مقامات طريد الزمان الطبراني (3) للدكتور يوسف حطيني

مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانيّ(3)
المَقَامَةُ الثَّالِثَة: "اِقْتِرَاحَات زِرْيَاب لِتَجْفِيفِ مَنَابِع الإِرْهَاب"
د.يوسف حطيني
إلى الفَنَّان الصديق محمود خليلي
وقد عانى كثيراً أذى إسحاق
دَخَلْنَا عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَاني هَذَا المَسَاء ، فَوَجَدْنَاهُ يَرُفَعُ عَقِيرَتَهُ بِالغِنَاء، وَأَصَابَنَا ممَّا نَرَى العَجَب، إذْ لم يَسْبِقْ أنْ آنَسْنَا مِنْهُ مَيْلاً إلى الطَّرَب، لِذَلِكَ بَادَرْنَاه إلى السُّؤَال: مَا الّذي دَفَعَكَ إلى ضَرْبِ المَوَّال، وَأَنْتَ لا تَمِيزُ المَقَامَ مِنَ المَقَال؟
تَبَسَّمَ طَرِيدُ الزَّمَانِ ضَاحِكاً مِن قَوْلِنا، وَأجَاب: ألم أعِدْكُم بالحَديثِ عَنْ زِرْياب، وَعَنْ اِقْتِرَاحَاته لتَجْفِيفِ مَنَابِعِ الإِرْهَاب؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأنَا لا أَجِدُ أبدَعَ مِنَ اسْتِقْبَالِكُم بنَشِيد، كَانَ زِرْيَاب قَدْ غَنَّاهُ أمَامَ الرَّشِيد، ثمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان أَخَذَهُ الحَالُ فَصَاح، بِصَوْتٍ أقرَبَ إلى النُّبَاح:
يا أيُّهَا المَلِكُ المَيْمُونُ طَائِرُهُ هَارونُ رَاحَ إِلَيْكَ النَّاسُ وابْتَكَروا
قُلْنَا: هَلّا أرحْتَنَا مِنْ هَذَا العَنَاء، وَحَدَّثْتَنا عَنْ أَمِيرِ الطَّرَبِ والغِنَاء.
قَالَ: حَدِيثُنَا اليَوْمَ مَوْقُوفٌ عَلَى زِرْيَاب، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ ضَحَايَا الإِرْهَاب، اسمُهُ عَلِيُّ بنُ نَافِع، ولم يَكُنْ لَهُ في بَغْدَاد مِنْ شَافِع، إِذْ عَاشَ فِيهَا زَمَناً ثمَّ هَرَب، بَعْدَ أنْ أَدْرَكَتْهُ لَعْنَةُ الطَّرَب، قُلْنا: عَلَيْكَ التَّوضِيح، فَإِنَّنَا لا نَفْهَمُ الرَّمْزَ والتَّلْمِيح، فَقَالَ: حِيْنَ طَلَبَ هَارُونُ الرَّشِيد، أنْ يَأتِيَهُ إِسْحَاق المُوصِلي بمُغَنٍّ جَدِيد، لم يَجِدْ أفْضَلَ مِنْ تِلْمِيذِهِ زِرْيَاب، وَإِذْ غَنَّى زِرْيَاب طَارَ قَلْبُ الرَّشِيد طَرَباً وفَرَحا، وَطَارَ قَلْبُ إِسْحَاق غِلّاً وَتَرَحا، فَعَرَضَ عَلَى زِرْيَابَ أَنْ يَخْتَار إِحْدَى اِثْنَتَين: أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَاد، أَوْ أَنْ يُخْرِجَهُ إلى دَارِ المَعَاد، فَرَجَّحَ زِرْيَابُ أنْ يَفِرَّ إلى الأنْدَلُس، تَارِكاً بَغْدَاد والمَرَابِعَ والرِّفَاق، كي يَفِرَّ بجلِدِه مِنْ أذَى إِسْحَاق.
