجوافها. قال أبو محمد في هذا الكلام من التخليط ما لا خفاء به على ذي فهم أول ذلك أنه دعوى بلا برهان، وتفريق لا يعرف عن أحد قبلهم، وكانت حجتهم في ذلك أنهم ربما أكلوا الإبل والبقر والغنم والخيل إذا وجدوها منحورة فكان هذا الاحتجاج أدخل في التخليط من القولة المحتج لها، وليت شعري متى كانت النصارى أو المجوس أو عباد الأوثان يتجنبون أكل حمار أو بغل ويقتصرون على أكل الأنعام والخيل؟! وكل هؤلاء يأكلون الميتة ولا يحرمون حيوانا أصلا، وأما اليهود والصابئون فلا يأكلون شيئا ذكاه غيرهم أصلا وهذا عجب جدا. واحتجوا في إباحتهم قتل كل ذلك بقول الله تعالى: {ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح}، قال أبو محمد فقلنا لهم فاقتلوا أولادهم وصغارهم ونساءهم بهذا الاستدلال فهو بلا شك أغيظ لهم من قتل حيوانهم فقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان فقلنا لهم وهو عليه السلام نهى عن قتل الحيوان إلا لمأكله ولا فرق وإنما أمرنا الله تعالى أن نغيظهم فيما لم ينه عنه لا بما حرم علينا فعله. روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري نا سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار عن صهيب مولى ابن عامر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها قيل يا رسول الله وما حقها قالك «يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمى به»، ومن طريق مسلم بن الحجاج نا محمد بن حاتم نا يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج حدثني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقتل شيء من الدواب صبرا. ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن زنبور المكي نا ابن أبي حازم عن يزيد بن الهاد عن معاوية بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمثلوا بالبهائم». ومن طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لأمير جيش بعثه إلى الشام لا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تعرقنه ولا يعرف له في ذلك من الصحابة مخالف]، انتهى، كلام أبي محمد، وهو كله في حال الابتداء، وليس في مماثلة العدوان أو القصاص، كما سيأتي، ونقلناه بطوله لنظهر سعادة «البهائم» في ظل حكم الإسلام، وتعاسة «الإنسان» في ظل حكم أمريكا.
v وقال الإمام الكبير أبو محمد علي بن حزم في «المحلى»، (ج: 7 ص: 296): [مسألة: ولا يحل قتل نسائهم ولا قتل من لم يبلغ منهم أحد ممن ذكرنا فلا يكون للمسلم منجا منه إلا بقتله فله قتله حينئذ. روينا من طريق البخاري نا أحمد بن يونس نا الليث هو ابن سعد عن نافع أن ابن عمر أخبره أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان.
مسألة: فإن أصيبوا في البيات أو في اختلاط الملحمة (من غير) قصد (فلا) حرج في ذلك: روينا من طريق البخاري نا علي بن عبد الله نا سفيان نا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال هم من آبائهم].
v وقال الإمام الكبير أبو محمد علي بن حزم في «المحلى»، (ج: 7 ص: 296) أيضاً: [مسألة: وجائز قتل كل من عدا من ذكرنا من المشركين من مقاتل أو تاجر أو أجير وهو العسيف أو شيخ كبير كان ذا رأي أو لم يكن أو فلاح أو أسقف أو قسيس أو راهب أو أعمى أو مقعد لا تحاش أحدا، وجائز استبقاؤهم أيضا قال الله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فعم عز وجل كل مشرك بالقتل إلا أن يسلم. وقال قوم لا يقتل أحد ممن ذكرنا واحتجوا بخبر رويناه من طريق أحمد بن شعيب أخبرنا قتيبة نا المغيرة عن أبي الزناد عن المرقع عن جده رباح بن الربيع قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل أدرك خالدا وقل له لا تقتلن ذرية ولا عسيفا، ومن طريق سفيان عن عبد الله بن ذكوان عن المرقع بن صيفي عن عمه حنظلة الكاتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقتلوا الذرية ولا عسيفا، ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا يحيى بن آدم نا الحسن بن صالح ابن حيي عن خالد بن الفرز عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم انطلقوا باسم الله وفي سبيل الله تقاتلون عدو الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة. ومن طريق ابن أبي شيبة نا حميد عن شيخ من أهل المدينة مولى لبني عبد الأشهل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال لا تقتلوا أصحاب الصوامع. ومن نا إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا أصحاب الصوامع. ومن طريق حماد بن سلمة أخبرنا عبيد الله بن عمر قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض امرائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقتلوا صغيرا ولا امرأة ولا شيخا كبيرا. وعن حماد بن سلمة عن شيخ بمنى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل العسفاء والوصفاء. ومن طريق قيس بن الربيع عن عمر مولى عنبسة عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقتل شيخ كبير أو يعقر شجر إلا شجر يضر بهم. ومن طريق ابن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن الأحوص عن راشد بن سعد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الشيخ الذي لا حراك به. وذكروا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لأمير له لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما إنك ستمر على قوم قد حبسوا أنفسهم في الصوامع زعموا لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له وستمر على قوم قد فحصوا من أوساط رؤوسهم وتركوا فيها من شعورهم أمثال العصائب فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. وعن جابر بن عبد الله قال كانوا لا يقتلون تجار المشركين وقالوا إنما نقتل من قاتل وهؤلاء لا يقاتلون هذا كل ما شغبوا به وكل ذلك لا يصح أما حديث المرقع فالمرقع مجهول. وأما حديث ابن عباس فعن شيخ مدني لم يسم وقد سماه بعضهم فذكر إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف. والخبران الآخران مرسلان، وكذلك حديث راشد مرسل ولا حجة في مرسل وأما حديث أنس فعن خالد بن الفرز وهو مجهول، وحديث حماد بن سلمة عن شيخ بمنى عن أبيه وهذا عجب جدا وأعجب منه أن يترك له القرآن وأما حديث قيس بن الربيع فليس قيس بالقوي ولا عمر مولى عنبسة معروفا وعلي بن الحسين لم يولد إلا بعد موت جده رضي الله عنهم، فسقط كل ما موهوا به. وأما الرواية عن أبي بكر فمن عجائبهم هذا الخبر نفسه عن أبي بكر رضي الله عنه فيه جاء نهي أبي بكر رضي الله عنه عن عقر شيء من الإبل أو الشاء إلا لمأكلة وفيه جاء أن لا يقطع الشجر ولا يغرق النحل فخالفوه كما اشتهوا حيث لا يحل خلافه لأن السنة معه وحيث لا يعرف له مخالف من الصحابة. ثم احتجوا به حيث خالفه غيره من الصحابة رضي الله عنهم وهذا عجب جدا في خبر واحد وأما قول جابر لم يكونوا يقتلون تجار المشركين فلا حجة لهم فيه لأنه لم يقل إن تركهم قتلهم كان في دار الحرب وإنما أخبر عن جملة أمرهم. ثم لو صح مبينا عنه لما كان لهم فيه متعلق لأنه ليس فيه نهي عن قتلهم وإنما فيه اختيارهم لتركهم فقط. وروينا عن الحسن ومجاهد والضحاك النهي عن قتل الشيخ الكبير ولا يصح عن مجاهد والضحاك لأنه من طريق جويبر وليث بن أبي سليم وكذلك أيضا هذا الخبر عن أبي بكر لا يصح لأنه عن يحيى بن سعيد وعطاء وثابت بن الحجاج وكلهم لم يولد إلا بعد موت أبي بكر رضي الله عنه بدهر. ومن طريق فيها الحجاج بن أرطاة وهو هالك ولو شئنا أن نحتج بخبر الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبخبر الحجاج مسندا اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم لكنا أدخل منهم في الإيهام ولكن يعيذنا الله عز وجل من أن نحتج بما لا نراه صحيحا وفي القرآن وصحيح السنن كفاية. وأما قولهم إنما نقتل من قاتل فباطل بل نقتل كل من يدعى إلى الإسلام منهم حتى يؤمن أو يؤدي الجزية إن كان كتابيا كما أمر الله تعالى في القرآن لا كما أمر أبو حنيفة إذ يقول إن ارتدت المرأة لم تقتل فإن قتلت قتلت وإن سب المشركون أهل الذمة النبي صلى الله عليه وسلم تركوا وسبهم له حتى يشفوا صدورهم ويخزى المسلمون بذلك تبا لهذا القول وقائله. وروينا من طريق وكيع نا سفيان نا عبد الملك بن عمير القرظي نا عطية القرظي قال عرضت يوم قريظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله فكانت فيمن لم ينبت فهذا عموم من النبي صلى الله عليه وسلم لم يستبق منهم عسيفا ولا تاجرا ولا فلاحا ولا شيخا كبيرا وهذا إجماع صحيح منهم رضي الله عنهم متيقن لأنهم في عرض من أعراض المدينة لم يخف ذلك على أحد من أهلها. ومن طريق حماد بن سلمة أخبرنا أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع عن أسلم مولى عمر بن الخطاب قال كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد أن لا يجلبوا إلينا من العلوج أحدا اقتلوهم ولا تقتلوا من جرت عليهم المواسي ولا تقتلوا صبيا ولا امرأة ومن طريق ابن أبي شيبة عن ابن نمير نا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال كتب عمر إلى الأجناد لا تقتلوا امرأة ولا صبيا وأن يقتلوا كل من جرت عليه المواسي. فهذا عمر رضي الله عنه لم يستثن شيخا ولا راهبا ولا عسيفا ولا أحدا إلا النساء والصبيان فقط ولا يصح عن أحد من الصحابة خلافه وقد قتل دريد بن الصمة وهو شيخ هرم قد أهتر عقله فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لأنه كان ذا رأي فقلنا لهم ومن ذا الذي قسم لكم ذا الرأي من غيره فلا سمعا له ولا طاعة ومثل هذه التقاسيم لا تؤخذ إلا من القرآن أو عن النبي صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى نتأيد].
