مقامات طريد الزمان الطبراني (10) للدكتور يوسف حطيني

آَخِرُ مَقَامَاتِ طَرِيدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانِيّ(10)
فَصْلُ البَيَانِ في اِخْتِلالِ المِيْزَانِ
د. يوسف حطيني
جاءَنا شَرِيدُ الزَّمَان، ابنُ طَرِيدِ الزَّمَان، فأخْبَرَنَا أنَّ والِدَه مَحْمُوم، فهوَ لا يجلِسُ ولا يَقُوم، وأنّه يطلُبُنَا في العَجَل، فقُلْنا في وَجَل: أجارَهُ الله من حَرَضِه، وأَبَلَّهُ مِنْ مَرَضه. ولمّا وصَلنا إلى بيتِهِ وجدناه طَرِيحَ الفِرَاش، فصَافَحَنا في ارتِعَاش، ثم قال في سُخْرِيَة: أراكُم تَأَخَّرْتُم في التَّلْبِيَة، كأنَّكُم نَسِيتُم مَا كَان، أوْ أَضْرَبْتُم عَن سَمَاعِ "فَصْلِ البَيَان"، فَقُلْنا: ما جِئْنَا إلا للزِّيَارَة، ولا نَنْتَظِرُ مِنْكَ سَجْعَةً في عِبَارَة، قالَ: بَلْ تَسْمَعُون مما أَجِدُ وأُلاقي، قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ التَّراقي، فأَنَا رَجُلٌ تَخْنُقُهُ الحِكَايَات، ولا يجِدُ شِفَاءَهُ إلا في حَدِيثِ المَقَامَات.
قُلْنا: تَحَدَّثْ وَئِيدا، ولا تُرْهِقْ نَفْسَكَ مَزِيْدا، فَقَالَ طَريدُ الزَّمَان:
قَضَّيْتُ لَيْلَتَيْن، لم تُغْمَضْ فيهما لي عَيْن، أُقَلّبُ فِكْري فيما تسمّى ازدواجِيَّةَ المَعَايير، التي تمارِسُها "بِلادُ التَّنْوير"، حتّى كَادَ عَقْلِي يَطِير.. فَبَيْنَما أَنَا نِصْفُ يَقْظَان، رَأَيْتُ شَبَحاً يَطْلُعُ وَسْطَ المَكَان، ثم يَسْأَلُني عَن صِحَّتي، مُسْتَفْسِراً عن عِلَّّتي، وإذ سَألته عن شَخْصِهِ قَال:
أنا الطّبراني، فَخَمّنْتُ دُنُوَّ سَاعَتي، وَتَذَكَّرْتُ فَرَاغَ زَوَّادتي، وارتَعَبْتُ في سِرّي، ونَدِمْتُ عَلَى ما فَرّطْتُ من أمري، وقُلْتُ: كَيْفَ أكُونُ وَاقِفاً أمَامي، وأنَا في الفِرَاش قَدْ هَدَّني سَقَامي؟ ثمَّ ثَبَّتُّ جَنَاني، وأشْعَلْتُ حَطَبَ لِسَاني، وسَأَلْته: أحقّاً أنّكَ الطَّبراني؟ فَقَالَ: نَعَم، يا بنَ بلدي المحبوب، أنا سُلَيْمَان بنُ أَحْمَد بنِ أيُّوب[1]، فَأَدْرَكْتُ مَا جَرَى عَلَى وَجْهِ التَّقْريب، ثمّ حَاوَلْتُ القِيَامَ للتَّرْحيب، فَخَانَتني قُوَّتي، وخَذَلتني هِمَّتي، غَيْرَ أنَّ جَزَعي زَال، وَحَلَّ محلَّهُ شُعُورُ الإِجْلال، فَسَألتُهُ مُؤَكّداً في احْتِرَام: أأنتَ مُحَدِّثُ الإِسْلام، الحَافِظُ الثِّقَةُ الإِمَام؟ أيّّةُ رِيْحٍ طَيِّبَة جَاءَتْ بِكَ إلى هَذَا المَكَان، عَلَى اتّسَاعِ المَسَافَةِ وبُعْدِ الزَّمَان، فقالَ: إنما سَعَيْتُ إليَك، مُطْمَئِناً عَلَيْك.
وإِذْ سَأَلَني عَنْ كَرْبي، أَشَرْتُ إلى قَلْبي، فَقَال:
أتَشْكُو العِشْقَ أيُّهَا الوَلهَان، بعد أن احدَوْدَبَ الظَّهْرُ ولحَبَ الجَنْبَان؟
قلتُ: بَلْ أشْكُو ظُلْم النَّاس، الذينَ خَاوَذُونا إلى مَنْ طَرَدَنَا مِنْ قُدْسِ الأَقْدَاس، ومما بارَكَ اللهُ حولهَا مِنَ الأَرْضِين، وجَعَلُوا الشَّرْعِيَّة الدَّوْلِيَّةَ عِضِين[2]، ونَاصَرُوا لَيْلَ المُدْلِجِين، عَلَى الحَقِّ المُبِين.
