فإما أن يطلق لها العنان تسبح أين شاءت وكيف شاءت، بلا حدود توقفها، ولا روادع تردعها، من دين أو خلق أو عرف. كما هو الشأن في المذاهب الإباحية التي لا تؤمن بالدين، ولا بالفضيلة. وفي هذا الموقف انحطاط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان. وإفساد للفرد والأسرة، وللجماعة كلها.
وإما أن يصادمها ويكبتها. كما هو الشأن في مذاهب التقشف والحرمان والتشاؤم كالمانوية والرهبانية ونحوهما. وفي هذا الموقف وأد للغريزة، وتعطيل لعملها، ومنافاة لحكمة من ركبها في الإنسان وفطره عليها، ومصادمة لسنة الحياة التي تستخدم هذه الغرائز لتستمر في سيرها.
وإما أن يضع لها حدودا تنطلق في داخلها، وضمن إطارها، دون كبت مرذول، ولا انطلاق مجنون. كما هو الشأن في الأديان السماوية، التي حرمت السفاح، وشرعت النكاح -الزواج- وخصوصا الإسلام الذي اعترف بالغريزة، فيسر سبيلها من الحلال، ونهى عن التبتل واعتزال النساء، كما حرم الزنى وملحقاته ومقدماته أشد التحريم.
وهذا الموقف هو العدل والوسط.. فلولا شرع الزواج ما أدت الغريزة دورها في استمرار بقاء الإنسان.. ولولا تحريم السفاح وإيجاب اختصاص الرجل بامرأة ما نشأت الأسرة التي تتكون في ظلالها العواطف الاجتماعية الراقية من مودة ورحمة وحنان وحب وإيثار، ولولا الأسرة ما نشأ المجتمع ولا أخذ طريقه إلى الرقي والكمال.
ولا عجب إذا رأينا الأديان السماوية كلها مجمعة على تحريم الزنى ومحاربته. وآخرها الإسلام الذي شدد النهي عنه والتحذير منه لما يؤدي إليه من اختلاط الأنساب، والجناية على النسل، وانحلال الأسر، وتفكك الروابط، وانتشار الأمراض (السارية) وطغيان الشهوات وانهيار الأخلاق، وصدق الله (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) سورة الإسراء:32. والإسلام -كما عرفنا- إذا حرم شيئا سد الطرق الموصلة إليه، وحرم كل ما يفضي إليه من وسائل ومقدمات. فما كان من شأنه أن يستثير الغرائز الهاجعة، ويفتح منافذ الفتنة على الرجل أو المرأة، ويغري بالفاحشة أو يقرب منها أو ييسر سبيلها فإن الإسلام ينهي عنه ويحرمه سدا للذريعة ودرءا للمفسدة.
ومن هذه الوسائل التي حرمها الإسلام: خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه. وهي التي لا تكون زوجة له ولا إحدى قريباته التي يحرم عليه زواجها حرمة مؤبدة، كالأم والأخت والعمة والخالة -كما سنذكر بعد-. وليس هذا فقدانا للثقة بهما أو بأحدهما، ولكنه تحصين لهما من وساوس السوء، وهواجس الشر، التي من شأنها أن تحوك في صدريهما، عند التقاء فحولة الرجل بأنوثة المرأة، ولا ثالث بينهما. وفي هذا قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان". وفي تفسير قوله تعالى في شأن نساء النبي: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) سورة الأحزاب:53. يقول الإمام القرطبي: "يريد: من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي أن ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة أقوى في الحماية. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته". ويحذر الرسول هنا تحذير خاصا من خلوة المرأة بأحمائها (أقارب زوجها) كأخيه وابن عمه؛ لما يحدث عادة من تساهل في ذلك بين الأقارب، قد يجر أحيانا إلى عواقب وخيمة، لأن الخلوة بالقريب أشد خطرا من غيره، والفتنة به أمتن، لتمكنه من الدخول إلى المرأة من غير نكير عليه، بخلاف الأجنبي. ومثل ذلك أقارب الزوجة من غير محارمها كابن عمها وابن خالها وابن خالتها، فلا يجوز لأحد منهم الخلوة بها. قال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو ؟ قال: الحمو الموت". وحمو المرأة: أقارب زوجها. يعني أن في هذه الخلوة الخطر والهلاك؛ هلاك الدين إذا وقعت المعصية، وهلاك المرأة بفراق زوجها إذا حملته الغيرة على تطليقها، وهلاك الروابط الاجتماعية إذا ساء ظن الأقارب بعضهم ببعض. وليس مثار هذا الخطر هو الغريزة البشرية، وما تجلبه من خواطر وانفعالات فحسب، بل يضاف لذلك الخوف على كيان الأسرة ومعيشة الزوجين وأسرارهما أن تتطاول إليها ألسنة الثرثارين والفضوليين أو هواة تخريب البيوت. وفي ذلك يقول ابن الأثير: (الحمو الموت) هذه كلمة تقولها العرب، كما تقول (الأسد الموت) و (السلطان النار) أي لقاؤهما مثل الموت والنار، يعني أن خلوة الحمو معها أشد من خلوة غيره من الغرباء، لأنه ربما حسن لها أشياء، وحملها على أمور تثقل على الزوج، من التماس ما ليس في وسعه، أو سوء عشرة، أو غير ذلك. ولأن الزوج لا يؤثر أن يطلع الحمو على باطن حاله، بدخول بيته.