v وجاء في «المحلى» (ج: 7 ص: 294): [مسألة: وجائز تحريق أشجار المشركين وأطعمتهم وزرعهم ودورهم وهدمها. قال الله تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين وقال تعالى ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح وقد أحرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وهي في طرف دور المدينة وقد علم أنها تصير للمسلمين في يومه أو غده. وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ينهى أبو بكر عن ذلك اختيارا لأن ترك ذلك أيضا مباح كما في الآية المذكورة ولم يقطع صلى الله عليه وسلم أيضا نخل خيبر فكل ذلك وبالله تعالى التوفيق
مسألة ولا يحل عقر شيء من حيوانهم البتة لا إبل ولا بقر ولا خيل ولا دجاج ولا البغوي ولا أوز ولا برك ذلك إلا للأكل فقط حاشا الخنازير جملة فتعقر وحاشا الخيل في حال المقاتلة فقط وسواء أخذها المسلمون أو لم يأخذوها أدركها العدو ولم يقدر المسلمون على منعها أو لم يدركوها ويخلى كل ذلك]
v وفي «المغني» (ج: 9 ص: 230): [مسألة قال وإذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار. أما العدو إذا قدر عليه فلا يجوز تحريقه بالنار بغير خلاف نعلمه وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار. وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره فأما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافا. وقد روى حمزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية قال فخرجت فيها فقال إن أخذتم فلانا فأحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت فقال إن أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار. رواه أبو داود وسعيد وروى أحاديث سواه في هذا المعنى. وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث حمزة فأما رميهم قبل أخذهم بالنار فإن أمكن أخذهم بدونها لم يجز رميهم بها لأنهم في معنى المقدور عليه وأما ثم العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم وبه قال الثوري والأوزاعي والشافعي. وروى سعيد بإسناده عن صفوان بن عمرو وجرير بن عثمان أن جنادة بن أمية الأزدي وعبد الله بن قيس الفزاري وغيرهما من ولاة البحرين ومن بعدهم كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار يحرقونهم هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء، قال عبد الله بن قيس لم يزل أمر المسلمين على ذلك
فصل: وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم ليغرقهم إن قدر عليهم بغيره لم يجز إذا تضمن ذلك إتلاف النساء والذرية الذين يحرم إتلافهم قصدا وإن لم يقدر عليهم إلا به جاز كما يجوز البيات المتضمن لذلك ويجوز نصب المنجنيق عليهم وظاهر كلام أحمد جوازه مع الحاجة وعدمها لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف وممن رأى ذلك الثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نصب المنجنيق على أهل الطائف وعن عمرو بن العاص أنه نصب المنجنيق على أهل الإسكندرية، ولأن القتال به معتاد فأشبه الرمي بالسهام.
فصل: ويجوز تبييت الكفار وهو كبسهم ليلا وقتلهم وهم غارون. قال أحمد لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات قال ولا نعلم أحدا كره بيات العدو. وقرأ عليه سفيان عن الزهري عن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الديار من المشركين نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريهم فقال هم منهم فقال إسناد جيد فإن قيل فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والذرية قلنا هذا محمول على التعمد لقتلهم قال أحمد أما أن يتعمد قتلهم فلا قال وحديث الصعب بعد نهيه عن قتل النساء لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث إلى ابن أبي الحقيق وعلى أن الجمع بينها ممكن يحمل النهي على التعمد والإباحة على ما عداه فصل قال الأوزاعي إذا كان في المطمورة العدو فعلمت أنك تقدر عليهم بغير النار فأحب إلي أن يكف عن النار وإن لم يمكن ذلك وأبوا أن يخرجوا فلا أرى بأسا وإن كان معهم ذرية قد كان المسلمون يقاتلون بها ونحو ذلك قال سفيان وهشام ويدخن عليهم قال أحمد أهل الشام أعلم بهذا
فصل: وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم ثم حقوقهم فينقطع الجهاد وسواء كانت الحرب ملتحمة ملتحمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب
فصل: ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصدا لما روى سعيد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقال ها دونكم فارموها فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها لأن ذلك من ضرورة رميها وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال لأنها في حكم المقاتل وهكذا الحكم في وسائر من منع من قتله منهم
فصل: وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار وإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي فقال الأوزاعي والليث لا يجوز رميهم لقول الله تعالى ولولا رجال مؤمنون الفتح الآية قال الليث ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق. وقال الأوزاعي كيف يرمون من لا يرونه إنما يرمون أطفال المسلمين وقال القاضي والشافعي يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا إن قتل مسلما فعليه الكفارة وفي الدية على تزوجها روايتان إحداهما يجب لأنه قتل مؤمنا خطأ فيدخل في عموم قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله النساء، والثانية لا دية له لأنه قتل في دار الحرب برمي مباح فيدخل في عموم قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة النساء ولم يذكر دية. وقال أبو حنيفة لا دية له ولا كفارة فيه لأنه رمي أبيح مع العلم بحقيقة الحال فلم يوجب شيئا كرمي من أبيح دمه]، انتهى كلام ابن قدامة نقلناه بطوله لترى طريقة أهل الفقه والفكر في درواسة هذه القضايا الشائكة، خلاف طريقة «السخفاء» الذين يخلطون النواح بالفقه، فلا النواح أجادوا، ولا الفقه أتقنوا.
