مقال د. مصعب عزاوي : سفر الخروج من النفق الاكتئابي

في كتابه المعنون بعلم النفس الجمعي للفاشية في العام 1933 أشار فيلهم رايخ إلى مفهوم خاص في علم النفس الاجتماعي يمازج إلى درجة التطابق بين التفاعلات النفسية على المستوى الفردي وبين تلك التفاعلات النفسية المتناغمة جراء التآثر الاجتماعي بين أفراد أي كتلة اجتماعية لتشكل ما يمكن تسميته البنية النفسية الجمعية Mass Psychological State ، ويكاد التوصيف الأكثر تبئيراً لتلك البنية النفسية الجمعية يتمركز حول أنها تمثلاً انزياحاً تجاه النموذج الأكثر دفاعية في الأنماط النفسية الفردية التي يشكل تآثرها التفاعلي تلك البنية النفسية الجمعية بالاستناد إلى مبدأ العدوى النفسية الاجتماعية والذي يفسر شعور الفرد بالخوف لدى ذعر الجماعة وشعوره بالشجاعة والإقدام مع الجماعة المنفلتة من عقال الخوف وإن كان لا يستطيع على ذلك في الحالات الاعتيادية.
وقد يكون الاكتئابDepression إحدى أهم السمات النفسية المرضية التي يسهل حدوث العدوى بها وتتجلى أساساً في تدني الهمة والقدرة على الفعل والرؤية النفقية المظلمة للحياة بحيث تبدو الذات عالقة في البؤس الراهن لها دون القدرة على استبصار المستقبل أو تغيرات الواقع بصورته الكبيرة التي قد تؤدي إلى تغيير ذلك المشهد الداكن راهناً أو حتى التفكر بأدوات الفعل الذاتي التي يمكن من خلالها تغيير الواقع قليلاً أو كثيراً.
وفيما يخص المواطن العربي خلال العقود الأخيرة وبغض النظر عن التباينات الجزئية غير الجوهرية في منظومة الفضاء الحركي الاجتماعي التي يتعامل معها فقد كان رهيناً لحالة طاغية من انعدام الحرية الاجتماعية والسياسية والفكرية التي أفضت إلى خواء روحي إنساني حتى لدى المقتدرين من الناحية الاقتصادية حيث أن السعادة والرضا النفسيين لا يتم تحقيقهما بالوفرة الاقتصادية كما لازال بعض السياسيين الأميين يظنون في بعض أجزاء الوطن العربي المتشظي.
وذلك البؤس العربي الجمعي كله كان قد توازى في أحياز كثيرة من الفضاءات الاجتماعية العربية الموضعة بالإفقار المنظم لشرائح واسعة من المجتمع ، والذي نال بشكل وحشي منقطع النظير من الطبقات العربية الوسطى وتركها تنحدر على طريقة السقوط الحر دون أي قوة تعاكسه إلى قاع الطبقات المهمشة مما أدى إلى افتقادها ميزتها الأساسية كطبقات وسطى والمتمثلة ببعض الميسورية المادية التي تتيح لها التعليم والتفكير بالمستقبل دون أن تكون لاهثة وراء لقمة الخبز الكافرة من الصباح حتى المساء وطيلة أيام الأسبوع فافتقدت بذلك أهم سمة نفسية تتيح للعقل البشري معالجة الضغوط النفسية من خلال عقلنتها والتفكر بها واستيعابها Assimilation Mechanism وإيجاد حلول ناجعة لها حيث أن الطبقات المفقرة والهامشية لا تمتلك وقتاً لتفكر في شيء ولا تستطيع إلا أن تكبت قهرها ومعاناتها وآلامها دون أن تفكر فيها لأن الكبت هو الوسيلة والأداة النفسية الأكثر بدائية لدى كل بني البشر ، وهي الطريق الأكثر سرعة متى أن طفح الكيل في الخزان النفسي الإكتئابي فيما يسميه البعض اللاوعي الإنساني أو كما يسميه آخرون الدماغ القديم أو المتوسط في العقل الإنساني للدخول في متلازمة الإكتئاب وكل ما يستتبعها من وهن نفسي وعقلي وجسدي ورؤية سوداوية منكفئة على ذاتها ولذاتها فقط.
