بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
على عتبة عصر «فلسفي» جديد.. بانتظار كمبيوتر المستقبل
د. خالص جلبي
في ربيع عام 1925 أصيب (فيرنر هايزنبرغWerner Heisenberg) المحاضر في جامعة جوتنجن بنوبة شديدة من الحساسية فهرع إلى جزيرة هليجولاند في بحر الشمال للعلاج. وهي جزيرة مواجهة لمدينة فليهلمسهافن، حيث كنت أتخصص في الطب، وكانت ميناء بحريا في عصر القيصر غليوم. أما مدينة جوتنجن Goettingen فهي مدينة جامعية صغيرة في الشمال أنجبت عبقريات شتى، وكنت على وشك العمل فيها في جراحة الأوعية الدموية فلها في قلبي الذكرى.
كان هايزنبرغ يومها يبلغ 23 عاماً ومنكبا على فهم التركيب الداخلي للذرة (العــالم الأصغر Microcosmos. )يقول هايزنبرغ إنه جاءته ليلة حاسمة فارقه النوم وبقي يسهر على المعادلات الرياضية حتى كانت ساعة السحر، وعندها انجلت الأمور أمام عينيه. ويشبِّه تلك اللحظة أنها كانت كمن هو غارق في بحر من الضباب فقد الاتجاهات وفي لحظة انقشع الضباب فرأى المسير. يقول: فعرفت أين أنا؟ (wo ich bin).
غادر هايزنبرغ غرفته وصعد إلى سفح جبل يتأمل ثبج البحر الأخضر حتى صعد قرص الشمس آتون من قلب الأمواج.
هذه اللحظة التاريخية غيرت العالم وما زالت، فقد اجتمع 7700 عالم في برلين في مارس 2005 في الذكرى السنوية للقاء (الجمعية الفيزيائية الألمانيةDPG Deutsche Physicalische Gesselschaft) يبحثون (عالم الكوانتوم) الذي كشف عنه النقاب هايزنبرغ قبل ثمانين سنة. ولم يحدث أن اجتمعت في مكان واحد مثل هذه التظاهرة الفريدة التي تضم ألمع الأدمغة العلمية في أوربا.
ومن استمع لهم ظن أنه في بابل من المصطلحات العلمية مثل: (الأوتار الفائقة) و(بداية العالم والانفجار العظيم) و(ثنائية الضوء) و(حقيقة الواقع) و(طبيعة الزمن) و(ما هو الشيء الذي تتكون منه كل الأشياء؟).
إننا على ما يبدو نتحدث مثل السحرة حتى الآن أو ما يلقب به (أنتون تسايلنجر Anton Zeilinger) من (فيينا) الذي أدهش (الدلاي لاما) وهو يلعب بالضوء، فيخفيه من مكان ليلمع في مكان آخر، مثيرا فكرة ولادة الفوتونات من لا شيء، أو مذكرا بمفاجأة نقل عرش ملكة سبأ بتحويله إلى أشعة؟ وهي التجربة التي حققت له سمعة مدوية قبل سبع سنوات عن (الحزم الضوئية Beamexperiment) فهو كل يوم في مؤتمر ومحطة فضائية يستعرض مع فريقه فكرة الكوانتوم وكأنها السحر، ويتكلم في كل شيء من الفيزياء إلى الفلسفة، ويحب الاستشهاد بالفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين، وقد تكون له زيارة إلى السعودية، وأهم شيء فعله هذا الرجل في عالم الكوانتوم النقل البعــــيد للفوتــــونات (Quantenteleportation)
إن (ميكانيكا الكم) يعتبر من أكثر العلوم غرابة وطرافة وشذوذا، حيث تتكسر الحتمية، ولا يبق مكان للواقع الموضوعي، ويسود قانون الاحتمالات، وهو ما عبر عنه (هايزنبرغ) مع (بول ديراك) البريطاني وهما يدشنان هذا العلم منذ عام 1928 بقانون (اللايقينUncertainity Principle)، وأذكر أنني قرأت تفسير الظلال في الستينات عند قوله تعالى «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» فوقف سيد قطب وقفة طويلة يتكلم عن (العقلية العلمية) و(العقلية الغيبية) ويستشهد بمفاهيم الكوانتوم بدون إشارة إلى علم ميكانيكا الكم، الذي كان قد تأسس قبل أربعين سنة من كتابته، فعرفت أن قمم الفكر الإسلامي لم تعرف العصر بعد؟
ولد مفهوم الكوانتوم على يد العالم الألماني ماكس بلانك Max Planck الذي وضع قانونا لوحدة الطاقة ولعل أهم ثوابت الكون هي وحدة ماكس بلانك وسرعة الضوء، وكان ذلك عام 1900 ولم يعترف العلماء لبلانك إلا بعد أربعين سنة، وهي نفس قصة لوي باستور مع الجراحين الذين رفضوه لأنه كيمياوي، وهو الذي دخل إلى عالم الميكروبيولوجيا، فأماط اللثام عن الوحدات المرضية من عالم الجراثيم، وطور لقاح الكَلَب.
