بين التفكير و التفكر ..

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على أشرف خلق الله

بين التفكير و التفكر



للجوارح تسبيحها وعبادتها وذكرها. الإسلام ظاهر يتجلى في العبادات الظاهرة الجوارحية. وعلى مدارج الإيمان والإحسان تسبيح القلب وذكره، على ذكر القلب ونيته تنبني صحة الأعمال وقَبولها فِي الآخرة. العبادة الجوارحية كالنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج تصنف الإنسان في دائرة الإسلام، وتضمن له سعادة الدنيا لأنها تكفل حُرمة دمه وماله وعرضه، وتكفُل له مكانا في المجتمع المسلم عُضوا تام العضوية فيما يخص الحقوق والمعاملات. لكن عمل القلب وحده هو الذي يرفع المومن في درجات الآخرة والقرب من الله عز وجل، إن اقترن عمله بأداء الفرض والنفل.

وللعقل مشاركة في التسبيح والذكر كبيرة، ينظم الحركات الجوارحية في الزمان والمكان والمقدار، ويحرك نسائم القلب، ويسجل هباتها خادما ساعيا بين يدي القلب أمينا على تدبير الطاعات وضبط نزوات النفس. ما تسميه اللغة عقلا آلة ثمينة نفيسة وجوهر غال، بوجوده يتميز الإنسان من الحيوان. لكن ما يسميه القرآن عقلا هو اندراج العقل الاصطلاحي في خدمة القلب وتوجهاته إلى الله تعالى. فمن كان عقلهُ في خدمةالنفس والشهوات سائراً في ركاب الشيطان والهوى فهو من الصم البكم الذين لا يعقلون.
كذلك التفكر على وزن تفعُّل، يفيد وزن تفعل رجوعا على النفس وانعكاسا، يختلف عن التفكير المشترك بين أفراد البشر. فالتفكير نشاط العقل الاصطلاحي في تناول المعطيات الكونية في انقطاع عن كل اعتبار يُرجعُ الأمور إلى الله، بينما التفكر تناول الأشياء والمعاني من زاوية مرجعيتها إلى الخالق، ومن زاوية معنى وجود الإنسان، ومصيره بعد الموت، ومخلوقيته، ومسؤوليته في الآخرة. صيغة فعَّل تفعيلا تفيد انصبابا على العالم الخارجي وفعلا فيه.
بالعقل القلبي التفكري يتوَّج المومن بإكليل الكرامة الآدمية، المحافظة على الفطرة المتلقية بالقبول والإيمان رسالة الرسل، بينما يُعطي العقل الاصطلاحي، وإن تميز عن الحيوانية الاصطلاحية، للإنسان المفكر التأثير في الكون دون أن يخرجه عن الحيوانية المعنوية التي يقول الله عز وجل عنها: )إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون(.(سورة الأنفال، الآية: 22) يفسرها ويعيِّن المقصودين بها قوله جل من قائل: )إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يومنون(.(سورة الأنفال، الآية: 56)
التفكيرُ تفتُّح هذه الملكة العقلية العجيبة على الكون، وتلمذتها له، واستقصاء شؤونه بالدراسة والتحليل والتركيب، وتأصيل العلوم الكونية. ومن هذا النشاط العقلي تنشأ العلوم الكونية، وعليه مدارُ تقدم الإنسان في مضمار الحضارة.

يتبع بعده ..