ولأنه كما ذكرنا بأن الاكتئاب النفسي الفردي يتداخل مع ذلك الآخر الجمعي كوحدة أساسية متآثرة مع غيرها من الوحدات بحيث يتشكل لون رمادي خاص قد يزيد أو يقل في قتامته جراء التغايرات الجزئية والفردية ولكنه يبقى في المآل الأخير لوناً واحداً للمزاج الجمعي للكتلة الاجتماعية في زمان محدد ، وبحيث تكون السمة النفسية الطاغية مشخصة في مزاج الغالبية الاكتئابي في ذلك الحوض الاجتماعي باختلاف أشكاله وتمظهراته الهوسيةManic أو العدوانية Aggressive أو الفصامية Schizophrenic أوحتى الانتحارية Suicidal ، وذلك المزاج الجمعي هو الذي كان سائداً بالفعل قبيل الحرب العالمية الثانية نظراً للضائقة الاقتصادية العالمية والقسوة المنقطعة النظير التي مارستها الآلة الرأسمالية الغربية في استعباد الإنسان لتعويض خسائرها الرأسمالية والذي تم تكثيفه بشكل جلي في كتابات الوجوديين المؤسسين برغسون وسارتر حتى بدى العالم مختزلاً لديهما في جحيم وجودي لا مخرج منه إلا بالفناء. وبالفعل حقاً كانت الحرب العالمية الثانية هي المخرج الوحيد لتدمير ذلك التوازن السلبي الإكتئابي على مستوى القارة الأوربية أساساً والتي كانت الموطن الأساسي للحرب العالمية الثانية بصرف النظر عن التآثرات الأخرى التي أفرزتها على أفضية جغرافية جمعية أخرى في العالم.
ولأن التاريخ يكرر نفسه بشكل جدلي معقد كما يحب الفيلسوف الألماني هيغل أن يصفه فإن المزاج النفسي للشعب العربي عشية ربيع الثورات العربية لم يكن من الممكن توصيفه بعبارة أدق من كونه اكتئاباً حقيقياً عميقاً لف الأمة بأسرها من محيطها إلى خليجها فالكل لا يكاد يبصر أفقاً للرضا النفسي الحقيقي لوجوده الاجتماعي المؤطر بحدود القمع والإذلال والتهميش وكم الأفواه والتنكيل وقطع الأرزاق لمن تجرأ أو عارض قليلاً أو كثيراً ، وصولاً إلى التكفير والتخوين بأشكاله المختلفة الدينية و السياسية ومن ثم قطع الأعناق البطيء في زنزانات العالم السفلي أو المباشر بسيافي النظم السياسية العربية الأمية ثقافياً والهمجية سياسياً ، حتى كان من محصلة ذلك كله عشية ربيع الثورات العربية رؤية نفقية معتمة لدى الكتلة الجمعية العربية تكاد لا تستطيع أن تبصر أي بصيص نور للخروج من ذلك النفق الاكتئابي الجمعي.
ولكن كما يفعل الأطباء النفسيون عندما يعالجون الاكتئاب العميق التخشبي بالصدمة الكهربائية لتغيير التوازن الكهربائي للدماغ البشري لتمكين المريض من الخروج من نفق الرؤية السوداوية إلى رؤية واقعية ترى الواقع كما هو وتتلمس إمكانيات تغييره والتكيف معه ضمن صورة واسعة ملونة وليست رمادية كما هي في الأطوار الاكتئابية العادية ، كان فصل ثورة شباب سيدي بوزيد في تونس الأبية صدمة كهربائية للمزاج الجمعي التونسي أولاً والعربي ثانياً أعادت التوازن النظمي للبنية النفسية الجمعية العربية وقدمت لها علاجاً إسعافياً عنيفاً مكنها من استقراء إمكانياتها في تغيير واقعها وتفاعلها مع تلافيف وأحياز الواقع العياني بكل بؤسه و ذلك المشتهى الممكن بكل مداخله و تعريجاته. ولحسن الحظ العربي فقد كان هناك بقية من الطبقات الوسطى في تونس ومصر ممن عانوا الأمرين للتشبث بتلابيب الدرجات الوسطى في السلم الاقتصادي الاجتماعي وتمكنوا من التقاط تلك اللحظة الاجتماعية النفسية الاستثنائية بكونها طوق نجاتهم الوحيد و الأخير للخروج من أسر الحالة الاكتئابية الجمعية.
ولأن التقاطب النفسي حالة شبه نموذجية في التفاعلات النفسية الطبيعية والمرضية فقد كان الانتقال من المزاج الاكتئابي الجمعي إلى المزاج الشمقي الجمعي Mass Euphoria طبيعياً أيضاً فبدأ العقل الجمعي كما جميع العقول الفردية في ذلك الحوض الاجتماعي الذي يتحدث بالعربية بالبحث الدؤوب عن كل إمكانياته وقدراته وطاقاته الكامنة لأجل استنهاض إمكانيات الواقع وتغييره بالسرعة القصوى التي قد تفوق إمكانيات الواقع العياني المشخص ، وهو ما قد تجلى في الطموح اليومي في تونس الشمم للانتقال إلى مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص و تكريم حقوق الإنسان في أيام قليلة وهو ما قد يستعصي إنجازه بالسرعة التي يريدها العقل الشمقي العربي الراهن نظراً لخصوصيات وتعقيدات الإمكانيات القائمة بالفعل في المجتمع التونسي ، ولكنه يبقى في جميع الأحوال حالة صحية ومفيدة لكون العقل الجمعي في هذه الحالة سوف يبقى يجاهد ويجتهد لإيجاد أفضل الحلول التكيفية للتعامل مع الواقع بشكل منتج وبناء في المآل الأخير.
وإن تلك القانونية التفاعلية النفسية التي حكمت الثورة في تونس الشمم تم استنساخها في العقل الجمعي المعذب في مصر جراء الإفقار المتوحش وتحويل الوطن إلى سجن كبير للمفقرين ، فكانت الثورة بعزيمة جمعية أذهلت العالم بكل شرائحه و فئاته وعلى رأسهم كل من كان يزعم بأنه يستطيع تلمس حركة التاريخ الفلسفية وتحليل التفاعلات النفسية الاجتماعية الأكثر تعقيداً.
وكما كان الأمر في تونس ومصر فإن الدول العربية الأخرى جميعها باختلاف الحدة ودرجة القتامة لا زالت تعاني من نفس الأزمة الجمعية الاكتئابية وهي حتماً وليس اختياراً سوف تستنسخ الصدمة الكهربائية للتجربتين التونسية والمصرية ولن تفلح الأدوات المنهجية التي خلقت ووطدت ذلك المزاج الاكتئابي المستديم المزمن في تأخير وإخماد إوار مخاض الخروج من النفق الاكتئابي للعقل الجمعي العربي لأن تلك الأدوات لم تعد تستطيع إيثاق العقل الجمعي العربي من جديد فهو قد تخلص من مصابه الاكتئابي المزمن وأصبح ينظر بعين وعقل ثاقبين إلى صورة مشرقة و بهيجة لواقعه المأمول الذي سوف يبنيه بعد أن حطم النفق الاكتئابي الذي تساكن معه ردحاً طويلاً بعد صدمة المعالج النفسي العربي الأول الشهيد الحق محمد البوعزيزي.
مصعب قاسم عزّاوي
طبيب عربي مقيم في لندن
 
عودة
أعلى