وفي مدى قرن حدثت قفزات في مفهوم الكوانتوم قلبت شكل العالم الحديث، وتبدأ القصة من آينشتاين الذي فهم الضوء وفق كمات الكوانتوم، فالضوء من وجهة نظره ليس موجات كهرطيسية بل جزيئات من الطاقة، ومع أن آينشتاين كان من مهد الطريق لمفهوم الكوانتوم، ولكنه بكل أسف انقلب عليه حينما رأى غرابة هذا العالم الذي يتملص من قبضة القوانين إلى فوضى الاحتمالات، وكل يوم هو في شان، فعارض المفهوم، وحزن لذلك هايزنبرغ الشاب.
وفي عام 1925 وضع هايزنبرغ المعادلات الرياضية التي تحكم عالم الذرة السفلي، ليضع لاحقاً إيرفين شرودنجر معادلته التي تفسر الضوء على شكلين جزئيات وأمواج، ولكنه اعترض بطريقة ساخرة على مفهوم الاحتمال بقصة «القطة الحية الميتة» المحبوسة في حيز، والمعزولة عن العالم، والمهددة بانكسار زجاجة سم، من مطرقة مربوطة بتحلل ذرات يمكن أن تتحلل ويمكن أن لا تتحلل؟ فمع قانون اللايقين لهايزنبرغ القطة ميتة وحية بنفس الوقت فهل يعقل هذا؟
ولكن المسألة كما يقول نديم الجسر في كتابه (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) أن نفرق بين (التعقل) و(التصور) وهذا الذي حدث مع تلك الليلة الخالدة لهايزنبرغ; فالرجل اشتعل دماغه لفهم القوانين السفلية التي تحكم عالم الذرة، ولكن المعادلات الرياضية قادته إلى أغرب التصورات، وهي نقض كامل لكل الفكر الفلسفي المعروف، فبدأت الصدفة تلعب دورها في العالم، وانتهى الواقع الموضوعي فلم يعد وجود للحقيقة المطلقة، ولم يعد المراقب صاحب الدور المحوري، وهو الشيء الذي انتهى إلى وصفه بشكل جميل روبرت آغروس وجورج ستانسيو في كتابهما (قصة العلم) الذي ترجم إلى اللغة العربية في سلسلة عالم المعرفة بعنوان (العلم في منظوره الجديد) ، أن الفيزياء القديمة انتهت وأن مفاهيم مثل (الزمن المطلق) و(المكان المطلق) و(حيادية المراقب) للتجربة أصبحت من مخلفات الماضي، فأي مراقب يدخل إلى أي تجربة يحدث من التأثير ما يغير نتائج التجربة، وبذلك انتهت الحيادية والموضوعية Objectivity)) واليقين، ومثل أن الشيء يمكن أن يكون في مكانين في نفس الوقت، وهي الفكرة التي ينادي بها ديفـــيد دويتش David Deutsch البريطاني من أوكســفورد عن عوالم موازية لا نهائية Multiversum) ) تخضع لنفس القوانين التي نعيشها، ويبرهن عليها بغرابة سلوك الضوء حين نسلطه من ثقبين ثم نقرب بينهما ليتحولا من بقع إلى موجات متكسرة، وحسب نظريته فيمكن للديناصورات في عالم آخر أن تتابع حياتها بدون انقراض من ضربة مذنب، وكان أول من تقدم عام 1985 بفكرة كمبيوتر الكوانتوم، حيث يستبدل شرائح السيلسيوم بالذرات التي تشبه العوالم الموازية اللانهائية، ويمكن بواسطتها إجراء عمليات حسابية من (تعشيق) خمسين ذرة ما هو أكثر من كل جزيئات الكون التي تبلغ عشر قوة 83، التي سوف تقودنا في المستقبل إلى إنتاج الحاسوب الأعظم، وفكرته حول العوالم هي نفس الفكرة التي قالها العالم الياباني (آو أي) في تفسيره لحوادث مثلث الموت في جنوب بحر اليابان الذي يبتلع السفن باستمرار، وهو مواز لنفس خط عرض مثلث برمودا في الأطلسي. من أنها تنتقل من عالم إلى عالم، كما في انتقال الصورة إلى موجات كهرطيسية.
