مكانة العقل في الإسلام ..( عن كتاب الإحسان بتصرف ).

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على أشرف خلق الله

مكانة العقل في الإسلام ( عن كتاب " الإحسان " لعبد السلام ياسين .. بتصرف ).

يكثر أن يتجادل خصوم الإسلام وأصدقاؤه والمومنون بالله في مكانة العقل في الإسلام، يطعن الأعداء في أصل الدين من كونه مناقضا للعقل، ويَدْفَعُ أصدقاء الإسلام من حيث كون التخلف العقلي راجع إلى تخلف المسلمين لا إلى الإسلام الذي أشاد بالعقل. ويقف المومنون مواقف متباينة مختلطة يغلب منها الموقف الدفاعي الممجِّد للعقل. ولا يقف المتجادلون ليسأل بعضهم بعضا عن أي عقل نتحدث.
وكما أن لفظة "علم" اكتسبت قدسية في قاموس الحضارة المادية الطاغية المعجبة التائهة بثمرات العلم، فكذلك لفظة عقل. العلم إذا أطلق في عصرنا فهو علم الأكوان من رياضيات وفيزياء وكيمياء وميكانيكا وكهرباء وإلكترونيات وما إليها. والعقل إذا أطلق فهو الآلة التي صنعت النظام العقلاني والمنهجية العلمية الاختراعية.
في حضارة الحواسِّ واللذة التي فَقَدَت منذ تنكرها للدين ورفضها له وجحودها بوجود الخالق جلّ وعلا كلّ إشارة إلى معنى وجود الإنسان وغايته ومصيره بعد الموت تحتل كلمتا "علم" و"عقل" صدر طابور القيم الصنمية الحضارية مثل "تنمية" و"اقتصاد" و"تمويل" و"اختراع" و"مواد أولية" و"سوق" و"استهلاك" و"تقدم" و"إحصاء" و"دخل فردي" و"مستوى معيشة" إلى آخر القاموس.
في حديثنا عن العقل ومرتبته في قاموس الإيمان والإحسان، قاموس القرآن، لابد أن نحدد أولا، انطلاقا من القرآن ورجوعا إلى القرآن معنى "عقل". بعد ذلك يسهل أن نُدرجه في مكان وظيفته حيث يشغل مكانته في حياة المسلمين.
العقل الذي تحدث عنه القرآن وأشاد به وعدَّله واستعمله شاهدا موثوقا لايكذب ليس هو العقل الصنم الذي يقرر من داخل منطق الكفر المادي ويمرِّرُ ويُعرف ما هو الحق من الباطل. بل هو العقل الذي يتفكر في الخلق، يتفكر في أن لابد للصنع العجيب الذي تشاهده الحواس من صانع. هذه واحدة. الثانية أن هذا العقل المُشادَ به في القرآن هو الملَكة التي يستدل بها المتفكرُ، اعتمادا على مسَبَّقات مغروزة في الفطرة، على أن هذا الصنع العجيب لا يمكن أن يكون صانعه الضروري عابثا. الثالثة أن هذا العقل يتدبر القضية الأولى والثانية ليستنتج منها نتيجة وجودية لا نتيجة فكرية منطقية باردة. يستنتج العقل المحمود في القرآن اهتماما حميما بالمصير الشخصيّ بعد الموت لأن الموت من المعطيات الكونية العامة المندرجة في النظام العجيب، المثيرة أكثر من غيرها للسؤال المحوري: هل كل هذا عبث؟
هذه الخصائص الثلاث هي المذكورة في قوله عز وجل من آخر سورة آل عمران: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض.ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار(.(الآية: 191)
طلب أولي الألباب العاقلين لربهم عز وجل أن يقيهم عذاب النار جاء بعد مرحلة الاقتناع بأن لابد لكل صنعة من صانع، ومرحلة الاقتناع الفطري بأن كل صنعة لابد أن يكون لصانعها غاية من صنعها، ومرحلة الهم بالمصير بعد الموت الذي هو ألزم لوازم كل حي. جاء طلب الوقاية من عذاب النار استفادة من السمع الإيماني. عجز العقل الراشد المتدبر الحكيم عن معرفة كنه الصانع والغاية من الصنعة والمصير بعد الموت فلجأ إلى مصدر خارج عنه يَستقي منه العلم.
لجأ العقل الراشد إلى شخص جاءه بحجة دامغة مقنعة أنه أقوى وأقدر وأعلم. هذا الشخص هو الرسول المؤيد بالمعجزة، المخبر عن الخالق، المجيب عن الأسئلة الوجودية،المنادي للإيمان.قال العقل الراشد منيبا إلى الله بعد أن أعياه فهم المبادئ والغايات: )ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا(.(سورة آل عمران، الآية: 193).
أما العقل المتكبر فهو العقل الفلسفي الذي استمر في تخميناته فقدَّر ونظَّر وتقدم وأدبَر فأثبت وجود الخالق أو نفاه، وأثبت له سبحانه من عنده افتراء وظنا سيئا ما شاء من الصفات وسَلَبَ. وعاش هذا العقل الفلسفي في نسجه العنكبوتي يشيِّد منظومات ويقوض أخرى، ينتقد اللاحق ما قاله السابقُ، وينتقد نفسه وإفرازاته، ويتطور في صور "علم النفس" و"علم الاجتماع" و"علم التحليل النفسي" و"علم التاريخ" وسائر ما يسمى بالعلوم الإنسانية.
عقل ثالث حديث الميلاد هو العقل السفيه الجبار، جمع بين خصلتين كفيلتين بتدمير الأرض وساكنيها، عقل الاختراع والصناعة والفاعلية والتنظيم. هذا العقل السفيه هو صنم العصر ومطلب أصدقاء الإسلام والناطقين من المومنين.
هذا العقل يُخَيَّل للمتجادلين في العقل أنه هو الحقيقة الوسطى في التنزيل الحضاري، وأن لا مناص من أخذه كما هو سندا مُطاعا معبودا. إذا كان في إسلامنا ما لا يتنافى مع "العقل" فلا بأس من التخفف من بعض أعباء الغيبية كأن نترجم الجن إلى لغة المكروبات، وأن ننكر المعجزة والكرامة، وأن نبقي الوحي ولوازم الوحي في ركن ساتر لكي لا تفضح غباوتَنا أنوار العقل.