v وقال أيضاً في «المغني»،(ج: 9 ص: 261): [فصل: ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم لما روى سمرة بن جندب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة. وعن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان رواهما أبو داود، وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح رواه النسائي وعن عبد الله بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق برأس البطريق فأنكر ذلك فقال يا خليفة رسول الله فإنهم يفعلون ذلك بنا قال فاستنان بفارس والروم لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر. وقال الزهري لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط. وحمل إلى أبي بكر رأس فأنكره وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير ويكره رميها (أي الرؤوس) في المنجنيق نص عليه أحمد وإن فعلوا ذلك لمصلحة جاز لما روينا أن عمرو بن العاص حين حاصر الإسكندرية ظفر أهلها برجل من المسلمين فأخذوا رأسه فجاء قومه عمرا مغضبين فقال لهم عمرو خذوا رجلا منهم فاقطعوا رأسه فارموا به إليهم في المنجنيق ففعلوا ذلك فرمى أهل الإسكندرية رأس المسلم إلى قومه].
v وفي «كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه»، (ج: 28 ص: 537): [...، فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار ولو لم نخف على المسلمين جاز رمى أولئك المسلمين أيضا فى أحد قولى العلماء ومن قتل لأجل الجهاد الذى أمر الله به ورسوله هو فى الباطن مظلوم كان كلاهما وبعث على نيته ولم يكن قتله أعظم فسادا من قتل من يقتل من المؤمنين المجاهدين. وإذا كان الجهاد واجبا وإن قتل من المسلمين ما شاء الله فقتل من يقتل فى صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا بل قد أمر النبى المكره فى قتال الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يقاتل وإن قتل كما فى صحيح مسلم عن أبى بكرة قال قال رسول الله أنها ستكون فتن ألاثم تكون فتن ألاثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشى و الماشى فيها خير من الساعى ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بابله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج أن إستطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فقال رجل يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بى إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين فيضربنى رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلنى قال يبوء باثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار]
[تابع: قتل كعب بن الأشرف]
__________________
الدكتور محمد بن عبدالله المسعري
أمين عام تنظيم التجديد الإسلامي، والناطق الرسمي له.
Muhammad@tajdeed.net
[ تنبيه الجهاز الإداري ]
07-18-200208:20 AM
محمد المسعري الأمين العام، والناطق الرسمي 2 مشاركاته: a199 إنضمامه: Nov 2000
قتل كعب بن الأشرف
أخرج البخاري ومسلم والبيهقي قصة مقتل كعب بن الأشرف بأصح الأسانيد، وأخرجها كذلك أكثر أصحاب السير والمغازي والطبقات القصة بأسانيدهم، وفي كل رواية اختلافات طفيفة في الأقوال المتبادلة، هذا يطيل، وهذا يختصر، ونسبة بعض الأقوال والأفعال إلى قائلها أو فاعلها، إلا أنها واحدة في جوهرها الذي جاء بأصح إسناد في البخاري ومسلم والبيهقي، متضمنة المشاهد التالية:
المشهد التمهيدي: كعب بن الأشرف يصعق لانتصار المسلمين في بدر، ومصارع أحبته من قريش، فينطلق إلى مكة، يبكي القتلى، ويقول الشعر، ويحرض قريش على الحرب والثأر، ويهجو النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويؤذي المسلمين، ويشبب بنسائهم، ثم يعود إلى المدينة، فيصبح بذلك عهده منتقضاً، ويعود حربياً. وهو في الحقيقة خائن ليهوديته التي يفترض أن توجب عليه التباعد من المشركين والتقارب مع الموحدين: فهو ليس يهودياً، بل هو بالأحرى وثني، تمامً كالصهاينة هذه الأيام: لا دينيون علمانيون: ملحدون أو وثنيون
المشهد الأول: النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يهدر دمه، ويحرك الهمم نحو قتله، فيتقدم محمد بن مسلمة للقيام بالمهمة، فيؤمر بمشاورة سيد الأوس سعد بن معاذ، فيشير هذا بأشخاص بعينهم. أفراد السرية، وهم خمسة، يعلمون أنهم لن يصلوا إلى كعب بن الأشرف إلا بالخديعة، وأنهم قد يحتاجون إلى أن يتكلموا في النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بكلام قبيح لإنجاح المهمة، فيأذن لهم النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بذلك.
