مُحصَنَةٌ.. رغم نَهْشِ الكلاب

فضلاً.. اقرأ ماتقدم قبلاً, فهو أصل لاينفصل عما ستقرأ..(5/3)

الوجه الرابع:

الزبون دائماً على حق.. يقال أنها مقولة فرنسية.. وهى فى شئون التجارة والتسويق قاعدة غاية فى الأهمية. والمعنى أنك إن كنت تريد أن تصبح تاجراً أو بائعاً ماهراً فعليك أن تؤمن بأن الزبون ( أى العميل أو المستهلك ) دائماً على حق. فإن تحققت لديك هذه القناعة, فلابد وأن ستحرص الحرص كله على ارضاء الزبون وتلبية رغباته. وبالتالى تحقق نسبة مبيعات أعلى وأرباح أكثر. وكما قلنا فيما سبق: إن المال الجشع لا يعرف ديناً ولا خلقاً كريماً ولا مثُلاً عليا كتلك التى يتغنى بها أهل الفضل والمروءة. ذلك المال لاوقت لديه لهذه الأمور. إن له هدفاً واحداً, وإن شئت قلت إلهاً معبوداً وليس سواه, وهو النماء والتكاثر. ورأينا أيضاً فيما سبق مثلاً على ذلك, من حيث الرغبة فى الترويج والاعلان - والاعلام أيضاً - كيف تنازل أهل هذه الصناعات عن الاهتمام بلغتهم العربية - قصداً أو جهلاً - فى سبيل مايروجون له ويدعون. حتى صارت اللغة العربية تهدر وينالها من ضرر مالا يرضاه حريص عليها أو على سلامتها.
وتبادل السلع والمصالح بين شعوب الأرض ضرورة حتمية لاتستقيم الحياة إلا بها. هكذا قضى الحق تبارك وتعالى. وأبسط الأدلة على ذلك, أن تجد غذاءً ما بوفرة فى بلد ما فى حين لايجد بلد آخر هذا النوع من الغذاء, وقد يجده ولا يكفيه. فلا سبيل حينئذ أمام البلد الثانى إلا أن يطلبه من البلد الأول, بالوسائل المشروعة كالسماحة والاتفاق, أو بغير المشروعة كالقوة والسلاح. أما غير المشروعة فمعروفة وأبسط أمثلتها وأشهرها عدوان الدول القوية على تلك الضعيفة إلى حد الاحتلال والخداع, وخير مثال مايحدث الآن فى العراق وغيرها. وأما الوسائل المشروعة فتتمثل فى التسويق والترويج للسلع. أى بالعرض والطلب. فالعرض يأتى من جهة المنتج ( الذى يملك السلعة) ويرغب فى بيعها للغير, والطلب يأتى من جهة المستهلك ( المحتاج للسلعة) ويرغب فى اشلاع حاجة وتحقيق منفعة من وراء امتلاكه لهذا السلعة . هذا باختصار ما يسميه البعض التسويق. أو قل التسويق هو مجموعة من الأنشطة تقوم بها الأفراد و المنظمات بغرض تسهيل و تسريع المعاملات و المبادلات في السوق في إطار البيئة و ظروف السوق. وغالباً ما يتولى المنتج دراسات التسويق وخلاصة غرضه أن يحصل على أفضل وأرخص عناصر انتاج السلعة, وفى نفس الوقت أكبر ثمن وأكبر عدد من للمستهلكين.
اذا عرفنا هذا صار من السهل فهم أنه من ركائز التسويق الأساسية الدعاية والاعلان, ودراسة المستهلكين ورغباتهم وصفاتهم وعاداتهم ومعتقداتهم, ومكونات السلعة وتكاليفها, وما إلى ذلك.
ولهذا فأهل الاختصاص يقسمون المنتجات بشكل عام إلى نوعين: السلع المادية, والخدمات الغير ملموسة. أما المادية فهى السلع الاستهلاكية وهي سلع ملموسة ويقوم المستهلك بشرائها بغرض الاستهلاك النهائي, فإن كان الاستهلاك قصير المدة فهى سلع غير معمرة, كالمواد الغذائية والمشروبات, وإن كان استهلاكها يستغرق وقتاً طويلاً كالسيارات مثلاً فهى السلع المعمرة. ولعلك تلاحظ معى أن السلع غير المعمرة لاتحتاج فى التعريف بها أكثر من ذكر اسمها أو شئ من وصفها, ومثاله الاعلان القائل: "اشرب كوكاكولا", أو "صابون كذا لنظافة أفضل وعطر يدوم".. بعكس السلع المعمرة التى تتطلب تعريفاً أكثر قد يصل الى حد توزيع كتيب معها للتيسير على المستهلك وشرح طريقة الاستخدام واحتياطات الأمان, وما إلى ذلك والذى يسميه البعض "كتالوج" كما نراه مع السيارات والثلاجات مثلاً.. ثم تأتى السلع الصناعية. ويدخل فيها المواد الخام ( كالنحاس والقطن ) والمواد المصنعة والأجزاء, وهى التى دخل عليها بعض التصنيع تمهيداً للانتاج النهائى ( كقطع الغيار, والورق, والجلود ) ومهمات التشغيل, أى التى تساعد على التشغيل (كالشحوم, والزيوت) والآليات أى الماكينات التى تتولى التصنيع فى المنشأة هذه التى تعمر طويلاً وتتكلف كثيراً. أما الخدمات الغير ملموسة, فهى سلع لا نراها وإنما تحقق لنا منفعة بشكل ما وضرورى أحياناً, كخدمات البنوك وشركات السياحة وأماكن الترفيه كالملاهى, وهذه الخدمات تحتاج إلى استفاضة فى الشرح والبيان لجذب المستهلك لأنه لايرى شيئاً بقدر ما يتصور ما يمكن أن يحصل عليه مستقبلاً, وهذه مسألة تحتاج كلاماً كثيراً عند العرض.
والآن, وبعد أن تصورنا وبشكل عام صورة العلاقة بين البائع (منتج السلعة) والمشترى (المستهلك). لايصعب علينا تصور أهمية التواصل فيما بينهم. والذى يهمه هذه المسألة أكثر هو المنتج صاحب المال. ووسيلته الأفضل للوصول إليك لتشترى منتجه هى الترويج. والترويج يكون بوسائل شتى, بالملصقات, واعلانات الاذاعة والتلفزيون والجرائد والمجلات وبطاقات (كروت) التعارف والورقيات الموزعة, و..و.... وزحام شديد من الخطاب المباشر وغير المباشر يطاردنى ويطاردك فى كل وقت وفى كل مكان, وبإلحاح متواصل ومتتابع, حتى صار الحصار المحكم حيثما توجهت وجدته.
 
هذا التواصل - أو الترويج - يقول متخصصو التسويق إنه من العلوم الحديثة التى أخذت فى الاعتبار بعد التقدم الكبير فى وسائل الانتاج والاتصال وتمكن نظريات رأس المال بشكل أوسع فى نواحى الاقتصاد. وهو يأخذ أشكالاً شتى. أذكرها لك اختصاراً : منها التسويق المباشر وهو أن يعرض البائع سلعته على المستهلك مباشرة كما نرى فى الشوارع من يوقفك ويعرض عليك شراء ما يبيعه. ثم هناك التسويق غير المباشر وهو الذى يكون عبر الاعلانات والدعاية المرئية أو المقروءة كما تسمع فى الاذاعة أو التلفزيون, ومن ذلك أيضاً التسويق عبر الكمبيوتر وأنت فى منزلك, والرأى عندى أنه مزيج من التسويق المباشر وغير المباشر.. ومن أجل التسويق قد تلجأ بعض الشركات والمؤسسات إلى خلق عادة ما عند فئة من الناس لتخدم منتجاتها, ومن هذا ما نراه فى الريف ( أو بيئة البدو ) من تحديث لبعض العادات ليألف الناس ما هو جديد, كأن يغيروا من عاداتهم فى استخدام البترول كوقود بدلاً من القش.
وثمة ترويج - وإن لم يكن تسويقاً بالمعنى الفنى- اهم وأخطر .. وهو ترويج الأفكار والعقائد. والذى ينبنى على مفهوم تغيير الثقافة والتعامل مع الحضارة الجديدة. هذا النوع من الترويج ووسائله ليس بمستحدث وإن اعتبره البعض حديثاً. فإن كان يأتى بخير فهو تمدن وتحضر وتقدم وسمه ما شئت مما يقوله المحدثون. وإن كان يأتى بشر فهو غزو فكرى وثقافى. وكل يسميه حسب موقعه ومراده ومفهومه. خذ مثلاً لذلك ما تبثه الفضائيات من غث الفكر والخلق , وما يستهدفون به الأمم ليسود الفكر الغربى ويعتنقه الناس جميعاً. ولئن سألت المروجين له والمنقادين فى ركابه لمدحوه وأثنوا عليه وكأنه طوق النجاة حتى كادوا يقولون هل أدلك على جنة الخلد وملك لا يبلى؟؟ .. عقائد وأفكار مسمومة فجة المنبع والأصل. والكل يهتف: أنا المصلح فاتبعونى أهدكم سواء السبيل.. ولا يمنع ذلك من وجود أولئك الصالحين المخلصين لاصلاح العالم بعد أن فسد واستشرى فساده, ولا أولئك المنذرين بسوء العاقبة من طول ما عم الفساد فى البر والبحر. فأولئك دعاة الخير وما كان المولى جل فى علاه أن يترك الشر وحده يصول ويجول بلا منذر ولا بشير .. ومن أجل ذلك أرسل الله تعالى الرسل, قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ -الأنعام:48) وقال حكاية عن شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ, وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ - هود 85:84) وغير ذلك كثير فى القرآن الكريم..
والبيع مشروع, كما الشراء مشروع.. ولكن, لما كان البائع أكثر نهاماً وجوعاً وعطشاً إلى المزيد كان إلى الإفساد أسرع وأعجل. وكان فى دعايته أكذب وأخدع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب - رواه مسلم وغيره ). فكان من الباعة (بما فيهم أكبر الشركات العالمية ) من يغش ويكذب فى دعايته حتى يسقط الزبون فى حبائل الشراء وهو سعيد بشراء ما قد يضره مخدوعاً وموهوماً . حتى اذا ما استفحل الأمر وارتاب المستهلك وتبصر جز أسنانه ليدافع عن حقه ويدفع عن نفسه الاستغلال ويتدرع طلباً للحماية والوقاية . فاذا بنا نرى محاورة ومبارزة وترصد بين الطرفين ( المنتج والمستهلك ) لا تهدأ ولا تستكين. نوع من اللاثقة وافتقاد الأمن والراحة. وأنشئت الدراسات والبحوث وعقدت المؤتمرات والمجالس والندوات, وأنفقت الأموال هنا وهناك لهذا الغرض, حتى صرنا نرى أجهزة رقابة وفحص وقوانين تسنها الحكومات بعقوبات تنزل بمن يغش أو يستغل المستهلك. وتشكلت الجمعيات الأهلية والمنظمات المدنية المدافعة عن حقوق المستهلك وحمايته.. إنه عالم يموج بالشك والتبرم.
وأصبح من المهم واللازم أن يتم تبصير المشترى قبل الشراء. ولم تعد الدعاية وحدها تكفى, ولم يعد سهلاً أن يصجق الناس وسائل الترويج.
 


واسمح لى - ياصاحبى - أن أشير بهذه المناسبة سريعاً إلى نعمة عظيمة من نعم الاسلام. إن الاسلام يريح البشر ويوثق عرى التواصل بينهم. المسلم الحق الصحيح الايمان لا يتأتى من قبله شك ولا حيرة. إن الاسلام يأمر وينهى, وفى كلٍ الخير كله. فإن شئت أن تعمل فكرك وتبحث وتنقب فى الحكمة الكامنة فى التشريع فلا بأس, ولكن الشرط أن تطيع فلا تخالف أمراً ولا تأتى نهياً. قال تعالى حكاية عن ابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي- البقرة: من الآية260). أما هذا الذى يوقف الطاعة على إعمال العقل أولاً فإيمانه مشكوك فيه. وما عانت البشرية وما تعذبت إلا بشقائها لنفسها بنفسها, حتى اذا ما ذاقت مرارة ولظى طاعة النفس والهوى, راحوا يدرسون ويبحثون ويتكلفون ما لا يطيقون, من وقت وجهد ومال وآلام لكى يصلوا - إن وصلوا - إلى ما أمر به الشرع أو نهى عنه.. وقد كانوا فى غنى عن كبدهم ومعاناتهم لو عرفوا الحق واتبعوه. والاسلام يهدى أهله سواء السبيل الذى يعمهم بالنعيم فى الدنيا - ثم فى الآخرة - حتى فى أمور العبادات التى هى حق الله تعالى. وفيما نحن بصدده يكفى أن نضرب مثلاً بقوله صلى الله جل فى علاه عليه وسلم: ( لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، و عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه - الترمذي - وحسنه الألباني), وقوله: ( إنّ رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة. - البخاري في صحيحه ), وقوله: ( رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى - البخاري و ابن ماجة ), وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة , ولا ينظر إليهم , ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار , وقال أبو ذر : خابوا وخسروا , من هم يا رسول الله ؟ قال : ( المسبل , والمنان , والمنفق سلعته بالحلف الكاذب - مسلم في صحيحه ), وقوله: ( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض - أخرجه البخاري ) إلى آخر مافى هذا الباب من هذا المضمون. ترى, أى تاجر هو المسلم الذى يتحلى بهذه الصفات ويستقر فى وجدانه وضميره تلك المحفزات والمحذرات؟؟ وكيف تكون الحياة والتواصل بين المنتج والمستهلك فى ظل هذه الاعتبارات؟؟ هل تتصور حينئذ أن الناس ستحتاج إلى مايبذلونه ويتكلفونه مما ذكرناه من ضنك ومتاعب ووساوس؟؟.. أعود فأقول:
ومن جماع ما ذكرنا قد اصبح من اللازم البيان والايضاح حتى يقبل المستهلك على السلعة. وكلما كانت السلعة بسيطة التركيب والاستعمال كانت أقل الكلمات تغنى للتعريف بها, كالمكواة مثلاً, وكلما كانت أكثر تعقيداً, كالسيارات مثلاً , كلما كانت فى حاجة إلى البيان والشرح بشكل أوسع. وفى ظل تفاعلات الطرفين, المنتج والمشترى, تزداد الصرامة والقسوة .. والرقابة.
نشرت جريدة الأهرام المصرية - 2004/23/11 - تحت عنوان: ( وثيقة موحدة لاستخدام السلع الاستهلاكية والمعمرة اشتراط تحديد تاريخ الصلاحية وتوضيح احتياطيات السلامة والأمان ):
"" في إطار الاهتمام بشئون المستهلك وحمايته وافق مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للتوحيد القياسي وجودة الانتاج علي وثيقة موحدة تتضمن التعليمات الخاصة باستخدام السلع الاستهلاكية والمعمرة في صورة مواصفة قياسية ويقول الدكتور محمود عيسي رئيس هيئة التوحيد القياسي ان الوثيقة صدرت كوسيلة مهمة لنقل المعلومات للمستهلك عن كيفية استخدام المنتج بطريقة صحيحة وآمنة وبما يشمل جميع وسائل الاتصال مثل النصوص المكتوبة والكلمات
والعلامات والرموز والرسوم البيانية والايضاحات المسموعة أو المرئية والتي توضع علي السلع ذاتها أو علي العبوة أو في صورة مصاحبة للسلعة مثل النشرات والكتيبات والاشرطة المرئية‏,‏ ويجب أن تتضمن الوثيقة التعريف بمكونات السلع ووظائفها وارشادات التركيب والتشغيل والصيانة واحتياطات السلامة والأمان وإرشادات لمعالجة ظهور العيوب البسيطة وكذلك ارشادات التخلص من السلع أو اجزائها بعد تأدية وظيفتها والاستغناء عنها‏,‏ وقد تضمنت الاشتراطات العامة تعليمات الاستخدام الصحيح للسلع والتحذير من الاخطاء التي يجب تفاديها أثناء الاستخدام‏,‏ كما نصت المواصفة علي كتابة التعليمات باللغة العربية بخط واضح كما اجازت كتابتها بأي لغة أجنبية اخري إلي جانب اللغة العربية علي أنه في حالة كتابة التعليمات علي السلع نفسها تكتب بخط واضح يصعب طمسه علي السلعة ذاتها """
هذه الاعتبارات ليست معمولاً بها فى مصر فقط, بل صارت ضرورة حياة كالماء والهواء فى معظم دول العالم.
ولأن السوق الاسلامية سوق واسعة, وتستوعب من السلع أكثر مما تستوعبه أو تستهلكه غيرها من الأسواق. ولأن البلدان الاسلامية, والعربية على الأخص, تأكل أكثر مما تزرع, وتلبس أكثر مما تصنع, فهى إذن هدف لشركات الانتاج الكبرى والصغرى.
أرانى مكرهاً أن أسألك - ياصاحبى - هل تذكر منشورات نابليون بونابرت يوم غزا مصر, بأى لغة كانت؟ .. كانت باللغة العربية, فى حين كانت خيوله وعسكره يدهسون الزرع والكلأ.!!
أرانى مكرهاً أيضاً أن أسألك - ياصاحبى - هل تذكر منشورات بوش التى ألقتها طائراته على أهل العراق الشقيق يوم الغزو المفضوح - قانوناً وأخلاقياً وانسانياً, بأى لغة كانت؟ .. كانت باللغة العربية, فى حين كانت هذه الطائرات نفسها, طائرات بوش, وبوارجه عن بعد , تصب الحمم تشوى العظام قبل الجلود على الأطفال والنساء والشيوخ لاتفرق بين سليم أو عليل.!! ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ - الحشر:14 ).
إنه المبدأ المكيافيللى .. الغاية تبرر الوسيلة!!.. بئس المبدأ والمبدوء.
أتعتقد أنهم كتبوا بالعربية من أجل حلاوة عيون العربية وتغزلاً فيها؟؟
أذكر أننا كنا فى السبعينات من القرن الماضى, وربما أوائل الثمانينات, كنا لا نجد كتيباً ( كتالوج ) باللغة العربية مرافقاً لأبسط السلع كالراديو, رغم أننا كنا نرى ذلك بعدة لغات أهمها الانجليزية والفرنسية والصينية. وقلما كنا نجد معها اللغة العربية. يبدو أن أهل هذه اللغة ماكانوا فى الحسبان , أو الاعتبار.. ولكن للتسويق ضرورة واحكاماً.. والغاية تبرر الوسيلة.
ولكى تصل سلع الشركات إلى أكبر عدد ممكن من المستهلكين .. ولكى تطبق قوانين حماية المستهلك, ولكى يشرح المنتج مزايا وتعليمات السلعة .. لابد وأن يكون كل ذلك بلغة يفهمها المستهلك .. والمسلمون يمثلون ربع العالم .. منهم من هم العربية لغتهم ولا يقلون عن المليار.. ياله من سوق.. ولا حيلة للمنتج الأجنبى والشركات الكبرى من استخدام العربية.
فعلى الرغم مما تفعله الدول الكبرى, أو قل المتقدمة, بالدول الصغرى, أو قل الفقيرة, وعلى الرغم من العداء المستحكم للاسلام وأهله ولغته من هؤلاء.. إلا أنهم فى النهاية مع شرعهم وخلقهم.. للتسويق ضرورة واحكاماً.. والغاية تبرر الوسيلة. !! بحيث أصبحنا اليوم نرى السلع الاستهلاكية المعمرة وغير المعمرة, والانتاجية والاستثمارية, البسيطة والمعقدة .. كلها تحمل اللغة العربية إلى جانب اللغات الأخرى .. وهذه الظاهرة آخذة فى التزايد يوماً بعد يوم. خاصة وأن الملاحظ اليوم تعدد القنوات الفضائية, المرئية والمسموعة, تبث من دول أجنبية ولكن باللغة العربية, كالمحطات الألمانية والفرنسية وقبلهم الانجليزية, ولحقت بهم الصينية والكورية فى الآونة الأخيرة, ولا ننكر أن الهدف هو الصراع الثقافى والفكرى .. لكنهم جميعاً صاروا يعملون حتى نرى العربية تصدح فى ربوع الأرض وتحلق فى أجواز الفضاء.
شاء الله جل فى علاه أن يجعل منهم خدماً للغة هى صلب ما يكرهون ويعادون..
وصدق صلى الله تعالى عليه وسلم: ( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر - البخاري ومسلم )


وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

ودى واحترامى

 
فضلاً.. اقرأ ماتقدم قبلاً, فهو أصل لاينفصل عما ستقرأ..(5/3)

الوجه الرابع:

الزبون دائماً على حق.. يقال أنها مقولة فرنسية.. وهى فى شئون التجارة والتسويق قاعدة غاية فى الأهمية. والمعنى أنك إن كنت تريد أن تصبح تاجراً أو بائعاً ماهراً فعليك أن تؤمن بأن الزبون ( أى العميل أو المستهلك ) دائماً على حق. فإن تحققت لديك هذه القناعة, فلابد وأن ستحرص الحرص كله على ارضاء الزبون وتلبية رغباته. وبالتالى تحقق نسبة مبيعات أعلى وأرباح أكثر. وكما قلنا فيما سبق: إن المال الجشع لا يعرف ديناً ولا خلقاً كريماً ولا مثُلاً عليا كتلك التى يتغنى بها أهل الفضل والمروءة. ذلك المال لاوقت لديه لهذه الأمور. إن له هدفاً واحداً, وإن شئت قلت إلهاً معبوداً وليس سواه, وهو النماء والتكاثر. ورأينا أيضاً فيما سبق مثلاً على ذلك, من حيث الرغبة فى الترويج والاعلان - والاعلام أيضاً - كيف تنازل أهل هذه الصناعات عن الاهتمام بلغتهم العربية - قصداً أو جهلاً - فى سبيل مايروجون له ويدعون. حتى صارت اللغة العربية تهدر وينالها من ضرر مالا يرضاه حريص عليها أو على سلامتها.
وتبادل السلع والمصالح بين شعوب الأرض ضرورة حتمية لاتستقيم الحياة إلا بها. هكذا قضى الحق تبارك وتعالى. وأبسط الأدلة على ذلك, أن تجد غذاءً ما بوفرة فى بلد ما فى حين لايجد بلد آخر هذا النوع من الغذاء, وقد يجده ولا يكفيه. فلا سبيل حينئذ أمام البلد الثانى إلا أن يطلبه من البلد الأول, بالوسائل المشروعة كالسماحة والاتفاق, أو بغير المشروعة كالقوة والسلاح. أما غير المشروعة فمعروفة وأبسط أمثلتها وأشهرها عدوان الدول القوية على تلك الضعيفة إلى حد الاحتلال والخداع, وخير مثال مايحدث الآن فى العراق وغيرها. وأما الوسائل المشروعة فتتمثل فى التسويق والترويج للسلع. أى بالعرض والطلب. فالعرض يأتى من جهة المنتج ( الذى يملك السلعة) ويرغب فى بيعها للغير, والطلب يأتى من جهة المستهلك ( المحتاج للسلعة) ويرغب فى اشلاع حاجة وتحقيق منفعة من وراء امتلاكه لهذا السلعة . هذا باختصار ما يسميه البعض التسويق. أو قل التسويق هو مجموعة من الأنشطة تقوم بها الأفراد و المنظمات بغرض تسهيل و تسريع المعاملات و المبادلات في السوق في إطار البيئة و ظروف السوق. وغالباً ما يتولى المنتج دراسات التسويق وخلاصة غرضه أن يحصل على أفضل وأرخص عناصر انتاج السلعة, وفى نفس الوقت أكبر ثمن وأكبر عدد من للمستهلكين.
اذا عرفنا هذا صار من السهل فهم أنه من ركائز التسويق الأساسية الدعاية والاعلان, ودراسة المستهلكين ورغباتهم وصفاتهم وعاداتهم ومعتقداتهم, ومكونات السلعة وتكاليفها, وما إلى ذلك.
ولهذا فأهل الاختصاص يقسمون المنتجات بشكل عام إلى نوعين: السلع المادية, والخدمات الغير ملموسة. أما المادية فهى السلع الاستهلاكية وهي سلع ملموسة ويقوم المستهلك بشرائها بغرض الاستهلاك النهائي, فإن كان الاستهلاك قصير المدة فهى سلع غير معمرة, كالمواد الغذائية والمشروبات, وإن كان استهلاكها يستغرق وقتاً طويلاً كالسيارات مثلاً فهى السلع المعمرة. ولعلك تلاحظ معى أن السلع غير المعمرة لاتحتاج فى التعريف بها أكثر من ذكر اسمها أو شئ من وصفها, ومثاله الاعلان القائل: "اشرب كوكاكولا", أو "صابون كذا لنظافة أفضل وعطر يدوم".. بعكس السلع المعمرة التى تتطلب تعريفاً أكثر قد يصل الى حد توزيع كتيب معها للتيسير على المستهلك وشرح طريقة الاستخدام واحتياطات الأمان, وما إلى ذلك والذى يسميه البعض "كتالوج" كما نراه مع السيارات والثلاجات مثلاً.. ثم تأتى السلع الصناعية. ويدخل فيها المواد الخام ( كالنحاس والقطن ) والمواد المصنعة والأجزاء, وهى التى دخل عليها بعض التصنيع تمهيداً للانتاج النهائى ( كقطع الغيار, والورق, والجلود ) ومهمات التشغيل, أى التى تساعد على التشغيل (كالشحوم, والزيوت) والآليات أى الماكينات التى تتولى التصنيع فى المنشأة هذه التى تعمر طويلاً وتتكلف كثيراً. أما الخدمات الغير ملموسة, فهى سلع لا نراها وإنما تحقق لنا منفعة بشكل ما وضرورى أحياناً, كخدمات البنوك وشركات السياحة وأماكن الترفيه كالملاهى, وهذه الخدمات تحتاج إلى استفاضة فى الشرح والبيان لجذب المستهلك لأنه لايرى شيئاً بقدر ما يتصور ما يمكن أن يحصل عليه مستقبلاً, وهذه مسألة تحتاج كلاماً كثيراً عند العرض.
 

