كيف روضت تركيا جيشها 01/06/2010
في مقال له بمجلة فورين بوليسي يرى علي أصلان مراسل صحيفة زمان اليومية التركية في واشنطن وهو كاتب عمود فيها أن تركيا أخذت تعزز من مؤسساتها الديمقراطية بعد خمسين عاما من الانقلاب السيئ الذكر.
محاولات مستميتة
فقد قام الضباط العسكريون الأتراك يوم 27 مايو/أيار 1960 باعتقال رئيس الوزراء التركي المنتخب ديمقراطيا عدنان مندريس وأعضاء من حكومته, وقدموا مندريس أمام محكمة عسكرية خاصة بتهم الخيانة وانتهى به الأمر إلى الإعدام شنقا.
وخلال نصف القرن الأخير حاولت تركيا جاهدة التمعن جيدا في هذه الخطيئة الأساسية في العلاقات المدنية العسكرية, وأخيرا ظهرت علامات مشجعة على إحراز تركيا تقدما في تشكيل نظام ديمقراطي مستقر, وبات العسكريون الأتراك بشكل متزايد عرضة للمساءلة القانونية والاجتماعية بالرغم من محاولاتهم المستميتة لإعادة عقارب ساعة الديمقراطية التركية إلى الوراء.
وعلى النقيض من وجهات نظر بعض المحللين الغربيين والأتراك الذين يرون أن الصراع الرئيسي في تركيا يدور بين الإسلام والعلمانية، فإن الصراع يدور بين الحكم الفردي العسكري وبين الديمقراطية الليبرالية.
"
على النقيض من وجهات نظر بعض المحللين الغربيين والأتراك الذين يرون أن الصراع الرئيسي يدور بين الإسلام والعلمانية, على العكس, فإن الصراع يدور بين الحكم الفردي العسكري وبين الديمقراطية الليبرالية
"وقد تجرأت صحيفة طرف التركية اليومية في شهر يونيو/حزيران 2009 على نشر ما قال المحررون إنه وثيقة عسكرية مسربة تتضمن القيام بعمليات سرية من أجل تقويض أركان حكومة حزب العدالة والتنمية والنيل من القاعدة المؤيدة لها وتهميشها.
وكان من بين تلك الوسائل زرع أسلحة في السكن الداخلي للطلاب المتعاطفين مع المفكر الإسلامي فتح الله غولين، ومن ثم مصادرة تلك الأسلحة من أجل وصم تلك الحركة غير العنيفة حقيقة بأنها منظمة إرهابية.
ومن أجل احتواء ما تم الكشف عنه, سارع رئيس أركان الجيش التركي الجنرال إلكر باشبوك بالتصريح أمام الكاميرات، وأقسم على أن الوثيقة ليست أكثر من قصاصة ورق، معدا المسرح بذلك لتصريحات الدوائر العلمانية القومية التركية ممن يرون أن هذه فبركة من جانب الإسلاميين الذين يودون النيل من مكانة جيش لقب نفسه بأنه حارس العلمانية.
وقد تفحصوا بشكل مستمر في التقارير الصادرة عن أعلى المستويات القضائية الرسمية في تركيا إلى المدعين المدنيين التي تؤكد صدق الوثيقة كما أن الادعاء العسكري قال في شهر مارس/آذار إن التوقيع على الوثيقة كان توقيع العقيد دورسوم سيسيك الذي كان يعمل في هيئة الأركان التركية في ذلك الوقت.
خطة انقلاب
وفي يناير/كانون الثاني 2010 نشرت صحيفة طرف قصة تروع الفؤاد، تمثلت في نشر أجزاء من وثيقة تتكون من نحو 5000 صفحة تشمل خطة انقلاب عسكري مزعوم يرجع إلى عام 2003 ويسمى "المطرقة الكبيرة".
وكان السيناريو الذي ورد وصفه في الوثيقة متفجرا، يشير إلى أن هناك مجموعة من كبار الضباط يفكرون في كيفية زعزعة الاستقرار في تركيا لتمهيد الطريق أمام استيلاء الجيش على السلطة, وكان من بين خططهم التي درسوها إسقاط مقاتلة نفاثة تركية لتصعيد التوتر مع اليونان وقصف المساجد الرئيسية في إسطانبول من أجل إثارة القلاقل.
وتبعا لذلك فقد تم، بأمر من محكمة مدنية, اعتقال العشرات من الضباط ممن هم في الخدمة ومن المتقاعدين، ومن بينهم جنرالات.
وكان الرد الأولي من قبل العسكريين كالعادة هو النفي والتستر واتهامات للمتعاطفين المفترضين مع غولين في الجيش والشرطة والنظام القضائي بتدبير مؤامرة واسعة.