الأبطال الخمسة هم: محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان ابن سلامة بن وقش، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وابن عمه عباد بن بشر بن وقش، والحارث بن اوس بن معاذ، ابن أخي سعد بن معاذ سيد الأوس، وأبو عبس بن جبر، رضي الله عنهم.
المشهد الثاني: محمد بن مسلمة أو أبو نائلة ينطلق طليعة في زيارة تمهيدية لحصن كعب بن الأشرف الذي يقابله بحذر شديد، ولكن هذا يستطيع كسب ثقته، ويناشده الأشعار، ثم يفاتحه أن يريدون اقتراض تمر منه، لأن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أرهقهم بطلب الصدقة. يعمي الحقد بصيرة كعب بن الأشرف، ويبدي فرحته، ويؤكد أنهم سيلقون من النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مزيداً من المشاكل. الطليعة (أبو نائلة أو محمد بن مسلمة) يتخلص بمهارة ويسأله عن شروط الصفقة. كعب بن الأشرف يطلب رهناً لضمان ماله، وبعد جدال حول الرهن، يتفق الطرفان على رهن السلاح، ويواعده مساء يوم معين.
المشهد الثالث: يعود الطليعة إلى أصحابه، فيأخذو استعداداتهم، وعند قرب الموعد المقرر ينطلقون، ويصحبهم النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مودعاً في ليلة مقمرة إلى بقيع الغرقد. وبعد مسيرة بضعة ساعات يصلون إلى حصن كعب بن الأشرف عند أخواله من بني النضير، وينادون كعباً، فيرد عليهم، وتتوجس امرأته شراً، وتذكره أنه في حالة حرب، ولكنه يطمئنها، وينزل.
المشهد الرابع: محمد بن مسلمة أو أبو نائلة يدير الحديث بمهارة، ويقترح المشي إلي شعب قريب للاستمتاع بالليلة المقمرة، والحديث عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأوضاع المدينة. كعب بن الأشرف، الذي أعمته العداوة، لا يستطيع للإغراء صموداً، فيمشي معهم، وبعد دغدغة مشاعره بأنه من أطيب الناس عطراً وجمالاً وجسداً، يتمكنوا من الإمساك برأسه، ثم قتله، بعد مصارعة.
المشهد الأخير: تعود السرية إلى المدينة من طريق آخر عبر الحرة، للإفلات من مطاردة أهل الحصون القريبة، ويتباطأ بها السير لإصابة أحدهم بجروح، وضعفه بسبب النزيف، ولكنهم يفلتون ويصلون إلى البقيع، فيكبرون إيذاناً بوصولهم سالمين بعد مهمة ناجحة. النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يستقبلهم بالدعاء بالفلاح، ويتفل على جرح المصاب فيلتئم فوراً.
وقد بوب الإمام البخاري في «الجامع الصحيح المختصر» لذلك فقال: (باب قتل كعب بن الأشرف)، وأخرج فيه عدة أحاديث:
v كما جاء في «الجامع الصحيح المختصر»: [حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال عمرو سمعت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟!»، فقام محمد بن مسلمة فقال
يا رسول الله: أتحب أن أقتله؟!)، قال: «نعم»، (فائذن لي أن أقول شيئا!)، قال: «قل!»، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: (إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك)، قال: (وأيضا والله لتملنه)، قال: (إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين)، وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقا أو وسقين أو فقلت له فيه وسقا أو وسقين فقال أرى فيه وسقا أو وسقين، فقال: (نعم، ارهنوني!)، قالوا: (أي شيء تريد؟!)، قال: (ارهنوني نساءكم!)، قالوا: (كيف نرهنك نساءنا، وأنت أجمل العرب؟!)، قال: (فارهنوني أبناءكم!)، قالو:ا( كيف نرهنك أبناءنا؟! فيسب أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة)، (قال سفيان: يعني السلاح)، فواعده أن يأتيه فجاءه ليلا، ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت له امرأته: (أين تخرج هذه الساعة؟!)، فقال: (إنما هو محمد بن مسلمة، وأخي أبو نائلة)، (وقال غير عمرو قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم، قال إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب)، قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، (قيل لسفيان سماهم عمرو قال سمى بعضهم)، قال عمرو: جاء معه برجلين، (وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس، وعباد بن بشر)، قال عمرو: جاء معه برجلين، فقال: (إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه، فدونكم فاضربوه)، وقال مرة ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحا، وهو ينفح من ريح الطيب، فقال: (ما رأيت كاليوم ريحا أي أطيب)، وقال غير عمرو قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب، قال عمرو فقال له: (أتأذن لي أن أشم رأسك؟!)، قال: (نعم)، فشمه، ثم أشم أصحابه، ثم قال: (أتأذن لي؟!)، قال: (نعم)، فلما استمكن منه قال: (دونكم!)، فقتلوه، ثم أتوا النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبروه]
v وفي «الجامع الصحيح المختصر» باختصار: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله قال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله يا رسول الله قال نعم قال فأتاه فقال: (إن هذا، يعني النبي، صلى الله عليه وسلم، قد عنانا، وسألنا الصدقة!)، قال: (وأيضا، والله لتملنه!)، قال: (فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره)، قال فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله]
v وفي «الجامع الصحيح المختصر» باختصار كبير مقتصراً على الإذن بالكلام في النبي: [حدثني عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لكعب بن الأشرف؟!»، فقال محمد بن مسلمة: (أتحب أن أقتله؟!)، قال: «نعم»، قال: (فأذن لي، فأقول!)، قال: «قد فعلت!»].