وهذه النتائج الفلسفية في عالم الكوانتوم هدمت الفكر الفلسفي القديم برمته، وفتحت الطريق لكل الإنجازات الإلكترونية الحديثة ومن هنا تأتي أهميته، ففي عام 1947 استطاع اثنان من مهندسي شركة بيل Bell في أمريكا استنادا إلى مفاهيم الكوانتوم أن يلحما أول ترانزستور، ومنه تم اختراع كل الآلة المعاصرة في المصانع والأسلحة والاستخدامات الميدانية، من الطيران حتى الغسالة والكمبيوتر، فكلها في داخلها شرائح كمبيوترية هي الدماغ الكوانتي الجديد.
والقليل من يدرك أو تابع تطور الكمبيوتر; ففي عام 1971ولد أول كمبيوتر في أحشاءه 2300 ترانزستور وكان يومها الفتح المبين، ولكن كمبيوتر (البنتيوم 4 Pentium ) من عام 2000 مقارنة بكمبيوتر (انتيل Intel) يومها يضم 42 مليون ترانزستور ؟! وتبلغ مساحة الرقيقة الكمبيوترية 0,18 ميكرومتر مقارنة بعام 1971 10 ميكرومتر، أي أن الكمبيوتر زادت طاقته حوالي ألفي مرة، وانخفضت مساحة رقائقه مائة مرة، وهذه الأرقام سوف تصل عام 2020 إلى الحاجز الفيزيائي الذي سوف تنكسر عنده العتبة كما حدث مع عتبة البوسفور بارتفاع مستوى مياه بحر مرمرة مع ذوبان عصر الجليد قبل 7500 سنة فحدث طوفان نوح، حيث سيحوي الكمبيوتر حسب قانون (مور Moore) ) الذي وضعه جوردون مور عام 1965 أن الترانزستورات تتضاعف قوتها كل 18 شهرا، وهذا سيوصلها إلى الحافة التي تعجز فيها عن المتابعة لولادة كمبيوترات نوعية جديدة، تشبه الانتقال من عصر النار إلى عصر الطاقة النووية، باستخدام الطاقة الكمومية العجيبة في الذرات التي تنطلق فيها الطاقة إلى ما لم يخطر على قلب بشر، واجتماع ألف ذرة في الكمبيوتر الكوانتي سوف يفوق بطاقته ما تعجز عنه كل كمبيتورات العالم مجتمعة. وهي تذكر بقصة الحكيم والسلطان، فبعد أن عالجه من مرض عضال قال له الملك أريد أن أكافئك فاطلب؟ قال هو أمر بسيط. انظر إلى لوحة الشطرنج وطلبي حبة قمح في الخانة الأولى تضاعف مع كل خانة 48 مرة. أمر الملك بصرف حبوب القمح له، ولكن الخازن هرع إلى الملك ليقول إن حبوب العالم كله لن تكفيه يا مولاي. وذرات الكمبيوتر الكوانتي ستفعل نفس الشيء بعد عام 2020!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
على عتبة عصر «فلسفي» جديد.. بانتظار كمبيوتر المستقبل
د. خالص جلبي
في ربيع عام 1925 أصيب (فيرنر هايزنبرغWerner Heisenberg) المحاضر في جامعة جوتنجن بنوبة شديدة من الحساسية فهرع إلى جزيرة هليجولاند في بحر الشمال للعلاج. وهي جزيرة مواجهة لمدينة فليهلمسهافن، حيث كنت أتخصص في الطب، وكانت ميناء بحريا في عصر القيصر غليوم. أما مدينة جوتنجن Goettingen فهي مدينة جامعية صغيرة في الشمال أنجبت عبقريات شتى، وكنت على وشك العمل فيها في جراحة الأوعية الدموية فلها في قلبي الذكرى.
