yagamalo800
New Member
هذه القصة سمعتها بنفسى من فضيلة الشيخ الدكتور عمر عبدالكافى عبر إحدى القنوات الفضائية .. فصغتها بعباراتى, وأسلوبى الخاص.. قال فضيلته:
تمر بالانسان أيام وأحداث كثيرة, تظل فى ذهنه محفورة, وإن ظن الناس أنها بركام النسيان مغمورة أو مقهورة. لكنها تطل عليه بين حين وحين, تذكره بمالا يموت ولا يستكين. ومن ذاك أنى كنت فى بلدنا الصغيرة الجميلة, إحدى قرى الصعيد, فى جنوب مصر العتيد. وهى قرية أهلها كرماء أشد الكرم, كأنهم فى ذلك النار على العلم. وكان لى طريق أروح فيه وأغدو, طالباً للعلم كيفما شئت, فتارة أمشى وتارة أعدو. وكان يقطع هذا الطريق قضيبان من الحديد, ذوى بأس شديد, يمتدان على مرمى البصر البعيد. من مر عليهما قاطعاً أو موازياً, وجب عليه الحذر وإلا حفه الخطر, أو كان للهلكة ناوياً أو عنها غافلاً. فقد كانا لمن لا قبل لأحد على مواجهته, ولا يقدر أحدنا على مصافحته. وكنا نسمع هديره الهادر , ونذيره الناذر كلما لاح فى الأفق, ووصلات القضيبين من تحته تصطفق, يمضى سريعاً, ويصفر صفيراً مريعاً, وينفث دخاناً شنيعاً. فمن لم يره كان له سميعاً, ومن رآه صار منه هلوعاً. وإن أراد الوقوف كان له صفير صراخ, يصم آذان من كان منه قريباً, ويلفت انتباه القاصى لفتاً مباغتاً عجيباً. فلا الدانى منه يملك إلا الابتعاد, ولا القاصى عنه يبغى إلا الانتباه والانحياد.
لعلك علمت أنه القطار. يسرع حيث سار, فى ليل أو نهار. وهو ليس كمثل باقى الناقلات. بل له طريق مخصوصة, لا يجاريه فيها أحد ولا يرافقه عليها أحد. وكأنه مرهون بها أو على الأصح هى التى به رهنت, فلا هى لغيره حملت, ولاهى لغيره لانت ولا وهنت. ولاهو يملك بنفسه مفارقتها, ولو عارضه عارض ما أمكنه مغادرتها.
وكان كما هو معلوم, وفى فن صناعة مثله مفهوم. اذا مر بمنطقة مأهولة, وبالسكان أو الحيوان مزحومة, صنعوا معابر لكل عابر كان, يمر عبرها بامان, وقد أسموها بالمزلقان. وعليه يقوم عامل من العمال, لايجوز له أى تكاسل أو اهمال. وهو بمواعيد مرور القطار خبير, وبعلامات اقترابه من المزلقان بصير. فكلما حان موعد المرور يقف وينتصب, وهتف بالناس: لاأحد يعبر أو يقترب. وحينها كنا نقف ونرتقب, على الجانبين ذات اليمين وذات الشمال, ولا يجروءن أحدنا حينئذ على العبور, فذاك ضرب من جنون أو خبال.
لكنى ذات يوم رأيت بعينى عين اليقين, ولو قص على أحدهم ما رأيته لظننته من الكاذبين.