ومما حرمه الإسلام -في مجال الغريزة الجنسية- إطالة النظر من الرجل إلى المرأة ومن المرأة إلى الرجل. فإن العين مفتاح القلب، والنظر رسول الفتنة، وبريد الزنى. وقديما قال الشاعر:
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كل الحوادث مبداها من النظر
وحديثا قال آخر:
فكلام فموعد فلقاء
نظرة فابتسامة فسلام
لهذا وجه الله أمره إلى المؤمنين والمؤمنات جميعا بالغض من الأبصار، مقترنا بأمره بحفظ الفروج: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن..) سورة النور:30-31. وفي هاتين الآيتين عدة توجيهات إلهية منها توجيهان يشترك فيهما الرجال والنساء جميعا وهما الغض من البصر، وحفظ الفرج، والباقي موجه إلى النساء خاصة. ويلاحظ أن الآيتين أمرتا بالغض من البصر لا بغض البصر، ولم تقل: "ويحفظوا من فروجهم" كما قالت (يغضوا من أبصارهم) فإن الفرج مأمور بحفظه جملة دون تسامح في شيء منه. أما البصر فقد سمح الله للناس بشيء منه رفعا للحرج، ورعاية للمصلحة كما سنرى. فالغض من البصر ليس معناه إقفال العين عن النظر، ولا إطراق الرأس إلى الأرض، فليس هذا بمراد ولا مستطاع. كما أن الغض من الصوت في قوله تعالى: (واغضض من صوتك) سورة لقمان:19، ليس معناهإغلاق الشفتين عن الكلام، وإنما معنى الغض من البصر خفضه، وعدم إرساله طليق العنان يلتهم الغاديات والرائحات أو الغادين والرائحين. فإذا نظر إلى الجنس الآخر لم يغلغل النظر إلى محاسنه، ولم يطل الالتفات إليه والتحديق به. ولهذا قال الرسول عليه السلام لعلي بن أبي طالب: "يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة". وقد جعل النبي عليه السلام النظرات الجائعة الشرهة من أحد الجنسين إلى الآخر زنى للعين، فقال: "العينان تزنيان وزناهما النظر". وإنما سماه (زنى) لأنه ضرب من التلذذ والإشباع للغريزة الجنسية بغير الطريق المشروع. ويطابق هذا ما جاء في الإنجيل عن المسيح عليه السلام: "لقد كان من قبلكم يقولون لا تزن وأنا أقول لكم: من نظر بعينه فقد زنى". إن هذا النظر المتلذذ الجائع ليس خطرا على خلق العفاف فحسب، بل هو خطر على استقرار الفكر، وطمأنينة القلب الذي يصاب بالشرود والاضطراب. قال الشاعر:
والله حرام عليك تضحك على الناس وتديهم عرض بدل اللعبه ياخ راعي ان الناس بتعد ايام تنزل اللعبه وانت كدا بتضيع مصداقية المنتدى لانك مشرف عليه واخيرا الله لا يسامحك