والآن, وبعد أن تصورنا وبشكل عام صورة العلاقة بين البائع (منتج السلعة) والمشترى (المستهلك). لايصعب علينا تصور أهمية التواصل فيما بينهم. والذى يهمه هذه المسألة أكثر هو المنتج صاحب المال. ووسيلته الأفضل للوصول إليك لتشترى منتجه هى الترويج. والترويج يكون بوسائل شتى, بالملصقات, واعلانات الاذاعة والتلفزيون والجرائد والمجلات وبطاقات (كروت) التعارف والورقيات الموزعة, و..و.... وزحام شديد من الخطاب المباشر وغير المباشر يطاردنى ويطاردك فى كل وقت وفى كل مكان, وبإلحاح متواصل ومتتابع, حتى صار الحصار المحكم حيثما توجهت وجدته.
هذا التواصل - أو الترويج - يقول متخصصو التسويق إنه من العلوم الحديثة التى أخذت فى الاعتبار بعد التقدم الكبير فى وسائل الانتاج والاتصال وتمكن نظريات رأس المال بشكل أوسع فى نواحى الاقتصاد. وهو يأخذ أشكالاً شتى. أذكرها لك اختصاراً : منها التسويق المباشر وهو أن يعرض البائع سلعته على المستهلك مباشرة كما نرى فى الشوارع من يوقفك ويعرض عليك شراء ما يبيعه. ثم هناك التسويق غير المباشر وهو الذى يكون عبر الاعلانات والدعاية المرئية أو المقروءة كما تسمع فى الاذاعة أو التلفزيون, ومن ذلك أيضاً التسويق عبر الكمبيوتر وأنت فى منزلك, والرأى عندى أنه مزيج من التسويق المباشر وغير المباشر.. ومن أجل التسويق قد تلجأ بعض الشركات والمؤسسات إلى خلق عادة ما عند فئة من الناس لتخدم منتجاتها, ومن هذا ما نراه فى الريف ( أو بيئة البدو ) من تحديث لبعض العادات ليألف الناس ما هو جديد, كأن يغيروا من عاداتهم فى استخدام البترول كوقود بدلاً من القش.
وثمة ترويج - وإن لم يكن تسويقاً بالمعنى الفنى- اهم وأخطر .. وهو ترويج الأفكار والعقائد. والذى ينبنى على مفهوم تغيير الثقافة والتعامل مع الحضارة الجديدة. هذا النوع من الترويج ووسائله ليس بمستحدث وإن اعتبره البعض حديثاً. فإن كان يأتى بخير فهو تمدن وتحضر وتقدم وسمه ما شئت مما يقوله المحدثون. وإن كان يأتى بشر فهو غزو فكرى وثقافى. وكل يسميه حسب موقعه ومراده ومفهومه. خذ مثلاً لذلك ما تبثه الفضائيات من غث الفكر والخلق , وما يستهدفون به الأمم ليسود الفكر الغربى ويعتنقه الناس جميعاً. ولئن سألت المروجين له والمنقادين فى ركابه لمدحوه وأثنوا عليه وكأنه طوق النجاة حتى كادوا يقولون هل أدلك على جنة الخلد وملك لا يبلى؟؟ .. عقائد وأفكار مسمومة فجة المنبع والأصل. والكل يهتف: أنا المصلح فاتبعونى أهدكم سواء السبيل.. ولا يمنع ذلك من وجود أولئك الصالحين المخلصين لاصلاح العالم بعد أن فسد واستشرى فساده, ولا أولئك المنذرين بسوء العاقبة من طول ما عم الفساد فى البر والبحر. فأولئك دعاة الخير وما كان المولى جل فى علاه أن يترك الشر وحده يصول ويجول بلا منذر ولا بشير .. ومن أجل ذلك أرسل الله تعالى الرسل, قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ -الأنعام:48) وقال حكاية عن شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ, وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ - هود 85:84) وغير ذلك كثير فى القرآن الكريم..
والبيع مشروع, كما الشراء مشروع.. ولكن, لما كان البائع أكثر نهاماً وجوعاً وعطشاً إلى المزيد كان إلى الإفساد أسرع وأعجل. وكان فى دعايته أكذب وأخدع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب - رواه مسلم وغيره ). فكان من الباعة (بما فيهم أكبر الشركات العالمية ) من يغش ويكذب فى دعايته حتى يسقط الزبون فى حبائل الشراء وهو سعيد بشراء ما قد يضره مخدوعاً وموهوماً . حتى اذا ما استفحل الأمر وارتاب المستهلك وتبصر جز أسنانه ليدافع عن حقه ويدفع عن نفسه الاستغلال ويتدرع طلباً للحماية والوقاية . فاذا بنا نرى محاورة ومبارزة وترصد بين الطرفين ( المنتج والمستهلك ) لا تهدأ ولا تستكين. نوع من اللاثقة وافتقاد الأمن والراحة. وأنشئت الدراسات والبحوث وعقدت المؤتمرات والمجالس والندوات, وأنفقت الأموال هنا وهناك لهذا الغرض, حتى صرنا نرى أجهزة رقابة وفحص وقوانين تسنها الحكومات بعقوبات تنزل بمن يغش أو يستغل المستهلك. وتشكلت الجمعيات الأهلية والمنظمات المدنية المدافعة عن حقوق المستهلك وحمايته.. إنه عالم يموج بالشك والتبرم.
وأصبح من المهم واللازم أن يتم تبصير المشترى قبل الشراء. ولم تعد الدعاية وحدها تكفى, ولم يعد سهلاً أن يصجق الناس وسائل الترويج.
واسمح لى - ياصاحبى - أن أشير بهذه المناسبة سريعاً إلى نعمة عظيمة من نعم الاسلام. إن الاسلام يريح البشر ويوثق عرى التواصل بينهم. المسلم الحق الصحيح الايمان لا يتأتى من قبله شك ولا حيرة. إن الاسلام يأمر وينهى, وفى كلٍ الخير كله. فإن شئت أن تعمل فكرك وتبحث وتنقب فى الحكمة الكامنة فى التشريع فلا بأس, ولكن الشرط أن تطيع فلا تخالف أمراً ولا تأتى نهياً. قال تعالى حكاية عن ابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي- البقرة: من الآية260). أما هذا الذى يوقف الطاعة على إعمال العقل أولاً فإيمانه مشكوك فيه. وما عانت البشرية وما تعذبت إلا بشقائها لنفسها بنفسها, حتى اذا ما ذاقت مرارة ولظى طاعة النفس والهوى, راحوا يدرسون ويبحثون ويتكلفون ما لا يطيقون, من وقت وجهد ومال وآلام لكى يصلوا - إن وصلوا - إلى ما أمر به الشرع أو نهى عنه.. وقد كانوا فى غنى عن كبدهم ومعاناتهم لو عرفوا الحق واتبعوه. والاسلام يهدى أهله سواء السبيل الذى يعمهم بالنعيم فى الدنيا - ثم فى الآخرة - حتى فى أمور العبادات التى هى حق الله تعالى. وفيما نحن بصدده يكفى أن نضرب مثلاً بقوله صلى الله جل فى علاه عليه وسلم: ( لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، و عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه - الترمذي - وحسنه الألباني), وقوله: ( إنّ رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة. - البخاري في صحيحه ), وقوله: ( رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى - البخاري و ابن ماجة ), وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة , ولا ينظر إليهم , ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار , وقال أبو ذر : خابوا وخسروا , من هم يا رسول الله ؟ قال : ( المسبل , والمنان , والمنفق سلعته بالحلف الكاذب - مسلم في صحيحه ), وقوله: ( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض - أخرجه البخاري ) إلى آخر مافى هذا الباب من هذا المضمون. ترى, أى تاجر هو المسلم الذى يتحلى بهذه الصفات ويستقر فى وجدانه وضميره تلك المحفزات والمحذرات؟؟ وكيف تكون الحياة والتواصل بين المنتج والمستهلك فى ظل هذه الاعتبارات؟؟ هل تتصور حينئذ أن الناس ستحتاج إلى مايبذلونه ويتكلفونه مما ذكرناه من ضنك ومتاعب ووساوس؟؟.. أعود فأقول:
ومن جماع ما ذكرنا قد اصبح من اللازم البيان والايضاح حتى يقبل المستهلك على السلعة. وكلما كانت السلعة بسيطة التركيب والاستعمال كانت أقل الكلمات تغنى للتعريف بها, كالمكواة مثلاً, وكلما كانت أكثر تعقيداً, كالسيارات مثلاً , كلما كانت فى حاجة إلى البيان والشرح بشكل أوسع. وفى ظل تفاعلات الطرفين, المنتج والمشترى, تزداد الصرامة والقسوة .. والرقابة.
نشرت جريدة الأهرام المصرية - 2004/23/11 - تحت عنوان: ( وثيقة موحدة لاستخدام السلع الاستهلاكية والمعمرة اشتراط تحديد تاريخ الصلاحية وتوضيح احتياطيات السلامة والأمان ):
"" في إطار الاهتمام بشئون المستهلك وحمايته وافق مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للتوحيد القياسي وجودة الانتاج علي وثيقة موحدة تتضمن التعليمات الخاصة باستخدام السلع الاستهلاكية والمعمرة في صورة مواصفة قياسية ويقول الدكتور محمود عيسي رئيس هيئة التوحيد القياسي ان الوثيقة صدرت كوسيلة مهمة لنقل المعلومات للمستهلك عن كيفية استخدام المنتج بطريقة صحيحة وآمنة وبما يشمل جميع وسائل الاتصال مثل النصوص المكتوبة والكلمات
والعلامات والرموز والرسوم البيانية والايضاحات المسموعة أو المرئية والتي توضع علي السلع ذاتها أو علي العبوة أو في صورة مصاحبة للسلعة مثل النشرات والكتيبات والاشرطة المرئية‏,‏ ويجب أن تتضمن الوثيقة التعريف بمكونات السلع ووظائفها وارشادات التركيب والتشغيل والصيانة واحتياطات السلامة والأمان وإرشادات لمعالجة ظهور العيوب البسيطة وكذلك ارشادات التخلص من السلع أو اجزائها بعد تأدية وظيفتها والاستغناء عنها‏,‏ وقد تضمنت الاشتراطات العامة تعليمات الاستخدام الصحيح للسلع والتحذير من الاخطاء التي يجب تفاديها أثناء الاستخدام‏,‏ كما نصت المواصفة علي كتابة التعليمات باللغة العربية بخط واضح كما اجازت كتابتها بأي لغة أجنبية اخري إلي جانب اللغة العربية علي أنه في حالة كتابة التعليمات علي السلع نفسها تكتب بخط واضح يصعب طمسه علي السلعة ذاتها """
هذه الاعتبارات ليست معمولاً بها فى مصر فقط, بل صارت ضرورة حياة كالماء والهواء فى معظم دول العالم.
ولأن السوق الاسلامية سوق واسعة, وتستوعب من السلع أكثر مما تستوعبه أو تستهلكه غيرها من الأسواق. ولأن البلدان الاسلامية, والعربية على الأخص, تأكل أكثر مما تزرع, وتلبس أكثر مما تصنع, فهى إذن هدف لشركات الانتاج الكبرى والصغرى.
أرانى مكرهاً أن أسألك - ياصاحبى - هل تذكر منشورات نابليون بونابرت يوم غزا مصر, بأى لغة كانت؟ .. كانت باللغة العربية, فى حين كانت خيوله وعسكره يدهسون الزرع والكلأ.!!
أرانى مكرهاً أيضاً أن أسألك - ياصاحبى - هل تذكر منشورات بوش التى ألقتها طائراته على أهل العراق الشقيق يوم الغزو المفضوح - قانوناً وأخلاقياً وانسانياً, بأى لغة كانت؟ .. كانت باللغة العربية, فى حين كانت هذه الطائرات نفسها, طائرات بوش, وبوارجه عن بعد , تصب الحمم تشوى العظام قبل الجلود على الأطفال والنساء والشيوخ لاتفرق بين سليم أو عليل.!! ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ - الحشر:14 ).
إنه المبدأ المكيافيللى .. الغاية تبرر الوسيلة!!.. بئس المبدأ والمبدوء.
أتعتقد أنهم كتبوا بالعربية من أجل حلاوة عيون العربية وتغزلاً فيها؟؟
أذكر أننا كنا فى السبعينات من القرن الماضى, وربما أوائل الثمانينات, كنا لا نجد كتيباً ( كتالوج ) باللغة العربية مرافقاً لأبسط السلع كالراديو, رغم أننا كنا نرى ذلك بعدة لغات أهمها الانجليزية والفرنسية والصينية. وقلما كنا نجد معها اللغة العربية. يبدو أن أهل هذه اللغة ماكانوا فى الحسبان , أو الاعتبار.. ولكن للتسويق ضرورة واحكاماً.. والغاية تبرر الوسيلة.
ولكى تصل سلع الشركات إلى أكبر عدد ممكن من المستهلكين .. ولكى تطبق قوانين حماية المستهلك, ولكى يشرح المنتج مزايا وتعليمات السلعة .. لابد وأن يكون كل ذلك بلغة يفهمها المستهلك .. والمسلمون يمثلون ربع العالم .. منهم من هم العربية لغتهم ولا يقلون عن المليار.. ياله من سوق.. ولا حيلة للمنتج الأجنبى والشركات الكبرى من استخدام العربية.
فعلى الرغم مما تفعله الدول الكبرى, أو قل المتقدمة, بالدول الصغرى, أو قل الفقيرة, وعلى الرغم من العداء المستحكم للاسلام وأهله ولغته من هؤلاء.. إلا أنهم فى النهاية مع شرعهم وخلقهم.. للتسويق ضرورة واحكاماً.. والغاية تبرر الوسيلة. !! بحيث أصبحنا اليوم نرى السلع الاستهلاكية المعمرة وغير المعمرة, والانتاجية والاستثمارية, البسيطة والمعقدة .. كلها تحمل اللغة العربية إلى جانب اللغات الأخرى .. وهذه الظاهرة آخذة فى التزايد يوماً بعد يوم. خاصة وأن الملاحظ اليوم تعدد القنوات الفضائية, المرئية والمسموعة, تبث من دول أجنبية ولكن باللغة العربية, كالمحطات الألمانية والفرنسية وقبلهم الانجليزية, ولحقت بهم الصينية والكورية فى الآونة الأخيرة, ولا ننكر أن الهدف هو الصراع الثقافى والفكرى .. لكنهم جميعاً صاروا يعملون حتى نرى العربية تصدح فى ربوع الأرض وتحلق فى أجواز الفضاء.
شاء الله جل فى علاه أن يجعل منهم خدماً للغة هى صلب ما يكرهون ويعادون..
وصدق صلى الله تعالى عليه وسلم: ( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر - البخاري ومسلم )


وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

ودى واحترامى

 
فضلاً.. اقرأ ماتقدم قبلاً, فهو أصل لاينفصل عما ستقرأ..(6/3)

الوجه الخامس:
ويزعم البعض أنه مع التقدم الحضارى المشهود , تكاد تعجز مفردات اللغة العربية بالوفاء باحتياجات العلم الحديث ومدى التطور الراهن . خاصة وأن منشأ العلوم اليوم معظمها - إن لم يكن كلها - غير عربى , وإن كان لابد وأن يكون عربى الاستخدام . وهذا يبدو أكثر وضوحاً فى العلوم التطبيقية كالكيمياء والفيزياء والجيولوجيا , وما إلى ذلك .

وهذا قول قديم جديد قام به المستشرقون والعلمانيون وأمثالهم ممن لهم هوى فى الخروج تسللاً عن التزام منهج الله الحق .. وهذا قول منقوض بنفسه وبحقائق التاريخ , وفى هذا تفصيل لابد منه.
فقد مر بنا وصف لحال العالم يوم ولد المصطفى صلى الله جل فى علاه عليه وسلم . ومررنا بجغرافية العالم حينذاك . ورأينا أن الحضارات وجدت فى عدة بقاع معينة ولم يكن منها تلك المساحة الشاسعة من صحراء جزيرة العرب . وبالتالى لم يكن هؤلاء الناس فى حاجة "ملحة" إلى القراءة والكتابة . اللهم إلا بعض نفر متفرقون بين القبائل . وهى مسألة أشهر من أن نطيل فيها الكلام . فهم اذن أمة أمية . والذى يعنينا هنا أن تلك الأمة هى التى استلمت مفتاح الحضارة الذى أنار العالم, ولا يزال هذا العالم يرتع فى هذا النور إلى الآن . أقر بذلك من أقر , وأنكره من جحد واستكبر وحسد.
والسؤال الذى يطرح نفسه, وبقوة, فى هذا الصدد هو: ماالذى دفع هؤلاء المسلمون - الذين انطلقوا من هذه الصحراء - الى هذه القفزة الخلاقة العملاقة فى جميع نواحى العلم والمعرفة؟
يعدد المؤرخون أسباباً عدة جواباً على هذا السؤال الكبير. وأبرز هذه الأسباب هو القرآن الكريم نفسه . ذلك أن المسلم وقد ذهب يفتح البلاد كان يقرأ القرآن الكريم ويتفحص أسراره ومقاصده ومعانيه . ليرى نفسه مدفوعاً نحو الاستجابة إلى الكثير من الآيات الكريمة , والأحاديث النبوية الشريفة , التى تحض على التفكر والتأمل والبحث والاكتشاف والتنقيب فى هذا الكون العريض . ومن ذلك تلك الآيات التى تضمنت ذكر نعم الله تبارك وتعالى وآيات قدرته فى الخلق, قال تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - آل عمران:190) وقال: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ - الزمر:من الآية :9) وقوله: ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ - يّـس:36) وقوله: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - يونس:5) وقوله: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ - البقرة:269) وقوله: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - لأعراف:32) وقوله: ( أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ - النمل:61) وقوله: ( ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ - النحل:69) وقوله: ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - النمل:93) وغير هذا كثير فى كتاب الله جل فى علاه . وفى الأحاديث النبوية الكثير والكثير فى هذا الباب ويطلب فى مواطنه منعاً للاطالة . وما أشبه اليوم بالبارحة , فقد ذهب علماء اليوم ينظرون فى اعجاز القرآن الكريم وأسراره التى لا تنقطع , فنرى المؤتمرات والأبحاث المبذولة فى مجال الاعجاز العلمى للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة , وهناك أيضاً من غير المسلمين من خاض غمار هذا الخضم الهائل الفياض وكل بحسب نيته وسريرته , فربما كان القصد الوقوف على الحق اذا ما كان القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى , وربما كان القصد الطعن على الاسلام بالطعن على القرآن الكريم والسنة , وفى الحالة الثانية تصدى أهل العلم المسلمين بالرد والبيان مما يطول هنا شرحه .. ثم كان من الأسباب أيضاً أن المسلمين حين احتكوا بالعوالم من حولهم وجدوا أقواماً لهم بقية من حضارات , كالفرعونية فى مصر , والبابلية فى العراق , أو لازالت لهم أنظمة وعلوم قائمة كما كان فى اليونان وروما وفارس . ومن الطبيعى أن يتأثر المسلم بهذا الجو خاصة اذا كان يرى فى هذه العلوم خروجاً واضحاً عن الشرع وأصول الدين وتتجه ارادته إلى نزع ما فى هذه المستجدات من انحراف وتوجيهها إلى الصراط المستقيم . فنقلوا وعدّلوا وأضافوا الكثير .
تلك الحركة المتفاعلة كالمرجل الذى لا يهدأ أنتجت لنا هذا التراث الذى أنتج فيما بعد الحركة الحضارية التى تزعمتها أوروبا إثر سقوط الممالك الاسلامية واصابة الدولة الاسلامية بالتفكك والضعف .
والمستشرقون - ومن والاهم - يزعمون اليوم أن العربية لا تصلح للعلوم والمعرفة .!! فهلا أجابونا كيف قامت هذه الحضارة بمكوناتها فى عصر الدولة الاسلامية بالعربية؟؟ . كيف استطاعت العربية أن تنشئ ابتداءً حضارة بجميع أجزائها ومكوناتها وفروعها , وأخذ عنها القاصى والدانى ما توصل إليه أهلوها بالترجمة ( وسنعرض لها فيما بعد ) وغيرها ؟؟ وكيف إذن يقال أن العربية أعجز من أن تستعيد ما استعير عنها؟؟ . وكيف استطاعت العربية تحمل ما تم نقله فى ذلك الأوان من علوم البلاد الأخرى لو صح الزعم بعجزها ؟؟!!
ولو نظرنا فيما أبدعه المسلمون وابتكروه وأفضالهم على كافة العلوم لطال بنا الحديث , وهذا له مواطنه فنحيل إليها . لكنى اقتطف تلك المسألة كمثل من آلاف الأمثلة . فمن المعلوم أن أوروبا كانت تستخدم الأرقام الرومانية وشكلها كالتالى:
I II III IV V VI VII VIII IX وهى من الشمال الى اليمين تمثل الأرقام 1و2و3و4و5و6و7و8و9 ومن ثم تكون العشرة X .. والاحدى عشرة هكذا XI , وهكذا .. وبصرف النظر عن قصة نشأة الأرقام الطويلة وتطورها وانتقالها من أمة إلى أخرى وتحورها أو تحولها .. لعلك تلاحظ معى مدى استحالة استخدام الأرقام الرومانية هذه فى العمليات الحسابية البسيطة ( كحاصل ضرب 55 × 25 مثلاً ) فهل من المتصور أن يتمدن العالم بهذه الأرقام الرومانية ليصل إلى القنبلة ( العادية أو الذرية أو ..) او إلى علوم الحاسب الآلى , وغير ذلك من العلوم ؟. ومن المعروف أن العرب هم الذين نقلوا الأرقام الهندية بعد أن أدخلوا الصفر .. واستخدمت أوروبا هذه الأرقام بعد ذلك بعهد طويل حيث كانوا يعتبرون الأمم الأخرى متخلفة لا يصح أن يؤخذ شئ عنهم . وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: "وكان تفهم الناس لمعنى الخانات وقيمة الأرقام في العشرات والمئات أكبر مشكلة واجهت الراغبين في تعلم الأرقام العربية ، وركزت عشرات من كتب الحساب مجهودها في إفهام الناس معنى الخانات وطرق استخدام تلك الأرقام" .( زيغريد هونكه - شمس العرب تستطع على الغرب ) .
 