كان هايزنبرغ يومها يبلغ 23 عاماً ومنكبا على فهم التركيب الداخلي للذرة (العــالم الأصغر Microcosmos. )يقول هايزنبرغ إنه جاءته ليلة حاسمة فارقه النوم وبقي يسهر على المعادلات الرياضية حتى كانت ساعة السحر، وعندها انجلت الأمور أمام عينيه. ويشبِّه تلك اللحظة أنها كانت كمن هو غارق في بحر من الضباب فقد الاتجاهات وفي لحظة انقشع الضباب فرأى المسير. يقول: فعرفت أين أنا؟ (wo ich bin).
غادر هايزنبرغ غرفته وصعد إلى سفح جبل يتأمل ثبج البحر الأخضر حتى صعد قرص الشمس آتون من قلب الأمواج.
هذه اللحظة التاريخية غيرت العالم وما زالت، فقد اجتمع 7700 عالم في برلين في مارس 2005 في الذكرى السنوية للقاء (الجمعية الفيزيائية الألمانيةDPG Deutsche Physicalische Gesselschaft) يبحثون (عالم الكوانتوم) الذي كشف عنه النقاب هايزنبرغ قبل ثمانين سنة. ولم يحدث أن اجتمعت في مكان واحد مثل هذه التظاهرة الفريدة التي تضم ألمع الأدمغة العلمية في أوربا.
ومن استمع لهم ظن أنه في بابل من المصطلحات العلمية مثل: (الأوتار الفائقة) و(بداية العالم والانفجار العظيم) و(ثنائية الضوء) و(حقيقة الواقع) و(طبيعة الزمن) و(ما هو الشيء الذي تتكون منه كل الأشياء؟).
إننا على ما يبدو نتحدث مثل السحرة حتى الآن أو ما يلقب به (أنتون تسايلنجر Anton Zeilinger) من (فيينا) الذي أدهش (الدلاي لاما) وهو يلعب بالضوء، فيخفيه من مكان ليلمع في مكان آخر، مثيرا فكرة ولادة الفوتونات من لا شيء، أو مذكرا بمفاجأة نقل عرش ملكة سبأ بتحويله إلى أشعة؟ وهي التجربة التي حققت له سمعة مدوية قبل سبع سنوات عن (الحزم الضوئية Beamexperiment) فهو كل يوم في مؤتمر ومحطة فضائية يستعرض مع فريقه فكرة الكوانتوم وكأنها السحر، ويتكلم في كل شيء من الفيزياء إلى الفلسفة، ويحب الاستشهاد بالفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين، وقد تكون له زيارة إلى السعودية، وأهم شيء فعله هذا الرجل في عالم الكوانتوم النقل البعــــيد للفوتــــونات (Quantenteleportation)
إن (ميكانيكا الكم) يعتبر من أكثر العلوم غرابة وطرافة وشذوذا، حيث تتكسر الحتمية، ولا يبق مكان للواقع الموضوعي، ويسود قانون الاحتمالات، وهو ما عبر عنه (هايزنبرغ) مع (بول ديراك) البريطاني وهما يدشنان هذا العلم منذ عام 1928 بقانون (اللايقينUncertainity Principle)، وأذكر أنني قرأت تفسير الظلال في الستينات عند قوله تعالى «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» فوقف سيد قطب وقفة طويلة يتكلم عن (العقلية العلمية) و(العقلية الغيبية) ويستشهد بمفاهيم الكوانتوم بدون إشارة إلى علم ميكانيكا الكم، الذي كان قد تأسس قبل أربعين سنة من كتابته، فعرفت أن قمم الفكر الإسلامي لم تعرف العصر بعد؟
ولد مفهوم الكوانتوم على يد العالم الألماني ماكس بلانك Max Planck الذي وضع قانونا لوحدة الطاقة ولعل أهم ثوابت الكون هي وحدة ماكس بلانك وسرعة الضوء، وكان ذلك عام 1900 ولم يعترف العلماء لبلانك إلا بعد أربعين سنة، وهي نفس قصة لوي باستور مع الجراحين الذين رفضوه لأنه كيمياوي، وهو الذي دخل إلى عالم الميكروبيولوجيا، فأماط اللثام عن الوحدات المرضية من عالم الجراثيم، وطور لقاح الكَلَب.
