۩ ۩ ۩ مواقف مشرقة من تاريخ أمتنا ( 14 ) ۩ ۩ ۩

الموضوع في 'المنتدى الإسلامي' بواسطة أبو قصي, بتاريخ ‏ديسمبر 29, 2007.

  1. أبو قصي

    أبو قصي ضيف شرف إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏أغسطس 15, 2007
    المشاركات:
    7,180
    الإعجابات المتلقاة:
    3,000
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    مكان الإقامة:
    مصر


    ( 14 ) من روائع عطاء بن أبي رباح
    -----------------------------------
    ( ما رأيت أحداً يريد بالعلم وجه الله عز وجل
    غير هؤلاء الثلاثة : عطاء .. وطاووس .. ومجاهد )
    " سلمة بن كهيل "
    ------------------------------------------

    ها نحن أولاء في العشر الأخير من شهر ذي الحجة سنة سبع وتسعين للهجرة وهذا البيت العتيق يموج بالوافدين على الله من كل فج عميق ، مشاة وركباناً ، وشيوخاً وشباناً ، ورجالاً ونساءً ، فيهم الأسود والأبيض ، والعربي والعجمي ، والسيد والمسود ...
    لقد قدموا جميعاً على ملك الناس .. محبين ملبيين ، راجين مؤملين ...
    وهذا سليمان بن عبد الملك خليفة المسلمين ، وأعظم ملوك الأرض يطوف بالبيت العتيق ، حاسر الرأس حافي القدمين ليس عليه إلا إزار ورداء ...
    شأنه في ذلك كشأن بقية رعاياه من إخوته في الله ...
    وكان من خلفه ولداه ، وهما غلامان كطلعة البدر بهاءً ورواءً ، وكأكمام الورد نضارة وطيباً ...

    وما إن انتهى من طوافه حتى مال على رجل من خاصته وقال : أين صاحبكم ؟؟
    فقال : إنه هناك قائم يصلي , وأشار بيده إلى الناحية الغربية من المسجد الحرام فاتجه الخليفة ومن وراءه ولداه إلى حيث أشير إليه ...
    وهمّ رجال الحاشية بأن يتبعوا الخليفة ليفسحوا له الطريق ، ويدفعوا عنه أذى الزحام فثناهم عن ذلك وقال : هذا مقام يستوي فيه الملوك والسوقة ...
    ولا يفضل منه أحدُُ أحداً إلا بالقبول والتقوى ...
    ورُبَّ أشعث أغبر قدم على الله ، فتقبله بما لم يتقبل به الملوك ...
    ثم مضى نحو الرجل ، فوجده ما يزال داخلاً في صلاته ، غارقاً في ركوعه وسجوده والناس جلوسُُ وراءه ، وعن يمينه وعن شماله ...
    فجلس حيث انتهى به المجلس وأجلس معه ولديه ...
    وطفق الفتيان القرشيان يتأملان ذلك الرجل الذي قصده أمير المؤمنين ، وجلس مع عامَّة الناس ينتظر فراغه من صلاته ...
    فإذا هو شيخ حبشي ، أسود البشرة ، مفلفل الشعر ، أفطس الأنف ...

    ولما انتهى الرجل من صلاته ، مال بشقه على الجبهة التي فيها الخليفة ، فحياه سليمان بن عبد الملك فرد التحية بمثلها ...
    وهنا أقبل عليه الخليفة ، وجعل يسأله عن مناسك الحج منسكاً منسكاً ؟؟
    وهو يفيض بالإجابة عن كل مسألة ويفصل القول فيها تفصيلا لا يدع سبيلا لمستزيد ، ويسند كل قولٍ يقوله إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ...
    ولما انتهى الخليفة من مساءلته جزاه خيرا ً، وقال لولديه : قوما ...
    فقاما ... ومضى الثلاثة نحو المسعى ...
    وفيما هم في طريقهم إلى السعي بين الصفا والمروة ، سمع الفتيان المنادين ينادون : يا معشر المسلمين ، لا يفتي الناس في هذا المقام إلا عطاء بن أبي رباح فإن لم يوجد فعبد الله بن أبى نجيح ...
    فالتفت أحد الغلامين إلى أبيه وقال :
    كيف يأمر عامل أمير المؤمنين الناس بألا يستفتوا أحداً غير عطاء بن أبى رباح وصاحبه ...
    ثم جئنا نحن نستفتي هذا الرجل الذي لم يأبه للخليفة ، ولم يوفه حقه من التعظيم ؟؟
    فقال سليمان لولده : هذا الذي رأيت يا بنى ورأيت ذلنا بين يديه هو عطاء بن أبي رباح ...
    صاحب الفتيا في المسجد الحرام ...
    ووارث عبد الله بن عباس في هذا المنصب الكبير ...
    ثم أردف يقول : يا بني ، تعلموا العلم ، فبالعلم يشرف الوضيع ، وينبه الخامل ويعلو الأرقاء على مراتب الملوك ...