واللافت للنظر فى النهضة العلمية واللغوية للدولة الاسلامية أن الكثيرين من هؤلاء العلماء لم يكونوا من أصول عربية , حتى فى علوم العربية ذاتها . وأضرب لك بعض الأمثلة :
- القرطبى: صاحب التقسير المشهور , وقد كان فقيهاً ومحدثاً , ولد بقرطبة ( الأندلس - أسبانيا اليوم ) وتعلم العربية والقرآن وعلومه وبرع في ذلك أيما براعة .
- عبد الرحمن الخازني: وكنيته أبو الفتح , وأصله من مدينة مرو ( فى تركمنستان اليوم ) من علماء الكيمياء والفيزياء والفلسفة .
- علي ابن أبي الرجال: عالم الفلك فى البلاط التونسى لدى الأمير المعز بن باديس , عاش فى أوائل القرن الحادى عشر .
- قطب‌الدين شيرازي: فارسى , وواضح من نسبته إلى شيراز ( فى ايران اليوم ) من علماء الطب والفلك والرياضيات .
- الخوارزمي: وهو محمد بن موسى الخوارزمي المولود فى خوارزم ( في أوزبكستان ) العالم المشهور , وإليه ينسب حتى الآن علم الجبر , وله مؤلفات فى علوم الفلك والجغرافيا , ونقل عن الهندية وطور فيما نقل .
- الطبري : وهو محمد بن جرير المفسر المشهور صاحب تفسيرو تاريخ الطبرى المعروفين فضلاً عن فقهه ومصنفاته العديدة , وهو من طبرستان .
- الرازي: هو أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي , من خراسان ( فارس - ابران اليوم ) عالم فى الطب وأول من ابتكر خيوط الجراحة , وبرع فى علوم الرياضيات والفلك والأدب والصيدلة .
- فخر الدين الرازي: وهو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين , ولد فى خراسان وأصله عربى ينتسب إلى قريش , صاحب التفسير المشهور " مفاتيح الغيب " ومصنفات أخرى , فى الفقه واللغة وعلم الكلام والكيمياء والطب والفلك .
- البخاري: وهو محمد بن إسماعيل صاحب " صحيح البخارى " أصله من بخارى في أوزبكستان , وله المصنفات العديدة فى خدمة الاسلام على مذهب أهل السنة والجماعة , وهو أشهر من أن نعدد أعماله.
- مسلم : هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج صاحب " صحيح مسلم " وتلميذ البخارى , ولد في نيسابور ومن نسب عربى .
- النسائي : أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي ابن بحر صاحب السنن المعروف وله مصنفات فى علوم السنة عديدة , ولد فى نسا بخراسان ( أوزبكستان الآن )
- سيبويه: هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر البصري , مولود فى مدينة البيضاء قرب شيراز في بلاد فارس , والذى اشتهر بأبى النحو وإمام اللغة العربية , ويقال أن سيبويه كلمة فارسية مركبة وتعني "رائحة التفاح" وكانت أمه تدلـله بهذا الاسم .
- الكندهلوي : وهو الشيخ محمد إلياس الكندهلوي صاحب كتاب " حياة الصحابة " , ولد في الهند سنة 1303هـ , مؤسس حركة الدعوة وجماعة التبليغ فى الهند .
هؤلاء , وغيرهم ممن نشأ لسانهم على غير العربية , كيف أتقنوها ؟ وكيف صاغوا العلوم المتنوعة بها ؟ وكيف صارت مصنفاتهم مراجعاً يستمد منها الدارسون والطلاب فى أوروبا وغيرها ؟ كيف استطاعت العربية أن تحمل هذا الحمل الضخم , بمفراداتها وجملها وعباراتها ؟
إن الله تبارك وتعالى الحكيم العليم اختار اللغة العربية لما لها من سمات وخصائص , نؤمن انه من المحال أن يكون هناك لغة أفضل منها للقرآن الكريم ورسالة الاسلام . قال تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ - القصص: الآية 68) وقال: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ - الأنعام: من الآية124).
ومن الغريب , بعد ذلك , أن يتولى دعاة التغريب بوق استخدام الانجليزية أو الفرنسية فى دور العلم والتعليم , وعلى الأخص معاهد وكليات الطب والهندسة والصيدلة وما إلى ذلك . واذا كان هذا رأيهم , فماذا لو تولت الصين الريادة , أو اليابان , فى المستقبل ؟؟ هل يتحول التعليم إلى الصينية أو اليابانية ؟؟ .. ما لكم كيف تحكمون؟؟.
والحقيقة هى أم الاقناع . لا المهاترات ولا الإفك العقيم .
فقد "" أوصت منظمة "اليونسكو" باستخدام اللغة الوطنية في التعليم إلى أقصى مرحلة ممكنة، إذا كانت اللغة تسمح بذلك"" ( د. عبد الرحمن العوضي - وسيأتى ). وهذا إن دل فإنما يدل على أن الأمر ليس مزحة ولا هو بالذى يستهان به . ذلك أن الأمة التى تدرس بغير لغتها مقتول فيها الابتكار والابداع لا محالة , فضلاً عن أنها نظل أمة مستوردة لهذه الاكتشافات والبتكارات
أضف إلى ذلك أن الجامعات السورية تدرس الطب باللغة العربية منذ أكثر من سبعين عــاماً.. ولم يسمع أحد عن فشل هذه التجربة , بل العكس هو الصحيح . ليس هذا فقط . فإن أول كلية طبّ فى مصر كان محمد على باشا قد أقامها العام 1826 والتدريس فيها كان بالعربية حتى العام 1887 ثم دخلت الانجليزية مع المستعمر البغيض . والتعليم فى اسرائيل باللغة العبرية ..
" إن التمثيل باللغة العبرية الحديثة صفعةٌ لنا !! فقد مرّ زمنٌ والعبرية في عداد الأموات ، لكن عزيمة اليهود في بناء دولتهم المغتصبة ، وبناء لغتهم معها لإدراكهم أهميّة اللغة في البناء الحضاري هو الذي دفعهم إلى إحيائها وجعلها لغة التعليم لديهم في كلّ العلوم ."" ( دراسة - واقع اللغة العربية ومستقبلها - عبد العزيز بن حميد الحميد - كلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ) .
( ولا توجد في “إسرائيل” مدرسة واحدة تدرس بغير العبرية إلا إذا كانت لأبناء العاملين في السفارات الاجنبية. فالعبرية في حالتهم ليس مجرد تواصل بل أداة بناء الأمة، وهي لغة لم تستخدم قرونا عديدة في الحياة اليومية، وعندما نفض عنها الغبار كانت أقدم وأقل مرونة وغنى من العربية بفعل تحنيطها في الكتب المقدسة والتلمود وبعض الشعر، ولكن استخدامها بهذه الكثافة في العلوم والفنون والتعامل اليومي وفي إنتاج الحداثة بشكل عام فتحها للتطور. ونحن لا نود التوقف كثيرا عند هذا الموضوع، بل نود أن نؤكد فقط أن كلاً من التعليم الرسمي والخاص يستخدم اللغة العبرية.) ( عن مقال لعزمي بشارة من جريدة الخليج الإماراتية )
والاهتمام بتعريب التعليم له أنصاره ومؤيدوه , وتلك الظاهرة آخذة فى التنامى .. والاتجاه نحو مزيد من العربية فى التعليم يتزايد أيضاً .. ففى السودان بدأ يدرِّس الطب منذ أكثر من سنتين بالعربية، وهناك كليتان تدرسان الطب بالعربية في الجماهيرية الليبية، وقد اتخذت كلية طب جامعة الأزهر بالقاهرة قرارًا بتدريس الطب الشرعي والصحة النفسية بالعربية.
يقول الدكتور عبد الرحمن العوضي ( الأمين العام للمركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية - أكمل- الكويت ):
"ولقد واجه الوطن العربي اليوم مشكلة استبعاد لغته العربية عن مجال تدريس العلوم في معظم أقطاره. وقد استطاع حل معظم هذه المشكلة وبقيت بعض مجالات العلوم والتقنية في كليات الهندسة والطب والصيدلة تدرس بغير العربية، وليس حل المشكلة على قدر كبير من الصعوبة، لو توافر العزم الصحيح على حلها. ولن يكون العرب بدعا بين الأمم إن أرادوا اتخاذ لغتهم العربية لتكون لغة تعليم جامعي. فالأمم المتقدمة وغير المتقدمة سلكت هذا السبيل بعد أن أيقنت أن الطالب الذي يتلقى العلوم بلغة غير لغته الأم، يطبع فكراً وثقافة بطابع هذه اللغة الأجنبية.
وقد أوصت منظمة اليونسكو باستخدام اللغة الوطنية في التعليم إلى أقصى مرحلة ممكنة إذا كانت اللغة تسمح بذلك (واللغة العربية من أغنى لغات العالم وتسمح بذلك بشكل فعال)، وذلك بسبب الدراسات التعليمية التي تبنتها هذه المنظمة الدولية والتي أثبتت أن التعليم باللغة الأم أكثر تأثيراً ويعطي نتائجه بشكل مباشر.
ويضبف:
" إن قدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم الطبية أمر مسلم به بالنسبة إلينا، والكلام عن قدرتها على الاشتقاق والوضع والقياس والنحت تكرار نحن في غنى عن ذكره الآن. ونرى أن العائق الحقيقي الذي يقف في سبيلها هو ما يفتعله من لا يؤمنون بالتعريب لأسباب ليست لها صلة بعملية تعريب العلوم الطبية أو التدريس باللغة الأم.
ونحن لدينا الآن أطباء لا يجيدون العربية ولا يجيدون أيضاً اللغات الأجنبية وذلك بسبب هذا الافتئات على لغتنا العربية، ولعدم الإيمان بقدرتها على توفير المصطلح الطبي، والجملة العلمية، والمقالة عالية التخصص إضافة إلى الكتاب الطبي المتخصص. وإن تجربة المركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية تثبت عكس ذلك تماماً، فلغتنا العربية المكنزية أثبتت أنها وعاء فكري بلا حدود، يتضمن قدرة على الاشتقاق لا مثيل لها، وفيضاً لغوياً يعتمد على النحت والقياس لا مراء في قوته وعظمته"
" ولقد نجح المركز - يقصد المركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية - حتى الآن في إصدار 53 كتاباً باللغة العربية كلها في مجالات الطب المتخصصة ويخطط للوصول إلى ثلاثمائة كتاب في خطة خمسية طموحة، إلى تبنيه لمشروع ترجمة أمهات الكتب الطبية بتمويل مشترك مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي."
ويضيف:
" لقد نشأت ظاهرة تدريس الطب بغير اللغة العربية في ظل ظروف قاسية مرت بها الأمة العربية حيث لم تملك فيها إرادتها المستقلة وكان ذلك جزءاً من سياسة استعمارية ترمي إلى تجريد الأمة العربية من أصالتها وإلحاقها ثقافيا بمن كان يتحكم بأمرها بهدف الحد من استردادها لشخصيتها." ( دراسة- التجربة العربية في تعريب العلوم وتعريب العلوم الطبية مع التأكيد على دور تقنية المعلومات الطبية - د. عبد الرحمن العوضي - اللسان العربى ) .
يقول الأستاذ عَبْد اَلْحَلِيم اَلنَّجَّار :
"" وَبَعْد أَنْ دالت دَوْلَة اَلْعِلْم اَلْعَرَبِيّ , وَفَرَغَتْ لُغَة اَلْعَرَب مِنْ أَدَاء وَاجِبهَا اَلْإِنْسَانِيّ اَلْكَبِير , بِإِنْجَاز ذَلِكَ اَلدَّوْر الْعَالَمِيّ اَلَّذِي اِضْطَلَعَتْ بِهِ عَلَى أَتَمّ وَجْه فِي نَشْر ظِلَال اَلْمَعْرِفَة وَالْحَضَارَة , وَإِضَاءَة أَرْجَاء اَلدُّنْيَا بِأَنْوَار اَلْحِكْمَة والْهِدَايَة , وَرَفْع اَلْمُسْتَوَى اَلْعَقْلِيّ وَالْخُلُقِيّ وَالِاجْتِمَاعِيّ لِلْإِنْسَانِيَّةِ جَمْعَاء كَمَا لَمْ تَفْعَل ذَلِكَ لُغَة مِنْ قَبْل .
وَبَعْد أَنْ سَلَّمَتْ هَذِهِ اَللُّغَة اَلْعَرِيقَة تَرَكَتْهَا اَلْعَقِيدَة اَلزَّاخِرَة إِلَى لُغَات اَلْأُمَم , وَشُعُوب اَلْعَالَم , اَلَّتِي لَمْ تَكُنْ قَدْ اِحْتَلَّتْ بَعْد مَكَانهَا فِي تَارِيخ اَلْبَشَر , وَاَلَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُسْهِم بِقِسْطِهَا هِيَ أَيْضًا فِي قِيَادَة رَكْب اَلْمَدِينَة , وَرَفْع مَنَار
اَلثَّقَافَة . . .
عِنْدَئِذٍ عَادَتْ هَذِهِ اَللُّغَة اَلْعَرَبِيَّة كَمَا بَدَأَتْ : لُغَة مَحَلِّيَّة تَتَجَاوَب أَصْدَاؤُهَا بَيْن رُبُوع أَهْلهَا , وَيَقْتَصِر أَدَبهَا اَلْعَامّ عَلَى تَرْدِيد أَنْغَام اَلْمَجْد اَلتَّلِيد , وَتَمْجِيد آثَار اَلسَّلَف اَلْعَظِيم , وَتَمْجِيد مَحْصُول اَلتُّرَاث اَلْقَدِيم , كَمَا يَنْحَصِر أَدَبهَا اَلْخَاصّ
مَرَّة أُخْرَى فِي فَنّ اَلْقَوْل وَصِنَاعَة اَلْبَيَان , عَلَى تَفَاوُت بَيْن اَلنَّزْعَتَيْنِ فِي اَلْقَدِيم وَالْحَدِيث , وَتَبَايُن فِي اَلطَّبِيعِيَّتَيْنِ بَيْن اَلْغَابِر وَالْحَاضِر .
إِلَى أَنْ أَشْرَقَ فَجْر اَلنَّهْضَة اَلْحَدِيثَة فِي رُبُوع اَلْمَشْرِق , وَاقْتَرَبَتْ أَنْحَاء اَلْعَالَم بَعْضهَا مِنْ بَعْض , وَتَهَيَّأَتْ لِتَبَادُل اَلْأَفْكَار وَتَفَاعُل اَلثَّقَافَات فَرَصَّ لَمْ تَكُنْ لِتَسْنَح لِلْبَشَرِيَّةِ إِلَّا بِفَضْل مَا وَصَلَ إِلَيْهِ اَلْعِلْم اَلْعَالَمِيّ مِنْ تَقَدُّم فِي اَلْعَصْر
اَلْحَدِيث , وَفِي هُدَى مِنْ خُطُوَات اَلْأَوَّلِينَ . وَحِينئِذٍ اِسْتَأْنَفَتْ اَلْعَرَبِيَّة حَيَاة جَدِيدَة كَمَا نَرَاهَا اَلْيَوْم , وَبَدَأَتْ تُؤَكِّد وُجُودهَا , وَتُفِيق مِنْ سُبَاتهَا , وَتُبَارِك تَقَدُّم اَلْعِلْم , وَتَشَارُك فِي نَتَائِج اِنْتِصَار اَلْعَقْل بِمَا أَسْلَفَتْ فِي هَذَا اَلسَّبِيل مِنْ جُهُود , وَقَدَّمَتْ مِنْ عَمَل مجمود , وَإِنْ كَانَ نَصِيبهَا اَلْمُعَاصِر فِي بِنَاء اَلْحَضَارَة اَلْحَدِيثَة "" ( من مقدمة اَلدُّكْتُور عَبْد اَلْحَلِيم اَلنَّجَّار لترجمته كتاب: تَارِيخ اَلْأَدَب اَلْعَرَبِيّ - كَارْل بروكلمان )
ومع تزايد قوة ونوع الاتصال بين الأمم المعاصرة , ومع التبادل المعلوماتى الفياض فى العصر الحديث , ومع تزايد الاهتمام بتعريب التعليم فى الدول الاسلامية , واضافة مفردات جديدة إلى العربية بمعرفة مجامع اللغة العربية المنتشرة فى العديد من البلدان , بل وفى نشاط الترجمة الملحوظ من وإلى العربية تكمن أسباب استتباب العربية وبقاؤها فى مواجهة تحديات البقاء .
" ان حال اللغة العربية يقلق الكثير من العرب في اسرائيل، لذلك فلا غرابة اذا رأينا عدة اطر سياسية واجتماعية وثقافية تعمل على المحافظة على اللغة العربية، وتحبيبها للاجيال الناشئة، وتهتم بأن تحرسها وتحميها كما يحمي المرء بؤبؤ عينه." ( محمد علي طه - جريدة الشرق الأوسط - 20 يوليو 2005 )

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

ودى واحترامى

 
فضلاً.. اقرأ ماتقدم قبلاً, فهو أصل لاينفصل عما ستقرأ..(7/3)