المصدر : عن كتاب الإحسان بتصرف
 
وقد خطِفَ بريق التقدم العلمي العقلي أنظار الناس في عصرنا، ومن جملة من خطفهم علماؤنا ودعادتنا. ذلك الذي قال: "إن الإيمان الذي جاء به القرآنالكريم ثمرة الدراسة الواعية للكون الكبير وما انبثَّ فيه من أحياء" رجل اختلط عنده الأمر فدل قُراءه المسترشدين به، وهو داعية كبير شهير صادق لا نشك في إيمانه، على الكون، ما دلهم على الله. دلهم على الأحياء، ما دلهم على المحيي المميت سبحانه.
ويقرأ بعض المسلمين، كثير من المسلمين، كتاب الله عز وجل فيقفون عند الآيات المخبرة عن العقل والتفكّر فيشرد بهم الفهم، ويقصر بهم الإدراك، ويزِلّون عن مرتبة الفقه والعلم، فإذا بهم يتقدمون بأن القرآن سبق إلى الدعوة للعقلانية، وبيَّن مزايا العقل. فلا ينتهي بهم التدحرج أسفل العقبة إلا وقد تجرّدوا عن معاني العقل القلبي الذي هو العقل عن الله وإلى الله وبالله ومن الله. وهذا منشأ الإسلام الفكري الثقافي .
إن الله عز وجل أخبرنا عن أولي الألباب )الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض(.(سورة آل عمران، الآية: 191) يذكرون الله أولا، ذكرا كثيرا مستغرقا كل الأحوال، ساريا في الجوارح والكيان، ثم يتفكرون في "خلق السماوات والأرض" لا في مجرد الكون الكائن هناك. يتفكرون في الموجودات من حيث هي مخلوقة صادرة عن حياة الله عز وجل وقدرته وإرادته وعلمه وكلمته وأمره وقضائه وقدره. يتفكرون في الخلق، وهو فعل فاعل، لا في مادة صماء هي العالم القديم كما يزعم فلاسفة اليونان ومن ضل في سِربهم من المسلمين في العصور الأولى. يتفكرون في الخالق عز وجل الذي أنشأ وأبدع وبرى وصور وذرأ وبثَّ الدواب والأحياء في السماوات والأرض. قال تعالى: )ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة(.(سورة الشورى، الآية: 29) هو بثَّها، ما انبثت من تلقاء نفسها كما تدل عبارة الداعية الكبير المُعَلْمَنَةُ رَغْمَ أَنْفِها. وفي قوله "الكون الكبير" تعظيم للمخلوق وعبادة له إذ لم يذكر أن لهذا الكون الكبير خالقا لتكون عظمة المخلوق دالة على عظمة الخالق.
يفعل هذا دعاة الإسلام الفكري الثقافي ويكتبونه دون إدراك لخطورة ما يترتب على خطابهم الممسوح من ذكر الله من سيِّئ الآثار. يكتبون بهذه اللغة المشتركة الثقافيَّة لأنَّ همهم،الصادق لاشك، منصرف إلى الجري لتلافي التخلف الشنيع الذي تعاني منه الأمة في ميادين المعرفة الكونية والعلوم والصناعات. أصبحت هذه اللغة الغافلة عن الله المغفِّلة عنه أسلوبا مألوفا، فينشأ عليها الخَلَفُ بعد السَّلَف في أحضان إسلام أجوف منبهر مأخوذ، يولي وجهه نحو الكون ومن فيه وما فيه إلا أوقاتا مخصوصة مستثناة يولي وجهه فيها نحو بيت الله لينقُر الصلاة نقْراً، أو يوليها المصحف ليقرأ آيات الله المباينة كل المباينة للغة الفكر والحضارة والبديل.

يتبع بعده ..
 
أجد في كتاب صاحبنا الداعية عبارة تلخص الانهيار الإيماني الذي دفع العلماء الأفاضل أمثال الشيخ سعيد حوى والشيخ سعيد رمضان أسعدهما الله وأسعد بهما، إلى التحذير من هاوية الإسلام الأجوف وإلى الدعوة الملحة للبحث عن الربانية. يقول الداعية المجرور: "وفي عصرنا هذا لابد من الاستعانة بمقررات علم النفس، والاستعانة بما في الآداب الإنسانية الصادقة من تجارب وصور". لا أريد أن أطيل في التذكير بما هو "علم النفس" الجاهلي. الرجل مبهور مأخوذ من حيث لا يشعر، بل من حيث يطلق الصيحات الكبار ضد المبهورين بحضارة الغرب. لحضارة الغرب عنده ولفكرها وآدابها وعلومها حُرمة مطلقة،لذلك يريد أن يكون للإسلام سَنَدٌ وحُرمة مستمدة من الاستعانة بما هناك عند المُبْعَدين. قال في فقرة مهّد بها لكلمته عن الاستعانة: "إن تعهد الناشئة والكبار بما يوجه عواطفهم وآمالهم إلى الله جل جلاله شيء خطير، ولابد من إقامته على أسس فنية محترمة". دعنا من المنهاج النبوي الفطري الساذج! فإذا قرأت بعد هذا لتعلم ما هي "الأسس الفنية المحترمة" التي يجب أن يبني عليها المسلمون فاجأك "علم النفس" و"الآداب الإنسانية الصادقة". تكنولوجية التربية من هناك تأتي محترمة مبجلة عصرية فنية، لا من القرآن ولا من سنة سيد الأنام وهي حب الله والحب في الله، وذكر الله. ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. الأدهى في الأمر أن هذا الرجل يتكلم في "توجيه عواطف الناشئة والكبار وآمالهم إلى الله جل جلاله"!
التفكر من أشرف العبادات. بذلك ورد القرآن. وإن شغل التفكُّرُ بمعناه القرآني طوائف من المسلمين في عصور مضت عن التصدي للكوائن التي سخرها الله لنا حتى أصبحنا عاجزين مشلولين في الدنيافإن انشِغالنا بالفكر عن التفكر في زماننا هذا يهدد بالانجراف مع الكوائن ناسين الله فينسينا أنفسنا، فتشل حاسة الإيمان فينا وهي القلب، فنخسر الآخرة.
قال الإمام حسن البصري: "من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو".
لا يمكن لنا أن نرجع من اللغو الفكري، والسهو الغافل، واللهو بمنجزات الحضارة الوثنية، حضارة الحواس واللّذة و"السعادة" الدوابية إلا بتجديد إيماننا تجديدا ينشط في ظله العقل المشترك المنظم المحترم الصانع تحت إمارة القلب، ساعيا بين يديه إلى غاية الإحسان وأهداف العدل.

يتبع بعده ..
 
عودة
أعلى