حول العالم ..البجعة السوداء

حول العالم

البجعة السوداء

فهد عامر الأحمدي

قبل أيام زرت بيروت على أمل تحقيق ثلاث أمنيات قديمة.. الأولى رؤية فيروز.. والثانية دخول مغارة جعيتا.. والثالثة التجول على دور الكتب المشهورة هناك..

وفي حين يصعب حتى على أهل البلد تحقيق الأولى، نجحت في دخول الثانية (حيث سبق وكتبت مقالا عن أعظم الكهوف السياحية في العالم أبديت فيها خجلي من زيارة معظمها باستثناء مغارة جعيتا أكثرهن عظمة وهيبة وقربا من الدار)..

أما الكتب فمرض قديم ومزمن يبدأ بذهابي بحقيبة خفيفة والعودة بمجموعة حقائب ثقيلة - أدخل بسببها بمشاكل مع خطوط الطيران رجال الجمارك.. غير أن زيارة لبنان هذه المرة كان لها طعم خاص.. فبيروت كانت -حتى خلال الحرب الأهلية- تلقب بمطبعة العالم العربي وصدرت منها معظم الكتب التي تأثر بها الكتاب والمثقفون العرب. ولهذا السبب كانت زيارة دور النشر هناك بمثابة تجسيد لذكريات ثقافية قديمة - ناهيك عن محاولة الشرب من فم النبع مباشرة!

.. وحين دخلت مكتبة "دار العلم للملايين" بدأت كالعادة بشراء الكتب على أربع مراحل:

المرحلة الأولى التخلص من أم حسام.. والثانية السؤال عن كتب ممنوعة أعرفها بالاسم.. والثالثة السؤال عن الكتب الأكثر شراء من المواطنين السعوديين قبلي.. أما المرحلة الرابعة فسؤال البائع نفسه عن أفضل الكتب التي ينصحني بشرائها..

ولم يخب ظني في البائع -فقد كان مثقفا بالفعل- حيث ناولني كتابا كان يقرأه بعنوان "البجعة السوداء" لمؤلف أمريكي من أصل لبناني يدعى نسيم طالب..

وكانت المفاجأة أنني لم أسمع بالكتاب من قبل رغم ترجمته الى 37 لغة عالمية ورغم أن نسخته الأمريكية دخلت قائمة النيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعا.. أما المؤلف فأكاديمي ورياضي وفيلسوف من مواليد لبنان عام 1960 وصفته صحيفة التايمز البريطانية ب «أكبر مفكر في العالم» وأصبح معروفا في أمريكا باسم "فيلسوف الصدفة"..

وتقوم نظرية البجعة السوداء أو Black Swan على حتمية ظهور أحداث مستقبلية لا يمكن التنبؤ بها أو توقع حدوثها أو تحليلها إلا بعد وقوع الفأس بالرأس (مثل تفجيرات سبتمبر، والأزمة المالية، وفقاعة الانترنت، وانهيارات الأسهم).. فرغم وجود آلاف الخبراء والمحللين والاشارات المسبقة يفشل الجميع في التنبؤ بالكوارث والأحداث العظيمة / وفي المقابل لا يحاول الكتاب التنبؤ بها بل فهم الأسباب التي تحول دون توقعها أصلا (وهي الأسباب التي يصعب سردها في مقال كهذا)..

ومصطلح البجعة السوداء نفسه أتى من اعتقاد الأوربيين بأن جميع البجع (أو الأوز العراقي) أبيض اللون ويستحيل وجوده بأي لون آخر.. غير أنهم فوجئوا برؤية بجع أسود اللون حين اكتشفوا أستراليا بالقرن الثامن عشر (وهنا يتساءل طالب هل المشكلة في وجود البجع الأسود أم في الإنسان الأوربي الذي استسلم لقناعة راسخة)

.. وبناء عليه يمكن تعريف البجعة السوداء بأنها: أحداث غير منتظرة أو متوقعة يصعب التنبؤ بوقوعها حسب معارفنا وخبراتنا السابقة رغم تأثيرها الكبير علينا.. وحين نتأمل الماضي والحاضر نكتشف أن معظم الأحداث العظيمة كانت بمثابة بجع أسود غير متوقع مثل ظهور جنكيز خان، وقيام الحرب العالمية الأولى، وانهيار البورصات العالمية، وأغلب الاكتشافات العلمية - بل وحتى ظهور الانترنت وانفجار جوجل وفيس بوك..

وحين تظهر "بجعات" كهذه يتصدى لتفسيرها ثلة من الخبراء المخادعين الذين يقدمون أنفسهم كمحللين عارفين في حين يصفهم طالب ب "المخادعين" كونهم يتحدثون عن ظواهر لايمكن التنبؤ بها أو التأكد من وجودها (قبل الذهاب لأرض البجع الأسود).. لهذا السبب يعتقد طالب بأن الخبرة والدراية تقتصر على أصحاب المهن والتخصصات التي تمارس فعلا (فالحداد ومدرب النادي وطبيب الأسنان خبراء في مجالهم) أما الاقتصاديون والمحللون ورجال السياسة وقادة الجيش فلا يمكن أن يكونوا خبراء لأنهم يتعاملون مع احتمالات مستقبلية غير متوقعة أو مؤكدة أصلا..

العجيب أن نسيم طالب لم يتعلم مبدأ (اللاتوقع) في جامعات أمريكا أو فرنسا بل في لبنان أثناء الحرب الأهلية حين تعلم صعوبة توقع مكان سقوط القذيفة التالية..
 
الخبراء لا يسمون خبراء لتنبئهم بالمستقبل او صدق توقعاتهم ..بل بمدى قدرتهم على التعامل مع الأحداث الطارئة وإيجاد الحلول لها ..
كما إن الإنسان عليه ان يضع الخطط وأن يضع الحلول لكل طارىء يطرأ على الخطة كي تكون جاهزة عند الضرورة .. إما إرهاق العقل فيما لا نفع فيه فهو الجنون بعينه ..
 
عودة
أعلى