الوجه السادس:
وترتبط الترجمة ارتباطاً وثيقاً بما سبق أن قلناه . فهى ضرورة لابد منها فى حياة البشرية . فهل للترجمة علاقة ما بحفظ العربية وبقائها ؟؟ .. دعنا نبحث فى ذلك .
بادئ ذى بدء . الترجمة هى نقل معانى كلمات أو تعبير من لغة إلى لغة أخرى لتكون مفهومة بسهولة عند أهل اللغة المنقول إليها .
والترجمة لها أصل فى النشاط البشرى منذ القدم . كما وأن لها أصلاً فى الاسلام , يرد من هذا الأصل أن تكون الترجمة فى بعض الأحيان فى حكم الواجب الشرعى الذى يجب أن يقوم به من يستطيع اتقانه وإجادته حتى إنى لأرى أنها من فروض الكفاية , ذلك أن الترجمة هى من المصالح العامة للمسلمين . على عكس ما قد يظنه البعض من المتشددين أن تعلم اللغات الأجنبية أمر مرفوض , وقد تمسك بعضهم فى هذا المقام قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ( لا تَعَلَّمُوا رَطَانة الأعاجم ، ولا تَدْخُلُوا عليهم في كَنائسهم يَوم عِيدهم ، فإن السُّخْطة تَنْزِل عليهم - رواه عبد الرزاق ) وليس فى تحريم وإنما هو محمول على كراهة أن يتعلم لغة الأعاجم بغير حاجة ملحة ولا أمر ضرورى .. ويحضرنا فى هذا المقام مقولة اشتهرت على ألسنة الناس " من تعلم لغة قوم أمن مكرهم " حتى نسبها الكثيرون إلى الرسول صلى الله جل فى علاه عليه وسلم , فى حين أنها ليست من كلام النبوة ولا أصل لها فى حديث الرسول صلى الله جل فى علاه عليه وسلم .
وقد صح عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- : (أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتعلمت له كتاب يهود، وقال: إني والله ما آمن يهود على كتابي، فتعلمته فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له إذا كتب إليه) رواه أبو داود , والترمذي 2870 وأخرجه البخاري تعليقا . وصححه الألباني رقم 3098 صحيح سنن أبي داود باختصار السند 2 ) , كما ثبت عن النبى صلى الله جل فى علاه عليه وسلم قوله: " تعلم كتاب اليهود ؛ فإني لا آمنهم على كتابنا " , قال الألبانى رحمه الله تعالى : ( قال صلى الله عليه وسلم : تعلم كتاب اليهود ؛ فإني لا آمنهم على كتابنا . ( صحيح ) _
عن خارجة بن زيد عن أبيه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ؛ أتي بي إليه ، فقرأت عليه ، فقال لي : ( فذكره ) قال : فما مر بي خمس عشرة ؛ حتى تعلمته ، فكنت أكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقرأ كتبهم إليه . ( واسناده حسن ) . وورد عن جرير عن الأعمش به بلفظ : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحسن السريانية ؟ فقلت : لا . قال : فتعلمها ؛ فإنه يأتينا كتب ، فتعلمتها في سبعة عشر يوما . زاد الحاكم : قال الأعمش : كانت تأتيه كتب لا يشتهي أن يطلع عليها إلا من يثق به ( سنده صحيح ) _ سلسلة الأحاديث الصحيحة للألبانى المجلد الأول الحديث رقم 187 )
قال الشيخ صالح البلبيهي رحمه الله:
" لغتنا العربية كاملة فلا تحتاج إلى تكميل ولا تطعيم.
أدب الأمة الاسلامية كامل من جميع الوجوه فلا يحتاج إلى تكميل ولا تطعيم . كما قال ذلك من أزاغ الله قلبه .
ثقافة الشريعة الاسلامية أجمل وأحسن من كل ثقافة . ففيها غنية وكفاية عن الثقافة الفرنجية الغربية الزائفة . كثير من الملاحدة والزنادقة إذا رأوا شيئاً من أحكام الاسلام قالوا هذا يحتاج إلى تحسين وتكميل .
المدنية الاسلامية أكمل . وأجمل من كل مدنية . وفيها غنية وكفاية عن المدنية الغربية الزائفة المفسدة للأخلاق والشيمة والمروءة والكرامة .
شريعتنا الاسلامية لغتها العربية أحسن اللغات وأخفها نطقاً وأسلسها تفاهماً وأقلها حروفاً .
فتعلم اللغات الأجنبية من غير ضرورة وحاجة ماسة لايجوز . لما روى عنه صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم . وعموم قوله صلى الله عليه وسلم ليس منا من تشبه بغيرنا .
وقال عمر رضى الله عنه لا تعلموا رطانة الأعاجم .
أما ما يتشدق به البعض رواية عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال من تعلم لغة قوم أمن مكرهم فهو حديث باطل لا أصل له .
أما تعلم اللغة الأجنبية للحاجة الماسة . فيجوز لأن زيد بن ثابت رضى الله عنه تعلم السيريانية بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ليقرأ الكتب التى تصل إليه صلى الله عليه وسلم من ملوك زمانه وغيرهم . ويكتب زيد بن ثابت رضى الله عنه جوابها بلغتهم .
وقد تعلم زيد رضى الله عنه اللغة السيريانية لحاجة الرسول صلى الله عليه وسلم فى ظرف سبعة عشر يوماً ." ( السلسبيل فى معرفة الدليل - الشيخ صالح بن ابراهيم البلبيهي رحمه الله - مكتبة جدة - 1406 هـ)
وأفتى الشيخ المحدث سليمان بن ناصر العلوان - 29 / 4 / 1421 :
( وهو دليل على جواز تعلم اللغة الأجنبية للمصلحة والحاجة وهذا لا ينازع فيه أهل العلم .
وأما تعلم هذه اللغة لغير حاجة وجعلها فرضاً في مناهج التعليم في أكثر المستويات فهذا دليل على الإعجاب بالغرب والتأثر بهم وهو مذموم شرعاً وأقبح منه إقرار مزاحمة اللغات الأجنبية للغة القرآن ولغة الإسلام .
ومثل هذا لابدّ أن وراءَه أيد أثيمة ومؤامرات مدروسة لعزل المسلمين عن فهم القرآن وفقه السنة فإن فهم القرآن والسنة واجب ولا يمكن ذلك إلا بفهم اللغة العربية .
فإذا اعتاد الناس في بيوتهم وبلادهم التخاطب باللغة الأجنبية صارت اللغة العربية مهجورة لدى الكثير وعزّ عليهم فهم القرآن والإسلام وحينها ترقَّب الفساد والميل إلى علوم الغربيين واعتناق سبيل المجرمين وهذا ما صنعته بلاد الاستعمار في الدول العربية فالله المستعان .)
وكما قلنا إن الترجمة حاجة ضرورية للبشرية منذ القدم وحتى الآن .. ويحكى لنا الدكتور عز الدين نجيب موجزاً وافياً حول هذه المسألة:
( قد تكون أول اشارة إلى وجود مترجمين هى الرسائل التى أرسلها أمراء الشام إلى اخناتون يطلبون فيها المال أوالمعونة . وتتوالى الاشارات بعد ذلك كما نرى فى المعاهدة التى عقدت بين رمسيس الثانى فرعون مصر وملك الحيثيين , حيث كان بيد كل ملك منهم صورة للمعاهدة بلغته.
وقد يكون شيسرون Cicero ( 106 - 43 ق.م.) الخطيب الرومانى هو أول من حاول وضع منهج محدد للترجمة , فقد اقترح أن يقرأ المترجم النص الأصلى ثم ينحيه جانباً , ويشرع فى اعادة كتابته باللغة المنقول إليها دون الالتزام بالترجمة الحرفية .
ويعتبر عمر بن الخطاب هو المعرب الأول حيث أمر بتعريب الدواوين نقلاً عن الفرس , فأسس ديوان الجند لتسجيل أسماء الجنود ورواتبهم , وديوان الرسائل أو البريد.
وكانت اول ترجمة ذات طابع علمى فى عهد الدولة الأموية على يد خالد بن يزيد ين معاوية - الذى كان محباً للعلوم والفلسفة .
واستكمل الخليفة مروان بن الحكم تعريب باقى دواوين الدولة إلى اللغة العربية.
فى تاريخ العرب توجد فترتان تاريخيتان تمت فيهما الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية , وحقبة تمت فيها الترجمة العكسية من العربية إلى اللغات الأحنبية,
عندما هدأت فورة الفتوحات العربية وبدأ العرب يستكملون تأسيس حضارتهم كان لابد لهم من الأخذ من التراث الانسانى للأمم التى احتكوا بها مثل الفرس والرومان واليونان والهنود. وكان ما ترجموه هو التراث العلمى, فنقلوا الى العربية علوم اليونان مثل كتب اقليدس وأرشميدس وبطليموس فى الهندسة والفلك, وكتب أبقراط فى الطب وكتب أرسطو وأفلاطون فى الفلسفة . زعن الهنود نقلوا كتب "شاناق" فى السموم " " السندهند" فى الرياضيات والفلك. وعن الرومان نقلوا كتب جالينوس فى الطب.
وكانت ذروة الترجمة فى عصر الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد , الذى أنشأ بيت الحكمة, وجمع فيه كل ما أمكنه الحصول عليه من كتب اليونان والسريان والهنود والفرس والرومان. وكان نجم الترجمة فى هذه الفترة هو حنين بن اسحق الذى كان يتقاضى وزن ما يترجمه ذهباً. وظهر مذهبان فى الترجمة فى هذه الفترة نقلهما البهاء العاملى فى الكشكول عن الصلاح الصفدى, قال: " وللترجمة فى النقل طريقتان إحداهما طريقة يوحنا بن البطريق وابن ناعمة الحمصى, وغيرهما, وهو أن ينظر إلى كلمة من مفردة من الكلمات اليونانية, وما تدل عليه من المعنى, فيأتى الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها فى الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك, حتى يأتى على جملة ما يريد تعريبه. وهذه الطريقة رديئة لوجهين أحدهما أنه لا يوجد فى الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية. ولذلك وقع فى خلال التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها.
والطريقة الثانية فى التعريب طريقة حنين بن اسحق والجوهرى وغيرهما, وهو أن يأتى بالجملة فيحصل معناها فى ذهنه, ويعبر عنها فى اللغة الأخرى بجملة تطابقها , ساوت الألفاظ أم خالفتها. وهذه الطريقة أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن اسحق إلى تهذيب إلا فى العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيماً بها, بخلاف كتب الطب والمنطق الطبيعى والإلهى فإن الذى عربه منها لم يحتج إلى إصلاح."
استغرقت المرحلة السابقة جهود ثلاثة أجيال من المترجمين فى القرن الثالث الهجرى, لتتلوها مرحلة جديدة يقوم فيها العقل العربى بهضم ما ترجم, ثم يسهم فى إثراء الثقافة الانسنية بإبداعه العلمى على يد فطاحل العلماء والفلاسفة العرب أمثال الكندى والفارابى وابن سينا وابن النفيس والبيرونى وابن البيطار وابن رشد الخ...
وفى القرن السابع الهجرى ( الثالث عشر الميلادى) ونتيجة لاحتكاك الفرنجة بالعرب أثناء الحروب الصليبية فى المشرق العربى, وكذا فى الأندلس وصقلية, بدأت الترجمة العكسية من العربية إلى اللاتينية واللغات القومية الأوربية. فترجمت مؤلفات ابن سيا وابن النفيس والزهراوى وابن البيطار وابن الهيثم وابن رشد وغيرهم لتبدأ النهضة العلمية فى الغرب, ويؤكد روجر بيكون وفرانسيس بيكون وكلود برنار مبادئ العلوم المبنية على التجربة الدقيقة والملاحظة الفاحصة, التى كان للعرب فضل ابتكارهما بدلا من طريقة أرسطو المبنية على الاستنتاج المنطقى الذى لا يؤيده دليل علمى.
وبدأ انقتاح العالم العربى على الغرب مرة ثانية بصدمة الحملة الفرنسية على مصر. وكان المحرك الأساسى هو حاجة محمد على للعلوم الغربية لأسباب حربية. ثم انتكست حركة الترجمة على يد خليفتيه عباس وسعيد لتنتعش مرة أخرى من عصر اسماعيل إلى يومنا هذا.
يقول الفيلسوف الألمانى هيجل: " نتعلم من التاريخ درساً مهماً , وهو ان أحداً لم يتعلم من التاريخ!". ففى مرحلة الترجمة الكبرى الأولى فى العصر العباسى كان اهتمام المترجمين منصباً أساساً على العلوم مثل: الطب والهندسة والفلسفة والتى يمكن اعتبارها تراثاً إنسانياً عالمياً تراكمياً. فلم نجد ترجمة لإلياذة هوميروس, أو مسرحيات سوفوكليس, أو إنيادة فرجيل, أو رامايانا الهنود والتى هى على عظمتها مجرد ثقافة محلية خاصة. وكذلك فى مرحلة الترجمة العكسية لم نجد الأوربيين يترجمون المعلقات السبع, أو نقائض جرير والفرزدق, أو قصائد المتنبى. وكذلك عندما انفتحت اليابان على العالم الغربى, لم تأخذ منه إلا علومه تاركة له آدابه وثقافاته الخاصة. أما فى مرحلة الترجمة الحالية فنجد أن الغالبية العظمى للأعمال المترجمة إنما هى لأعمال أدبية, والقليل منها للعلوم الحديثة. وترجمة الأعمال الأدبية والفلسفية ضرورية لفهم ثقافات الأمم المختلفة وكيفية تفكير أبنائها , ولكن فى حدود لا تعرضنا لخطر الذوبان فى ثقافتهم وضياع تراثنا وثقافتنا الخاصة. أ.هـ ( أسس الترجمة من الإنجليزية إلى العربية وبالعكس - الدكتور عز الدين نجيب - الطبعة الخامسة.)
 

وهنا نرى أن انسياب العلوم والمعارف فيما بين الشعوب كأنه موج البحر , على مر الأيام . له مد وجزر . وصدق عز من قائل : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ - المؤمنون:31) وقال: ( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ - آل عمران: من الآية140) ) وقال: ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ - الأنعام:133) .. سنة الله فى خلقه . فلما انبسط الاسلام وعم الأرض , وسار القرآن الكريم نوراً يهدى البشرية إلى خير عقيدة وشريعة , مضت العربية حتى تهافت عليها الناس من هنا وهناك . وعلى ما تقدم من حديثنا , كانوا يدخلون فى دين الله أفواجاً يطلبون علوم القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف , أو يطلبون علوم الدنيا التى برع فيها المسلمون , فطلبوا علوم العربية ليترجموا عنها وليحققوا حاجتهم الملحة سواء من علوم الدين أو علوم الدنيا .
ولئن قال قائل : إن الترجمة فيما مضى - وقت ازدهار الدولة الاسلامية - تخدم الفكرة فى نقل العربية إلى الغير من حيث حاجتهم إليها للنقل عنها . وليس هذا بقائم اليوم , ومن ثم يصح القول بأن الترجمة فى عصرنا ليست كذلك إذ الترجمة ليست من العربية , وإنما هى إلى العربية , وبالتالى هذا يكون له الأثر العكسى .
نقول : قد يصح هذا القول إذا أخذنا الكلام على ظاهره وعواهنه . فى حين أن المتعمق فى حقيقة الترجمة وظواهر ما هو كائن اليوم سيرى أن هذه القاعدة ليست مسلمة , بل فيها نظر. فالترجمة ليست مجرد ترجمة كلمة من مفردة إلى كلمة من مفردة لغة أجنبية , على ما مر بنا . لكنها فن له قواعده وفنونه . يقول الدكتور عز الدين نجيب :
" الترجمة مثل اللوحة الفنية يقف أحدهم أمامها مشدوهاً ثم يشهق صائحاً: "رائعة" , ويحملق فيها الآخر فترة ثم تظهر عليه علامات الاشمئزاز ويقول: "تافهة" , ويمر بها الثالث مرور الكرام بلا تعليق . ولذلك فلنتفق منذ الآن على مقياس نقيس به الترجمة , وليكن هذا المقياس ثلاثى الأبعاد هو :
أولاً: مدى نجاح المترجم فى نقل أفكار الكاتب وآراءه
وثانياً: سلامة جملته وسهولة فهمها
وأخيراً وآخراً أيضاً: جمال أسلوبه
فإذا فهمت مايقوله المؤلف فهذا هو المقياس الأساسى لجودة الترجمة,
وإذا فهمت مايقوله المؤلف بسهولة وبدون أن تجد أخطاء إملائية أو نحوية فهذه ترجمة جيدة جداً ,
وإذا فتنك أيضاً أسلوب المترجم فهذ هى قمة الترجمة ." ( المصدر السابق )
والمتحصل أن المترجم لابد وأن يكون ذا قدر غير قليل من اتقان اللغة التى يترجم عنها وفنونها , وإلا لم تسلم ترجمته من العيوب وقد لايصيب قصد المؤلف الأصلى الذى ترجم عنه .
واضافة إلى ذلك فإنه وإن كان الكثير من الترجمة فى عصرنا الحاضر إلى العربية أكثر مما هو عنها , إلا أن المتفحص فى ضوء ما أسلفناه من وجوه لايملك إلا التسليم بأن حركة الترجمة إلى العربية فى عصرنا الحاضر ضرورة لابد منها أبضاً. وبمعنى آخر لايستقيم تصور أن الترجمة فى عصرنا تصب فى اتجاه واحد من اللغات الأجنبية إلى العربية . هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى نلاحظ أن الاهتمام بالترجمة إلى العربية يتولاه - وبطبيعة الحال - أهل العربية أنفسهم والذين غالباً ما يراعون ما للعربية من خصائص ومزايا وأهمية . ليس هذا فقط . فالترجمة جعلت المترجمين غير العرب يحسنون العربية ويخدمونها باتباعهم للأصول الفنية للترجمة , وهو ما يجعل لها مكاناً عند غير العرب - كما سنرى بعد قليل - لايصح تجاهله , حتى هؤلاء أيضاً كان لهم نصيب فى اثراء اللغة العربية بمفردات ومصطلحات جديدة . وتلك إحدى مزايا العربية التى تتسع لتستوعب ما يستجد أو يستحدث , فهى لغة حية متطورة غير جامدة ولا محدودة الزمان أو المكان أو القدرة . وليس من البدع أن نقول أن هناك من اللغات ما لا يتوفر لها تلك السمات .
فى دراسة قيمة رائعة يقول محمد علي الزركان - رحمه الله جل فى علاه:
(يجب أن نذكر أنه عندما تنبه رجال الدولة العثمانية في القرن الماضي خاصة إلى ضرورة مجاراة الغرب في التعليم، وفتحوا بعض المدارس لتعليم العلوم الحديثة فيها، اضطر العلماء في هذه الدولة إلى اقتباس المصطلحات العلمية العربية وإلى ادماجها في لغتهم، لأن اللغة التركية لاتسد الحاجة إلى الألفاظ العلمية. ( محمد علي الزركان - الجهود اللغوية في المصطلح العلمّي الحديث - دراســة - منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1998)
والمستظهر لكتب التاريخ سيجد الكم الغفير من غير المسلمين الذين أقبلوا على العربية دراسة وتعلماً ثم ترجموا منها إلى لغات بلادهم , منهم الهنود والصقليون واليونانيون والفرنسيون وغيرهم . إلا أننا نشير إلى بعض من هؤلاء من العصر الحديث ممن درسوها وقاموا على الترجمة إليها - لا منها - لنوضح الفكرة ومضمونها عملياً . فبالاضافة إلى حركة الاستشراق ودورها فى نشر العربية عند القوم ولأعراضهم السابق شرحها - وقد أسلفنا القول فى ذلك -, نرى أن الترجمة كان لها دور أيضاً , فمن هؤلاء :
( الدكتور كرنيلوس فانديك الهولندي الأصل الأمريكي المنشأ تفقه في أمريكا في علوم عصره فتعلم الطب والصيدلة والرياضيات واللغات القديمة. فاختاره مجمع المبعوثين الأمريكيين 1840 مبعوثاً طبيباً للديار السورية، فجاء إلى بيروت ودرس العربية وأتقنها على صديقه المعلم بطرس البستاني وعلي الشيخ ناصيف اليازجي، والشيخ يوسف الأسير، وأصبح نطقه فيها وكأنه من أبنائها وألف بالعربية عدة كتب مدرسية في علوم مختلفة . الدكتور جورج بوست : (1838- 1909 م) وله مؤلفات عديدة باللغة العربية و أصدر مجلة (الأخبار الطبية) في بيروت عام 1874 م , و يوحنا ورتبات (1827- 1908)م وله من الكتب العلمية الحافلة بالمصطلحات العلمية العربية , والدكتور " برون. Dr.Perron " , و الطبيب الفرنسي انطوان بارتلمي كلوت Antoine Barthelmy Clot .. وغيرهم .. ) ( المصدر السابق - بتصرف )
وأما أهل العربية , فمنهم : ( محمد علي البقلي (1228 - 1293 هـ / 1813- 1876م ), و كذلك الطبيب أحمد حسن الرشيدي (-1865 م) الذي جاهد في خدمة هذه النهضة العلمية الطبية في الترجمة والتأليف, و الطبيب ابراهيم النبراوي (1862)م , ومنهم الطبيب محمد الشافعي (1877) ومن هؤلاء أيضاً الطبيب محمد الشباسي (- 1894) والطبيب عيسوي النحراوي ومنهم حسن غانم الرشيدي (-1860م) وعلي هيبة وأحمد ندى وحسين عوف الكحال ومحمد حافظ، ومحمد عبد السميع، وسالم سالم ومصطفى زيد ورياض الصيدلي وابراهيم رمضان ومحمد بيومي ومنهم أحمد فايد واسماعيل الفلكي وحنين عنحوري وهو من أقدم المترجمين عن الايطالية ومحمد عمر التونسي صاحب معجم المصطلحات العلمية ( الشذور الذهبية في المصطلحات الطبية) وقد نقل الطهطاوي هو وتلاميذه إلى العربية والتركية أكثر من ألفي مؤلف. و أحمد فارس الشدياق (1804- 1887). و داود أبو شعر (1856 - 1891م) و بشارة زلزل (1323 هـ / 1905 م). وبطرس البستاني (1819- 1883) ... وغيرهم ( المصدر السابق - بتصرف ) .
هؤلاء , وهؤلاء .. أثروا العربية كما قلنا .. وكانت طيعة لهم لاتستعصى على تلبية حاجتهم فى الترجمة إليها من أى لغة .. وكان من نتائج ذلك ادخال ألفاظاً وبالحروف العربية فى شتى العلوم , ( من الكلمات : (الأنبيق) آلة لتقطير السوائل , و (الايديومتر) آلة معدة للتحليل , (بودقة) وهي اناء مخروطي , ذى بعض أسماء المصطلحات الكيمياوية، العربية منها والمعربة، نوردها من فهرس كتاب " الجواهر السنية..... " للتوضيح والبيان ( العناصر - الأكاسيد - الحوامض - الأملاح - التبلور - الضوء - الحرارة - الأجسام غير المعدنية - الايدروجين - الاكسجين - البلور - الكربون - الفحم - الايدروجين المكربن - الفوسفور - الايدروجين المفصفر - الكبريت - السيلينيوم - اليود - البروم - الكلور - الغثور ويقال له الفلور - الآزوت - السيانوجين - ثاني آزوتيت الكربون السيليسيوم وهو الصوانيوم - الزيركونيوم - التوريوم - الهواء الكروى - أول أوكسيد الايدروجين، وهو الماء - بي أوكسيد الايدروجين - أوكسيد الكربون... إلخ الكلسيوم - الأسترونسيوم - الباريوم - الليتيوم - الصوديوم - البوتاسيوم - المغنيسيوم - الألومينيوم - الايتريوم الزرنيخ - المنغنيز - الخارصين - الحديد - ... لاحظنا من خلال ما أوردناه من هذه المصطلحات الكيمياوية المترجمة منها والمعربة، أنها جميعها قد كتبت بحروف عربية فقط دون مقابلاتها من الحروف اللاتينية أوالفرنسية التي أخذت عنها. وهكذا كان شأن جميع الكتب
المنسوج الخلوي - المنسوج الليفي - المنسوج الوعائي ... كما أننا نلاحظ أن بعض المصطلحات قد تغير استعمالها وتبدل من صيغة إلى أخرى، فكلمة " منسوج " لم تعد تستعمل بهذه الصيغة، بل صارت كلمة " نسيج" بديلاً عنها، وهكذا نرى تطور المصطلح في الزمان والمكان. ....
لاحظنا من خلال استعراض هذه النماذج من المصطلحات الطبية التي كانت من بواكير عصر النهضة أن الغالب منها عربي الأرومة إلا قليلاً من بعض المفردات، فقد أبقاها المترجم على لفظها الأعجمي على طريقة الاقتراض (التعريب)، لأنه - فيما يبدو - قد أعجزته الحيلة في ذلك الوقت فلم يجد لها مرادفاً عربياً في كتب التراث الطبية واللغوية، فأبقى اللفظ الأعجمي على حاله مثل : الفلفموني والأسكليروما وليبوما والكتاليبسيا.. إلخ، وهي قليلة إذا ما قيست إلى الألفاظ العربية لهذه المصطلحات ) ( المصدر السابق )
ولاحظ معى هذه النقلة المهمة فى الترجمة إلى العربية : يقول الدكتور كرنيلوس فانديك السابق الاشارة إليه :
( يتولد من تركيب الأكسجين والكلور خمس مواد هي :
1- حامض هيبوكلوروس (كل 2 أ)
2- وحامض كلوروس (كل 2 أ 3).
3- وحامض هيبوكلوريك، أو أكسيد الكلور الأعلى (كل أ 2).
4- وحامض كلوريك (كل هـ أ 3) .
5- وحامض كلوريك أعلى (كل هـ أ 4)
وقد ذكر بعضهم أكسيد الكلور (كل أ) ولا يعلم عنه إلا القليل...
نلاحظ مما سبق أنه رمز لمادة الكلور بالحرفين (كل) العربيين بدلاً من (CL) اللاتينيين، كما رمز بالألف مع الهمزة (أ) لمادة الأكسجين بدلاً من الحرف اللاتيني (O). وكذلك رمز بحرف الهاء (هـ) للهيدروجين بدلاً من الحرف (H) اللاتيني. ) ( المصدر السابق )
ولا يخفى على لبيب الآن , ما تحظى به العربية من اهتمام واسع من جهات عدة ترجمة وتعريباً . وهذا الاهتمام قد يكون مبعثه الوازع الدينى العقائدى عند المسلمين أنفسهم لضرورة التعبد واقامة الدين والذود عن الهوية , أو عند غيرهم لضرورة الدنيا على نحو ما ذكرنا ويغنى عن الاعادة . فمن أمثلة أهل القرآن الكريم ونشاطهم فى ذلك , تكون المؤسسات والاتحادات والجمعيات والتنظيمات المهتمة بالعربية والحفاظ عليها مثل المراكز الاسلامية المنتشرة فى العالم و جمعيات الترجمة واتحاد الكتاب العرب , ومجامع العلمية وعلى رأسها مجمع دمشق والقاهرة وبغداد والجامعات .. وأشهر ما نراه عند غير المسلمين والعرب - وفى أهم علوم العصر - تعريب الحاسب الألى ( الحاسوب ) من حيث نلاحظ أن شركات انتاج البرمجيات قد أولت العربية اهتماماً متنامياً بعد أن كانت مهملة , حتى إتك لترى شركة ميكروسوفت تصدر العديد من برامجها معرباً وعلى رأسها الويندوز نفسه , وموقع كجوؤوجل وغيره يسخرون مساحات كبيرة بالعربية - فضلاً عن انتشار ظاهرة التعريب للبرامج على أيدى متطوعين من المسلمين الغيورين على لغة القرآن الكريم , أضف إلى تطور فن الترجمة نفسه وتقدمه ليصل إلى الترجمة السمعبصرية audio-visual translation، وهو تخصص جديد و واعد في سوق الترجمة، وهو الاسم الأوسع للترجمة على الشاشة screen translation بقسميها المرئي subtitling والدبلجة dubbing وما يخضع لهما مثل ترجمة الأفلام التسجيلية والترجمة المرئية "الفورية" و ترجمة الحوار أثناء المقابلات المتعددة الأطراف،, وماإلى ذلك .
والمبشرات فى هذا المجال كثيرة , نضرب لها مثلاً . المنظمة العربية للترجمة التى أنشئت فى ديسمبر 1999 وينص النظام الأساسي للمنظمة على الأهداف الآتية :
1. تحقيق قفزة نوعية وكمية في حجم نشاط الترجمة إلى اللغة العربية ومنها، في مختلف مجالات المعرفة والفكر الإنساني.
2. المساهمة في إدخال العلوم في إطار الثقافة العربية المعاصرة، بما في ذلك توفير متطلبات تعليم العلوم باللغة العربية في التعليم العالي، وتنشيط البحث العلمي باللغة العربية.
3. تحقيق معدلات عالية في سرعة الترجمة ونمو حركتها ، باستغلال الصالح والمفيد من أدوات الترجمة الآلية والنشر، مما توفره تقانة المعلومات والاتصالات الحديثة.
4. الإسهام في تنشيط الطلب على الكتاب المترجم، وحفز استخداماته في مختلف مجالات التنمية، وفي رفع قدرات المواطن ومهاراته.
5. وضع خطة للنهوض بأعمال الترجمة إلى اللغة العربية للكتب والدوريات والمنشورات العلمية العالمية الهامة، تحدد الأولويات ، وتسعى لتنسيق جهود العاملين في هذا الحقل في الوطن العربي، مع المساهمة في تأهيلهم، لاستغلال التقدم العلمي والتقني في أنشطتهم.
6. العمل على ترجمة كل ما هو هام ومفيد للوطن العربي، من الكتب والدوريات والمنشورات العلمية، مما لا تقوم مؤسسات أخرى بترجمته لعدم ربحيته.

