الثقافـــة البحثية
أ .د . عبد المجيد حمزة الناصر
أكاديمي عراقي
أما بعد يقول أبو يوسف إسحاق الكندي في رسالة الحدود والرسوم أ .د . عبد المجيد حمزة الناصر
أكاديمي عراقي
"الفلسفة معرفة الإنسان نفسه"
إذ إن تعامل الإنسان مع العالم يبدأ من معرفة نفسه ليدرك
عن طريقها علاقته به ويحدد موقفه منه ويوظف فعاليته وفق حاجته إلى البقاء
وحسب مهمة استخلافه في الأرض. ومن خلال الخبرة والتجربة الطويلة
تبين انه لا المعرفة الفلسفية المغايرة للواقع أصبحت مقبولة ولا المعرفة العلمية
التي درست الثابت على حساب المتغير ولا المعرفة الجاهزة التي تجاوزها الواقع
لسبب من الأسباب. فالمعرفة الحقة التي نريد هي تلك التي تحفز الإنسان
للتعرف على حقيقته التاريخية الحضارية وواقعه ووضعه المحيطي المتجدد
وتعده ليكون في مستوى مواجهة التطورات العلمية المتسارعة
وتزوده بإمكانات التحكم فيها والتعامل بكفاية عالية مع التقنيات الحديثة.
فما ورد في القران الكريم من حث للإنسان على النظر في ملكوت السموات والأرض كان القوة الدافعة وراء الأبحاث العلمية التي بنتها الأمة وسماها الغرب "معجزة العرب" فالقران الكريم ذو الحلاوة والطلاوة والتلاوة وحسن الأسلوب في التعبير والإعجاز في الفصاحة، حير البلغاء وأذهل الفصحاء، حتى المشركون أعجبوا بالقران، فهذا الوليد بن المغيرة يجادل قومه في أسلوب القران وقد ادعوا انه شعر أو سجع الكهان فردهم قائلاً " فو الله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيدة ولا بإشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاُ من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وان عليه لطلاوة وانه لمثمر أعلاه مفدق أسفله و إنه يعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته. فجاء كتاب الله تعالى لا يحده زمن ولا ينتهي تأويله أو إعجازه ما دامت الحياة". فلقد وردت بالقرآن الكريم خمسون آية في تحريك العقل من وهدة التبلد وعشرات الآيات في إيقاظ الحواس من سمع وبصر ولمس وعشرات أخرى في إيقاظ التفكير والتفقه وطلب البرهان.
وحسبنا أن نشير إن كلمة العلم بتصريفاتها المختلفة قد وردت في القران الكريم بسبعمائة وخمسين آية. ويدعو القرآن الكريم إلى التفكير في الآيات السماوية والنجوم المضيئة والاختلافات العجيبة في أوضاعها والنظام المتقن الذي تسير عليه. ويدعو إلى التفكير في خلق الأرض وما في بطونها من العجائب واختلاف الليل والنهار وتبدل الفصول السنوية ويدعو إلى التفكير في عجائب النبات والنظام الذي يسير عليه وفي خلق الحيوانات وآثارها وخلق الإنسان والأسرار المودعة فيه . كما يدعو إلى السير في أقطار الأرض والتفكير في آثار الماضيين من التواريخ والعبر . فابتدأ خطاب الحق بكلمة (اقرأ) مفتاحاً للتعلم فبدأت المنظومة العلمية التي بنتها الأمة بحركة الترجمة من اللغات اليونانية والسريانية إلى العربية في بداية الأمر ثم الاستقلال والإبداع والابتكار لنفع الإنسانية جمعاء وإسعاد البشرية بمعرفة الحق والحقيقة.
فهل من وفقة لثلّة من العباقرة وخيرة نيرة من الباحثين ليكونوا نواة أصيلة تحرك دواليب البحث العلمي لتحقق الجامعات العراقية آمالها ومتطلبات ريادتها وضروريات رسالتها في توطين التكنولوجيا في شتى الميادين وتجذير وتأصيل التطبيقات التكنولوجية للعلوم المتقدمة عن طريق البحث العلمي المتميز بالدقة والشمول والجدية والتجدد.
فعلى قدر الدقة يرقى البحث أعلى المراتب والمستويات النوعية. أما الشمول فيتمثل في ضرورة التقصي في البحث واحتواء جميع عناصره والحصول على أصوله وتمام مادته. وأما الجدية فيكون عادة للباحث اتساع آخر لآفاق العلم والمعرفة. إن تكامل الجدية مع الشمول والدقة تكاملاً وظيفياً يفضي إلى تحقيق المراد من التجديد في العلم والمعارف ويجعل البحث العلمي في خدمة الإنسان والإنسانية. فالنهضة العلمية والتكنولوجية التي تمتلكها البشرية اليوم جاءت عن طريق البحث العلمي كما إن انجاز الأبحاث في الوسط الجامعي يعد إحدى الميزات التي تميز التعليم العالي .فمن الواجبات الأساسية إذاً إن نشيع ثقافة البحث العلمي الهادف الرصين مبتعدين عن اختيار المواضيع الهامشية التي تضفي على البحوث صفة السطحية والشكلية والنمطية والإمعان في العموميات. مطلوب أن نجعل من البحث العلمي مهنة و رسالة ونؤمن أن الطريق إلى البحث العلمي الهادف الناجح الرصين هو الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي وتشريعاتها:-
"الأمانة العلمية، التواضع العلمي، الصدق مع النفس، الصبر والأناة والهدوء والنفس الطويل وروح المطاولة والابتعاد عن الضجر والملل واليأس".
وتتناغم حينذاك بحوثنا الرائدة مع بحوث السفر الخالد والأجداد العظام بما وضعوه للبحوث من أصول وما حققوه للمعارف من تنوع فبرزوا بالطب والهندسة والفلك والعلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وسائر نواحي العلوم الأخرى. ونكون بحق خير خلف لخير سلف.