فَجَلَسَ سُلَيْمَانُ إلى سَرِيري، وَقَالَ: أوضِحْ، فَقُلْتُ:
مُنْذُ زَعَبَ غُرَابُ الهِجْرَة اليَّهُودِيَّة نحْوَ أَرْضِنَا الفِلَسْطِينيَّة رَاحَ الغَرْبُ يُطَوِّعُ كُلَّ قَانُون، ويُشَرِّعُ وُجُودَ الكِيَان المَلْعُون، وعَلَى الرّغْمِ مِنْ أنَّ مَا وَضَعَهُ مِنَ القَوَانين، يَرْفُضُ نُشُوءَ الدَّوْلَة عَلَى أَسَاسِ الدّين، فَقَد ارتَضَى أن يَكَونَ خَادِماً لخُشَارَةِ البَشَر، الذينَ رَكِبُوا عَلَى ظَهْرِ الدّينِ اليَهُودِي، ليَغْتَصِبُوا أرضَ جُدُودِي.
قال سُلَيْمَان بنُ أحمدَ بنِ أيُّوب: وَهَلْ ثمّةَ وجوهٌ أُخْرَى لمُخَاوَذَة الغَرْب إلى هؤلاءِ الأَوْغَاد، قُلْتُ: وُجوهٌ كَثيرةٌ تَعْجِزُ عن إحْصَائِهَا الأَعْدَاد، ومِنْ ذلك أنّهم طَالما تَشَدَّقُوا بالديمقراطِيَّة، ثُمَّ انقَلَبُوا عَلَيها بينَ صُبْحٍ وعَشِيَّة، لأنها أفرزَتْ حُكُومَةً تَرْفُضُ الانصِياعَ للدَّوْلَةِ اليَّهُودِيَّة، فعندما فازت حَمَاس، شَعَرَ الغَرْبُ أنّ الفَاس قَدْ وَقَعَتْ في الرَّاس، فحَاصَرَ الحُكُومَةَ والشَّعْب، وحَرَمَ المواطِنينَ الأكْلَ والشُّرب، وإمْعَاناً مِنْهُ في تجَاهُلِ حُقُوقي، جَرَى خَلْفَ العَدُوِّ فِعْلةَ الكَلْبِ السُّلُوقِي، فَاشْتَرَطَ عَلَى الحُكُومَةِ الفِلَسطينيّة، قَبُولَ شُرُوطِ اللَّجْنَةِ الرُّبَاعِيَّة[3]، وعِنْدَهُ أنَّ الحُكُومَة التي لا تَعْتَرِفُ بكِيَانِ أولئِكَ الطَُّغَاة، لا يَسْتَحِقُّ مُوُاطِنُوهَا الحَيَاة.
وإذْ شَعَرَ سُلَيْمَانُ باضْطِرَابي، حَمَلَ تَأْمُورَةَ شَرَابي، وَصَبَّ لي كَأسَ مَاء، وَقَالَ: إنَّ المُرَاوِغِينَ أشدُّ مِنَ الأَعْدَاء، وَبَاسَطَني في الحَدِيثِ عَنْ مُعْجَمَاتِهِ التي جَرَى ذِكْرُهَا عَلَى كُلِّ لِسَان، وإِذْ ذاكَ دَخَلَ عَلَينا شَريدُ الزَّمَان، ومدَّ الخِوَان، فَقُلْتُ لَهُ: يَا بُنَيّ ألا تَضَعُ طَعَاماً لضَيْفِنَا الجَلِيل؟ فَنَظَرَ حَوَالَيه، وقَدْ تَسَرّبَ القَلَقُ إلَيْه، ثمَّ قَالَ مُبْتَعِدا: إني لا أَرَى أَحَدا، فاعتَذَرْتُ إلى سُلَيْمان عَمَّا يَفْعَلُه الأبْنَاءُ بالآبَاء، مُتَعَلِّلاً بأنَّهُ يَنْتَظِرُ مَوْلُوداً هَذَا المَسَاء، فقَالَ: لعلَّ ابنَكَ لا يُحِبُّ النَّظَرَ إلى الوَرَاء، ودَعَوْتُه أنْ يُشَارِكَني نَصِيبي مِنَ المُلُوخِيَّة والدَّجَاج، مُعْتَذِراً لِعَجْزِي عَنْ إطعَامِه السُّكْبَاج والدُّوغْبَاج، وعَنْ تَحْلِيَتِه باللَّوْزَينَج والجَوْزَينَج، فضَحِكَ مِنّي، وخفّفَ عَنّي، وإذ انتهينا من الطعام حَمِدْنا الله، الذي لا يُحْمَدُ عَلَى مَكْرُوهٍ سِوَاه، فَقَد عَادَ إليَّ الإرهَاقُ والرَّجَفَان، إذ تَذَكَّرتُ اخْتِلالَ الميزَان، فَقُلْتُ مُتَابِعا:
