" أخلاقيات العمل الجامعي "
أ.د. عبد المجيد حمزة الناصر
أكاديمي عراقي
أما بعد، فنحن اليوم بحاجة أكيدة إلى وقفة صحيحة مع النفس نتمعن
وندقق ونمحص ونفيد ونستفيد بعقلية هادئة في ضوء الثوابت العلمية والحقائق الموضوعية،
ونشير إلى معاني شذرات السلف الصالح في المواصفات والفضائل للتدريسي، حيث وضحت
أخلاقيات العمل برحابة التصور الصحيح والحكم السديد وبما يتفق مع المداخل الحديثة
للعلم المعاصر (تكنولوجيا التعليم) لبناء التدريسي المتحفز للتعرف على حقيقته
التاريخية الحضارية وواقعه ووضعه المحيطي المتجدد واستعداده ليكون في مستوى مواجهة
التطورات العلمية المتسارعة وتزوده بإمكانيات التحكم فيها والتعامل بكفاية عالية مع التقنيات الحديثة ويؤمن بأن الطريق إلى النجاح هو الالتزام بأخلاقيات العمل الجامعي الذي سيتم تناوله في المحاور التالية:
المحور الأول: بعض الإشكاليات في التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي
وهنا نثير التساؤل التالي:
إلى أي مدى يمكن القول بأن مسيرة التعليم العالي والبحث العلمي في العالم العربي قد أسست حركة مجتمعية ووعياً نهضوياً دافعاً باتجاه التغيير والإصلاح العربي؟
وللإجابة على هذا التساؤل نقول:
إن قوة أي مجتمع لا تقاس بما يملك من وسائل تقنية ومادية فقط كما هو معروف، بل بما يملكه المجتمع أيضا من تشريعات قادرة على حمايته وتطويره وإن الإنسان هو "أساس المجتمع وغايته".
فرغم تشابه التجارب العربية في مجال التعليم إلا انه تبقى لكل تجربة عربية خصوصياتها واشكالياتها ويمكن الإشارة إلى جملة من الأسباب المسؤولة عن عجز التعليم العربي عن الوفاء بمتطلبات التنمية ويمكن تحديد الأسباب الفنية والمهنية بما يلي:
1- الافتقار إلى سياسة تعليمية واضحة المعالم محددة الأهداف ومبرمجة زمنياً.
2- التغيير المتلاحق للخطط التعليمية، إذ تتغير الخطط التعليمية بتغيير الوزراء، الأمر الذي يربك العملية التعليمية في كثير من البلدان العربية وحال بينها وبين تحقيق تراكم معرفي واتزان على صعيد التوجهات والتكوين الوجداني للنشيء.
3- هدر الموارد والجهود في أمور شكلية مظهرية وإغفال جوهر العملية التعليمية المتصل بإصلاح المناخ التعليمي واستبدال العلاقات السلطوية بعلاقات تعاونية سواءً على صعيد الموظف بمرؤوسيه أو على صعيد علاقة التدريسي بالطالب.
4- فوقية القرار والتمويل التعليمي وبيروقراطية التنفيذ، وكلا الأمرين يمثل عائقا أساسيا أمام جهود التطوير إذ تحول فوقية القرار والتمويل دون إسهام مَن في الميدان في صنع القرار التعليمي من واقع الخبرة الميدانية، وتقدير المال اللازم للقيام بعملية التطوير وتوفيره لدعم السياسات التعليمية، كما تحول مسألة البيروقراطية وتعقيدها دون تلبية الاحتياجات التعليمية في الوقت المناسب بلا هدر للمال والوقت والجهد. وتجدر هنا الإشارة إلى الدور الريادي لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق لإرساء دائم لسياسة مؤسسية أي تكون هناك سياسة وزارة لا سياسة وزير. والدعوة الصادقة إلى إنشاء منطقة عربية للتعليم العالي والبحث العلمي على غرار "المنطقة الأوربية للتعليم" لتنظيم التعليم العالي في وطننا الكبير.
5- شيوع نظرية "الراكب المجاني" والتي مفادها: "انهُ في حالة وجود سياسة ما غير مرضي عنها ولا تتفق مع المصلحة العامة فإن معارضتها أو اتخاذ موقف إزاءها قد تعرض صاحب ذلك الموقف للعقاب وعليه فمن الحكمة الانتظار، وعدم الانضمام إلى الموقف المعارض فان حدث تغيير إلى الأفضل في تلك السياسة فان الخير سيعم الجميع وان لم يحدث ولقي المعارضون جزاءهم فقد نجوت من العقاب". وواضح نظرية كهذه تفسر حالة السلبية واللامبالاة التي يعيشها المواطن العربي وهي مسؤولة عن جمود الحركة المجتمعية العربية.