وللقرآن الكريم منزلة لدى المسلمين ليست كمنزلة أى كتاب لدى أى قوم على مر التاريخ . تلك المنزلة التى كان لها الدور الأكبر فى حفظ العربية وبقائها فيما سخر الله من البشر لتلك الغاية , وهذا ماسنراه فى الوجه التالى - السابع والأخير - بمشيئة الله جل فى علاه

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

ودى واحترامى

 
فضلاً.. اقرأ ماتقدم قبلاً, فهو أصل لاينفصل عما ستقرأ..(8/3)

الوجه السابع:
القرآن الكريم ليس كمثله كتاب .
والمسلمون تجاه كتابهم - القرآن الكريم - ليس كمثلهم أحد من البشر تجاه كتابه .
هاتان المسألتان سننظر فيمها معاً - ياصاحبى - لنرى أثرهما فى بحثنا .
والنصارى يسمون كتابهم "الكتاب المقدس" ويعنون به العهد القديم, وهو التوراة كتاب موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام, والعهد الجديد, وهو الانجيل, كتاب عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وإن كان البعض أحياناً يطلق اسم الانجيل قاصداً به الكتاب المقدس. لكننا سنستخدم تسمية "الكتاب المقدس" على ماذهب إليه النصارى. ولسنا هنا بصدد تفنيد ما احتوته التوراة والانجيل من نصوص وتمحيص مافى ذلك من حق أو باطل, فليس هنا موضعه, وإنما سننظر وباختصار قدر الامكان فى تاريخ التوراة والانجيل وتطورهما ,من ثم العلاقة بموضوعنا وهو اللغة العربية والقرآن.
فأما من جهة إيماننا بأن الله تبارك وتعالى أنزل التوراة والانجيل, نجد أن القرآن قد قرر حقائق لاتقبل الشك ولا الجدل . فلا لايصح إيمان مسلم إلا بالإيمان بأن الله جل فى علاه قد أنزل التوراة والانجيل . قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ- الصف:6) فدل هذا على أمرين أولهما: أن الله تعالى أنزل التوراة قبل بعثة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام, وثانيهما: أن عيسى بشر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .. وقال أيضاً : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - الأعراف:157) فتأكد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لا فى التوراة فقط ولكن فى الانجيل أيضاً .. وذكر الله جل فى علاه وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وصفات المؤمنين فى التوراة والانجيل فقال: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً - الفتح:29) وقال أيضاً: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - التوبة:111) وأكد سبحانه أنه نزل التوراة والانجيل والقرآن وقرن بينهم فى مواضع منها قوله: ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ - آل عمران:3) وقوله:( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - التوبة:111) .
وقد ذكر الحق الله تبارك وتعالى أنه أوحى إلى الأنبياء والمرسلين فآتاهم الكتب بمشيئته جل فى علاه. وأن الوحى نزل به جبريل عايه السلام, ومن الكتب التى تعين اسمها فى القرآن الكريم الزبور ( أنزل على داود ), والإنجيل ( على عيسى )، والتوراة ( على موسى ) على نبينا وعليهم جميعا أفضل الصلاة وأتم التسليم. قال الله تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ,عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ,بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ,وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ - الشعراء:193ـ 196).وقال : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً - النساء:163) .. وطرق الوحى مختلفة حسب ما أراد المولى جل فى علاه , فمنها الوحى ومنها التكليم ومنها الالهام وغير ذلك , قال تعالى: ( ِتلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ - البقرة: 253). وقال : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً - النساء:164) , والله الفعال لما يريد وله الحكم والأمر. فالمقطوع به أن الله تعالى قد أنزل الكتب , منها ما أخبرنا به ومنها مالم يخبر به عز وجل. ولانجد نصاً فى القرآن الكريم ولا فى قول النبى صلى الله عليه وسلم ما يقطع بكيفية نزول تلك الكتب الثلاث على كل نبى على حدة ( الزبور والتوراة والانجيل ) فهى إذن من المسائل التى لايجوز الخوض فيها ولاطائل منها , إذ لو كان فى ذلك فائدة لأخبرنا بها عز وجل فى كتابه أو على لسان النبى صلى الله عليه وسلم..
لكن القوم ( اليهود والنصارى ) لم يكن عندهم مايمنعهم من التعديل والتحريف في الكتب التى أنزلت عليهم وجاء بها الأنبياء والمرسلون . واصطنعوا أسباباً وأعذاراً وحججاً يحاجون بها يلتمسون مسالك التبرير لما فعلوه. وفوق هذا , منهم من أهملها وأعرض عما فيها من شرائع وتكليفات وبالغوا فى التجرؤ بأنهم أولياء لله وخاصته من دون الناس , ومنهم من تمسك بأنه لا تحريف ولا تعديل فى تلك الكتب . إلا أن القرآن الكريم المنزل من قبل من أنزل تلك الكتب وهو الحكيم العليم جل فى علاه قد رد عليهم وكذبهم وفضحهم وتوعدهم سوء العذاب بما اقترفوا . وهل بعد حكم المولى جل فى علاه من حكم أو قول أصدق؟؟ .. قال تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ , قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - الجمعة:5و6) وقال: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ - البقرة:79) وقال: ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ - النساء: من الآية46) وقال: ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ - المائدة: من الآية13) وقال: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ - البقرة:79) وغيرها من الآيات . ولا يصح إيمان مسلم إلا بالإيمان بما نص عليه القرآن الكريم مما تقدم من فضح لهم وكشف لأكاذيبهم وتوعدهم بما توعدهم الحق تبارك وتعالى. وفى هذا ما يكفى للدلالة القاطعة على التحريف وعلى أن ما بين أيدينا اليوم ليست هى التوراة التى أنزلت ولا هو الانجيل الذى أنزل . قال تعالى: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً - النساء: من الآية87) وقال: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً - النساء: من الآية122).
وأما من حيث ترتيب النزول , فالتوراة ثم الانجيل ثم القرآن الكريم . وهذا واضح من نص القرآن الكريم , حسث قال عز وجل: ( يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - آل عمران: 65 ) فعلمنا أن التوراة والانجيل أنزلا بعد ابراهيم عليه الصلاة والسلام , وقال تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ - المائدة: من الآية46) فدل ذلك على نزول التوراة قبل عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام الذى آتاه الله الانجيل , وجدير بالذكر أننا لا نجد نصاً فى القرآن الكريم ينسب التوراة باسمها الى موسى ولكن نجد ما نسب إليه تصريحاً الصحف ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - لنجم:36) أو الألواح ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ - الأعراف:154) أو الكتاب أو الفرقان ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - البقرة:53) أو الهدى ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ - غافر:53) , ما يجعلنا نميل إلى الرأى القائل بأن التوراة هى شريعة أنبياء بنى اسرائيل ومنها كتاب موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام . وأرجح الأقوال أن أسفار العهد القديم ( التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية ) تنسب الى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. والقرآن الكريم هو آخر الكتب وإلى آخر الزمان .
 
ويبقى السؤال : كيف وصلت التوراة والانجيل إلينا الآن؟
الخلاصة فى التوراة , أن بيت المقدس خربها بختنصر وأحرق التوراة ، فضاعت من بني إسرائيل ثم كتبها عزير ودفعها إلى أحد تلامذته ، وأمره بأن يقرأها على الناس بعد وفاته ، وأخذها اليهود ودونوها ، وأعملوا فيها ماهو معروف عنهم وإن كان الزعم عندهم أن تلميذ عزير هو الذى غير فيها وحرفها وبالتالى أصاب نصوصها التحريف والتشويه. ومع مر التاريخ ترجمت إلى اليونانية , ومنها ترجمت إلى الانجليزية ولغات عدة أخرى كما سيأتى عند الكلام عن الانجيل . حيث تمت ترجمة الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم والجديد.( البدء والتاريخ للمقدسيّ )
وأما الانجيل, فبعد وفاة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أخذ الحواريون وتلاميذهم فى كتابة الأناجيل , ويقال أنها كتبيت بالعبرية والأرامية , ثم ترجمت بعد ذلك إلى اليونانية . ولا يفوتنا فى هذا المقام التأكيد على أن الانجيل الحالى ليس هو الانجيل الذى أوتيه عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام , لكنه تمت كتابته بعد عيسى من غير شك , وأبسط الأدلة على ذلك ما تضمنه الانجيل من ذكر صلب المسيح وموته ودفنه فى القبر, مما يستحيل معه تصديق أن هذا الكلام جرى على لسان عيسى, فضلاً عن أن النصوص المتعلقة بهذه المسألة جاءت على سبيل الحكاية على لسان كاتبها الذى يقص ماكان وما حدث ( حسب رؤيته وروايته ) .. وبذلت المحاولات العديدة من قبل مجمع علماء اللاهوت والدين المسيحي لاعتماد الانجيل واقراره واشهر هذه المحاولات كان في مدينة نيقية سنة 325 م وبرعاية الإمبراطور قسطنطين, ثم مجمع ليديسيا في سنة 364م , ثم مجمع قرطاجة سنة 397م , والملاحظ أن هذه المؤتمرات كانت تضيف أسفاراً إلى الانجيل حسبما يقرره المجتمعون , ويظهر هذا جلياً فى مؤتمر الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر الذى فيه رفض البروتستانت سبعة أسفار على عكس الكاثوليك والأرثوذكس .. ثم تمت ترجمته عدة ترجمات أشهرها ترجمة الملك جيمس إلى الانجليزية سنة 1611 م , ومنها إلى عدة لغات تصل إلى ألف وأربعمائة لغة ومنها العربية . وولاتزال عملية اكتشاف المخطوطات للأناجيل فى أزمنة متتالية وفى أماكن مختلفة لها أثرها الواضح على اصدار نسخ من الانجيل وفق ما يتوفر لأهل الاختصاص عندهم فى هذا الشأن . ( عدة مصادر: منها إظهار الحق لرحمة الله الهندي والموسوعة البريطانية والفصل في الملل والأهواء والنحل لمحمد بن حزم .. وغيرها)
وقد يقول قائل إن الكتاب المقدس ليس محرفاً كله . ونقول هذا صحيح . وفى هذا اقامة حجة عليهم بأنهم جاءهم الهدى من المولى جل فى علاه ولكنهم هم الذين عبثوا وبدلوا , وفى هذا يقول ابن حزم: " وقلنا ونقول : إن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة فزادوا ونقصوا , وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ - الأنبياء:23 ) , ( لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِه - الرعد: 41 ). وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا, وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء " ( الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/314 ) .
وفى هذا نلاحظ أن التوراة والانجيل لم يتم كتابتهما أو حفظهما حال حياة موسى وعيسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام. وان الذين قاموا على تدوينهما للمرة الأولى كانوا من البشر المجتهدين فى انشائهما . وأن تلك الكتابة بدئت بعد فترة طويلة من انتهاء النبوة . وأن التثبت من صحة المنسوب إلى أى من الذين كتبوا ماهو منسوب إليهم يفتقر إلى اليقين الجازم. وأن تلك النسخ الحالية اعتراها الكثير من التغيير والتعديل , إما بفعل مقصود من المدونين ( وهذا ثابت بنص القرآن الكريم ) وإما بسبب الترجمات والتعديلات على الكتاب المقدس باجماع المؤتمرين من اللاهوتيين أو غيرهم وما إلى ذلك. ولا شك ان إقدام واحد من الناس على تدوين كتاب ما , حتى ولو زعم أنه كتاب سماوى منزل, يجعل غيره من الناس يستمرئ أن ينشئ هو الآخر كتاباً أو يقوم بالتعديل على ما دونه الأول , ولو من باب الاجتهاد بأن هذا هو الأصوب أو الأصلح . ونخلص من هذا أن أهل الكتاب أنفسهم هم الذين تجرأوا على كتابهم فعدلوا فيه وبدلوا وارتضوا ذلك , وان أتباعهم سلموا بما آل إليه الأمر ووافقوا عليه .
ولكن القرآن الكريم لم يكن كذلك . ولا كان شأن المسلمين مع كتابهم كشأن هؤلاء مع كتبهم. وفوق هذا كله مشيئة الله جل فى علاه , على نحو ما أسلفنا القول فيه.
سبق وذكرنا أن الاسلام نزل فى أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة كغيرها من الأمم. فصار الاعتماد على الحفظ والنقل سماعاً أكثر مما هو معتمد على الكتابة والتحرير. ومن ثم كان الأصل الارتكان إلى حفظ القرآن الكريم حين نزوله وتناقله بالسماع أساساً , أما الكتابة فلم تكن الأصل فى الموضوع بل كانت عنصراً مساعداً للحفظ . حتى إنه ليصح القول أن دور الكتابة لم للتبليغ بمانزل أكثر مما كان للاحتفاظ به مكتوباً . فكان لابد للمتلقى أن يأخذ عن غيره الذى سمعه وحفظه وضبطه تماماً كما تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام الذى تلقفه سماعا من الله تعالى ثم نزل به تماماً فأداه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما تلقفه . فلا تهاون أو تقصير فى ضبط تركيب أو ترتيب آياته أو فى حرف من حروفه أو اعرابه .
والثابت أن القرآن الكريم أن القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منجماً , أى متفرقاً . وأن الذين عاصروا هذا النزول ( مسلمون وغير مسلمين ) باشروه بأنفسهم فى أحوال وأماكن لم تخف عليهم , وفى البخارى: عن ابن مسعود أنه قال "والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت" ومن ذلك مارواه البخارى أيضاً عن عائشة قالت :"ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" . فقد رأى بعضهم حال نزول الوحى على الرسول صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما أخرجه النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال " مررنا يوما ورسول الله قاعد على المنبر فقلت لقد حدث أمر فجلست فقرأ رسول الله هذه الآية قد نرى تقلب وجهك في السماء حتى فرغ منها ثم نزل فصلى الظهر " ( الاتقان فى علوم القرآن للسيوطى ) وتجدر الاشارة هنا إلى أن الرسول صلى الله جل فى علاه عليه وسلم لم يكن يؤخر البلاغ بما نزل ولكن كان يبلغه إلى الناس أولاً بأول كما ترى فى حديث أبى سعيد هذا , من هذا ما أخرجه ابن حبان وغيره عن عائشة " أن بلالا أتى النبي يؤذنه لصلاة الصبح فوجده يبكي فقال يا رسول الله ما يبكيك قال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي هذه الليلة إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر " ( المصدر السابق ). ومن هذه الحالات الحديث الصحيح بحضور جبريل عليه السلام على هيئة الرجل وسؤالاته عن الايمان والاسلام والاحسان والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يجيبه والصحابة حوله يرون ويسمعون فلما انتهى جبريل أخبرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه جبريل . ومنه أيضاً ما أخرجه ابن سعد عن عائشة قالت كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي يغط في رأسه ويتربد وجهه أي يتغير لونه بالجريدة ويجد بردا في ثناياه ويعرق حتى يتحدر منه مثل الجمان
المسألة الثالثة في الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها ( المصدر السابق ) وغير هذا كثير مما يدل على مباشرتهم نزول الوحى . وفى تحدى القرآن الكريم للناس وقت نزوله لفتات بديعة أذكر منها مثلاً قصة نزول سورة المسد التى نزلت فى أبى لهب وامرأته حمالة الحطب وعرفها أهل مكة جميعاً وقت نزولها والتى توعدت أبا لهب بأشد العذاب لأنه سيوت كافراً معانداً لمنهج الحق محاراباً للرسول صلى الله عليه وسلم , وقد كان يكفى أبا لهب أن يعلن اسلامه ولو كذباً حتى يقول الناس إن هذا ليس قرآناً منزلاً من قبل الله عز وجل , لكنه مع هذا كله مات على كفره وعناده ( انظر تفسير الشعراوى ) وما يعنينا فى هذه القصة تأكيد مباشرة الناس جميعاً لنزول القرآن ومعاينتهم حقيقة كونه من عند الله الذى يعلم غيب السموات والأرض ولاسبيل إلى الادعاء أنه أصابه تدخل ما من البشر, ويؤيد ذلك ما فعله اليهود أنفسهم بأسئلتهم - وهم أهل كتاب - ومجئ القرآن الكريم وافقاً للحق بلا خلاف وأشهرها تلك الأسئلة التى نزلت اجاباتها فى سورة الكهف .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة فى ابلاغه القرآن الكريم لمن حوله , مثلما كان - ولايزال - أفضل الخلق قدوة للبشر. ففضلاً عن فورية ابلاغه لما أنزل إليه من ربه , لايشعر المتلقى عنه صلى الله عليه وسلم إلا أنه مبلغ فى المقام الأول , ثم هو بعد ذلك مبين وموضح . فكان يبلغ ما مدحه به ربه ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ - القلم:4) وعتابه له ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - عبس:3) و ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ -التوبة: من الآية43) وأمره له ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ - المائدة: من الآية67) ونهيه له ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً - النساء: من الآية105) و ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - الاسراء: من الآية36) ومثل هذا كثير فى القرآن الكريم , كل ذلك يبلغه عن ربه عز وجل ولا غضاضة ولا حرج فيما نزل من نهى أو عتاب , إنما يبلغه كما نزل. هذا الأمر جعل المسلم يستشعر جلال وعظمة القرآن الكريم , وانه لا شأن لأى من البشر فيه حتى ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم , ومن ثم صار من باب الأولى أن يستشعر المهابة والتوقير والحرص الشديد عند التعامل مع القرآن الكريم , اضافة الى النصوص الواردة عن الحق تبارك وتعالى وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فى هذا الشأن, منها قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ - البروج:21) وقوله: ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ - النحل:98) و ( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ - الواقعة:79) و( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - الأعراف:204). وتلك النصوص من الشهرة والعلم بها بما يغنى عن الاطالة بذكرها .
 