    لم يكن سليمان بن عبد الملك مبالغاً فيما قاله لابنه في شأن العلم ، فقد كان عطاء في صغره عبداً مملوكاً لامرأة من أهل مكة ....... ( ** )

    ----------------------------------------------------------
    المصدر ( صور من حياة التابعين / عبد الرحمن رأفت الباشا )


    ( ** ) إن كان في العمر بقية نستكمل معاً هذه الصور والمواقف الرائعة من حياة التابعين بإذن الله بعد رؤية بعض مداخلاتكم ومشاركاتكم ...
     
  2. ابو ابراهيم

    ابو ابراهيم مشرف كليه الطب إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏مارس 28, 2007
    المشاركات:
    8,981
    الإعجابات المتلقاة:
    4,438
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    الوظيفة:
    Family doctor)General practitioner)
    بارك الله فيك اخي قصي
     
  3. Alhashemiah

    Alhashemiah مشرفة بالمنتدى ملكة كتاب العرب إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏أغسطس 15, 2007
    المشاركات:
    11,151
    الإعجابات المتلقاة:
    3,471
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    أنثى
    الوظيفة:
    دكتوراه في الكيمياء
    مكان الإقامة:
    KSA
    بارك الله فيك اخي ابوقصي
    على السلسلة الممتعة والرائعة ..حقا

    [​IMG]
     
  4. muslima

    muslima مشرفة الهندسة المدنية والمعمارية والمختارات الأدبي إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏يوليو 2, 2007
    المشاركات:
    3,694
    الإعجابات المتلقاة:
    1,505
    نقاط الجوائز:
    128
    الوظيفة:
    مهندسة مدني
    مكان الإقامة:
    Gaza -Palestine
    جزاك الله خير أبو قصي على هده الروائع
    دمت بخير
    و ننتظر بشغف المزيد منها بادن الله ... ​
     
  5. أبو قصي

    أبو قصي ضيف شرف إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏أغسطس 15, 2007
    المشاركات:
    7,180
    الإعجابات المتلقاة:
    3,000
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    مكان الإقامة:
    مصر
    وأنت بارك الله فيك أخي الحبيب أبو ليندا ...
    أشكرك جزيلاً على مرورك الكريم وتشريفك العطر ...
    مع أرق تحياتي !!..
     
  6. أبو قصي

    أبو قصي ضيف شرف إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏أغسطس 15, 2007
    المشاركات:
    7,180
    الإعجابات المتلقاة:
    3,000
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    مكان الإقامة:
    مصر
    وأنت بارك الله فيك أختي الفاضلة مريم ...
    كل الشكر لك على مرورك العطر وتشريفك الندي ومتابعتك المستمرة ...
    ماذا فعلت في مشكلة كتاب ( صور من حياة التابعين ) ؟؟
    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقك من خيري الدنيا والآخرة بغير حساب ...
    دمت بكل خير !!..
     
  7. أبو قصي

    أبو قصي ضيف شرف إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏أغسطس 15, 2007
    المشاركات:
    7,180
    الإعجابات المتلقاة:
    3,000
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    مكان الإقامة:
    مصر
    وأنت جزاك الله كل خير أختي الفاضلة مسلمة ...
    أشكرك جزيلاً على تشريفك الدائم وعلى متابعتك وتشجيعك المستمرين ...
    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن عليك بالأمن والأمان والإطمئنان وراحة البال ...
    تقبلي أرق تحياتي !!..
     
  8. محمد شتيوى

    محمد شتيوى مستشار سابق

    إنضم إلينا في:
    ‏مايو 12, 2006
    المشاركات:
    5,254
    الإعجابات المتلقاة:
    1,691
    نقاط الجوائز:
    128
    بارك الله فيك
     
  9. أبو قصي

    أبو قصي ضيف شرف إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏أغسطس 15, 2007
    المشاركات:
    7,180
    الإعجابات المتلقاة:
    3,000
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    مكان الإقامة:
    مصر
    وأنت بارك الله فيك أخي الحبيب محمد شتيوي ...
    أشكرك جزيلاً أخي الغالي ...
    ومعذرة لتأخري في الرد ...
    دمت بكل خير !!..
     