وَكُنْتُ قَدْ سَعَيْتُ إلى مجلِسِهِ لإِحدَى عَشْرَةَ خَلَوْنَ مِنْ سِبْتَمْبَر، وَجَلَسْتُ بَيْنَ تَلامِيذِهِ الّذِينَ يتَعَلَّمُونَ الأَشْعَارَ والأَوْزَان، فَسَمِعْتُ أبْدَعَ الأَصْوَاتِ والألحَان، وإِذْ اِنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ سَأَلَني: مَنْ أنْتَ؟
قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ.
- أَتَنْتَسِبُ إلى طَبَرِيّة؟
- اللّهُمَّ نَعَم.
واغرَوْرَقَتْ نَفْسِي بالكَدَرِ والأَحْزَان، وتَلَبَّسَني التَّوَحُّنُ والهَوَان، حِينَ ذَكَرَ طَبَرِيَّة الّتي فَطَمني الاِحْتِلالُ عَنْ سَمَكِ بَحَيْرَتها قَبْلَ الأَوَان، غَيْرَ أنَّه بَادَرَني:
- لا تَحْزَنْ يا طَريدَ الزَّمَان، فَكُلُّ طَريدٍ للطَّرِيدِ نَسِيب، وقَدْ عَانَيْتُ مِثْلَمَا عَانَيْتَ، حِيْنَ طَرَدَني إِسْحَاقُ مِنْ بَلَدِي الحَبيب، ونحْنُ جَمِيعاً ضَحَايَا الإِرْهَاب، ولا بُدَّ مِنْ يومٍ يَلْتَقِي فيهِ الصِّحَاب.
- أراكَ تُكْثِرُ مِنَ الحَدِيثِ عَنِ الإِرْهَاب؛ كَأَنَّ بَيْنَك وبَيْنَه ثَأرا، فهَلّا فَصَّلتَ في علاقَتِكَ مَعَهُ، وَقَدْ خَبِرْتَهُ دَهْرا.
اِعْتَدَلَ زِريَاب في جِلْسَتِهِ، وطَلَبَ لنا كَأْسَينِ مِنْ شَرَابِ الوَرْدِ، ثمَّ قَال:
لِكَلِّ دَوْلَةٍ الحقُّ في امْتِلاكِ قُوّةٍ رَادِعَةٍ تحقِّقُ بهَا كِيَانهَا، وتُقَوِّي سُلْطَانهَا، وتحمِي بهَا أصْدِقَاءَها، وتُرْهِبَ أَعْدَاءَها، ألم تَنْتَبِه لقَوْلِ اللهِ سُبْحَانه: "وَأَعِدُّوا لهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ ومِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكم[1]"؟. أمَّا أنْ تمتَدَّ يَدُ القَتْلِ إلى المَدَنيّين الآمِنِيْن، مِنَ النِّسَاء والأطْفَالِ والعَاجِزِين، فَهَذَا مَا لا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ ولا دِين.
قلتُ: وإنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِين؟
قَالَ: وإنْ، عَلَى ألا يَكُونَ المُسْتَهْدَفُ وَالِغاً في دِمَائِهِم الطَّاهِرَة، جَالِساً في أفيائِهِم، بينَمَا يُعَانُونَ وَغْرَ الهَاجِرَة[2]، والدَّاعِي إلى مُهَادَنَةِ المحتَلِّ خَائِب، لأنَّ قِتَالَهُ فَرْضٌ وَاجِب ، وَلَوْ قَامَ بِهِ فِدَائيٌّ رَاعِف[3]، يَتَزَنَّرُ بحِزَامٍ نَاسِف.
قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ طَارَتْ مِنْ نَفْسِهِ الحَمِيَّة، فَسَمَّى ذَلِكَ عَمَلِيَّةً انتِحَارِيَّة؟
قَال: أصَابَتْه لُوثَةُ المُسَاوَمة، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الإرهَابِ والمُقَاوَمَة.