وأمَّا مُصِيبَةُ المُصِيبَات التي نَكَاد نَغَصُّ لأجْلِهَا بالمَاءِ الفُرَات، فَهِيَ أنّ الغَرْبَ المُخَاتِل، يَلْبِسُ الحقّ بالباطل، فيَغُضُّ النَّظَر عَن مجَازرِ العَدُوِّ الدَّمَوِيَّة، ويُعَاوِنُهُ عَلَى احْتِكَارِ دَوْرِ الضَّحيّة، فَإِذَا اعترضَ شرقيٌّ أو غربيٌّ على سِيَاسَةِ هَؤلاء، أُحيلَ إلى القَضَاء، حَتّى وَلَوْ كانَ يَهُودِياً، فهُوَ عِنْدَهُم مُتَّهَمٌ بِكَرَاهِيَةِ الذَّات، ولا يَقْتَصِرُ المَوْقِفُ عَلَى الحُكُومَات، بل يَشْمُلُ الهَيْئَاتِ والمُنَظَّمَات، فَقَد تَعَهَّد اثنانِ مِنْ اتّحَادَاتِ الكَنَائِسِ الأوروبيَّة، بمُحَارَبَةِ كلِّ أنْوَاعِ العَدَاءِ للسامية[4].
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أليسَ في عَالم اليَوْمِ هَيْئَةٌ فيها ضَمِيْر، تُحَاكِمُ الكَبيرَ قَبْل الصَّغِير، وتُنْصِفُ المَظْلُومَ وَتَنْتَصِفُ مِنَ الظَّالم؟ فَقُلْتُ: يا أبَا القَاسِم، لَدَيْنا عَدَالَةٌ عَرْجَاء، تَسْتَطِيعُ أن تجُوبَ أربَعَةَ الأَرْجَاء، ولكنَّ بحثَهَا عَن اليَّقِين، لا يَسْتَطِيعُ الوُصُولَ إلى مجْزَرَةِ جنين[5]. وهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى اجْتِيَازِ الآفَاق، إلا أَنْ تحَاسِبَ بُوش عَلَى تَدْمِيرِ العِرَاق، بَعْدَ أنْ اعتَرَفَتْ جمَيعَ إدَارَاتِه، بإخْفَاقِ استِخْبَارَاتِه، وهيَ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصِلَ إلى السُّودَان، وتجْمَعَ ضِدَّ رَئيسِهَا دَلائِلَ البُهْتَان، ولكنّهَا لا تستطيع التَّحْقِيْقَ في حَرْبِ الصَّهَايِنَةِ عَلَى غَزَّةَ وَلُبنَان، عَلَى الرّغمِ مِنْ أنَّ الأَرْضَ هُنَاكَ زُلْزِلَتْ زِلْزَالهَا، وأَخْرَجَتْ أثقَالَها.
ثمَّ دَارَتْ عَينَايَ الكَليلتَان، تَبْحَثَانِ في الغُرْفَةِ عَنْ سُلَيْمَانَ، فَلَمْ تَجِدَا لَهُ أثَراً، وحَزِنْتُ أنَّهُ تَرَكَني في السَّرِير، أُحدِّثُ نَفْسي عَنْ عالَمٍ حَقير، مشغولٍ بجُنْدِيٍّ إسْرَائيليٍّ أَسِير، أمَّا أسْرَانَا الذينَ جَاوَزُوا عَشْرة الآلاف، فَهُم عِنْدَ الغَرْب مَوضُوعٌ لا يَسْتَحِقُّ الخِلاف، لِذَلِك لا يَلْتَفِتُ إليهِم، ويُعَامِلُ الإسْرائيليينَ كَأَنْ لا جُنَاحَ عَلَيْهم، عَلَى الرّغْمِ مِنْ أنَّ في أَسْرَانَا أطْفَالاً ونِسَاء، وسِيَاسيينَ ووُزَرَاء.
وهَكَذَا بقيتُ حَزِيناً حتَّى دَخَلَ عَلَيَّ ابني، فَبَدَّدَ حُزْني، إذْ بَشَّرَني بأنَّ اللهَ قَدْ رَزَقَهُ بِغُلام، كأنّه بَدْرُ التّمَام، فَقُلْتُ لَه: ستُسَمّيه عَلَى اسمي، فالوَلَدُ يُسَمِّي عَلَى اسْمِ الوَالِد، فَقَالَ كَأنّهُ يَلُومُني: سَأُسَمّيه "العائد".. فأنَا لا أُرِيدُهُ طَرِيداً، ولا أَرَتَضِيهِ شَرِيداً..
ثمَّ إنَّ طَريدَ الزَّمان خَاوَذَتْهُ الحُمَّى، فَصَارَ يَهْذي بكَلِمَاتٍ مُبْهَمَات، مُغَرْغِراً بذِكْرِ طَبَريَّةَ عِدَّةَ مَرّات، فَبقِينَا عِنْدَه حتى اسْتَغْرَقَ في نَوْمٍ عَمِيق، وخَرَجْنا مِنْ دَارِهِ بينَ مُهتَمٍّ ومُغْتَمٍ وشَفِيق، ولم يَكَدْ يَطلُعُ الصَّبَاح، حتَّى جَاءَنا مِنْ جَانِبِ بيتِهِ عَوِيلٌ ونُوَاح.
20/3/2009