وبوّب له الإمام مسلم في «صحيح مسلم» فقال: (باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود)، وأخرج فيه:
v ما جاء في «صحيح مسلم»: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري كلاهما عن بن عيينة، (واللفظ للزهري)، حدثنا سفيان عن عمرو سمعت جابرا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله!»، فقال محمد بن مسلمة يا رسول الله أتحب أن أقتله قال نعم قال ائذن لي فلأقل قال قل فأتاه فقال له وذكر ما بينهما وقال إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا فلما سمعه قال وأيضا والله لتملنه قال إنا قد اتبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال وقد أردت أن تسلفني سلفا قال فما ترهنني قال ما تريد قال ترهنني نساءكم قال أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا قال له ترهنوني أولادكم قال يسب بن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر ولكن نرهنك اللامة يعني السلاح قال فنعم وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر قال فجاؤوا فدعوه ليلا فنزل إليهم قال سفيان قال غير عمرو قالت له امرأته إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال فلما نزل نزل وهو متوشح فقالوا نجد منك ريح الطيب قال نعم تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب قال فتأذن لي أن أشم منه قال نعم فشم فتناول فشم ثم قال أتأذن لي أن أعود قال فاستمكن من رأسه ثم قال دونكم قال فقتلوه]
ــ وهو في «السنن الكبرى» للإمام النسائي: [أنبأ عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري قال حدثنا سفيان عن عمرو قال سمعت جابرا يقول،فساقه بنحو من حديث البخاري ومسلم]
ــ وجاء في «سنن أبي داود»: [حدثنا أحمد بن صالح ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قاله بنحو من حديث البخاري ومسلم باختصار طفيف]، وقال الألباني: صحيح.
ــ وهو في «مسند الحميدي»: [حدثنا سفيان قال ثنا عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله يقول، فذكره مثل البخاري ومسلم في جوهره، ولكنه مختصر إلى نحو من نصفه]
ــ وهو في «سنن البيهقي الكبرى» بأسانيد صحاح من طريق علي بن المديني وبن أبي عمر كليهما عن سفيان، وهو أتم لفظاً من البخاري: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا محمد بن يعقوب أنبأ أبو الحسين أحمد بن محمد بن عبدوس ثنا عثمان بن سعيد ثنا علي بن المديني ثنا سفيان قال عمرو بن دينار سمعت جابر بن عبد الله (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن سهل وإبرهيم بن محمد قالا ثنا بن أبي عمر ثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله!»، فقال له محمد بن مسلمة: (أتحب أن أقتله يا رسول الله؟!)، قال: «نعم»، قال: (أنا له يا رسول الله، فأذن لي أن أقول!)، قال: «قل!»، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: (إن هذا الرجل قد أخذنا بالصدقة، وقد عنانا، وقد مللنا منه)، فقال الخبيث لما سمعها: (وأيضا والله لتملنه أو لتملن منه ولقد علمت أن أمركم سيصير إلى هذا!)، قال: (إنا لا نستطيع أن نسلمه حتى ننظر ما فعل وإنا نكره أن ندعه بعد أن اتبعناه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره وقد جئتك لتسلفني تمر)،ا قال: (نعم على أن ترهنوني نساءكم!)، قال محمد: (نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟!)، قال: (فأولادكم؟!)، قال: (فيعير الناس أولادنا أنا رهناهم بوسق أو وسقين، وربما قال فيسب بن أحدنا فيقال رهن بوسق أو وسقين؟!)، قال: (فأي شيء ترهنون؟!)، قال: (نرهنك اللأمة!)، يعني السلاح، قال: (نعم!)، فواعده أن يأتيه فرجع محمد إلى أصحابه، فأقبل، وأقبل معه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، وجاء معه رجلان آخران، فقال: (سأتمكن من رأسه، فإذا أدخلت يدي في رأسه، فدونكم الرجل)، فجاؤوه ليلا، وأمر أصحابه، فقاموا في ظل النخل، وأتاه محمد فناداه: (يا أبا الأشرف!)، فقالت امرأته: (أين تخرج هذه الساعة؟!)، فقال: (إنما هو محمد بن مسلمة، وأخي أبو نائلة!)، فنزل إليه ملتحفا في ثوب أحد، تنفح منه ريح الطيب، فقال له محمد: (ما أحسن جسمك، وأطيب ريحك!)، قال: (إن عندي ابنة فلان، وهي أعطر العرب)، قال: (فتأذن لي أن أشمه؟!)، قال: (نعم)، فأدخل محمد يده في رأسه ثم قال: (أتأذن لي أن أشم أصحابي؟!)، قال: (نعم)، فأدخلها في رأسه فأشم أصحابه، ثم أدخلها مرة أخرى في رأسه حتى أمنه، ثم إنه شبك يده في رأسه، فنصاه، ثم قال لأصحابه: (دونكم عدو الله!)، فخرجوا عليه، فقتلوه، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره]، وقال البيهقي: (رواه البخاري في الصحيح عن علي بن عبد الله، ورواه مسلم عن عبد لله بن محمد كلاهما عن سفيان بن عيينة)