يتبع بعده ..
 
العقل القرآني واقف على عتبة القلب، خادم مطيع، سامع لنداء المنادي للإيمان، تائب مستجير بربه عز وجل. نظر في الكون نظرتين فرجع خاسئا حسيرا كالاّ مهزوما لما هالهُ من عظمة الخلق الدالة على عظمة الخالق. قال الله تعالى : )تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور. الذي خلق سبع سماوات طباقا. ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير(.(سورة الملك، الآيات الأولى)
ونَظَرَ العقلُ الراشد إلى نفسه وضآلتها بإزاء الكون وفنائها فازداد إيمانا، بينما لا يزداد العقل السفيه إلا طغيانا كلما توغل في كشف السماوات والأرض. قال الله تعالى يخاطب العقلاء السفهاء : )أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم(.(سورة الأعراف، الآية: 185) أسكتَ العقلُ السفيه في عالمه سؤال اقتراب الأجل وانطلق على هواهُ و"موضوعيته العلمية" يسبح في الفضاء على متن صواريخه، أُفُقُه العشرون مليارا من السنوات الضوئية التي بلغها حسُّه الصناعي حتى الآن. ويفتح الله عز وجل بلاءه على من يشاء.
إن ترشيد العقل شرط مسَبَّق على كل عمل لتحوير الحضارة المادية إلى عمارة استخلافية. وإن مكتسبات العقل المخترع ليست سفاهة إلا إن استُعمِلت لأهداف سفيهة. ولا يجدي شيئا أن نحاور العقل المتكبر الفلسفي ولا العقل السفيه المخترع لنُلزمهما بحجة الإيمان ماداما لا يقبلان التحرك إلا في حدود منهجيتهما الممسوحة الممسوخة، لم يبق في منهجيتهما مكان لفطرة الاستدلال بالصنعة على الصانع، ولا لرفض أن يكون هذا الكون المحكم النظام عبثا، ولا لهمِّ المصير بعد الموت.
العقل الجبار والعقل السفيه يعتبران أن التكوين السليم والنظام السليم هو العقلانية الموضوعية الوضعية النفعية. الحديث معهما عن الغاية والمعنى ترفٌ فكري. وانفتاح أقطار السماوات والأرض في وجههما لا يرجعهما إلى شيء من الحسرة والانحسار بل يزيدهما غرورا وتوغلا في المجهول المعلوم. علما وتعلّما الجواب عن الكيف والكم. وأصرا ويُصران عتوا واستكبارا على أنه لا إله ولا غاية ولا شيء بعد الموت.
لا يمكننا أن نقول للعقل المخترع الصانع المنظِّم السابح في الفضاء: "قف حتى نحاورك لتطيعَ وتذعن". الراشد الهزيل لا يُسمع له. يُرفض ما معه من الحق مع ما فيه من هزال. ولابد لنا من مباراة العقلانية وتحريرها من إلحادها، وترويضها، وغَنْمها، واكتساب العلوم والتكنولوجيا، وتوطينهما، والمساهمة في توجيههما، والتحكم فيهما لأهداف خير الإسلام وبر الإسلام. ومن مرتفع النماء والكَفَاء وعمارة الأرض تكون لنا جولات حوارية مع العقلين التائهين. المهمة مهمة عملية تتوقف على الإرادة السياسية، ليست مهمة جدل وحذلَقة.