قُلْتُ وقَدْ أخَذَتني حُمَّى التَّشَرُّدِ وذِكْرَيَاتُ المَبيتِ في العَرَاء، وأزْكَمَتْ أنْفِي رائِحَةُ الدِّمَاء:
- من تَرَاهُ رَأْسَ الإِرْهَاب؟
- قال: اِقرأ الماضِي والحَاضِرَ يأتِكَ الجَوَاب. ألم تَقْرَأْ عَنْ العُلُوج[4]، الَّذينَ قَتَلُوا الهُنُودَ الحُمْرَ والزُّنُوج؟ وَعَنْ ذَلِكَ الخَـنـْزَوَان[5]، الأحمق اليهفوف[6]، الذي ألقَى قُنْبُلتَين ذَرِّيَّتَين عَلَى اليَابان، فَقَتَّل عَشَرَات الأُلُوف؟ وعَن المَدَنِيّينَ الّذينَ قَضَوْا نحْبَهُم في جَنُوبِ لُبنَان، وفي العِرَاقِ وأَفغَانِسْتَان؟ أوَلم تَسْمَع أيضاً بعِصَابَتَيْ آرَاغُون وشتِيرن اللَّتينِ رَوَّعَتَا الآمِنِين، في قُرَى فِلَسْطِين، وَامتَدَّ إرهَابُهُمَا إلى الوَسِيط الدَّولي فُولك برنَادُوت[7] لأنَّه تَفَهَّم مَوْقِفَ العَرَب، ولمْ يَخْضَع لإغْرَاءِ الذَّهَب؟ وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّاعِرُ عَليّ الجَارِمُ في قَصِيدةٍ مِنْهَا:
حَسْرَتَا للكُونْتِ بِرْنَا دُوتَ لَوْ تَنْفَعُ حَسْرَهْ
رَامَ أنْ يَستَنْقِذَ الكَـوْ نَ وَيَسْـتَأْصِلَ شَرَّه
قتلُهُ جُـبْنٌ وخِــذْ لانٌ ولُـؤْمٌ ومَعَـرّهْ
خَرَقَ الهُدْنـةَ أبْنَـا ءُ يَهُـوذَا ألْفَ مَرّهْ
رُبَّـمَا يحفِـرُ ذو الآ مـَالِ بالآمَالِ قَبْرَهْ
قلتُ: هَلْ مْنْ مَزِيد؟
قَالَ: هَاكَ مَا تُرِيد: ألم تَسْمَعْ أنَّ الجيشَ الإسْرائِيليّ دِمَّرَ سَفِينةً حَرْبِيّةً لأَصْدِقَائِهِ الأَمْرِيْكَان، في خِلالِ عُدْوَانِ حَزِيرَان[8]؟، ثمَّ ألم تَرَ أنَّ دَمَ أبي عَمَّار ضَاعَ بينَ الفرَنْكِ والشِّيكل والدُّولار؟ أو لعلّك لم تَسْمَع بالحِقْدِ الّذي انهمَر، كَوَطْفِ المَطَر[9]، عَلَى دَيْرِ ياسِينَ وقِبْيَةَ وبحرِ البَقَر؟ أولم ترَ الفَتَاة الصَّغِيرة[10]، عَلَى قَنَاةِ الجَزِيْرَة، إذْ رَاحتْ تَنْدُبُ أبَاهَا عَلَى شَاطِئ بحرِ غَزَّةَ؟ حَتّى إنَّ شَاعِرَكُم الكَنْعَانيّ[11] قَالَ فيهَا:
"عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ بِنْتٌ. وللبِنْتِ أَهْلٌ
وللأهْلِ بَيْتٌ. وللبَيْتِ نَافِذَتَانِ وبَابْ…
وفي البَحْرِ بَارِجَةٌ تَتَسَلَّى
بِصَيْدِ المُشَاةِ عَلَى شَاطِئ البَحْر:
أربَعَةٌ، خَمْسَةٌ، سَبْعَةٌ
يَسْقُطُونَ عَلَى الرَّمْل، والبِنْتُ تَنْجُو قَلِيْلاً
لأنَّ يَداً مِنْ ضَبَابْ
يَداً مَا إلهيةً أَسْعَفَتْهَا، فَنَادَتْ: أَبي
يا أَبي! قُم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
لمْ يُجِبْها أبُوها المُسَجَّى عَلَى ظِلِّهِ
في مَهَبِّ الغِيَابْ"
ثمَّ إِنَّ زِرْيَابَ سَأَلَني: هَلْ وَعَيْتَ حَدِيثي؟ قُلْتُ: وَعَيْتُهُ وحَفِظْتُهُ مُنْذُ كُنْتُ في القِمَاط، وسَأبْقَى أَعِيهِ وأحْفَظُهُ حَتَّى يمشِيَ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاط، غَيْرَ أنّي أَحْبَبْتُ أنْ آنَسَ بِسِحْرِ لِسَانِك، وَعَذْبِ بَيِانِك.