ــ وهو في «سنن البيهقي الكبرى» بإسناد صحيح من طريق الحميدي عن سفيان، باختصار كبير، ولكن بزيادة «الحرب خدعة»: [وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو بكر بن إسحاق أنبأ بشر بن موسى ثنا الحميدي ثنا سفيان عن عمرو عن جابر، رضي الله تعالى عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقال محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه يا رسول الله أتحب أن أقتله قال نعم قال فأذن لي فأقول قال قد أذنت لك فذكر القصة في احتياله في قتل كعب بن الأشرف قال فلما استمكن منه قتلوه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة»]، ثم قال البيهقي: (أخرجاه في الصحيح من حديث بن عيينة).
v وجاء مقتل كعب، مع ملابسات الواقعة، وكتابة «صحيفة المدينة» بعدها في «المعجم الكبير»: [حدثنا إسماعيل بن الحسن الخفاف ثنا أحمد بن صالح ثنا بن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن عقيل بن خالد عن بن شهاب حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحرض عليهم كفار قريش في شعره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهي اخلاط منهم المسلمون الذين يجمعهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم المشركون الذين يعبدون الأوثان ومنهم اليهود ومنهم أهل الحلقة والحصون وهم حلفاء الحيين الأوس والخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم استصلاحهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشركا والرجل يكون مسلما وأخوه مشركا وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم ففيهم أنزل الله تعالى: {ولتسمعن من الذين أتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثير}، إلى قوله: {من عزم الأمور}، وفيهم أنزل الله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا}، إلى قوله: {حتى يأتي الله بأمره}، فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى المسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة الأنصاري ثم الحارثي وأبا عيسى بن حبر الأنصاري والحارث بن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط فأتوه عشية في مجلسه بالعوالي فلما رآهم كعب بن الأشرف أنكر شأنهم وكان يذعر منهم وقال لهم ما جاء بكم قالوا جاء بنا حاجة إليك قال فليدنو إلى بعضكم ليحدثني بها فدنا إليه بعضهم فقال قد جئناك لنبيعك أدراعا لنا لنستنفق أثمانها فقال والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل فواعدهم أن يأتوه عشاء حين يهدي عنه الناس فجاؤوه فناداه رجل منهم فقام ليخرج إليهم فقالت امرأته ما طرقوك ساعتهم هذه بشيء مما تحب قال بلى إنهم قد حدثوني حديثهم فخرج إليهم فاعتنقه محمد بن مسلمة وقال لأصحابه لا يسبقكم وإن قتلتموني وأياه جميعا فطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته فلما قتلوه فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين فغدوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: (قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من سادتنا فقتل غيلة؟!)، فذكر لهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي كان يقول في أشعاره ويؤذيهم به، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة، فيها جامع أمر الناس، فكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم]
ــ وهو في «المعجم الكبير» من طريق أخرى: [حدثنا عبدان بن أحمد ثنا أبو الطاهر بن السرح ثنا بن وهب أخبرني بن لهيعة عن عقيل عن بن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحرض عليهم فقال من لكعب فلما أبى أن ينزع عن أذى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأذى المسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة وأبا عيسى بن الحارث بن أخي سعد بن معاذ في خمسة فأتوا كعبا فذكر مثله]
قلت: هذه أسانيد في غاية الصحة إلى: عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، ولكن ظاهره الإرسال، مع كونه في الحقيقة متصلاً عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده أو عن جده مباشرة، كما جود إسناده أبو داود والبيهقي:
ــ حيث جاءت ملابسات الواقعة، وكتابة «صحيفة المدينة» بعدها في «سنن البيهقي الكبرى» مجودة الإسناد: [أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي أنبأ أبو سهل بن زياد القطان ثنا عبد الكريم بن الهيثم ثنا أبو اليمان أخبرني شعيب عن الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أظنه عن أبيه وكان بن أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فساقه بنحو من حديث الطبراني، إلا أنه حذف تفاصيل قتل كعب بن الأشرف]