يتبع بعده ..
 
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على أشرف خلق الله

بين التفكير و التفكر



للجوارح تسبيحها وعبادتها وذكرها. الإسلام ظاهر يتجلى في العبادات الظاهرة الجوارحية. وعلى مدارج الإيمان والإحسان تسبيح القلب وذكره، على ذكر القلب ونيته تنبني صحة الأعمال وقَبولها فِي الآخرة. العبادة الجوارحية كالنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج تصنف الإنسان في دائرة الإسلام، وتضمن له سعادة الدنيا لأنها تكفل حُرمة دمه وماله وعرضه، وتكفُل له مكانا في المجتمع المسلم عُضوا تام العضوية فيما يخص الحقوق والمعاملات. لكن عمل القلب وحده هو الذي يرفع المومن في درجات الآخرة والقرب من الله عز وجل، إن اقترن عمله بأداء الفرض والنفل.

وللعقل مشاركة في التسبيح والذكر كبيرة، ينظم الحركات الجوارحية في الزمان والمكان والمقدار، ويحرك نسائم القلب، ويسجل هباتها خادما ساعيا بين يدي القلب أمينا على تدبير الطاعات وضبط نزوات النفس. ما تسميه اللغة عقلا آلة ثمينة نفيسة وجوهر غال، بوجوده يتميز الإنسان من الحيوان. لكن ما يسميه القرآن عقلا هو اندراج العقل الاصطلاحي في خدمة القلب وتوجهاته إلى الله تعالى. فمن كان عقلهُ في خدمةالنفس والشهوات سائراً في ركاب الشيطان والهوى فهو من الصم البكم الذين لا يعقلون.
كذلك التفكر على وزن تفعُّل، يفيد وزن تفعل رجوعا على النفس وانعكاسا، يختلف عن التفكير المشترك بين أفراد البشر. فالتفكير نشاط العقل الاصطلاحي في تناول المعطيات الكونية في انقطاع عن كل اعتبار يُرجعُ الأمور إلى الله، بينما التفكر تناول الأشياء والمعاني من زاوية مرجعيتها إلى الخالق، ومن زاوية معنى وجود الإنسان، ومصيره بعد الموت، ومخلوقيته، ومسؤوليته في الآخرة. صيغة فعَّل تفعيلا تفيد انصبابا على العالم الخارجي وفعلا فيه.
بالعقل القلبي التفكري يتوَّج المومن بإكليل الكرامة الآدمية، المحافظة على الفطرة المتلقية بالقبول والإيمان رسالة الرسل، بينما يُعطي العقل الاصطلاحي، وإن تميز عن الحيوانية الاصطلاحية، للإنسان المفكر التأثير في الكون دون أن يخرجه عن الحيوانية المعنوية التي يقول الله عز وجل عنها: )إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون(.(سورة الأنفال، الآية: 22) يفسرها ويعيِّن المقصودين بها قوله جل من قائل: )إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يومنون(.(سورة الأنفال، الآية: 56)
التفكيرُ تفتُّح هذه الملكة العقلية العجيبة على الكون، وتلمذتها له، واستقصاء شؤونه بالدراسة والتحليل والتركيب، وتأصيل العلوم الكونية. ومن هذا النشاط العقلي تنشأ العلوم الكونية، وعليه مدارُ تقدم الإنسان في مضمار الحضارة.

يتبع بعده ..
 
عودة
أعلى