وبَعْدَ أنْ تنَاوَلْتُ مَعَهُ الطَّعَام، سَأَلتُه: كَيْفَ يَنْتَصِرُ المَظْلومُونَ مِنَ الظُّلّام، قَالَ: بِإِرَادَةِ الحَيَاة، ثمَّ أَشَارَ إلى أَنَّهُ انْتَصَرَ عَلَى إِسْحَاق، حِيْنَ تَجَاوَزَ مِحْنَةَ الفِرَاق، وَنَأْيَ الرِّفَاق، وَطَبَّقَتْ شُهْرَتُهُ الآفَاق، إذْ حَسَّنَ شَكْل العُودِ، وَزَادَ لَهُ وَتَرَاً، وَجَعَلَ مِضْرَابَهُ مِنْ قَوَادِمِ النَّسْر بَدَلاً مِنَ الخَشَب، واِفْتَتَحَ مَعْهَداً مُتَخَصِّصاً في المُوسِيقَى والطَّرَب.
ثمَّ أضَافَ: ألا تَرَى الاِسْتِمْرَارَ في الحَياة اِنْتِصَاراً عَلَى الطُّغَاة؟ قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: تَتَحَدَّى الغَاصِبِين، وتَفْعَلُ فِعْلَ أجدَادِكَ المَيَامِين، ثمَّ قَرَأَ عَليَّ قَوْلَ شَاعِرِنَا الكَنْعَانيّ:
"عَالِمُ الآثَارِ مَشْغُولٌ بِتَحْليلِ الحِجَارَهْ
لِكَي يُثْبِتَ أني عَابِرٌ في الدَّرْبِ لا عَيْنينَ لي ..
لا حَرْفَ في سِفْرِ الحَضَارَهْ..
وأنَا أزْرَعُ أشْجَارِي عَلَى مَهْلي
وعَنْ حُبّي أُغَنّي"
قُلْتُ: فَمَا قَوْلُكَ في تَرْوِيعِ الآَمِنِين، وَقَتْلِ المَدَنِّيين؟
قَالَ: هُوَ أمرٌ لا تُقِرِّه الأعرَافُ والدَّيَانَات، حَتَّى لَوْ كَانَ المُسْتَهْدَفُونَ مِنْ سُكَّانِ الغَابَات، أو مِمَّنْ يَقْطُنُونَ في مَانهَاتِن، أو يَعْمَلُونَ في مَبْنَى التَّجَارَةِ العَالَميّ.