v وكما يشهد له ما جاء بأصح الأسانيد في «سنن أبي داود»: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وكان كعب بن الأشرف يهجو النبي، صلى الله عليه وسلم، ويحرض عليه كفار قريش وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون يعبدون الأوثان واليهود وكانوا يؤذون النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فأمر الله، عز وجل، نبيه بالصبر والعفو ففيهم أنزل الله: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}،الآية فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، سعد بن معاذ أن يبعث رهطا يقتلونه فبعث محمد بن مسلمة، (وذكر قصة قتله)، فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون فغدوا على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (طرق صاحبنا فقتل؟!)، فذكر لهم النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي كان يقول ودعاهم النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتب النبي، صلى الله عليه وسلم، بينه وبينهم وبين المسلمين عامة «صحيفة»]، وقال الألباني: (صحيح الإسناد)، قلت: هذا قطعاً عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عبد الله بن كعب بن مالك، وهو الذي كان يقود كعباً بعد أن عمي، عن أبيه الصحابي كعب بن مالك، أحد الثلاثة الذين خلِّفوا ثم تيب عليهم، كما هو في العديد من أحاديث البخاري ومسلم، فالإسناد صحيح على شرطهما.
v وفي «الطبقات الكبرى» قال الإمام ابن سعد: [أخبرنا محمد بن حميد العبدي عن معمر بن راشد عن الزهري في قوله تعالى ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا قال هو كعب بن الأشرف وكان يحرض المشركين على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يعني في شعره يهجو النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار فيهم محمد بن مسلمة ورجل آخر يقال له أبو عبس فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي فلما رآهم ذعر منهم وأنكر شأنهم قالوا جئناك في حاجة قال فليدن إلي بعضكم فليخبرني بحاجته فجاءه رجل منهم فقالوا جئناك لنبيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها فقال والله لئن فعلتم لقد جهدتم مذ نزل بكم هذا الرجل فواعدوه أن يأتوه عشاء حين تهدأ عنهم الناس فنادوه فقالت امرأته ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب قال إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم أخبرنا محمد بن حميد عن معمر عن أيوب عن عكرمة أنه أشرف عليهم فكلموه وقال ما ترهنون عندي أترهنوني أبناءكم وأراد أن يسلفهم تمرا قالوا إنا نستحي أن يعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين قال فترهنوني نساءكم قالوا أنت أجمل الناس ولا نأمنك وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ولكنا نرهنك سلاحنا وقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم قال نعم ائتوني بسلاحكم واحتملوا ما شئتم قالوا فانزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا فذهب ينزل فتعلقت امرأته وقالت أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك قال لو وجدوني هؤلاء نائما ما أيقظوني قالت فكلمهم من فوق البيت فأبى عليها فنزل إليهم تفوح ريحه فقالوا ما هذه الريح يا فلان قال عطر أم فلان لامرأته فدنا بعضهم يشم رأسه ثم اعتنقه وقال اقتلوا عدو الله فطعنه أبو عبس في خاصرته وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف فقتلوه ثم رجعوا فأصبحت اليهود مذعورين فجاؤوا النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا قتل سيدنا غيلة فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، صنيعه وما كان يحض عليهم ويحرض في قتالهم ويؤذيهم ثم دعاهم إلى أن يكتبوا بينه وبينهم صلحا أحسبه قال وكان ذلك الكتاب مع علي، رضي الله تعالى عنه، بعد]
v وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل» كيفية توديع النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لمنفذي العملية: [حدثنا يعقوب ثنا أبي عن بن إسحاق حدثني ثور بن يزيد عن عكرمة عن بن عباس قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: «انطلقوا على اسم الله» وقال: «اللهم أعنهم!»، يعنى النفر الذين وجههم إلى كعب بن الأشرف]
ــ وهو في «المعجم الكبير»: [حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازي ثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عن ثور بن زيد عن عكرمة عن بن عباس قال مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ثم رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بيته يعني في قتل بن الأشرف]
ــ وهو في «المعجم الكبير»: [حدثنا أبو شعيب الحراني ثنا أبو جعفر النفيلي ثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن ثور بن زيد عن عكرمة عن بن عباس قال مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر مثله]
أكمل ..................................................................................................................