الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد
ازداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رزقوا إذا قلت فيهم القناعة . وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم ، ولا لباس يواريهم ، ولا مراكب تحملهم ،ولا مساكن تكنّهُم ؛ إذ يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء ، ولن يشبعهم شيء ؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم ، ولا تبصر من هم تحتهم ؛ فيزدرون نعمة الله عليهم ، ومهما أوتوا طلبوا المزيد ، فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبدًا .
ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبدًا ؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء ، وهذا من أبعد المحال ؛ ذلك أن أي إنسان إن كَمُلت له أشياء قصُرَت عنه أشياء ، وإن علا بأمور سَفُلَت به أمور ، ويأبى اللّه- تعالى- الكمال المطلق لأحد من خلقه كائنا من كان ؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة ، والمنح الجليلة التي يغبط عليها صاحبها .
السبيل إلى القناعة:
التزام القناعة عسير على بني آدم- إلا من وفقه اللّه للهدى وكفاه شر نفسه وشحها وطمعها- لأن بني آدم مفطورون على محبة التملك والتمون ؛ ولكن مجاهدة النفس مطلوبة لتخفيف طمعها وتقريبها من الزهد والقناعة ولذلك طرق إذا سلكها العبد مع إخلاصه تحققت له القناعة بإذن الله تعالى ، فمن ذلك
1 - تقوية الإيمان بالله تعالى ، وترويض القلب على القناعة والغنى ؛ فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب ؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى ، وإن كان لا يجد قوت يومه ، ومن كان فقير القلب ؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهما واحدا لرأى أن غناه في ذلك الدرهم ؛ فلا يزال فقيرًا حتى يناله.
2 - اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه ، كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه- وفيه ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات ، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب
إن القناعة من يحلل بساحته **الم يلق في ظلها هما يؤرقه
3 - تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب يقول عامر بن عبد قيس أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن مساء لم أبال على ما أمسي ، وإذا تلوتهن صباحًا لم أبال على ما أصبح قال تعالى(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ).
4- معرفة حكمة الله- سبحانه وتعالى- في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد ؛ حتى تحصل عمارة الأرض ، ويتبادل الناس المنافع والتجارات ، ويخدم بعضهم بعضًا قال الله تعالى(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )
5 - الإكثار من سؤال اللّه- سبحانه وتعالى- القناعة ، والإلحاح بالدعاء في ذلك فنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو أكثر الناس قناعة وزهدًا ورضى ، وأقواهم إيمانًا ويقينًا ؛ كان يسأل ربه القناعة،
ولأجل قناعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فإنه ما كان يسأل ربه إلاالكفاف من العيش ، والقليل من الدنيا كما قال- عليه الصلاة والسلام- اللهم . اجعل رزق آل محمد قوتًا
هي القناعة فالزمها تعش ملك **الو لم يكن منها إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها**هل راح منها سوى بالقطن والكفن
6 - العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء ، وكثرة الحركة، وسعة المعارف ، وإن كان بعضها أسبابًا ؛ إلا أن الرزق ليس معلقًا بها بالضرورة وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة وذكاء أو غير ذلك وأكثر منه رزقا فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه
7 - النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا ، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها ؛ ولذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم انظروا إلى من أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه.
وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء ، ومن هو أقل منه فيأشياء ؛ فإن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا أو معذبا ففيهم من هو أشد منك مرضا وأكثر تعذيبًا ، فلماذا ترتفع رأسك لتنظر من هوفوقك ، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟!
إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاءً ومعرفة وخلقًا ، فلم لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض مانلت؟! .
اقنع برزق يسير أنت نائله**واحذر ولا تتعرض للإرادات
فما صفا البحر إلا وهومنتقص ** ولا تكدر إلا بالزيادات
8 - قراءة سير السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا ، وزهدهم فيها ، وقناعتهم بالقليل منها ، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثارا للباقية على العاجلة وعلى رأسهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وإخوانه منالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام.
وقال ابراهيم بن ادهم لشقيق: أخبرني عما أنت عليه : قال شقيق قلت : إن رزقت أكلت ، وإن منعت صبرت ، قال : هكذا تعمل كلاب بلخي. قلت فكيف تعمل أنت ؟ قال : إذا رزقت آثرت ، وإذا منعت شكرت ، فعد المنع عطاء يشكر عليه ، وهو كذلك.
صدق قول شيخ الاسلام ابو تيمية- طيب الله ثراه
وجدت القناعة ثوب الغنى** فصرت بأذيالها أتمسك
فألبسني جاهها حلة ** يمر الزمان ولم تنتهك
فصرت غنيا بلا درهم ** أمر عزيزا كأني ملك
9- العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة ، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ،وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَاكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ )
10 - النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه التحقيق ؛ فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله ، وهو ما يسد حاجته وما فَضَلَ عن ذلك فليس له ، وإن كان يملكه فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير ؛ بل ربما كان الفقير أكثر منه!!
ونختم بابيات للامام الشافعي رحمه الله
عزيز النفس من لزم القناعة ** ولم يكشف لمخلوق قناعة
أفادتنا القناعة كل عز ** وهل عز أعز من القناعة
فصيرها لنفسك رأس مال ** وصير بعدها التقوى بضاعة
وقال ايضا
العبدُ حرٌّ إن قَنَعْ **ْ والحرُّ عبدٌ إن طمع
فاقنعْ ولا تطمعْ فلاَ ** شيءٌ يشينُ سوى الطمع.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا القناعة بما رزقنا ، وأن يجعل حسابنا يسيرا ،وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا ، إنه سميع مجيب . والحمد للّه رب العالمين.
المصدر
هنا
وهنا