فاربدَّ وَجْهِي وازْوَرَرْتُ عَنْهُ، إذْ رَأَيتُهُ يَتَعَاطَفُ مَعَ الأمْرِيْكان الَّذينَ دَمَّرُوا الأَرْضَ وَحَقَّرُوا الإِنْسَان، غيرَ أنَّهُ غَنَّى لي صَوْتاً حَزِيناً، فَهَدَّأَ رَوْعِي، وأضَافَ:
لا غَرْوَ أنَّ كَثيراً مِمَّنْ قُتِلُوا لا يُضْمِرُونَ للشُّعُوبِ عَدَاوَةً أو صَدَاقة، فَلا جَمَلٌ لهُمْ فيمَا يجْرِي ولا نَاقَة، لَكِنَّني أُحَمِّلُ المُسْؤُوليّة لحُكَّامِ الأمرِيكَان، الَّذِينَ مَارَسُوا ألْوَانَ الإرهَاب في البُلْدَان، فَشَحَنُوا نُفُوسَ المَقْهُورين، ومَلَؤُوا الصُّدُورَ بحِقْدٍ دَفِين، قَدْ يَنْفَجِرُ في أَيِّ حِين، والأدْهَى مِنْ ذَلِكَ يَا طَرِيدَ الزَّمَان أنَّهُمْ يَتَّهِمُونَ المُسْلِمِين، وَيَصُبُّونَ عَلَيْهِم حِقْدَهُم، مِمَّا يُوَلِّدُ الكُرْهَ في النُّفُوسِ ضِدَّهُم، فَهُمْ يَتَّهِمُونَ الحَنَابِلَةَ والأحْنَاف، والحُفَدَاء والأسْلاف، والمُتَمَدِّنِينَ والأجْلاف، باتِّهَامَات مَا أنْزَلَ اللهُ بهَا مِنْ سُلْطَان، حَتَّى إنِّي سَمِعْتُ أَنَّ الـ سي. آي. إيه تَتَّهِمُ الخَلِيفَةَ المُعْتَصِمَ بِتَفْجِيرِ بُرْجَيْ مَبْنَى التِّجَارَة العَالَميّ.
قُلْتُ وَقَدْ أَصَابَني الذُّهُول: وهَلْ لديهِم بيّنةٌ عَلَى مَا تَقُول؟
فَقَالَ زِرْيَاب: إنَّهُم يحتَجُّونَ بِشِعْرٍ لأبي تَمَّام يُخَاطِبُ فِيْهِ المُعْتَصِمَ، يَقُولُ فِيه:
رَمَى بكَ اللهُ بُرْجَيْها فَهَدَّمَهَا وَلَوْ رَمَى بِكَ غيرُ اللهِ لم يُصِبِ
ثمَّ إنّي قُلْتُ قُوْلَ الحَيْرَان: لَقَد تَعِبَ الحُكّام الأمرِيكَان، وأقَضَّتْ مَضَاجِعَهُم الهَجَمَات، فَوَبَشُوا الأَوْبَاشَ[12] للحَرْبِ مِنْ كُلِّ الجِهَات، وَخَاضُوا الغَارَات، ودَمَّرُوا القُرَى والبَلْدَات، فهلّا أرشَدْتَهُم إلى فَصْلِ الخِطَاب في تَجْفِيْفِ مَنَابِع الإرهَاب؟
قَالَ: عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أنَّ النَّصِيحَةَ كَانَت بجَمَلٍ في سَالِفِ الأَوَان، فَإِنَّني أُقَدِّمُها لهُمْ بالمَجّان، وعَلَى الرُّغْم مِنْ أنَّهُم سَيَبْقُونَ في غِيِّهِمْ سَادِرِين، وأنَّهُم يجْعَلُونَ أُذُناً مِنْ طِيْن وأُذُناً مِنْ عَجِين، فَإِنّي سَأَقُولُ لَهُم بِاخْتِصَار: حُلِّوا عَنْ ظَهْرِنَا، واخرُجُوا مِنْ بَرِّنَا وبحرِنَا، ولا تُسَانِدُوا البَاطِل بالمالِ والسِّلاح، ولا تَتَوَالَسُوا[13] مَعَ أعدائِنَا لتثُخِنُوا صُدورَنا بالجِرَاح، ولا تأبَسُوا الأَوْفَاض[14]، ولا تهتِكُوا الأعْرَاض، ولا تَسْتَعبِدوا الشُّعُوبَ الَّتي أوْتَغَهَا الوَيْس[15]، فلا تُدْعَى إلى مَوَائِدِكم إذَا يُحاسُ الحَيس، ودَعُوهَا تَأْبش[16] مِن خَيْرَات أرضِهَا، وتَمْرَحُ في طَولِهَا وعَرْضِها، ودَعوا لقَيْصَرَ مَا لِقَيْصَر، وإذ ذَاكَ تَنْجون، وتَصِلُونَ إلى الرَّاحَةِ الّتي تَنْشُدون.