  10. محمد شتيوى

    محمد شتيوى مستشار سابق

    إنضم إلينا في:
    ‏مايو 12, 2006
    المشاركات:
    5,254
    الإعجابات المتلقاة:
    1,691
    نقاط الجوائز:
    128
    أتعلم ؟
    لقد افتقدناك فعلا ..
     
  11. أبو قصي

    أبو قصي ضيف شرف إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏أغسطس 15, 2007
    المشاركات:
    7,180
    الإعجابات المتلقاة:
    3,000
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    مكان الإقامة:
    مصر
    أشكرك جزيلاً حبيبي الغالي على هذه المشاعر النبيلة والعميقة الدلالة والمعنى ...
    صدقني يا حبة الفؤاد كنت أتابع المنتدى من جهاز آ خر غير جهازي وكلي أسى وحزن على بعدي عنكم .. ولكن ما باليد حيلة أخي الغالي فقد آثرت السلامة للجميع ...
    لأن شرذمة من أحفاد القردة والخنازير تمكنوا في الأيام الماضية من إختراق جهازي ، وكانوا على وشك تدميره كلياً لولا أنَّ الكريم الحفيظ سلَّم وتنبهنا لما يحدث في الوقت المناسب ...
    وطبعاً تم عمل اللازم وتم إعادة فحص الجهاز مجلد مجلد وملف ملف ...
    والحمد لله لا توجد خسائر على الإطلاق بفضل الله سبحانه وبحمده !! ولكن ...
    يبقى الدرس والعبرة والنصيحة لنفسي ولجميع أحبابي في المنتدى :
    فمما ساعدني كثيراً في التغلب على ما حدث أنني كنت أحتفظ بنسخ من معظم ملفاتي المهمة خارج الجهاز تماماً مما شجعني على إزالة ( عمل فورمات ) لأي جزء من القرص الصلب تمكنوا من زرع ملف تجسس به...
    والحمد لله أولاً وأخيراً ...
    معذرة إذا كنت أثقلت عليك ياحبيبي الغالي ...
    دمت بكل خير !!..
     
  12. أبو قصي

    أبو قصي ضيف شرف إداري

    إنضم إلينا في:
    ‏أغسطس 15, 2007
    المشاركات:
    7,180
    الإعجابات المتلقاة:
    3,000
    نقاط الجوائز:
    128
    الجنس:
    ذكر
    مكان الإقامة:
    مصر
    والآن نستكمل سوياً روائع عطاء بن رباح ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ :

    لم يكن سليمان بن عبد الملك مبالغاً فيما قاله لابنه في شأن العلم ...
    فقد كان عطاء في صغره عبداً مملوكاً لامرأة من أهل مكة ...
    غير أن الله عز وجل أكرم الغلام الحبشي بأن وضع قدميه منذ نعومة أظفاره في طريق العلم ...
    فقسم وقته أقساماً ثلاثة :
    قسم جعله لسيدته يخدمها فيه أحسن ما تكون الخدمة ويؤدي لها حقوقها عليه أكمل ما تؤدى الحقوق ...
    وقسم جعله لربه يفرغ فيه لعبادة أصفى ما تكون العبادة وأخلصها لله عز وجل ...
    وقسم جعله لطلب العلم ...
    حيث أقبل على من بقى حياً من صحابة رسول الله وطفق رضي الله عنه ينهل من مناهلهم الثروة الصافية ...
    فأخذ عن أبي هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، حتى امتلأ صدره علماً وفقهاً ورواية عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ...

    ولما رأت السيدة المكية أن غلامها قد باع نفسه لله ...
    ووقف حياته على طلب العلم ، تخلت عن حقها فيه ، وأعتقت رقبته تقرباً لله عز وجل ، لعل الله ينفع به الإسلام والمسلمين ...

    ومنذ ذلك اليوم اتخذ عطاء البيت الحرام مقاماً له ...
    فجعله داره التي يأوى إليها ...
    ومدرسته التي يتعلم فيها ...
    ومصلاه الذي يتقرب فيه إلى الله بالتقوى والطاعة ...
    حتى قال المؤرخون : كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح نحواً من عشرين عاماً ...