فقد وقف الناس بعد أن أثار عامل المزلقان الانتباه. لافرق بين فقير وبين من ملك السلطان والجاه. فمن متعجل يمعن النظر على سبيل القطار لعله يبلغ منتهاه, الى متريث اعتاد الانتظار فلم يتعجل مبتغاه. ثم جاء سائق سيارة يهرع على عجل, وكأنما يسابق الريح, ولو لم يعبر المزلقان قبل مرور القطار فلن يستريح. واقتحم المكان بلا روية, فأفسح له الواقفون ممراً من خلالهم, ليدرك العبور على المزلقان سريعا من بينهم. وما إن توسطت سيارته المزلقان واستعرضت, حتى توقفت وتعطلت, وراح الرجل يستنهضها فما استنهضت. وانكفأ الرجل يعصر مفتاح الادارة لياً وعصراً , ويرفس بقدمه رفساً ونهراً. فلم ير الناس إلا السيارة ترتج رجاً, وتصدر صوتاً كمن يمج مجاً. لكنها أبت إلا الثبات فى مكانها, وأجزاؤها تشاركها آلامها, بصوت محركها المتحشرج, وبدنها المهتز المترجرج.
ولما كان الناس كما قلت لك أهل كرم ونخوة, فقد تقدم البعض من ذوى الصحة والقوة, نحو السيارة يدفعونها, لعلهم عن المزلقان يبعدونها. إلا أن صفير الصراخ بلغهم, فارتدوا على الجانبين حيث كان مكانهم. وهم يهتفون بالرجل:"النجاة النجاة.. الحياة الحياة, دع السيارة يارجل ".. لكن الرجل أصر أن ينجو وتنجو سيارته, معتقداً أن سينجح وتزال أزمته. وصفير الصراخ يزيد اقتراباُ, والرجل يزيد المفتاح والرفس التهاباً. والناس قد وجلت قلوبهم, وجحظت نحو القطار عيونهم, وعلت تهتف بالرجل أصواتهم:"القطار القطار.. الموت الموت, دع السيارة يارجل".. ولهجت ألسنة بالتهليل:"لاإله إلا الله ", واخرى بذكر الكبير الغفار:"الله أكبر الله أكبر", واخرى تبتهل:"ياستار ياستار"
ولما اقترب القطار, أدرك الرجل أن سيدركه الدمار, فقفز من سيارته يفر وكأنه هو الفرار . ووقف بين الناس مشدوهاَ محسوراً. علقت عيناه بسيارته, وتحجرت الدموع فى مقلته. والناس يواسونه أو يهنئونه بعد إذ من الموت نجا: "الحمد لله وهو المرتجى, عليك العوض, وقضا أخف من قضا". والقطار يندفع اندفاعا لاهوادة فيه ولا استبطاء, وصافرته تشق أجواز الفضاء, والسيارة لا تستجيب لأى نداء. وإذا بالقطار يفترسها افتراسا, ويهترسها اهتراسا. فسمعنا صوت فرقعة عظيمة, تمزق القلوب الرحيمة, وتحير العقول الحليمة. وإذا بالسيارة أشلاءً تناثرت, وأجزاؤها كيفما اتفق تبعثرت, وأبعاضها فى كل اتجاه تطايرت. فتراجع الناس لئلا من الشظايا يصابون, يعتريهم الهلع ويضطربون, وهم الى الرجل ينظرون ويشفقون. وهو يرى سيارته تجزأت وتقطعت وتطايرت.
وإلى أعلى, فى جو السماء, اذا بعجلة من عجلاتها ترتفع, بسرعة الصاروخ نحو السماء تندفع. حتى إذا بلغت من العلو ماهو لها مقدور ومكتوب, بدأت فى الهبوط اذ الكل مهما علا لابد مغلوب, وما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع. وكما صعدت سريعة سرعة عجيبة, عادت تهبط هبوط المصيبة, فقد توجهت نحو زحمة الناس هابطة, كقنبلة الحروب المتسلطة. لاتعصى أمراً قد صدر, وتنفذ ما قرره القدر, لا يمنعها -ولن- أى من البشر. نزلت -ولاشك- بأمر ربها, لتصيب من أذن أن تصيبها. ومن دون الناس جميعا اختارت, لابأمرها ولا بخيارها صارت. فقد نزلت على رأس الرجل كالصاعقة, وإذا برجل السيارة روحه زاهقة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الجمعة:8)
ودى واحترامى