المحور الثاني: شذرات عند السلف الصالح حول التدريس الجامعي
وهنا نثير التساؤل: هل هذه الشذرات بتلك الدرجة من القوة التي تمكنها من التفاعل الايجابي في ظل معطيات المرحلة الراهنة بعيدا عن الذوبان في الآخر أو الانكفاء على الذات؟
إن محاولة الإجابة على التساؤل السابق تستدعي استحضار شيء من تراث الأمة في هذا المجال:
فقد حدد الأنصاري في مخطوطته "اللؤلؤ النظيم في روم التعَلَم والتعليم" المواصفات العلمية للتدريسي منها:
أن يديم الحرص على الاستزادة من العلم بملازمة الجد والاجتهاد والمواظبة على الاشتغال والإشغال قراءةً وإقراءً ومطالعةً وفكراً وتعليقاً والاشتغال بالجمع والتأليف وهذا هو العمل ألتعمقي للتدريسي في لغة المرحلة الراهنة، فضلاً عن إفادة التدريسي للمجتمع الذي يعيش فيه "وهذا هو العمل الامتدادي للتدريسي، في لغة المرحلة الراهنة"، أما الفضائل ينبغي أن يتحلى بها التدريسي فقد حددها الشامي العاملي في كتابه ((مُنية المريد في آداب المفيد والمستفيد)) نوجز منها ما يلي:
· أن يكون متفرغاً كلياً للعلم والبحث "فزكاة العِلم أن يُعلَم" وهذا هو التفرغ بلغة المرحلة الراهنة.
· أن لا يستنكف من الاستفادة ممن هو دونه سناً أو نسباً أو منصباً ((فالحكمة تعمرُ بالتواضع لا بالتكبٌر) وهذا هو التواضع العلمي بلغة المرحلة الراهنة.
· إن لا يطيل الدرس تطويلاً يُمَل ولا تقصيراً يُخَل وأن يتحرى تفهيم الدرس بأيسر الطرق وأعذب الألفاظ.
· أن يكون نظيفاً بلباسه اللائق قاصداً بذلك تعظيم العلم وتبجيل الرسالة التي اؤتمن عليها.
· أن يكون نظيفا عن الغيبة وناصحاً في جميع الأمور وان يُعامل الناس بمكارم الأخلاق من طلاقة الوجه وإفشاء السلام وكظم الغيظ.
وان مواصفات كهذه تجعل من التدريسي الجامعي مثلاً تكاملاً جامعاً للمناقب حاوياً للفضائل عماده العلم وأساسه الأخلاق.
المحور الثالث: الفرص والتحديات
وأملنا كبير بالاستفادة من هذه الشذرات عند السلف الصالح وتطويرها بما يتناسب ومفهوم ((تكنولوجيا التعليم)) للوصول إلى تعليم أعلى فعالية وكفاية لجمع أصالة التراث وعلياء الماضي وجدة العصر وتقنياته، سيما أن إدخال تكنولوجيا التعليم المعاصر لا يلغي أساسيات نظم التعليم وخصوصياتها بل يضيف إليها مميزات تساعد وتسهل الاتصال التعليمي التربوي التفاعلي "Multimedia Interactive Collaboration" في داخل المؤسسات التعليمية وخارجها.
نريد التدريسي الجامعي أستاذاً وباحثاً وخبيراً ومربياً ويتصف بالإخلاص والثبات والشجاعة العلمية والكفاءة التدريسية والبحثية والنشاط التربوي الخير المثالي وحُسن الخلق والتواضع العلمي والذوق في التعامل الإنساني والعدالة وحتى في المظهر والهندام، عمق المعرفة واتساعها وحماس واندفاع وظيفي وحب للناس والإيمان المطلق بأن لا قيمة للعمل الأكاديمي (تدريس، إشراف، بحث خدمة للمجتمع) من دون الإتقان والتصميم والاهتمام وأن الجسر بين الخبرة وانعدامها هو الجودة في الأداء والعلاقات، ويتصف بعقلية علمية هادئة، مستقيماً، صادقاً يبني مستقبله بعرق الجبين وبقوة الإيمان برسالته، ايجابياً بناءاً يؤمن بالعمل التعمقي و الامتدادي والتقنيات الحديثة ، وان تكون له قابليتان : جودة التعليم ومكانة متقدمة في البحث العلمي، فلقد امتد التطور التكنولوجي إلى أدق المعارف والتطبيقات. الأمر الذي حَتمٌ على التدريسيين الجامعيين معاصرة هذا التطور واستثمار معطيات العلم والتكنولوجيا في ميدان التعليم والبحث العلمي في تحقيق تعليم أكثر كفاءة وأعلى فعالية ومناهج تدريسية متطورة.
وبهذا لا يمكن أن يؤخذ العلم من غير العلماء، وان تُطلب المهارات من غير أصحابها وان نتعلم من غير البارعين فيها والمتقنين لأداتها.
وكما بدأنا باسم الله تعالى نختتم بالحمد لله رب العالمين، وبقول الحبيب المصطفى نبي الرحمة "حاسبوا أنفُسكم قَبلَ أن تُحاسبوا ... وزِنوا أعمالكم قبل أن تورَثوا".