وفي مدى قرن حدثت قفزات في مفهوم الكوانتوم قلبت شكل العالم الحديث، وتبدأ القصة من آينشتاين الذي فهم الضوء وفق كمات الكوانتوم، فالضوء من وجهة نظره ليس موجات كهرطيسية بل جزيئات من الطاقة، ومع أن آينشتاين كان من مهد الطريق لمفهوم الكوانتوم، ولكنه بكل أسف انقلب عليه حينما رأى غرابة هذا العالم الذي يتملص من قبضة القوانين إلى فوضى الاحتمالات، وكل يوم هو في شان، فعارض المفهوم، وحزن لذلك هايزنبرغ الشاب.
وفي عام 1925 وضع هايزنبرغ المعادلات الرياضية التي تحكم عالم الذرة السفلي، ليضع لاحقاً إيرفين شرودنجر معادلته التي تفسر الضوء على شكلين جزئيات وأمواج، ولكنه اعترض بطريقة ساخرة على مفهوم الاحتمال بقصة «القطة الحية الميتة» المحبوسة في حيز، والمعزولة عن العالم، والمهددة بانكسار زجاجة سم، من مطرقة مربوطة بتحلل ذرات يمكن أن تتحلل ويمكن أن لا تتحلل؟ فمع قانون اللايقين لهايزنبرغ القطة ميتة وحية بنفس الوقت فهل يعقل هذا؟
ولكن المسألة كما يقول نديم الجسر في كتابه (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) أن نفرق بين (التعقل) و(التصور) وهذا الذي حدث مع تلك الليلة الخالدة لهايزنبرغ; فالرجل اشتعل دماغه لفهم القوانين السفلية التي تحكم عالم الذرة، ولكن المعادلات الرياضية قادته إلى أغرب التصورات، وهي نقض كامل لكل الفكر الفلسفي المعروف، فبدأت الصدفة تلعب دورها في العالم، وانتهى الواقع الموضوعي فلم يعد وجود للحقيقة المطلقة، ولم يعد المراقب صاحب الدور المحوري، وهو الشيء الذي انتهى إلى وصفه بشكل جميل روبرت آغروس وجورج ستانسيو في كتابهما (قصة العلم) الذي ترجم إلى اللغة العربية في سلسلة عالم المعرفة بعنوان (العلم في منظوره الجديد) ، أن الفيزياء القديمة انتهت وأن مفاهيم مثل (الزمن المطلق) و(المكان المطلق) و(حيادية المراقب) للتجربة أصبحت من مخلفات الماضي، فأي مراقب يدخل إلى أي تجربة يحدث من التأثير ما يغير نتائج التجربة، وبذلك انتهت الحيادية والموضوعية Objectivity)) واليقين، ومثل أن الشيء يمكن أن يكون في مكانين في نفس الوقت، وهي الفكرة التي ينادي بها ديفـــيد دويتش David Deutsch البريطاني من أوكســفورد عن عوالم موازية لا نهائية Multiversum) ) تخضع لنفس القوانين التي نعيشها، ويبرهن عليها بغرابة سلوك الضوء حين نسلطه من ثقبين ثم نقرب بينهما ليتحولا من بقع إلى موجات متكسرة، وحسب نظريته فيمكن للديناصورات في عالم آخر أن تتابع حياتها بدون انقراض من ضربة مذنب، وكان أول من تقدم عام 1985 بفكرة كمبيوتر الكوانتوم، حيث يستبدل شرائح السيلسيوم بالذرات التي تشبه العوالم الموازية اللانهائية، ويمكن بواسطتها إجراء عمليات حسابية من (تعشيق) خمسين ذرة ما هو أكثر من كل جزيئات الكون التي تبلغ عشر قوة 83، التي سوف تقودنا في المستقبل إلى إنتاج الحاسوب الأعظم، وفكرته حول العوالم هي نفس الفكرة التي قالها العالم الياباني (آو أي) في تفسيره لحوادث مثلث الموت في جنوب بحر اليابان الذي يبتلع السفن باستمرار، وهو مواز لنفس خط عرض مثلث برمودا في الأطلسي. من أنها تنتقل من عالم إلى عالم، كما في انتقال الصورة إلى موجات كهرطيسية.