    وقد بلغ عطاء بن أبي رباح منزلة في العلم فاقت كل تقدير ...
    وسما إلى مرتبة لم ينلها إلا نفرُُ قليل من معاصريه ...
    فقد روي أن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه وعن أبيه ـ أمّ مكة معتمراً ، فأقبل الناس عليه يسألونه ويستفتونه فقال :
    ( إني لأعجب لكم يا أهل مكة ، أتجمعون لي المسائل لتسألوني عنها وفيكم عطاء بن أبي رباح ) ...
    وقد وصل عطاء بن أبي رباح ما وصل إليه من درجة في الدين والعلم بخصلتين :

    أولاهما : أنه أحكم سلطانه على نفسه فلم يدع لها سبيلاً لترتع فيما لا ينفع ...

    وثانيهما : أنه أحكم سلطانه على وقته فلم يهدره في فضول الكلام والعمل ...

    حدّث محمد بن سوقة جماعة من زواره قال : [ ألا أسمعكم حديثاً لعله ينفعكم كما نفعني ؟؟ قالوا : بلى .. قال : نصحني عطاء بن أبي رباح ذات يوم فقال :
    يا ابن أخي إن الذين من قبلنا كانوا يكرهون فضول الكلام ...
    فقلت : وما فضول الكلام عندهم ؟؟
    فقال : كانوا يعدون كل كلام فضولاً ، ما عدا كتاب الله عز وجل أن يقرأ ويفهم ، وحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يروى ويدرى ...
    أو أمراً بمعروف ونهياً عن منكر ...
    أو علماً يتقرب به إلى الله تعالى ...
    أو أن تتكلم بحاجتك ومعيشتك التي لابد لك منها ...
    ثم حدق إلى وجهي وقال :
    أتنكرون : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ ) ...
    وأن مع كل منكم ملكين : ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ...
    ثم قال : أما يستحى أحدنا لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره فوجد أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ، ولا أمر دنياه ] ...
    ولقد نفع الله عز وجل بعلم عطاء طوائف كثيرة من الناس ...
    منهم أهل العلم المتخصصون ، ومنهم أرباب الصناعات المحترفون ، ومنهم غير ذلك ...

    حدّث الأمام أبو حنيفة النعمان عن نفسه قال : [ أخطأت في خمسة أبواب من المناسك بمكة فعلمنيها حجام ، وذلك أنى أردت أن أحلق لأخرج من الإحرام ، فأتيت حلاقاً وقلت : بكم تحلق لي رأسي ؟؟
    فقال : هداك الله ...
    النسك لا يشارط فيه ...
    اجلس وأعط ما يتيسر لك ...
    فخجلت وجلست ...
    غير أني جلست منحرفاً عن القبلة ، فأومأ إلي بأن أستقبل القبلة ففعلت ...
    وازددت خجلاً على خجلي ...
    ثم أعطيته رأسي من الجانب الأيسر ليحلق ...
    فقال : أدر شقك الأيمن ، فأدرته وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت وأنظر إليه وأعجب منه ...
    فقال لي : مالي أراك ساكتاً ؟؟ كبّر !!
    فجعلت أكبّر حتى قمت لأذهب ، فقال : أين تريد ؟؟
    فقلت: أريد أن أمضي إلى رحلي ...
    فقال : صل ركعتين ، ثم امضي إلى حيث تشاء ...
    فصليت ركعتين ، وقلت في نفسي : ما ينبغي أن يقع مثل هذا من حجَّام إلا إذا كان ذا علم ...
    فقلت له : من أين لك ما أمرتني به من المناسك ؟؟
    فقال : لله أنت .. لقد رأيت عطاء بن أبي رباح يفعله ، فأخذته عنه ، ووجهت إليه الناس ] ...

    ولقد أقبلت الدنيا على عطاء ، فأعرض عنها أشد الإعراض ، وأباها أعظم الإباء ...
    وعاش عمره كله يلبس قميصاً لا يزيد ثمنه على خمسة دراهم ...
    ولقد دعاه الخلفاء إلى مصاحبتهم .. فلم يجب دعوتهم، لخشيته على دينه من دنياهم ...
    لكنه مع ذلك كان يفد عليهم إذا وجد في ذلك فائدة للمسلمين أو خيراً للإسلام ...