يشير هذا كله إلى ثورة غير مسبوقة في السياسات التركية, إذ إن هذه أول مرة في تاريخ تركيا الحديث يتم فيها تحدي الجيش الذي كان فوق المساءلة بهذه الطريقة العالية المستوى.
فقد قام الجنرالات بأربعة تدخلات عسكرية مباشرة في تركيا خلال العقود الخمسة الأخيرة من دون أن يتعرضوا لعواقب وخيمة جراء ذلك, أما في هذه المرة فكان الوضع مختلفا.
إن أفضل ما يعبر عن روح التوجه الإصلاحي التركي الجديد هو المحاكمة الواسعة والتحقيقات التي تمت مع إيرغينيكون، وهي تكتل من العديد من المجموعات المختلفة من الضباط والمدنيين الذين تسري في عروقهم الروح العسكرية، وقد نذروا أنفسهم للحفاظ على النظام التركي المتداعي من حقبة الحرب الباردة.
ووفقا للمدعين العامين فإن المتهمين التابعين لإيرغينيكون مهدوا الطريق أمام استيلاء العسكريين على السلطة عن طريق أساليب شريرة آثمة تشمل الاغتيالات السياسية والتفجيرات الإرهابية ودعاية موجهة من جانب وسائل إعلام صديقة إلى الجمهور التركي.
وسبق للمحققين في قضية إيرغينيكون أن اكتشفوا الوثائق التي قالوا إنها تحمل توقيع العقيد سيسيك قبل الإعلان عنها من جانب صحيفة طرف, ودلت الخرائط التي تم الاستيلاء عليها الشرطة على مخازن الأسلحة السرية التابعة للعسكريين المدفونة تحت الأرض.
كما أن الوثائق كشفت عن الهدف من تلك الأسلحة, ووقفا لعملية أطلق عليها اسم "خطة القفص" مذيلة بتوقيع العديد من الضباط العسكريين، فإن هؤلاء سيقومون سرا بمضايقة وقتل عدد من الشخصيات غير المسلمة في تركيا من أجل إلقاء اللوم على حزب العدالة والتنمية الحاكم.
المؤامرة
سلط اللوبي العسكري الضوء على بعض من المشاكل الخاصة بالتحقيقات مع الإيرغينيكون مثل غارات الشرطة الصباحية على المشتبه فيهم وضعف صياغة لوائح الاتهام الأولية.
ورغم ذلك فإن موقف المدعين العامين يبدو قويا جدا, فهو مدعوم بتسجيلات هاتفية بناء على أوامر من المحكمة، ناهيك عن الوثائق التي تم العثور عليها وكميات كبيرة من المتفجرات والأسلحة والخطط الوافية والمفصلة لعمليات الاغتيال والتسجيلات العسكرية.
وفي بلد تدخل فيه الجيش مرارا وتكرارا في الشؤون السياسية, فإن مثل تلك المؤامرة ليس من الصعب تصديقها أو تخيلها.
ومما يدعو للتشجيع أن الجمهور التركي أبدى دعما قويا للقضية, إذ أعرب نحو 60% ممن استطلعت آراؤهم من قبل استطلاع قام به مترو بول في شهر مارس/آذار 2010 عن تأييدهم لاعتقال العسكريين المشتبه في ضلوعهم بخطة الانقلاب المزعوم عام 2003.
أما الاستثناء الرئيسي -وهو أمر غير مفاجئ- فكان في أوساط الحرس التركي القديم, فقد أعرب نحو 70% من ناخبي حزب الشعب الجمهوري وهو حزب مؤيد للمؤسسة القديمة في نفس الاستطلاع عن اعتراضهم على توجيه لوائح الاتهام.
فمن وجهة نظر ناخبي حزب الشعب الجمهوري فإن الدولة العلمانية قد أصابها الوهن بذريعة الترويج للديمقراطية، لتمهيد الطريق أمام حكم رجال الدين, ولكن رغم أن تركيا دولة مؤمنة بالدين مثل الولايات المتحدة, فإنه لا توجد في البلاد رغبة في التحول نحو التطرف أو الحكم الديني حتى في أوساط شرائح أشد المتدينين المحافظين في المجتمع التركي.
وعلى النقيض من ذلك فإن العناصر الرئيسية المحافظة المتدينة من حزب العدالة والتنمية وحركة غولين يدفعون بوضوح نحو مزيد من الديمقراطية في تركيا.
وقد استوفت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية الشروط والمعايير السياسية لإعلان كوبنهاغن الذي يحدد مدى جدارتها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي, وبالتالي بدأت عام 2005 محادثات مع الاتحاد الأوروبي.