[1] هو أبو القاسم، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي الطبراني. كتب عمن أقبل وأدبر ، وجمع وصنف ، وعُمِّر دهراً طويلا ، وازدحم عليه المحدثون، ورحلوا إليه من الأقطار، وهو صاحب كتاب الدعاء وكتاب الأوائل، ومسند الشاميين، وصاحب المعجم الكبير في أسماء الصحابة والمعجم الأوسط والمعجم الصغير.

[2] أي أعضاء متفرقة، فهم يختارون منها ما يشاؤون، وفي التنزيل الحكيم: "الذين جعلوا القرآن عِضين":

[3] تعود شروط اللجنة الرباعية في الأصل إلى شروط إسرائيلية جاءت رداً على نتائج الانتخابات الفلسطينية التي نجحت فيها حماس، عندما اشترطت الدولة العبرية عدم الاعتراف بأي حكومة فلسطينية لا تعترف بها،ولا تلتزم بكل الاتفاقيات الموقعة معها، ولا تنبذ المقاومة.

[4] وقع الاتفاق رئيس مجلس اتحاد الأساقفة الأوروبيين الكاثوليك ورئيس اتحاد الكنائس الأوروبية التي تضم نحو 100 جماعة بروتستانتية وأنجليكانية وأورثوذكسية. وجرت مراسم التوقيع على الميثاق في ستراسبورغ بفرنسا في نيسان/ إبريل 2001

[5] رفضت الدولة العبرية الباغية استقبال أية لجنة تحقيق تبعثها الأمم المتحدة للتحقيق في مجزرة جنين، وخضعت الهيئة الدولية للإرادة الإسرائيلية، واكتفت بإرسال "لجنة تقصي حقائق"، بعد تعهّد كوفي عنان لإسرائيل بأن تدرس اللجنة "الأسباب التي أدت بالجيش الإسرائيلي إلى أن يجتاح جنين».
 
عودة
أعلى