ومن ناحية أخرى , فإن هذه الفئة التى عاصرت نزول القرآن - ومن تلاهم إلى الآن - كانوا يجدون فى القرآن الكريم خطاباً من الله عز وجل يحسه المسلم حين قراءته خطاباً موجهاً إليه هو وإلى من حوله فى أى زمان ومكان. من ذلك قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا - الحجرات: من الآية13) وقوله : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً - الروم: من الآية30) وقوله: ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي - طـه:14) , وقوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - البقرة:168) وقوله: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً - لقمان: من الآية20) وكم تكرر الخطاب بقوله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا ) وغيرها كثير. فالصلة بين المسلم وربه صلة مباشرة تعتمد على قراءة القرآن الكريم بلا واسطة أو وسيط . والخطاب من الله عز وجل إلى الناس جميعاً مباشرة بلا واسطة أو وسيط . أضف إلى ذلك أيضاً تلك الصياغة الفريدة فى تركيب الآيات القرآنية والتى نجدها غالبة فى نهايات الآيات إذ تختتم بأسماء الله الحسنى , ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - النساء: من الآية26) و ( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ - البقرة: من الآية143) و ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ - لقمان: من الآية28) ومع ما لهذه النهايات من معنى يرتبط بسياق النص قبلها وبعدها فإن فيها مافيها من ايقاظ الشعور بالله الواحد الأحد بما له من ألوهية وربوبية, فله الخضوع والخشوع, ومنه الخوف والرهبة, وفيه الرجاء , وإليه التوسل , وما إلى ذلك من المعانى , كل هذا يصاحب ويلازم المسلم القارئ والسامع للقرآن الكريم مما يجعله فى مجال التوقير والتقديس والاجلال لكلام الله الواحد الأحد الذى منّ بتنزيل كلامه هذا وله الفضل والمنة أولاً وآخراً.
ثم إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام مرة فى رمضان من كل عام. ومعنى العرضة أى المراجعة كما نقول فى أيامنا هذه. والغرض منها كما يقول المفسرون هو التثبيت وتوكيد الحفظ . ولما كان صلى الله عليه وسلم مسارعاً بالبلاغ لأصحابه أولاً بأول , فقد صار معهم هذه المراجعة السنوية فيقفون على آخر ترتيب للآيات وتثبيت الحفظ فيما نزل خلال العام . وقد وردت اروايات بأن آخر رمضان فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم كانت المعارضة مرتين لا مرة واحدة, وفى هذا دليل مدى العناية بحفظ القرآن الكريم. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ، فَيُصْبِحُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ لَيْلَتِهِ الَّتِي يَعْرِضُ فِيهَا مَا يَعْرِضُ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، لا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ، حَتَّى كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي هَلَكَ بَعْدَهُ عَرَضَ فِيهِ عَرْضَتَيْنِ.(مسند أحمد وشعب الايمان للبيهقى ), وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ.(البخارى), وعَنْ عائشةَ في حديث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ: إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِي.(البخارى ومسلم) . وهذه العرضة هى العمدة فى جمع القرآن الكريم نقلاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم حسب آخر عرضة له مع جبريل عليه السلام . وفى هذا يقول أبو عبد الرحمن السلمي: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه.(شرح السنة للبغوي والبرهان في علوم القرآن للزركشى) وقال أيضًا: قرأ زيد بن ثابتٍ على رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سُمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابتٍ؛ لأنه كتبها لِرَسُـول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.(المصدر السابق).
ثم كثر الحفاظ وتناقل المسلمون القرآن الكريم . حتى كانت واقعة اليمامة واستحر القتل بكثير من الصحابة رضوان الله عليهم ,وكان ذلك بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وخلافة أبى بكر, فقال عمر بن الخطاب لأبى بكر رضى الله عنهما "إن القتل قد استحر بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن فقلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله قال عمر وهو والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.. " ( الحديث بطوله فى صحيح البخارى ), ثم حفظت هذه الصحف عند حفصة رضوان الله عليها . ولابد لنا أن نقف قليلاً عند هذا الموقف بشئ من التأمل, لنلحظ كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم حريصين على دين الله, وكيف كانوا يعملون فكرهم ويحسنون النظر والتخطيط مخلصين لله وحده , لا بتجرؤ ولا بنظر إلى مصالح الدنيا أو نزعات النفس والهوى , ولا يخفى على ذى بصيرة ما يحمله قول عمر رضى الله عنه " أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن" وما ينطوى عليه من حرص على الدين ومستقبل الأمة , كما لا يخفى ما فى قول أبى بكر رضى الله عنه " كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله " وما ينطوى عليه من تقديس للقرآن والتزام ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم, إلى قوله " حتى شرح الله صدري لذلك " الدال على أن المسألة لم تتأت له إلا لوجه الله الواحد خالصة نقيةً من شوائب الدنيا وغرور النفس .. أين نحن الآن من هؤلاء ؟؟ . هذان رجلان من رجال الدولة أحدهما الخليفة وثانيهما وزيره وساعده , ما اجتالتهما دنيا ولا غرهما حكم ولا سلطان وسنرى بعد قليل ما فعل عثمان وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.. ما كان الصحابة رضوان الله عليهم يغشيهم حب الدنيا ولا كراهية الموت كما نرى اليوم , وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وعلى هذا يكون القرآن الكريم قد تم جمعة ثلاث مرات كما ذهب إليه الحاكم فى المستدرك .. إحداها بحضرة النبي , والثانية بحضرة أبي بكر , على ما ذكرنا , والثالثة هى التى تولاها عثمان رضى الله تعالى عنه فيما رواه البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.. ( الحديث بطوله ) .. وكان ذلك فى العام الخامس والعشرين من الهجرة تقريباً.
ومن هنا نعلم أن جمع القرآن الكريم كتابةً كما نزل على النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن بعد وفاته بوقت طويل, بل لم يتجاوز السنوات الأربع حيث جمع كتابةً فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه. ثم تم توزيعة على الأمصار فى زمن خلافة عثمان رضى الله عنه, أى بعد عشرين سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم على أكثر تقدير.. وأخذاً فى الاعتبار العوامل التى ارتكزت فى وجدان المسلمين عموماً تجاه كتاب ربهم , وعلى الأخص الصحابة رضوان الله عليهم, والتى سبق ذكرها, صار النسخ من تلك النسخة التى كتبت منذ عهد عثمان رضى الله عنه وإلى الآن. والتى تسمى , وهى بالرسم العثمانى. واتفق أهل العلم على تحريم والتشديد فى تجريم تناول هذه النسخة بأى شكل من أشكال التدخل. ومن ذلك ما ذكره السيوطى: " قال البيهقي في شعب الإيمان من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به هذه المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه شيئا فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة منا فلا ينبغي أن يظن بأنفسنا استدراكا عليهم .... وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك قال لا .. قال أبو عمرو يعني الواو والألف والمزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو الواو في أولوا . وقال الإمام أحمد يحرم مخالفة مصحف الإمام في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك . وقال أشهب سئل مالك هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء فقال لا إلا على الكتبة الأولى , رواه الداني في المقنع ثم قال ولا مخالف له من علماء الأمة .. وقال: قال ابن التين وغيره الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب جملته لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم وإن كان قد وسع قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة ( الاتقان للسيوطى - سبق ذكره ).
إن المسلمين لم يثر عندهم سؤال : أين كتابنا؟ . لا , فقد استلمته القلوب بالشغف والحب والتقديس حفظاً واتقاناً من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة . وظل المسلم فى حالة من الرضى تصل إلى حد الفخر المصحوب بالغيرة الشديدة على كتابه. وهذا وليد الثقة المطلقة فى صحته وسلامته ودقته اللامحدودة. ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ - فصلت:42) , وكيف لا وهو كلام الله الواحد الأحد ؟. ومادام المتكلم هو الواحد الأحد بأسمائه وصفاته الذى ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ - الأنعام:103) فلا حاجة لإعمال العقل البشرى الضعيف المحدود بالزمان والمكان بالنظر أوالنقد , وليس ثمة إلا التلقى بالتسليم والخضوع والانقياد وفى هذا الخير كله, خير الدنيا والآخرة. ومن ثم لم يثر عندهم تساؤل أو شك عما اذا كانوا فى حاجة إلى الحذف أو الاضافة أو حتى تعديل رسمه ليقينهم أن المتكلم الذى أنزله أراده بمشيئته وحكمته أن يكون هكذا ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ - النور: من الآية19). وأياً ما كان المكان أو الزمان أو نظم الحياة التى يعيشها المسلم فله أن يأخذ من القرآن الكريم ما تستقيم به حياته أمناً وسلاماً , ولابد سيجد ما يبتغيه فيه, وليس له إلا أن يسلمه للأجيال التى تأتى بعده كما هو ليجدوا فيه هم أيضاً ما وجده هو لأن القرآن الكريم لم ينزل لعصر دون عصر ولا لفئة دون فئة , ومن الدين الذى يدين به المسلم لخالقه الواحد الأحد أن يوضع التطبيق العملى للقرآن فى كل عصر ومصر على مراد الله وحده لا على مراد أى من البشر, قال تعالى: ( هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ - الجاثـية:20) وقال: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً - الأعراف: من الآية158) وقال: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ - المائدة: من الآية48).
 



لقد أحيط القرآن الكريم بسياج سميك فولاذى من الرعاية والحفظ لأسباب استودعها الواحد الأحد جل فى علاه فى القرآن نفسه وفى من آمنوا به.. ومهما تكن أى فرقة من الفرق الاسلامية على مر التاريخ تابعة للحق والصواب أومارقة أو ضالة مضلة او متأولة إلا أنها جميعاً لم تمس القرآن الكريم ذاته أى مساس. وربما نسمع كل حين عن محاولة من هنا أو هناك ممن ألفوا كلاماً نسبوه لأنفسهم أو حاولوا العبث بنصوص القرآن الكريم , لكن هذا لم يحدث من المسلمين أنفسهم أياً كان مذهبهم أو فرقتهم, بل من أعدائهم وأعدائه. وهذه المحاولات لم يكتب لها البقاء طويلاً ولم يتبع أحد من الناس مثل هذه المؤلفات الفاشلة باعتبارها قرآناً أو كتاباً للمسلمين. لا, ولن يكون, لأسباب عديدة أهمها أن القرآن كتاب يتعبد به ولا تصح إلا بلغته ونظمه, ولأن غيرة المسلمين حيال ذلك - أياً كان مذهبهم أو فرقتهم - كانت أمنع من أن يكتب لمثل هذه الافتراءات البقاء. وليست المسألة بجديدة فقد حدثت فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حين تنبأ مسيلمة بن حبيب الكذاب , وفى عهد أبى بكر تنبأت سجاح بنت الحارث بنت سويد التميمية النصرانية وتنبأ طلحة بن خويلد الأسدي الذى كان مسلماً ثم كفر ويقال أنه تاب عما فعل وحسن اسلامه, وهذه المحاولات قوبلت بالردع والقضاء عليها ولم يكتب لها بقاء. وفى عصرنا الحديث ما يدل دوام على الغيرة الشديدة هذه على كتاب الله تعالى من قبل المسلمين جميعاً ما كان من رواية آيات شبطانية التى تناولت القرآن الكريم بأقوال وضلالات وبهتان والتى ألفها سلمان رشدى البريطاني من أصل هندي وأصدرها في 26 سبتمبر 1988 وما مرت عشرة أيام إلا ونزلت نوازل الاتصالات بانواعها ومن حميع أنحاء العالم تطالب دار النشر بسحب مانشرت واندلعت المظاهرات فى العالم تطالب باعدام سلمان رشدى, ومنعت الهند نفسها دخوله وهبت دول العالم الاسلامى تندد بالكتاب حتى بلغ الأمر أن أصدر الخوميني زعيم الشيعة في 14 فبراير 1989 بإباحة دم سلمان رشدي.
هذا هو القرآن الكريم . أنزله الله تعالى للعالمين بلسن عربى مبين. لآخر الكتب المنزلة وإلى أن تقوم الساعة. نزل عربياً ليظل عربياً.
وانتشر الاسلام فى ربوع الأرض. قال تعالى: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - التوبة: 33), وقال: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون - الصف: 8), وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض - أي جمعها وضمها - فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها. . . الحديث بطوله - مسلم ) وقال: ( ليبلغن هذا الأمر مبلغ الليل و النهار و لا يترك الله بيت مدر و لا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل يعز بعز الله في الإسلام و يذل به في الكفر- الصحيحة للألبانى ) . وصارت الحاجة ملحة لتعريف غير المتكلمين بالعربية بالقرآن الكريم وشريعة الاسلام. فهل تجرأ المسملون فعقدوا المؤتمرات لترجمة نصوص القرآن وآياته؟؟. لا, لكنهم ترجموا المعانى إلى اللغات الأخرى. وفى حين كان المسلمون يرهبون ويمنعون الترجمة لألفاظ القرآن الكريم , كانت هناك الحيات والثعالب التى استمرأت العبث بالكتب السماوية تتلمظ أن تدخل القرآن ذلك النفق المظلم. وهيهات أن ينالوا .. لكنهم فعلوا. فقد ظهرت ترجمات للقرآن الكريم عديدة استهدفت العبث والاضرار والتلاعب لتحقيق أغراض دنيئة, سبق وعرضناها فى مواضع عدة, ولم يكن قصدهم اتباع الحق وجعل القرآن ميسوراً بلغتهم, ولو أخلصوا النية فى ذلك لما وجدوا إلى ذلك سبيلاً إلا بتركه كما هو بلفظه ورسمه واستعانوا بترجمة المعانى فقط . لكن النية كانت غير ذلك تماماً , وإن كان البعض من غير المسلمين ترجموا بعض التفاسير وأطلقوا عليها ترجمة القرآن, وما هى بقرآن. يقول د. محمد محمد أبو ليلة: " وقد انتشرت الترجمات العديدة الآن بكل اللغات، بل وبالعديد من اللهجات، والواجب على أهل العلم والولاية أن يتابعوا هذه الترجمات، ويقرأوها بعناية، ليقروا الصالح منها حتى يقفوا لخصوم القرآن بالمرصاد حفاظاً على قدسية هذا الكتاب الكريم. " ..
ويضيف : " خرجت أول ترجمة للقرآن من دير كلوني بجنوب فرنسا، بتوجيه رئيس الدير الراهب بطرس المبجل وإشرافه، وكان ذلك سنة 1143 ميلادية، قام بالترجمة راهب إنجليزي اسمه روبرت كيتون الرتيني، بالتعاون مع الراهب الألماني هرمان الدالماتي، وشخص مسلم مجهول اسمه محمد، اشترك مع هذه اللجنة بمساعدتها في فهم النص العربي خوفاً على جماهير النصرانية من أن تتأثر بالقرآن وتتحول إلى الاسلام بدلاً من أن تعاديه، أو على الأقل تتحير وتتشكك في دينها. "
ويضيف: " ويقول آربري: "إن بلاغة القرآن، وإيقاعه في اللغة التي كتب بها القرآن (اللغة العربية) لها مميزاتها الخاصة، إنها قوية للغاية ومحركة للمشاعر والخواطر لأعلى درجة، هذه الدرجة تجعل أي ترجمة، والتي هي عادة محكومة بطبائع الأشياء ككل عمل إنساني، تبدو كنسخة هزيلة للروعة المشعة، وللجمال المتألق والنفّاذ، للأصل العربي للقرآن، إنّ القرآن ليس نثراً ولا شعراً في طبيعته لكنه مزيج فذٌّ من الاثنين.
ويقول جونز في تقديمه لترجمة روديل (لندن – 1994م): "كثير من روعة الأصل يفقد في الترجمة، وحقاً ما يعتقده المسلمون من أن القرآن لا يترجم. القرآن هو أقدم، وإلى حدٍّ كبير هو أول الأعمال العربية الممتازة، وهو الأثر الأدبي الفائق في مجاله لكل الحدود". ونرى من اللازم أن نلفت النظر إلى أن القرآن ليس من الأعمال العربية، بل هو وحي نزل باللغة العربية، وليس هو بالكتاب الذي يصنف بين الكتب العربية، إنه نمط وحده، ومثلٌ فريد لا يكرر.
ثم يشير الكاتب إلى بعض الكُتّاب الغربيين الذين حكموا على القرآن من خلال الترجمات فقط، على سبيل المثال المؤرخ والفيلسوف الإنجليزي توماس كارلايل (1881-1795م) الذي وصف القرآن بأنه كتاب مُعقّد وممل ومليء بالتكرار والحشو." ( القرآن الكريم من المنظور الإستشراقي - د. محمد محمد أبو ليلة - وهو كتاب غاية فى الأهمية فى موضوعه).
والرسم العثمانى توقيفى لا اجتهاد فيه , ولئن كان منسوباً إلى عثمان رضى الله تعالى عنه فإن هذه النسبة تشير فقط إلى عمله المبارك بكتاية القرآن الكريم كما ذكرنا آنفاً أى بالرسم الذي كُتبت به المصاحف على ما أخذه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم عن رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم . والعلماء يصنفون الخط الاملائى أى الرسم الكتابى الى صنفين: الرسم القياسي وهو كتابة الكلمة كما تلفظ, والرسم التوقيفي وهو الرسم العثماني, حتى إنهم وضعوا المؤلفات بما يعرف بعلم الرسم القرآنى , ومنها "المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار" لأبي عمرو الداني, و"التنـزيل" لأبي داود سليمان نجاح . وإن شئت الترجمة فأخبرنى كيف ستترجم الحروف المقطعة فى فواتيح الصور مثل ( الم ) و ( حم ) و ( المر ) وغيرها. وكيف يكون التصرف فى رسم كلمات مثل: ( العالمين) والتى وردت فى القرآن كله هكذا ( العلمين) بغير الألف؟ أو ( الغاون - الشعراء:94) بواو واحدة والأصل القياسى لها هكذا ( الغاوون )؟ أو كلمة ( وجائ - الزمر:69) والقياسى لها ( وجيء ) ؟ وأيضاً نلاحظ كلمة " كلما " جاءت منفصلة فى سورة النساء ( كل ما ردوا إلى الفتنة أُركسوا فيها - النساء:91) وفى سورة المؤمنون ( كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ - المؤمنون: من الآية44) فى حين أنها جاءت متصلة فى مواضع أخرى منها قوله تعالى: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيه - البقرة: من الآية20) وقوله: ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً - آل عمران: من الآية37) .. وهكذا .. فالرسم العثمانى توقيفى وهذه الضوابط مقصودة لمعان ومفاهيم ولابد , ولايمكن أن يكون الرسم بهذا الشكل جاء لغير علة أو اعتباطاً , حاشا , لكن الله الواحد الأحد الحكيم العليم أراد للقرآن ان يكون على مراده هو لفظاً ورسماً فكان كما نراه.. وفى هذا المقام يجب أن ندرك أن القرآن الكريم لو كان فيه أى تدخل من البشر لما كان على هذه الشاكلة أبداً لا لفظاً ولا رسماً .. ثم أى لغة هذه التى تستوعب هذه الضوابط المقصودة قصداً؟؟
ولم بقف الأمر بالمسلمين عند حد التصدى لمحاولات العبث بالقرآن الكريم أو التصنيف فى رسمه وطرق كتابته , بل بذلت الكثير من الجهود المحمودة لنشر القرآن الكريم ومتابعة ترديده بلفظه سماعاً وكتابة بكافة الوسائل , وتطور ذلك النشر والترديد والتكرار بتطور تلك الوسائل. فكان أن خصصت الاذاعة المصرية بثاً خاصاً لاذاعة القرآن الكريم فى مطلع ستينيات القرن الماضى ( فى الخامس والعشرين من مارس عام 1964 ميلادية ) لتسمعه الدنيا على مدار الأربع والعشرين ساعة يومياً مرتلا ومجودا بصوت مشاهير القراء كما نزل وبلغته التى نزل بها, وتتابعت الاذاعات ثم تبعتها السودان فى السبعينيات , وتوالت محطات الارسال فى العديد من بلدان العالم , ومع ظهور الرسال التلفزيونى والفضائيات صار للقرآن الكريم قنوات تنشره سماعاً وكتابة فى ربوع الدنيا, حتى إننا لا نذهب بعيداً إذ نقرر أنه لا مكان فى الأرض الآن لايسمع القرآن الكريم ملفوظاً مسموعاً ومرئياً مكتوباً كما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وجدير بالذكر فى هذه المناسبة ما قام به الملك فهد ملك السعودية رحمه الله تعالى إذ وضع حجر الأساس لصرح من صروح خدمة القرآن الكريم في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم (المدينة المنورة)، وهو «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة»، في 1982، أي بعد خمسة أشهر فقط من توليه مقاليد الحكم, افتتاحه في 1984 .. يقول الدكتور عادل بن علي الشدي في كتاب جهود خادم الحرمين في طباعة المصحف: " لا يكاد يوجد بيت مسلم في السعودية وخارجها، إلا ودخله «مصحف المدينة النبوية» .. واضاف: " ويصل مجموع ما يتم تزويد المسلمين به سنويا إلى أكثر من 130 ألف نسخة، منها ما يقارب 70 ألف نسخة لبيت الله الحرام بمكة المكرمة" وأضاف: " وكان من أبرز ما أنتجه مجمع الملك فهد، هدية خادم الحرمين الشريفين لحجاج بيت الله، حيث تستقبل السعودية سنويا ما يزيد عن مليون حاج،.. فرغب الملك في توديع كل حاج بهدية قيمة في معناها ومحتواها، تتمثل في نسخة من المصحف الشريف من إصدار مجمع الملك لكل ناطق بالعربية، ونسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم بلغة الحاج لغير الناطقين بالعربية، وذلك عند مغادرة الحاج إلى بلاده، وتم تشكيل لجنة أنيطت بها هذه المهمة." .. وأضاف " يضاف لذلك مكاتب الدعوة في الخارج التابعة لوزارة الشؤون الاسلامية والدعوة والإرشاد، حيث يتم تزويدها باحتياجها السنوي من إصدارات مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، بمعدل يصل الى 500 ألف نسخة سنويا مع التكفل بتكاليف الشحن." ( نقلاً عن : جريدة الشرق الأوسط -2 اغسطس 2005 )
إنه القرآن الكريم .. واللغة العربية تمضى قى ركابه وتسير حيث سار. . لا لغة فى العالم تستوعب أسراره ومعانيه ومقاصده إلا هى .. العربية .. فكانت - وستظل -هى التى علت على كل اللغات , ولها السمو والنفوذ فى معركة البقاء, رغم ما تعرضت من مكائد وتدابير الخبث والملاحاة والحسد .. ورغم ما تعرضت له من نهش الكلاب.
إلى هنا - ياصاحبى - وأرى قطارنا أوشك أن يصل إلى محطته الأخيرة ..
فالحمد لله تعالى .. الذى له الفضل والمنة أولاً وآخراً .. فمنه وحده وبه التوفيق ..
ولم يبق لنا إلا أن نختتم موضوعنا , ونضع فيه ما يتيسر من التوصيات بهذا الصدد فى الجزء الأخير التالى بمشيئة الله جل فى علاه.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

ودى واحترامى


 
فضلاً.. اقرأ ماتقدم قبلاً, فهو أصل لاينفصل عما ستقرأ..(الخاتمة والتوصيات)

لم تكن رحلتنا الطويلة هذه نزهة أو حكاية للتسلية أو الاسترخاء. لا, ولم تكن نوعاً من التباكى على عهود مضت كانت فيها الأمة الاسلامية الرائدة للعالم كله. وما كان ذلك إلا باعتصامها بشريعتها واحتكامها فى شئونها كلها إلى رب العالمين الواحد الأحد. ولمن تباكى فحق له أن يتباكى . ذلك أن الواقع الأليم الذى تعيشه الأمة اليوم لا يخجل المرء من الكتابة فيه فقط , وقد أفاض الكثيرون الغيورون على الاسلام والأمة حتى بح صوتهم , بل يتعدى إلى تعذر تصور كيف صرنا إلى ماصرنا إليه مقارنة بما كان فى العهد الزاهى , بل وبالنظر فيما هو بين أيدينا من شريعة واضحة ثابتة فى كتاب الله جل فى علاه , وعلى لسان نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم. والمرء يسأل, إلى حد الصراخ: من نحن؟ وماذا ينقصنا ؟؟ !!
يقول الامام السيوطى , ويا لصدق ماقال:
" قال تعالى مخاطبا لخلقه وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وإن كتابنا القرآن لهو مفجر العلوم ومنبعها ودائرة شمسها ومطلعها أودع فيه سبحانه وتعالى علم كل شيء وأبان فيه كل هدي وغي فترى كل ذي فن منه يستمد وعليه يعتمد فالفقيه يستنبط منه الأحكام ويستخرج حكم الحلال والحرام والنحوي يبني منه قواعد إعرابه ويرجع إليه في معرفة خطأ القول من صوابه والبياني يهتدي به إلى حسن النظام ويعتبر مسالك البلاغة في صوغ الكلام وفيه من القصص والأخبار ما يذكر أولي الأبصار ومن المواعظ والأمثال ما يزدجر به أولو الفكر والإعتبار إلى غير ذلك من علوم لا يقدر قدرها إلا من علم حصرها هذا مع فصاحة لفظ وبلاغة أسلوب تبهر العقول وتسلب القلوب وإعجاز نظم لا يقدر عليه إلا علام الغيوب .." ( الاتقان فى علوم القرآن - السيوطى ).