وترعى حركة غولين سلسلة من المناقشات السنوية تقوم بها مجموعة تضم خليطا متنوعا من المفكرين والمسؤولين الجماهيريين يناقشون سبل تحسين ديمقراطية البلاد, إنهم ليسوا معصومين من الخطأ, ولكن أنصار العسكر ينظرون إلى كل مجموعة تقية أو متدينة على أنها مجموعة إسلامية ذات أجندة خفية.
الحركة المدنية
ولعل الحركة المدنية المبنية على التمسك بالدين التي يعتبر غولين ملهمها وأباها الروحي قد جذبت اهتماما كبيرا, مع أن غولين ابن التاسعة والستين الذي يعيش حاليا في أميركا نادرا ما يظهر على الملأ، ولكنه يؤيد التفسير المعاصر للعقيدة السلفية التركية التي تتناغم مع الحداثة والعلم.
وقد ابتدأت هذه الحركة بمجموعة صغيرة في أواخر الستينيات, ولكنها بمرور الوقت، تحولت إلى حركة كبيرة وفضفاضة ذات حضور هائل في العديد من القطاعات الرئيسية في الشعب التركي, ولكن أنصار العسكر يرون فيها مثل أي حركة مستقلة ناجحة, تهديدا لمنظورهم الضيق الأفق لتركيا.
وقد لقي الإصلاحيون الليبراليون من أمثال أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل في الآداب نصيبهم من حملات تشويه السمعة والقذف من جانب تلك الفئة, فقد قال باموك علنا إن الإيرغينيكون خوفوه وهددوه بالقتل, وعليه فلم يكن من العجيب أن توجه لائحة اتهام ضد كمال سيركنسايز بشأن عضوية إيرغينيكون، خاصة أنه محام قومي متعصب كان يشكل رأس الحربة في المساعي القانونية لحرمان باموك من حرية التعبير.
يعرض اللوبي العسكري قضية إيرغينيكون على أنها حملة سياسية تهدف إلى تكميم أفواه المعارضة العلمانية وأنصارها من قبل حكومة العدالة والتنمية وأنصارها, ولكن رغم وجود علامات متزايدة على عدم الارتياح في الدوائر الحكومية للنقد قبيل الانتخابات العامة في 2011، فإن المعارضة السياسية موجودة على نطاق قوي وبخير في تركيا, فهناك المئات من العلمانيين والقوميين والزعماء الليبراليين الذين ينتقدون الحكومة يوميا.
إن ما نشاهده اليوم في تركيا عملية لنشر الديمقراطية مدفوعة بالسيطرة المتزايدة للمدنيين على الجيش, ومع ذلك وبسبب مشاكل ناجمة عن دستور البلاد الليبرالي وهو نتاج انقلاب عام 1980 العسكري, فإن التقدم لم يكن سهل التحقيق دائما, فالمعارضون يوجهون التهم بأن التحقيقات في قضية إيرغينيكون استغرقت زمنا طويلا دون أن تسفر عن إدانات.
ولكن هذا هو النمط العام المؤسف للنظام القضائي التركي, فقد استغرقت الإجراءات التي ابتدأت في عام 1982 ضد ديف- سول وهي منظمة يسارية متهمة بالتطرف 28 عاما قبل أن يدان 39 من أفرادها في نهاية المطاف.
والحل يكمن في إصلاح دستوري شامل يشمل النظام القضائي, وهي خطوة ليس من شأنها تحسين دور القانون فحسب, ولكنها تعزز دخول تركيا من أجل دخول الاتحاد الأوروبي عن طريق تناغم نظام البلاد القضائي مع المعايير الأوروبية.
وكانت مبادئ كمال أتاتورك وأفكاره غير واضحة في عقول الضباط الشباب الذين كانوا رأس الحربة في انقلاب 1960، وما زالت الفئة العسكرية تستمر في تسويغ ذلك الموقف باسم الأب المؤسس لتركيا.
لكن أتاتورك كان إصلاحيا واقعيا بشكل كبير وكانت أهدافه الرئيسية هي تحديث تركيا ودمجها مع الغرب، ولكن الجمود والولاء للدولة والنزعة العسكرية للحرس التركي القديم أدت فقط إلى إبطاء التقدم نحو تحقيق تلك الأهداف.
فقد تغيرت فكرة قدسية الدولة وفقا لمنظور العسكريين ورفاقهم بدرجة دراماتيكية خلال السنوات العديدة الأخيرة, ولكن ما زال هناك الكثير مما يجب عمله, وأتاتورك سيشعر بالفخر لما يحدث بالرغم من الاعتراضات التي يصرح بها من عينوا أنفسهم للدفاع عنه.
المصدر : الجزيرة نت .