    من ذلك ما حدّث به عثمان بن عطاء والخراساني قال :
    [ انطلقت مع أبي زيد هشام بن عبد الملك ، فلما غدوناً قريباً من دمشق إذ نحن بشيخ على حمار أسود ، عليه قميص صفيق أي خشن كثيف النسج وجبة باليه ، وقلنسوة ( غطاء الرأس ) لاصقة برأسه ، وركاباه من خشب فضحكت منه ، وقلت لأبى : من هذا ؟؟
    فقال : اسكت ، هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح ...
    فلما قرب منا نزل أبي عن بغلته ونزل هو عن حماره ، فاعتنقا وتساءلا ثم عادا فركبا ... وانطلقا حتى وقفا على باب قصر هشام بن عبد الملك ...
    فما إن استقر بهما الجلوس حتى أذن لهما ...
    فلما خرج أبي قلت له : حدثني بما كان منكما ...
    فقال : لما علم هشام أن عطاء بن أبي رباح بالباب ، بادر فأذن له والله ما دخلت إلا بسببه ...
    فلما رآه هشام قال : مرحباً .. مرحباً .. ها هنا، ها هنا ..
    ولازال يقول له : ها هنا ها هنا ، حتى أجلسه معه على سريره ، ومس بركبته ركبته ...
    وكان في القوم أشراف الناس ، وكانوا يتحدثون فسكتوا ...
    ثم أقبل عليه هشام وقال : ما حاجتك يا أبا محمد ؟؟
    قال : يا أمير المؤمنين أهل الحرمين .. أهل الله وجيران رسوله ، تقسم عليهم أرزاقهم وأعطياتهم ...
    فقال : نعم ...
    يا غلام اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم وأرزاقهم لسنة ...
    ثم قال : هل من حاجة غيرها يا أبا محمد ؟؟
    قال : نعم يا أمير المؤمنين .. أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب ، وقادة الإسلام ، ترد فيهم فضول صدقاتهم ...
    فقال : نعم ...
    يا غلام اكتب بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم ...
    هل من حاجة غير ذلك يا أبا محمد ؟؟
    قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أهل الثغور يقفون في وجوه الأعداء ، ويقتلون من رام المسلمين بشر ، تجري عليهم أرزاقاً تدرها عليهم .. فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور ...
    فقال : نعم ...
    يا غلام اكتب بحمل أرزاقهم إليهم ...
    هل من حاجة غيرها يا أبا محمد ؟؟
    قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أهل ذمتكم لا يكلفون ما لا يطيقون ، فإن ما تجبونه منهم معونة لكم على عدوكم ...
    فقال : يا غلام اكتب لأهل الذمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون ...
    هل من حاجة غيرها يا أبا محمد ؟؟ قال : نعم ...
    اتق الله في نفسك يا أمير المؤمنين ، واعلم أنك خلقت وحدك وتموت وحدك ، وتحاسب وحدك ، ولا والله ما معك ممن ترى أحد ...
    فأكبّ هشام ينكب في الأرض وهو يبكي ...
    فقام عطاء ، فقمت معه ، فلما صرنا عند الباب .....
    إذا رجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه وقال له :
    إن أمير المؤمنين بعث لك بهذا ...
    فقال : هيهات : ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ...
    فو الله إنه دخل على الخليفة .. وخرج من عنده ولم يشرب قطرة ماء ] ...

    وبعد .....
    فقد كبر عمر عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مائة عام ، ملأها بالعلم والعمل ...
    وأترعها بالبر والتقوى ، وزكاها بالزهد بما في أيدي الناس والرغبة بما عند الله ...
    فلما أتاه اليقين وجده خفيف الحمل من أثقال الدنيا كثير الزاد من عمل الآخرة ...
    ومعه فوق ذلك .. أتدرى ماذا ؟؟؟
    سبعون حجة ، وقف من خلالها سبعين مرة على عرفات ، وهو يسأل الله تعالى رضاه والجنة ، ويستعيذ به من سخطه والنار ...

    رحم الله الإمام ، وجزاه الله عنا وعن الإسلام خيراً بما سطرً في صفحات حياته البيضاء ...
    والتي ملأها بأعمال البر والخير وتعلم العلم النافع وتعليمه للناس ...
    وحقاً .....
    لقد عاش سيداً في الناس بعلمه وزهده ، وعبادته وخشيته ، وتقواه وورعه ...
    رحمه الله وأسكنه فسيح جناته !!..

    ----------------------------------------------------------
    المصدر ( صور من حياة التابعين / عبد الرحمن رأفت الباشا )
     

مشاركة هذه الصفحة