ولقد مر بنا , عبر رحلتنا الطويلة فى الزمان والمكان , ما كان ولا يزال من حرب ضروس استهدفت القرآن الكريم فضربت أمة القرآن فى مقاتل عدة , وكان ولا يزال الضرب فى أشرف ما تملكه الأمة الاسلامية وهى لغتها العربية, بل وأشرف لغات الدنيا قاطبة.. لغة القرآن الكريم.
والبلوى الأكبر ليست فيما يفعل العداء . وإنما فى أبناء جلدتنا , وصدق البارودى:
وأشد ما يلقى الفتى من دهره فقد الكرام وصحبة اللؤماء
أولئك الذين مالوا إلى العامية تارة , وتنصلوا إلى الأجنبية تارة أخرى. يقول مصطفى صادق الرافعي فى هؤلاء :
" والذين يتعلّقون اللغاتِ الأجنبيةَ ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلّق إنْ لم تكن عصبيتهم للغتهم قويّةً مستحكِمةً من قِبَل الدين أو القومية ، فتراهم إذا وهنَت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميّتهم ، ويتبرؤون من سلَفِهم ، وينسلِخون من تاريخهم ، وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم ، وآداب لغتهم ، ولقومهم وأشياء قومهم ، فلا يستطيع وطنهم أن يوحيَ إليهم أسرارَ روحه ، إذْ لا يوافق منهم استجابةً في الطبيعة ، وينقادون بالحبّ لغيره ، فيتجاوزونه وهم فيه ، ويرثون دماءهم من أهلهم ، ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبيّ ؛ ومن ثَمّ تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها ، وبالخيال المتوهّم فيها لا بالحقيقة التي تحملها ؛ فيكون شيء الأجنبيّ في مذهبهم أجملَ وأثمنَ ، لأنّ إليه الميلَ وفيه الإكبارُ والإعظام ؛ وقد يكون الوطنيُّ مثلَه أو أجملَ منه "
ويقول: " ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة ، ويركبهم بها ، ويُشعرهم عظمته فيها ، ويستلحِقهم من ناحيتها ، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ : أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً ، وأمّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً ، وأمّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها ، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ " (وحي القلم ).
ويقول ابن تيمية : " إنّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون " اقتضاء الصراط المستقيم ." ويقول : " اعلم أنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيراً قويّاً بيّناً ، ويؤثر أيضاً في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من الصحابةِ والتابعين ، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ ، وأيضاً فإنّ نفس اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ ، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب " . ( اقتضاء الصراط المستقيم - ابن تيمية )
ويقول : " معلومٌ أنّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية ، وكان السلف يؤدّبون أولادهم على اللحن ، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي ، ونُصلح الألسن المائلة عنه ، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة ، والاقتداء بالعرب في خطابها ، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً " . ( الفتاوى - ابن تيمية ).

ولقد يثور السؤال: لماذا نحن هكذا؟ .. أين المرض , وما الدواء ؟
ثم رأيتنى أتمعن فى حديث , وكم هو مشهور جار على ألسنة الناس عامتهم وعلمائهم. عن ثَوْبَانَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا فقال قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قال: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ الله من صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ، فقال قَائِلٌ: يا رَسُولَ الله، وما الْوَهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ" ( رواه أبو داود, وصححه الألبانى ) .. وسؤال السائل : وما الوهن ؟ , لااظنه سؤالاً محضاً , إذ الوهن معروف, فهو الضعف في العمل والأمر. ورجل واهن: أي ضعيف في الأمر والعمل(المعجم الوسيط) , لكنى أستظهر أن السائل أخذته الدهشة , كيف يكون ذلك الوهن؟. وكأنه يسأل : فما سبب الوهن وما دواعيه أو علاماته؟؟ وكانت الاجابة الواضحة التى يفهما كل واحد من الناس: " حب الدنيا وكراهية الموت " .
اسمع إلى هذا القسم , والمقسم من؟, إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فَوَ الله لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ على من كان قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ. " ( البخارى ومسلم ) .. وفي رواية لمسلم : " تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ " .
نعم, هنا العلة .. " حب الدنيا وكراهية الموت " ؟؟ .. هذا هو الداء العضال . الداء الذى أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الصدوق الذى لا ينطق عن الهوى . أخبرنا به , فلم نعتبر , وحذرنا منه فلم نحتذر, ومضينا نتلمس الحجج ونتمحل و.. و.. و.. ولايخفى أن معنى " حب الدنيا وكراهية الموت " مفسر بما جاء فى حديث البخارى ومسلم, " تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا " , ثم " تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ ".. إنه الإقبال على الدنيا على حساب الآخرة . ولقد فسر القرآن الكريم هذه الظاهرة : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - آل عمران:14 ) وهل الدنيا إلا هذه الشهوات ؟ .. ومن أجل هذه الشهوات والملذات يترخص الناس فى تكليفات الشرع ويستمرئون التهاون فى ثوابت كيانهم ووجودهم وهويتهم .. وقد جاءنا التحذير على لسان الرجل الصالح: ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآَخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ - غافر:39), وذم الله تعالى الكفار فقال: ( وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ - الرعد:26 )..
دعنا من الأعداء , فقد عرفناهم . ولكن المشكلة أن الكثيرين من ذوى النوايا الطيبة ينظرون إلى مسألة الحفاظ على الهوية الاسلامية نظرة لا تنال ما ينبغى لها من الجدية والاهتمام, وربما لاتلفت انتباههم أساساً !!. والكثيرون من ذوى النوايا الطيبة ينطلى عليهم الأخذ بالأخف والأسهل والأشهر خاصة فى استخدام العامية على الفصحى . ويجهلون أو يتناسون أن لغة القرآن الكريم هى من الدين ولابد. إنه خلل واضح فى انحراف المفاهيم الشرعية والادراك الواعى لمقاصد الشرع الحنيف وما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .. وفى هذا يقول محمد قطب:
" وانحراف المسلمين في سلوكهم أمر أوضح من أن يشار إليه .. فإن ما تفشى في حياتهم من الكذب والغش والنفاق ، والضعف والجبن والاستخذاء ، والبدع والمعاصي ، وما صار إليه الشباب من تفلت وتحلل ، وما صار الناس إليه من تبلد على الفجور والمنكر .. وعشرات غيرها من الصفات والأعمال ، كلها ليست من الإسلام في شيء ، بينما هي الواقع الذي يعيشه " المسلمون " !
ومع ذلك فليس الانحراف السلوكي هو الانحراف الوحيد في حياة أولئك " المسلمين " ، ولا هو الانحراف الأخطر في حياتهم . ولو كان الأمر مقصوراً على الانحراف السلوكي وحده لكان الأمر - على سوئه - أهون بكثير !
ولكن الأمر تجاوز ذلك إلى الانحراف في " المفاهيم " .. كل مفاهيم الإسلام الرئيسية ابتداء من لا إله إلا الله ! " ( مفاهيم ينبغى أن تصصح - محمد قطب ).
 
إن افتقار الكثيرين إلى مجرد اجادة الكتابة باللغة العربية , ولا نقول اتقانها والابداع فيها , يجعلهم غالباً فى دائرة شعور بالقصور والعجز وبالتالى يشعرهم بالخجل . فمن الطبع المجبول عليه الانسان ألا يكون فى موضع الجاهل أو العاجز أمام الآخرين , خاصة فى الشباب. واذا أضفنا إلى ذلك وجود مبررات, ظاهرها الحق وباطنها الباطل, ألا ضرر من البقاء على هذا النحو من الجهل بعلوم العربية مع الاعتقاد أن هذا لاعلاقة له بالحلال والحرام أو الذكر والعبادة , فالأمر إذن لايمثل أى عيب ولا تقصير. ولا أكون مبالغاً إذ أقرر أن هذا الوضع أوجد الكثيرين ممن لا يستشعرون فخراً بالعربية فضلاً عن انعدام الشعور بالغيرة عليها أو بالانتماء لها . وبالتالى نجد النتيجة مزيداً من الجهل ومزيداًً فى أعداد الجاهلين . ومما يساعد على ذلك زيادة نفوذ الاعلام وتطور وسائله فى عصرنا زيادة ملحوظة ومؤثرة فى الشارع العربى والاسلامى. ومع زيادة هذا النفوذ المتنامى نلاحظ لامبالاة فى معظم الوسائل بلغة الخطاب. وقد تناولنا هذا الشق فيما سبق .. ولعله من المفيد هنا أن نذكر أن هناك من الجهود ما لاينكر من ذوى الرؤى لخطورة المسألة وأهميتها .. يقول فهمى هويدى:
" الملاحظ في هذا الصدد أن خصوم اللغة العربية في السابق كانوا من المتغربين والمعادين للانتماء العربي والإسلامي، لكن حدود حركة هؤلاء لم تتجاوز المبادرات الشخصية، التي ظلت محدودة التأثير. إلا أن الأمر اختلف الآن تماما من زاويتين. الأولى، أن إهانة اللغة العربية والحط من شأنها أصبح سلوكا عاما في المجتمع، لم يعد مقصورا على فئة دون أخرى، كما أنه غدا عند البعض من آيات الحداثة. الثانية، أن العدوان على اللغة وابتذالها أصبحا ظاهرة عامة في وسائل الإعلام، بتأثيرها الهائل على عوائد الناس وسلوكياتهم. "
ويضيف:
" محنة اللغة العربية في وسائل الإعلام لها ثلاثة مظاهر، هي :
1. شيوع الأخطاء النحوية في العربية الفصحى المستخدمة، والتي هي ركيكة في الأساس.
2 . شيوع الكتابة بالعامية في المقالات والإعلانات، وفي تقديم البرامج التلفزيونية والإذاعية.
3. كثرة استخدام المفردات الأعجمية في ثنايا الخطاب الموجه إلى الملتقى العربي، وفي بعض الأحيان تنشرالصحف العربية إعلانات كاملة باللغات الأجنبية، بل إن هناك مجلات عربية وبرامج إذاعية وتليفزيونية تحمل أسماء وعناوين أعجمية، مكتوبة بالأحرف العربية.
في صحيفة (الأهرام) القاهرية - التي هي من أهم وأقدم الصحف العربية - ثمة إعلان ينشر كل يوم جمعة بعرض ثمانية أعمدة يقول : إن ما كانش عندك أولاد - اكفل طفل يتيم في بيتك - وتحت هذا العنوان الحديث النبوي الذي يحث على كفالة الأيتام. وفي الإعلان خليط من عامية الخطاب وركاكة الفصحى والخطأ النحوي. وذلك ليس استثناء، ولكنه تجسيد للغة كاملة أصبحت تهيمن على المواد التحريرية والإعلانية في الصحف، ناهيك عن تلك التي تستخدم في التليفزيون والإذاعة.
في الصحيفة العريقة أيضا ظهر ذات يوم إعلان على صفحة كاملة لأحد المصارف تقول كلماته ما يلي : كل اللي حوِّشناه حطيناه في الشقة، حنجيب العفش ازاي؟ (أي كل الذي اذخرناه وضعناه في السكن، فكيف سنحصل على الأثاث إذن؟) والإجابة عن السؤال في ركن جانبي، تهدئ من قلق السائل قائلة إن البنك حاضر للإقراض وحل الإشكال.
ربما عنَّ للمعلنين أن الكتابة بالعامية تسهل التوصيل إلى المتلقي، ولذلك فإنهم لا يبالون بالفصحى ولا بالنحو، يشجعهم على ذلك لا ريب أن الصحف لم تعد تكترث باللغة التي يظهر بها الإعلان، لأن كل اهتمامها منصب على مدخوله وحصيلته! لكن مايستلفت النظر في هذا الصدد أن بعض الكتاب أصبحوا يطعِّمون كتاباتهم بعبارات عامية، وهناك آخرون يتزايد عددهم، ينشرون نصوصا كاملة بالعامية.
في أحد ملاحق جريدة (الأنباء) الكويتية وجدت عدة مقالات مكتوبة بالعامية، هذه مقتطفات منها.
تحت عنوان (أقوال مأثورة)، كانت المقولة الأولى كما يلي . كل ريّال كاشخ تلقى مرته غاسله شراعه، لكنه يبى يبين للناس شكثر هو سنع، وشكثر مهتمه فيه وتسوي له كل اللي يبيه.
وفي مقالة عن أشهر عبارات الحب والغزل في التاريخ كما تخيلها أحد الكتاب وردت العبارات التالية، التي يفترض أنها من رجل محب إلى فتاة وقع في غرامها.
ساوصف فيج شخللي منج، طيبه قلبج وضحكه سنج، ونبره صوتج، ولوية حنجج جنج حصان قاعد يتعلج! شهالزين وشهالدلال، الشعر جنه نفيش، والقذله جنها شعر بنات..........إلخ.
في مقالة تالية تحدث أحد الكتاب عن قصة ذهابه إلى السينما مع عائلته، فاستهل مقالته بالفقرة التالية : كنا ملتمين نطالع أحد الأفلام الأجنبية، أنا وبناتي، وبصراحة مُحلو الواحد يشوف له فيلم وعنده بنت صغيرة مثل بنتي، كل ثلاثين ثانية تسأل . ليش سوَّى هذا جذيه؟ وليش هذي سوّت جذاك؟ هالأسئلة تخلي الواحد يشوف الفيلم أقساط مثل اللي كل ما سألتني بنتي أرد عليها ما اقول لج انتي درسوج انقليزي من أول ابتدائي، والحين انتي بتروحين ثالثه، والمفروض تركزين على الفيلم وتسمعين الحجي وتفهمين... طبعا كلامي ما عجب بنتي النزقه، وبرطمت، وبعدين بجت وبجها غريب عجيب، تقول كميرسير ثلاجه يون. " ( واقع اللغة العربية في وسائل الإعلام - مقال: فهمى هويدى - من كتاب: اللغة العربية إلى أين؟ - المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) - ندوة دولية بالرباط سنة 2002 بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية ).
والمسألة ليست , كما يزعم البعض من ذوى الأغراض الدنيئة أو يتوهم البعض من ذوى النوايا الطيبة , صعوبة اللغة العربية , ولكن هناك عوامل كثيرة - سبق لنا الكلام عنها - جعلت العربية آخر الاهتمامات , أو - إن صح التعبير - لاتشكل مصلحة نفعية بشكل ملموس لدى الكثيرين. ويجيبنا د. عبد الصبور شاهين عن هذا السؤال بقوله:
" وقد نتساءل بعد ذلك عن حقيقة (الفصحى) ما هي ؟ وغاية ما يمكن أن نقوله هو : أنها مستوى من الأداء اللغوي ملتزم بالنمط القرآني، حفاظاً على شكل الكلمة العربية وزناً ومعنى، ووصلاً ووقفاً وضبطاً والتزاماً بالمعجم الذي يشير إلى الجائز والممتنع، مع عدم تجاهل ما أوصت به المجامع العربية اللغوية.
والقرآن الكريم هو دستور اللغة الفصحى المعاصرة، ولاسيما في أدائه المتميز، فيما عدا الالتزام بأحكام تجويده.
ونـحن بهذا التعريف لا نشق على الناطقين بالفصحى، لأن حفظ القرآن يطلق الآلـسنة الحافظة (العربية) بنمط الأداء القرآني دون أدنى مشقة. وللقرآن - كما نعلم - دور في الحفاظ على الفصحى، والإبقاء عليها رغم كل عوامل الإحباط التي تحوطها، حتى لقد كادت أن تتحول إلى لغة خاصة، أو بالأحرى : لغة أرستقراطية، لا يستعملها إلا من تتوفر فيهم مواصفات أدبية وعقدية معينة.
ولعل من عجائب القرآن أن تقوم بحفظ وإتقان أدائه ألسنة أعجمية لم تذق حرفاً عربياً، ومع ذلك نجد أطفالاً وشباباً، ذكوراً وإناثاً يحفظون عن ظهر قلب، بل ويجيدون أداءه بأحكام التجويد، وهم لا يفهمون جملة واحدة من جمله، أو آية من آياته." ( اللغة العربية إلى أين؟ - سبق ذكره ).
إن التمادى فى استخدام اللغات الأجنبية واللغات العامية ( المحلية ) على غير ضرورة , لا يمكن اعتباره, بحال من الأحوال, إلا معاول هدم تريح الأعداء من تكلف عناء الضرب والتمزيق والتفتيت وإثارة النعرات العصبية والاختلاف فى جسم الأمة الاسلامية. وهو ما كان يكلفهم الباهظ من التكليف والعناء . فلماذا يتكلفون وقد قام أبناء الأمة نيابة عنهم بذلك؟؟ .. وقد أصبح المسلمون بهذه الحالة وكأنهم يعتبرون العربية لغة مقصورة على العبادات والشعائر الدينية وتلاوة القرآن الكريم لاغير .
وتلك هى الكارثة الكبرى.
 