قُلْتُ: وَمَاذَا عَنْ بَغْدَاد، وَهَاتِيك الرُّبى؟
عِنْدَهَا غَنّى لي صَوْتاً مِنْ مَقَامِ الصَّبا، مُتَذَكّراً أيَّامَ الصِّبا، وَفَاضَتْ عَيناهُ بِدَمْعٍ مِدْرَار، أنَّتْ لَهُ الأحْجَار، وفَاضَت الأنهَار، وامْتَلأَ بالحُزْن صَدْرِي، رَغْمَ مَا حُمّل من الخَنَاثير[17]، فخَرَجْتُ مِنْ فَوْرِي، وأوسَدْتُ في المَسير[18]، بجناحٍ مهيضٍ، وقَلْبٍ كَسِير.
قُلْنا: أوجَعتَ مِنّا القُلُوب، ونَكَأْتَ النُّدوب، فَادْعُ اللهَ أنْ يُفَرّجَ الكُرُوب، عَن بَغْدَاد وَفِلَسْطِين، وسَائِر بِلادِ العَرَبِ والمُسْلِمِين، قَالَ: اللَّهُمَ آمِين.
وحِينَ وَدَّعَنا طَرِيدَ الزَّمَان إلى البَاب، تَودِيعَ الأحبَاب، مَا زِلْنا بِهِ حَتّى وَاعَدَنا عَلى لِقَاٍء قَرِيب، يجُودُ لَنا فِيهِ بحَدِيثٍ عَجِيب، قُلْنَا ومَا رَأسُهُ، قَالَ: الشَّرَوي والغَرَوي في السِّلاحِ النّوَوي.
11/10/2008




[1] سورة الأنفال: الآية 16.

[2] وغر الهاجرة: شدّة الحرّ في منتصف النهار.
[3] الراعف:السابق المتقدّم.
[4] العلوج: كفّار العجم.
[5] الخنزوان: الخنزير
[6] اليهفوف: الجبان.
[7] فولك برنادوت، هو الوسيط الدولي الذي عينته الأمم المتحدة لدراسة تطورات القضية الفلسطينية، وقد أثارت اقتراحاته حفيظة الجانب اليهودي في تلك الفترة إذ عارض ضم بعض الأراضي الفلسطينية إلى الدولة اليهودية المقترحة في قرار التقسيم الصادر عام 1947، كما اقترح وضع حد للهجرة اليهودية، ووضع القدس بأكملها تحت السيادة الفلسطينية، فاتفقت منظمتا أرغون التي برئاسة بيغن وشتيرن برئاسة إسحق شامير على اغتياله، ونفذت عملية الاغتيال في 17 سبتمبر/ أيلول 1948.
[8] كان الهجوم على سفينة ليبرتي الحربية الامريكية أخطر حادث في تاريخ العلاقات الأمريكية الاسرائيلية، وقد وصفه الإسرائيليون بأنه “حادث مأساوي” ناجم عن نيران صديقة وسط ضباب الحرب، وقد رأى محللون محايدون أنّ ليبرتي تعرّضت للهجوم لأنها رصدت المذبحة التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد الأسرى المصريين.
[9] وطف المطر: انهماره.
[10] هدى غالية.
[11] محمود درويش.
[12] وبَشوا الأوباش: جمعوا الجُموع.
[13] توالسوا: تناصَروا في الخديعة.
[14] لا تأبسوا الأوفاض: لا تقهروا الضعفاء.
[15] أوتغها الويس: أهلكها الفقر.
[16] تأبش: تكسب رزقها.
[17] الخناثير: الدّواهي.
[18] أوسَدتُ في المسير: أسرَعْتُ.
 
عودة
أعلى