وهذه النتائج الفلسفية في عالم الكوانتوم هدمت الفكر الفلسفي القديم برمته، وفتحت الطريق لكل الإنجازات الإلكترونية الحديثة ومن هنا تأتي أهميته، ففي عام 1947 استطاع اثنان من مهندسي شركة بيل Bell في أمريكا استنادا إلى مفاهيم الكوانتوم أن يلحما أول ترانزستور، ومنه تم اختراع كل الآلة المعاصرة في المصانع والأسلحة والاستخدامات الميدانية، من الطيران حتى الغسالة والكمبيوتر، فكلها في داخلها شرائح كمبيوترية هي الدماغ الكوانتي الجديد.
والقليل من يدرك أو تابع تطور الكمبيوتر; ففي عام 1971ولد أول كمبيوتر في أحشاءه 2300 ترانزستور وكان يومها الفتح المبين، ولكن كمبيوتر (البنتيوم 4 Pentium ) من عام 2000 مقارنة بكمبيوتر (انتيل Intel) يومها يضم 42 مليون ترانزستور ؟! وتبلغ مساحة الرقيقة الكمبيوترية 0,18 ميكرومتر مقارنة بعام 1971 10 ميكرومتر، أي أن الكمبيوتر زادت طاقته حوالي ألفي مرة، وانخفضت مساحة رقائقه مائة مرة، وهذه الأرقام سوف تصل عام 2020 إلى الحاجز الفيزيائي الذي سوف تنكسر عنده العتبة كما حدث مع عتبة البوسفور بارتفاع مستوى مياه بحر مرمرة مع ذوبان عصر الجليد قبل 7500 سنة فحدث طوفان نوح، حيث سيحوي الكمبيوتر حسب قانون (مور Moore) ) الذي وضعه جوردون مور عام 1965 أن الترانزستورات تتضاعف قوتها كل 18 شهرا، وهذا سيوصلها إلى الحافة التي تعجز فيها عن المتابعة لولادة كمبيوترات نوعية جديدة، تشبه الانتقال من عصر النار إلى عصر الطاقة النووية، باستخدام الطاقة الكمومية العجيبة في الذرات التي تنطلق فيها الطاقة إلى ما لم يخطر على قلب بشر، واجتماع ألف ذرة في الكمبيوتر الكوانتي سوف يفوق بطاقته ما تعجز عنه كل كمبيتورات العالم مجتمعة. وهي تذكر بقصة الحكيم والسلطان، فبعد أن عالجه من مرض عضال قال له الملك أريد أن أكافئك فاطلب؟ قال هو أمر بسيط. انظر إلى لوحة الشطرنج وطلبي حبة قمح في الخانة الأولى تضاعف مع كل خانة 48 مرة. أمر الملك بصرف حبوب القمح له، ولكن الخازن هرع إلى الملك ليقول إن حبوب العالم كله لن تكفيه يا مولاي. وذرات الكمبيوتر الكوانتي ستفعل نفس الشيء بعد عام 2020!