لم تكن رحلتنا الطويلة هذه نزهة أو حكاية للتسلية أو الاسترخاء.. إنما هى جولة فى ماضينا , وتفحص فى حاضرنا وواقعنا .. وإن أمة لا تستفيد من حقائق التاريخ لهى أمة ضائعة تائهة. وأمة لاتقرأ ماضيها جيداً , ولا تستنهض العزائم والقوى لتحافظ على ما فيها من مقدرات تبنى بها مستقبلها على أسس من الموضوعية والعمل الجاد على قهر التحديات , بازالتها أو تسخيرها بما يخدم ثوابت تلك الأمة والسمو بها فوق المحن والإحن, لهى أمة ضعيفة متواكلة مهانة, تحتضن عوامل انهيارها وزوالها.
ولئن كنا قد رأينا فيما قلناه مبشرات عديدة لبقاء العربية . فليس من الصواب ولا من الحكمة أن نتقاعس عن العمل. أو أن نغمض أعيننا عما يدور حولنا , آمنين مطمئنين. ونقول لأنفسنا: إن الله جل وعلا قد تكفل بحفظ القرآن الكريم , الذى تبقى العربية ببقائه . ويخطئ من خلط بين حفظ القرآن الكريم , متأولاً قوله تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) , وبين تمكين العربية . فالقول بأن الله عز وجل قد تكفل بحفظ القرآن أمر لاشك فيه , ولا مرد له , ومن المسلمات الإيمانية , ومن أكبر النعم التى أنعم الله تعالى بها على هذه الأمة. أما بقاء العربية كما هى وبخصائصها وسماتها التى نزل بها القرآن وإعلاء شأنها واظهارها والمحافظة على سيادتها وتطويع ألألسنة والأفهام لتعاطى العربية السليمة والتعامل معها وبها , كل هذه أمور تمكين العربية وهى موكولة إلى أهل العربية أنفسهم , فإن هم غفلوا عنها أصابها , ككل كائن حى مايصيبه من وهن وانكسار ومهانة وامراض. فبقاء القرآن برسمه ولفظه وتركيبه باق لا محالة وبلغته العربية ولا شك.. أما إلف ألسنة الناس وأفهامهم لها كما يجب أن تكون , فتلك هى المسألة . ولذا قلنا يجب ألا نخلط بين حفظ القرآن , الذى تكفل الله تعالى به , وبين تمكين العربية سليمة صحيحة الذى وكله الله تعالى إلينا . ثم نتخذ من وعد الحق تبارك وتعالى بحفظ القرآن الكريم - على تأويل أنه تمكين للعربية - تكئة نتكئ عليها , فهذا سوء فهم واضح وتواكل ظاهر, وتمسح بما لم يأت به نص . ولو شاء الواحد الأحد أن يتكفل بتمكين للعربية لفعل , لكننا لم نجد نصاً بوعد بهذا لا فى القرآن الكريم ولا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كما أخبرنا بحفظ القرآن الكريم , فلم يبق إلا أن نتولى الدفاع عن العربية وتمكينها, لا من باب التطوع والاستحباب بل إن هذا الأمر واجب , إذ مالا يقوم الواجب إلا به فهو واجب . وفهم القرآن الكريم والسنة المطهرة والعمل بما فيهما من الواجب الذى به يقوم الدين وبه نصرته واعلاء كلمة الحق تبارك وتعالى , ولا يتم هذا الفهم إلا بفهم العربية الفهم الصحيح. فإذا قصرنا , بعد ذلك فى اعطاء العربية حقها , ثم نأمل بقاء وجودنا وسلامة هويتنا, متجاهلين عوامل النخر والتسوس التى تصيبها ظانين - فى نفس الوقت - أننا أهل القرآن وأنصاره, وأننا أهل لاستعادة التمكين والعزة ونصرة الشرع.فما هذا الظن إلا ضرب من العبث والخيال , وجهل بسنن الله تعالى فى خلقه وبحقائق التاريخ. وتنطوى على شكل من أسوأ أشكال التواكل, ولايتفق وسنة الله تعالى فى خلقه. إن سنة الله تعالى فى خلقه هى كما أخبرنا: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الحج: من الآية40) . فالمسألة تتطلب عزيمة وعمل وصبر كما أمرنا المولى جل وعلا: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ - العنكبوت:69) وقال: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ - آل عمران:142) . فكيف يتحقق لنا استمداد المبادئ والقيم والقواعد التى بها نقيم القرآن وأحكامه وشرائعه على ما أراده الحق تبارك وتعالى وأمرنا به إذا كنا لانفهم ولا ندرك - على الوجه الصحيح - عن الله عز وجل كلامه ولا السنة النبوية المطهرة التى تفسر لنا القرآن وتبين لنا المنهج القويم , وبمعنى آخر إذا كنا لا نملك الوسيلة السليمة إلى هذا الفهم وذلك الادراك, وهى لغة القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم؟؟
إن القراءة بتمعن فيما عرضناه من ماضى الأمة وحاضرها. كيف كانت وإلام صارت . وفى ضوء الدروس المستفادة من هذه الرحلة الطويلة . ليدفع بنا إلى التماس بعض المعالم والأضواء التى بها نستنير نحو اتخاذ الخطوات الصحيحة فى مواجهة التحديات التى تتعرض لها اللغة العربية . ولاينفع فى هذا المقام إلا العمل الجاد . كل حسب قدراته وموقعه , على مستوى الفرد والأسرة والحكومات . ولا يستضغرن واحد من الناس ما يقدمه فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة. - البخارى ومسلم ), وقال تعالى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ - التغابن:من الأية 16 ).. فتضافر الجهود مطلوب , وكل حسبما يسر الله تعالى له .
وأغلب أهل الخطاب فى هذا الغرض يستهلون بما ينبغى على الحكام والحكومات فعله من توصيات واقتراحات . لكنى إذ أرى أحوال الأمة وأفعال حكامها وحكوماتها فى العصر الحالى ل أراه مناسباً البدء بهؤلاء , بل الفرد والأسرة , أى بالرعية اولاً . ذلك أن الأمور الجليلة الشأن فى مصير الأمم لا تتحقق على أرض الواقع بتوجيه الحكام والحكومات إلا إذا تحقق شرطان: الأول فى سمات الحاكم وبطانته, والثانى فى الرعية وموقفها من الحاكم وبطانته. أما عن الشرط الأول: أن يتصف هؤلاء الحكام وبطانتهم - حكوماتهم - بصفات تناسب أوضاع الأمة وقدراتها وتحديات الأهداف المراد تحقيقها . حكام وبطانات فيهم من العدل وعمق الفكر والحكمة وموازنة المصالح وبعد النظر واستشفاف المستقبل وحسن التخطيط للأجيال القادمة . وكما قال المتنبى:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
تلك السجايا فى الحاكم وبطانته التى تجعله يضع نصب عينيه مصالح الأمة ككل , لا فى رقعة جغرافية دون رقعة ولا فى مصر دون مصر ولا فى فئة من الناس دون فئة . ويضع نصب عينيه مصالح الأمة فى المستقبل ككل , ليست نظرة ضيقة آنية تتعلق بواقعه الذى يعيشه وحسب ولا بفترة معينة للحكم راهنة أو لاحقة , وإنما تنصرف إلى مستقبل الأمة وطموحاتها .. كل ذلك مرهون ومقيد بقوله تعالى: ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ - المائدة: من الآية48 ) وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ‏ءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - الأنفال : 27 ) . وأنه دائماً - وبطانته - أسير قوله صلى الله عليه سلم: " وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها ‏وأدى الذي عليه فيها "( مسلم ) .. والخلاصة, أن يكون الحاكم - وبطانته - ذا تجرد تام لعموم الأمة زماناً ومكاناً ..
ولما لم يكن الحاكم - وبطانته - إلا من نسيج الأمة . جاء من رحمها وواحد من أفرادها , فما قلناه لايخرج عموم أفراد الأمة من المساءلة عما عليه الحال , أو يبرئهم مما أصاب الأمة . فكما قيل كل إناء ينضح بما فيه , وما الحاكم والرعية إلا من عصير الشعب وافرازاته , وكما جاء فى الأثر " مثلما تكونوا يول عليكم " .. وقال ابن تيمية : " وقد ذكرت في غير هذا الموضع : أن مصير الأمر إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة والأمراء ؛ ليس لنقص قيهم فقط ؛ بل لنقص في الراعي والرعية جميعاً ؛ فإنه ( كما تكونون : يول عليكم ) وقد قال الله تعالى : ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً " ( الفتاوى ) . وحال الحكام وحكوماتهم اليوم أبسط ما يقال فيه " شر البلية مايضحك " . ومن أبسط الأدلة على ذلك ماآلت إليه أوضاع العباد والبلاد اليوم من تشرذم وتفسخ وتضارب واضطراب . وإنه لمن المضحك المبكى فى آن مانراه فى لقاءاتهم ومؤتمراتهم واجتماعاتهم " الأخوية" و"العروبية" و"الاسلامية" التى تبدأ بالأحضان والقبل , وتنتهى -إن لم يكن بالشقاق والتلاحى - بما صار ديدناً ومتوقعاً " اتفقوا على ألا يتفقوا". حتى أرانى غير بعيد عن الموضوعية إذ أتساءل: أهى منهم مؤتمرات لمصالح الأمة, أم مؤامرات عليها؟
هذا عن الشرط الأول , سمات فى الحاكم وبطانته. وأما عن الشرط الثانى وهو الرعية وموقفها من الحاكم وبطانته. فلابد أن يحوز الحاكم وبطانته رضى الرعية ( الشعوب ) عنه وقناعتها به وبما يأمر وينصح. ألا يكون هناك حاجز فاصل بين الطرفين . أن يكون هناك حب والتفاف حول القائد وزمرته , وحماس وتوقد بشعور مشترك جامع كما هو حال الجيش حين تلهبه حماسة القائد وحين ينصهر الكل كالجسد الواحد فى أتون المعركة. وحال شعوب الأمة اليوم ومشاعرها تجاه قياداتهم من الضعف والارتجالية واللامبالاة بحيث صارت كالمرض العضال المستعصى على العلاج والمداواة.!!.. حتى إن المرء ليحار, أهذه الشعوب قصدت عمداً وبسبق الاصرار أن يكون هذا على ما هو عليه؟ أم أنها استعذبت ذلك واستساغته وتواطأت على الرضى به؟ .. حاكم غير مرغوب فى تصرفاته , ومحكوم راض به؟!!
وافتقاد هذين الشرطين فى الحاكم ذاته وفى المحكوم تجاهه.. هذه الحالة المؤسفة صارت ظاهرة واضحة فى السواد الأعظم للأمة.
ولافتقاد هذين الشرطين على نحو ماذكرت. أرى أن يكون الخطاب معنياً به الأفراد أولاً . الفرد الواحد بنفسه ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ - المدثر:38) والأسرة والتنظيمات المجتمعية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ - التحريم:6)
ومع انتشار الانترنت , كوسيلة اتصال وتبادل للمعلومات , ومع التسارع الرهيب فى عصرنا فى كل شئ, وما يتطلبه ذلك من الميل إلى الأسهل , لأنه غالباً ما يكون الأسرع فى الأداء . فمن الضرورى أن يلتفت شبابنا إلى هذه الثغرة الخطيرة فى استخدام غير العربية الفصحى فى التخاطب وتبادل المعلومات , وإلا ينخدع بأن هذا أسهل فى الكتابة , أو الأفضل عند السامع , أو أن الأجنبية دالة على سعة الثقافة والعلم والتحضر .. إلى آخر هذه الخدع والأوهام .. إن المسألة أبسط بكثير مما يظنه معظم الشباب .. فأنت وما تتمرن عليه وتمارسه وكما قيل: النفس ان ترضعها شبت على حب الرضاع وان تفطمها تنفطم .. فهل من الصعب مثلاً أن نكتب أو نقول: ( أمر ) بدلاً من ( أوردر )؟؟ وهل من الصعب أن تكون ( شكراً ) بدلاً من ( ميرسى )؟؟ , أو أن جملة: ( خللينا نشوف ) هى أفضل من قولك: ( سنرى )؟؟ .. يحسب أحدهم أن طلب التخاطب بالعربية هو طلب أن نتخاطب بالشعر الجاهلى والأدب الجاهلى ,, وليس هذا هو المقصود , إن كان طلبه " كعلم من العلوم " شئ فاضل ومستحب. لكن المراد ألا نطوع الألسنة على العربية المستقيمة , ولئن طوعناها لتطوعت ولا شك . ليكن فى ضمير الشباب أنهم عماد الأمة اليوم ودرع مستقبلها , وأنهم حين يستخدمون العربية إنما يحفظون لأنفسهم هوية الفخار والعزة والتميز. وليس يعيب المرء قصوراً ما بقدر ما يخزيه الفشل التام .
وعلى الشباب أن يرسخوا وعلى كافة المواقع الخطاب بلغتهم العربية قدر الامكان وأن لا تكون كتاباتهم بالعامية ولا المتضمنة لألفاظ غير عربية إلا للضرورة القصوى , خاصة فى المواقع العالمية التى تقبل الحروف العربية مثل اليوتوب وجوؤوجل وميكروسوفت وامثالها . فهذا فيه تنمية لمهارات العربية من جهة وفيه دعوة للآخرين أن يدرسوا لغتنا ويقبلوها ويقبلوا عليها . إن إصرارنا على انتهاج هذا النهج , سيجعل الآخرين أكثر فهماً للغتنا وأكثر تقبلاً لها . ولا شك أن هذا سيسهل تبليغ ما نريدهم أن يعرفوه عنا وعن قضايانا , وما يريدونه منا وما نريده . ومن جهة ثالثة لا نترك الساحة لأعدائنا يصولون فيها ويجولون , يخاطبون العالم بلغاتهم وهم يعلمون أن القوم لن يسمعونا لجهلهم بلغتنا . ولقد ذكرنا فيما سبق كيف ان الله تبارك وتعالى قد أجرى الأقدار فدعت القوم قهراً إلى استخدام العربية , ولسنا قلة بل نحن كثرة لها وزنها .. قال تعالى: ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - آل عمران:139) وقال: ( وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ - محمد: من الآية35) ..
وليس مطلوباً من كل شاب أن يكون فقيهاً لكى يكتب بالعربية .. فليعبر كل منا عن رأيه , وفى أى موضوع شاء بالعربية فهى ليست قاصرة ولا مقصورة على أهل العلم الشرعى ومسائل العبادة والنسك ( راجع ما سردناه من أمثلة علماء المسلمين فى كافة العلوم ), ولا هى قاصرة أو مقصورة على الشعراء وأهل الفكر والفلسفة .. إنما هى لغتنا وشخصيتنا التى أكرمنا الله بها.. فكيف نفرط ؟؟ ولم لا نتقرب إلى الله تعالى باستخدامها وترسيخها ونشرها ؟؟ ولا شك أن سيكون لنا الأجر كلما فعلنا ذلك بقصد خدمة القرآن الكريم .. وكم من عمل يسير ميسور كان فيه من الأجر العظيم . ثم , ماذا سيورث شبابنا لأولاده ؟؟ أنورثهم جهلاً بالقرآن ؟ أنورثهم أن يكونوا نعاجاً فى حظيرة الشرق أو الغرب يسوقونهم إلى حيث يشاؤون وأبناؤنا كالعميان لا يفقهون ولا يبصرون ؟ أنجعلهم كمن عابهم الله تعالى فقال: ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:104) ؟
 


ولست أعنى هنا أن نجهل اللغات الأحنبية , ولا أن نحرم أنفسنا معرفتها . بل الواجب أن نعرفها وندرسها ونتقنها كما يتقنها أهلوها كضرورة من الضروريات الحياتية. ولكن لا لنستخدمها ونلغى العربية , ولا لنستخدم بعضها عوضاً عن بعض العربية . وسبق وقلنا أن هناك من الأحوال ما يجعل تعلم الأجنبية من فروض الكفاية التى يجب أن يقوم بها من المسلمين مايسد هذه الحاجة . بل ولا مانع من تعلم الأجنبية - وكما هو شأن البعض - لمجرد المعرفة أو الهواية , تلك الهواية التى لا تطغى فتصبح عادة وإلف . فالأصل الذى ينبغى أن نكون عليه فى التخاطب هو العربية التى هى هويتنا وشخصيتنا ..
ومن ناحية أخرى , لسنا نتجاهل الكثير من المواقع المتخصصة فى العربية وذات الصلة , ناهيك عن المواقع الاسلامية , التى لابد أن نذكر بالفخر والثناء القائمين عليها. وينبغى فى المواقع والمنتديات المتنوعة تخصيص أقسام لعلوم العربية وهواة الشعر والأدب والنقد .. وهذه ظاهرة أخذت فى الانتشار فى أغلب المنتديات العربية .. وفى هذا الصدد نوجه عناية الشباب المنصرف عن هذه الموضوعات ألا ينصرف عنها بالكلية .. فليجعل لنفسه قسطاً مخصصاً ولو يسيراً من وقته للاطلاع على هذه الشئون لعله مرة بعد مرة يميل شيئاً فشيئاً إلى ذلك , أو على الأقل يحطم غول النفور الذى يحول بينه وبينها , وكم من الشباب يغط فى التافه والضار غطيطاً , وهى ظاهرة مؤسفة , بل ومخجلة حين تتفشى فى شباب أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الملاحظ أيضاً فى مجال الحاسوب هذه الفئة , من ذوى الوعى بأهمية العربية وقدراتها , الذين عملوا على انشاء برامج عربية الصنع , وأولئك الذين يقومون بتعريب مايستطيعون تعريبه من برامج أجنبية . وأذكر بعضاً ممن لهم الريادة فى هذا المجال ممن عرفوا بأسمائهم الحقيقية على شبكة الانترنت أو بالكنية أمثال: عوض الغامدى ود. الحطيب و ضياء العقيلى و أبو هيثم وأبو عبدالعزيز وأبوبندر وغيرهم . اضافة إلى العديد من المواقع العربية المتخصصة فى البرمجيات العربية وتعريب البرامج مثل موقع مركز البرامج العربية والمعربة وموقع شبكة برامج العرب , ومراكز أو أقسام البرامج العربية والمعربة المتفرعة فى بعض المواقع المتنوعة الأقسام. وهى جهود طيبة وتستحق التقدير والاحترام ويكفيها أنها كان لها المبادرة - وأغلبها تطوع - فى خوض هذا المجال . وينبغى أن يكون لها رابطة تجمع تلك الجهود وتضمن لها الدعم المالى والمعرفى اللازم لتنمية أنشطتها وضمان استمرارها. ولعله من المفيد أن ينشأ مواقع متخصصة ينخرط فيها من أهل العلوم المختلفة وذوى الخبرة بالترجمة ليقوموا بترجمة ما يستحدث من مسميات ومصطلحات جديدة بأى لغة إلى العربية , ولا شك أن مثل هذا العمل سييسر الحصول على كم هائل ينفع كل ذى شأن فى مجاله , وسيساعد - مهما قل - ذوى الاختصاص كأساتذة الجامعات ومعدى الرسائل والدراسات العلمية والقواميس وما إلى ذلك.

وفى مجال الأسرة . يجب على الآباء والأمهات أن يرقبوا جيداً أبناءهم وبناتهم وأن ينصحوا لهم نصيحة الخير. وقبل هذا كله يجب أن يتعلموا كيف كان منهج النيى صلى الله عليه وسلم فى تربية الأولاد. وبعد ذلك , من المهم الوعى بأن التنشئة يجب أن تتأسس على إعمال العقل والتفكير المستقيم القائم على التحليل والاستنتاج وعمق النظر. فهذا يحمى أولادنا من أشكال التبعية والانقياد للاتجاهات الضالة المضلة, ويؤصل فيهم الابداع وشجاعة اتخاذ القرار ومناقشة المعروض عليهم من ألوان الفكر والسلوكيات. ويجب ان يرقب الآباء والأمهات تلك الألفاظ التى يستخدمها أولادهم ومدلوها وما تنطوى عليه من مفاهيم . وتوثيق الصلة بين النشئ والكتاب العربى المطبوع الذى هو أصل الاعتياد على العربية . ويجب تعهد الطفل بحب العربية وقراءة قصص السيرة النبوية وسير الأنبياء والصحابة والصالحين وما إلى ذلك مما ينمى لديه مهارات القراءة والكتابة العربية السليمة.

وفى مجال التنظيمات المجتمعية , وأعنى بها المجتمع المدنى , والجمعيات والاتحادات والرابطات والمنتديات ذات الصلة . وجدير بالذكر أن هناك العديد من هذه التنظيمات التى تعتبر ظاهرة إيجابية تستحق التقدير والتحفيز . منها على سبيل المثال ( الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة .. والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وغيرها فى أقطار الوطن العربى )هذه التنظيمات لها دور هام فى توعية الجماهير بأهمية استخدام العربية فى المكاتبات المتداولة والرسائل المتبادلة . وتوجيه عناية أصحاب الأعمال والشركات والأسواق والمحلات وغيرها إلى استخدام الأسماء العربية فى الدعاية والاعلان وواجهات منشآتهم , والمساعدة على انتقاء الأسماء والعبارات المناسبة والابتعاد عن الأجنبية قدر الامكان . كما يمكن لهذه التنظيمات عمل دورات تثقيفية ومسابقات وندوات وتوزيع الكتيبات والمنشورات ذات الصلة . وسيكون لرجال الأعمال دور لا يجهل فى هذا الصدد خاصة من ناحية التمويل , ولهم لتغطية تلك النفقات مثلاً: عقد مسابقات أو ندوات ذات صلة وبرعاية المنشأة المنتجة ترتبط بالمنتج كنوع من الدعاية فى نفس الوقت للمنشأة ومنتجاتها , بدلاً من بعض الدعايات القائمة على المسابقات التافهة التى تقدمها بعض المنشآت على طريقة ( اتصل الآن .. واربح ) ..

أما دور الحكومات والمؤسسات الرسمية . يبرز دور الحكومات فى هذا البمحال تظراً لما لها من سلطان التشريع وامتلاك القدرة الاقتصادية ونفوذ حماية وتدعيم التنظيمات والمؤسسات العاملة . وفى المقدمة ينبغى أن تكون العربية من بين اهتمامات جامعة الدول العربية , ومنظمة المؤتمر الاسلامى . أى أن تحتل هذه المسألة فى جدول أعمالهما ما به يكون عمل مشترك على مستوى الوطن العربى والأمة الاسلامية . بتنسيق مشترك بين مؤسسات دولهما مؤداه تفعيل تبادل الخبرات والدراسات والأفكار والدعم المالى بتنفيذ برامج تمكين العربية فى البلاد الاسلامية مع الأخذ فى الاعتبار الجاليات الاسلامية الموزعة على مستوى بلدان العالم وما يجب أن يتوفر لها فى هذا المجال . وحبذا لو تم انشاء مجمع أو مركز لترجمة المصطلحات الأجنبية ذات الصلة بالعلوم التطبيقية كالكيمياء والطب والفيزياء والصيدلة وغيرها تحت رعاية الجامعة العربية بحيث يتم ترجمة هذه المصطلحات إلى مايقابلها فى العربية التى تملك بخصائصها امكانية الترجمة , أو التعريب فى الحالات التى يتعثر فيها الترجمة . وقد نجد فى الأسس التى وضعها مجمع اللغة العربية في القاهرة فى هذا الشأن فوائد لا تغفل قيمتها انطلاقاً من مزايا العربية من ناحية قدرتها على القياس والاشتقاق وغيره من علوم اللغة المعروفة.
ومن المطلوب أيضاً أن ينتهج المسئولون فى الحكومات استخدام العربية فى المؤتمرات الدولية واللقاءات الإعلامية والمحادثات مع مسئولى الدول الأخرى , فحرى بهذا أن يشعر مستخدمى العربية بالاعتزاز بلغتهم والانتماء لها وكسر الحاجز النفسى بالدونية أمام الأقوى الأحنبى . كما سيكون له قيمته لدى غير أهل العربية بأن يحترموها ومن ثم فلن يكون مقبولاً ألا تحظى إلا بما تحظى به أى لغة أخرى . ولن يكون ذلك بدعاً من البدع , فكم نرى فى وسائل الاعلام من مسئولي دول أجنبية يتحدثون لغاتهم الوطنية . وعلى جانب آخر , يجب مراعاة أن يكون العاملون فى السفارات والقنصليات والبعثات فى دول العالم ممن يتقنون العربية إلى جانب لغة البلد الموفدين إليها , وان يفرضوا التعامل فى المكاتبات ذات الصلة بهم إما باللغة العربية أو باللغتين معاً العربية ولغة البلد التى حلوا بها .

وعلى مستوى النظام التعليمى ففى المقام الأول يجب مراعاة عدم تدريس اللغة الأجنبية للناشئة مادون العاشرة من العمر , أى ما قبل المرحلة الإعدادية إذ المعلوم أن هذا يسبب مزاحمة للعربية فى ذهن الطفل وادراكه اذافة إلى تعرضه لازدواج الشخصية.. وأما فى الجامعات , يتم العمل على استخدام العربية فى كافة الكليات والمعاهد بكافة أنواعها . أما الدول التى أوغلت فى استخدام اللغة الأجنبية ( الانجليزية أو الفرنسية ) فيتم قيها عملية احلال العربية بالتدريج ويوضع لها برامج زمنية حتى يكتمل الهدف . ومن المفيد فى هذه الحالة اصدار تشريعات تتضمن أن تكون رسائل ودراسات الدراجات العلمية ( الماجستير والدكتوراة وما إلى ذلك ) مكتوبة باللغة العربية قدر الامكان , وإن كان لابد من الأجنبية فتكون مصحوبة بنسخة عربية أيضاً .. ومن جهة أخرى يجب اعادة النظر فى مناهج تعليم العلوم الانسانية بوجه عام ( اللغات - التاريخ والجغرافيا - والآداب.. الخ ) بحيث تؤهل قيمنا وعاداتنا التى تتفق وديننا وطبيعتنا وتناسب ظروفنا فى كل مرحلة .. ومن المهم تأهيل المعلمين وتدريبهم , خاصة معلمى العربية , على عدم استعمال اللهجات المحلية أثناء التدريس للتلاميذ والطلاب فى كافة مراحل التعليم. ومن المفيد فى هذا الشأن أن تتولى الهيئات التدريسية فى الجامعات وضع القواميس اللازمة للطلاب المنتمين للكليات العملية التى لاغنى لها عن المصطلحات الأجنية وربما يكون مفيداً لو أنشئ فى كل جامعة قسم للترجمة والتعريب للتسهيل على ذوى الحاجة إلى الرجوع إلى المراجع الأجنبية .

أما من ناحية الاعلام .. فيحضرنى هنا مثال يستحق التأمل .. فقد قامت مصلحة الضرائب المصرية بحملة إعلانية , وعن هذه الحملة قال اشرف العربي - رئيس المصلحة: " الحملة اعلامية تثقيفية قبل ان تكون اعلانية " ( حوار فى جريدة الأهرام الاقتصادي - 15 اكتوبر 2007 - العدد 2023 ) , وهذه الحملة "التثقيفية" الغرض منها بطبيعة الحال تعريف الجمهور بقانون الضرائب الجديد .. وبصرف النظر عن محتوى هذه الحملة وأسلوبها فى الخطاب - فلسنا فى موضع نقد الاعلان - إلا أن اللافت للانتباه تبنى هذه الحملة وسيلة الخطاب باللهجة العامية والحركة المصورة التمثيلية . ولو كان الأمر مقصوراً على السماع لهان الخطب . لكن أن يكون مصحوباً لاكتابة باللهجة العامية فهذا هو الخطب . وكانت الألفاظ المكتوبة من مثل : ( كل ما تقدم الإقرار بدرى ) .. و ( إنت المستفيد ) هكذا : إنت " بالهمزة المكسورة" , ومكتوبة برسم واضح عمداً !!.. و كذا ( إختيارك ) بهمزة مكسورة كسابقتها .. و ( هيكون أقل ) .. وما رأيناه فى حملة الضرائب رأيناه فى حملات أخرى ,, ومثل ذلك فى كثير من وسائل الاعلام العربية فى دول أخرى .. وقد نلتمس شئ من العذر حين يصدر ذلك عن جهة غير رسمية .. أما أن تكون المتزعمة لهذا المنهج هى الدولة , فتلك مصيبة أعظم !! . إن الدولة المنوط بها رعاية امنها القومى هى ذاتها المؤتمنة على أمنها اللغوى باعتباره جزء لا يتجزأ من الأمن القومى . والدولة التى هى القدوة إذا ما انحدرت إلى منبطح الاسفاف والتخبط فى التمييز بين الأهداف وما يناسبها من الوسائل تكون فى حقيقتها دولة غير محددة المعالم أو القدرة على مواجهة أبسط التحديات ناهيك عن العظيمة والمهمة. وكما يقال " يا ملح البلد , ماذا يصلح الملح إذا الملح فسد ؟ "

إن الأمر ليس مجرد لغة .. بل هو أمن قومى وتاريخى .. ولابد فيه من اخلاص النوايا وشد العزائم .. لحماية هويتنا وصيانة شخصيتنا فى المستقبل , ولكى نكون قد أدينا الأمانة كما وصلت إلينا ممن سبقونا , أو على الأقل أقرب ما تكون كما وصلت إلينا , فيستلمها من بعدنا من يتولاها ويرعاها حق رعايتها . ولا مكان هنا للانهزام النفسى أو التكاسل أو التمحل بالغث من القول أو التافه من التبرير , أو دوافع الهوى والنفعية الآنية التى لا تسمن ولاتغنى من جوع .. ولا بد من توافر النوايا الخالصة لله وحده الذى بيده مقادير الأمور , وكما قال صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " ( البخاري و مسلم ) .. ولا مجال للتمسح بما قد يقال إنه الزمان - أو الظروف - الذى يفرض علينا واقعاً لابد وأن نقبله . فإن الله وحده تبارك وتعالى خالق الزمان والمكان هو الذى أمرنا وكلفنا وهو أعلم وعليه وحده لاشريك له القصد والتكلان . وقال الامام الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا

هذا ما منّ به الرحمن عز وجل .. بعونه وتوفيقه.
وهو جهد المقل .. فإن أصبت بتوفيق منه جل فى علاه .. وإن أخطأت فمن نفسى والشيطان ..
وكان الفراغ منه يوم الخميس الموافق الوقوف بعرفة من العام 1430 هـ - 26 نوفمبر 2009م
وكتبه العبد الفقير إلى ربه:
سعد أبو المعاطى


تم بحمد الله تبارك وتعالى

ودى واحترامى

 
عودة
أعلى