[FONT=MCS Taybah S_U normal.]تحرير الإسلام للعقل من سلطان الخرافة والأوهام[/FONT]
د. حسن سالم الدوسي
كانت العرب خاصة والأمم عامة قبل الإسلام رهينة الأساطير والخرافات والأوهام حيث عمَّت أرجاء الأرض حتى لم يسلم منها شعب من الشعوب، وانسجاماً مع سلطان الأسطورة ظن العرب - في بداية الأمر - أنّ القرآن الكريم ضرب من هذه الأساطير.{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(الفرقان:5).{وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} .(النحل:24).
فلما جاء الإسلام - بهديه وجدله القرآني - حرّر العقلَ من سلطان الخرافة والأساطير؛ وبيَّن لهم أنّ الأساطير خيال كاذب، وخرافة باطلة، أما القرآنُ فليس أساطيراً، وإنما هو نورٌ وهدى ومنهج وفرقان ورحمة وشفاء لما في الصدور.{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } "(يونس:57).{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (المائدة:15). {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203).{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف:111).
كما أطلق الإسلامُ العقلَ من إسار الأوهام والتشاؤم، فقد أخرج أبو داود عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "الطِّيَرَةُ[1] شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ثَلاثًا"[2]. وأخرج البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَصَابَنَا مَطَرٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَبِرِزْقِ اللَّهِ وَبِفَضْلِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ كَافِرٌ بِي"[3].
ومن هنا حرّم الإسلام الكهانة والشعوذة وغيرها من أساليب الدجل والخرافة، لحفظ العقول من الانحرافات الفكرية والعقائدية، ومنَع من إتيان الكهان، وسؤال المنجمين والعرافين وتصديقهم في قولهم[4]، وفي هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا[5] فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً"[6].
كما حرّم الإسلام السحر لأنه يضر ولا ينفع، ويفتن الناس في دينهم، ويضرهم في عقولهم وأبدانهم وفي علاقاتهم الأسرية والاجتماعية، فقال الله تعالى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه:69). وقال سبحانه وتعالى:{ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } (البقرة:102).
وأخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ"[7].
كذلك أفتى بعض الفقهاء بجواز قتل الساحر المُضِرّ، لأنه يفتن الناس في دينهم ويضرّهم في عقولهم وأبدانهم، فيُتحمل الضرر الأخص لدفع الضرر الأعم[8]. وهذه قاعدة مهمة من قواعد الشرع، استخرجها الفقهاء من النصوص التشريعية المتكاثرة من الكتاب والسنة وهي تجري في كل مسألة تتراوح بين ضررين خاص وعام، وقد وردت في "تيسير التحرير" بالصيغة التالية: "دفع الضرر العام واجب بإثبات الضرر الخاص"[9]. وهذه القاعدة مقيِّدة لقولهم: "الضرر لا يُزال بمثله أو أكبر منه"، لأنه لو أزيل الضرر بضرر مثله أو أكبر منه لما صدق هذا على القاعدة الفقهية "الضرر يزال"[10]. وينبني على هذه القاعدة كثير من الأحكام الفقهية.
قال النووي: "عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات .. وأما تعلمه وتعليمه فحرام .. وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب، بل يتحتم قتله كالزنديق، قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين"[11].
كما إنّ القرآن الكريم حارب الكذب والوهم، ومنع على العقل الخوض في الغيبيات من غير سلطان أو علم يأتيه من الوحي المنزل على الأنبياء، واعتبر ذلك مسبباً في هدر طاقته من غير طائل.{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام:116). {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (غافر:56).
[1]- الطيرة: التشاؤم الذي يصد صاحبه عن العمل.
[2]- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في الطيرة، رقم 3910 ترقيم محيي الدين. والحديث صححه الشيخ ناصر الألباني.((انظر: الشيخ ناصر الألباني: صحيح سنن أبي داود، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط1، 1409 هـ/1989م، 1/740، رقم الحديث 3309)).
[3]- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم 4147 ترقيم فتح الباري.
[4]- وبالمناسبة لوحظ في الآونة الأخيرة في بلدنا هذا انتشار كتب السحر والشعوذة والكهانة في الأسواق العامة والشعبية وعلى أرصفة الشوارع بصورة غير مسبوقة، ويقبل عليها الجهلة من الناس والشباب غير المدركين لخطورة هذه الكتب وضررها.
[5]- العراف: كاهن يدعي كذباً معرفة الغيب.
[6]- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام رقم 2230 ترقيم عبد الباقي.
[7]- أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب رمي المحصنات، رقم 6857 ترقيم فتح الباري، وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه. (النووي: المنهاج، كتاب الإيمان). والموبقات: الذنوب المهلكة. قال المهلب: سميت بذلك لأنها سبب لإهلاك مرتكبها. قلت والمراد بالموبقة هنا الكبيرة (ابن حجر: فتح الباري، كتاب الطب).
[8]- الأتاسي، محمد طاهر، محمد خالد: شرح المجلة، مطبعة حمص، ط1، 1349هـ/1930م، 1/67. والحسيني، محمد أمين المعروف بأمير بادشاة: تيسير التحرير شرح كتاب التحرير في أصول الفقه، الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية لابن الهمام، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط1، 1350هـ، 2/301.
[9]- الحسيني، محمد أمين المعروف بأمير بادشاة: تيسير التحرير، مرجع سابق، 2/301.
[10]- ولذلك لا يجوز للمضطر أن يأكل طعام مضطر آخر، ولا قتل ولده ولا عبده، ولا قطع فلذة من نفسه إن كان الخوف من القطع كالخوف من ترك الأكل أو أكثر (السيوطي، جلال الدين: الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1403هـ/1983م، ص86).
[11]- ابن حجر: فتح الباري، كتاب الطب. وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها.