وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
________________
________________
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد :
فإن للصيام آداباً كثيرةً ، ومن تلك الآداب : أن يقتصدَ الصائمُ في طعامه وشرابه.
ومما يلحظ على بعض الصائمين -بل على أكثرهم- أنهم يجعلون شهرَ رمضانَ موسماً سنوياً للموائد الزاخرة بألوان الطعام ، فتراهم يُسرفون في ذلك أيّما إسرافٍ ، وتراهم يتهافتون إلى الأسواق ، لشراء ما لذّ وطاب من الأطعمة التي لا عهدَ لهم بأكثرها في غير رمضان.
والنتيجة من وراء ذلك : إضاعةُ المال ، وإرهاقُ الأبدان في كثرة الطعام ، وثِقَلُ النفوس عن أداء العبادات ، وإهدارُ الأوقات الطويلة بالتسوّق ، وإعداد الكميّات الهائلة من الأطعمة التي يكون مصيرُها في الغالب صناديقَ الزِّبل.
إن هذا الاستعدادَ المتناهيَ الذي يقع فيه أكثر المسلمين لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب مخالفٌ لأمر الله ، منافٍ لحكمة الصوم ، مناقضٌ لحفظ الصحة ، معاكسٌ لقواعد الاقتصاد.
ولو كان هؤلاء متأدبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف من طعامهم وشرابهم ، ولأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان ، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى ، و تفطير الصّوام المعوَزِين ، ونحو ذلك.
والغالب أن يكون لكل غنيٍّ مسرفٍ من هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والمساكين ، وهم أحق الناس ببر الجار الغني ، وإن لم يكن لهؤلاء الأغنياء جيرانٌ من هذا النوع فإنه يحسن صرفها في وجوه الخير.
ولو فعل الأغنياء المسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربةً عظيمة عند الله ، ألا وهي الإحسان إلى المعدَمين ، وللقيام بهذه الخصلة من الخير مزيّة في المجتمع ، لأنها تقرب القلوبَ في هذا الشهر المبارك ، وتشعر الصائمين كلَّهم بأنهم في شهر إحسان ، ورحمة وأخوَّة.
ثم إن الإنسان لو طاوع نفسَه في تعاطي الشهوات ، و التهام ما حلا من المطاعم وما مرّ ، وما برد منها وما حرّ ، وطاوع نفسه باستيفاء اللذة إلى أقصى حد ، لكانت عاقبةُ أمره شقاءً ووبالاً ، ونقصاً في صحته واختلالاً ، ولكانت الحميةُ في بعض الأوقات واجباً مما يأمر به الطبيب الناصح ، تخفيفاً على الأجهزة البدنية ، وادخاراً لبعض القوة إلى الكِبَر وإبقاءً على اعتدال المزاج ، وتدبيراً منظماً للصحة.
وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم ، فكيف يُقْلَبُ الأمر رأساً على عقب؟! ويجعلَ من شهر الصوم ميداناً للتوسع في الأكل والشرب؟!.
قال الله عز وجل : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
قال بعض العلماء : "جمع الله بهذه الآيةِ الطبَّ كلَّه".
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". أخرجه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع.
أيها الصوام : لا يخفى على عاقل ما للتوسع في المآكل والمشارب من عواقب وخيمة على دين المرء ودنياه زيادةً على ما مضى ، فهو مما يورث البلادة ، ويعوق عن التفكير الصحيح ، وهو مدعاةٌ للكسل ، وموجبٌ لقسوة القلب ، وهو سببٌ لمرض البدن ، وتحريك نوازع الشر ، وتسلُّط الشيطان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم". رواه البخاري.
ولاريب أن الدَّمَ يتولد من الطعام والشراب ، ولهذا إذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشيطان ، ولهذا قيل : "فضيقوا مجاريَه بالجوع" .
وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي تُفْتَحُ بها أبواب الجنة ، وإلى ترك المنكرات التي تفتح بها أبواب النار ، وصفِّدت الشياطين ، فضعفت قوتُهم وعملُهم بتصفيدهم ، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره ولم يقل إنهم قتلوا ولا ماتوا ، بل قال : "صفِّدوا" والمصفَّد من الشياطين قد يؤذي ، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان ، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه ، فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه الصوم الناقص ، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب ، والحكم ثابت على وَفْقِهِ" ا-هـ.
قال لقمان -عليه السلام- لابنه : "يا بني! إذا امتلأت المعدة ، نامت الفكرة ، وخرست الحكمة ، وقَعَدت الأعضاءُ عن العبادة".
وقال عمر -رضي الله عنه- : "من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة".
وقال علي -رضي الله عنه- : "إن كنت بَطِناً ، فعد نفسك زَمِناً".
وقال بعض الحكماء : "أقلل طعاماً ، تحمدْ مناماً".
وقال بعض الشعراء :
وكم من لقمةٍ منعت أخاها *** بـلذةٍ سـاعةٍ أكلاتِ دهرِ
وكم من طالبٍ يسعى لأمر *** وفيه هلاكُه لو كان يدري
وكم من طالبٍ يسعى لأمر *** وفيه هلاكُه لو كان يدري
وقال ابن القيم -رحمه الله- : "وأما فضول الطعام : فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر ، فإنه يحرك الجوارحَ إلى المعاصي ، ويثقلُها عن الطاعات ، وحسبك بهذين شراً ، فكم من معصية جَلَبها الشبعُ وفضولُ الطعام ، وكم من طاعة حال دونها ، فمن وقي شرَّ بطنه ، فقد وقي شراً عظيماً ، والشيطان أعظم ما يتحكَّم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام" .
إلى أن قال -رحمه الله- : "ولو لم يكن من الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله -عز جل- وإذا غفل القلب عن الذكر ساعةً واحدةً جَثَم عليه الشيطانُ ووعده ومنَّاه وشهَّاه وهام به في كل وادٍ ، فإن النفس إذا شبعت تحركت ، وجالت وطافت على أبواب الشهوات ، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت" ا-هـ.
بل إن الذين يتوسعون في المآكل لا يجدون لها لذةً كما يجدُها المقتصدون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "فالذين يقتصدون في المآكل نعيمُهم بها أكثرُ من المسرفين فيها ، فإن أولئك إذا أدمنوها ، وألِفُوها لا يبقى لها عندهم كبير لذة مع أنهم قد لا يصبرون عنها ، وتكثر أمراضهم بسببها" ا-هـ.
أيها الصائمون الكرام : إذا كان الأمر كذلك ، فما أحرانا أن نجعل من شهرنا الكريم فرصةً لتوطين نفوسنا على الاعتدال في المآكل والمشارب ، فالنفوسُ طُلَعةٌ لا ترضى بالقليل من اللذات ، فإذا جاهدناها انقدعت عن شهواتها ، وكفَّت عن الاسترسال مع لذاتها ورغباتها ، وإن من أحكم ما قالته العرب قولَ أبي ذؤيب الهذلي :
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها *** وإذا تُـرَدُّ إلى قليلٍ تقنع
أما إذا استرسلنا معها وأعطيناها كل ما تريد ، فإنها ستقودنا إلى الغواية وتنزع بنا إلى شر غاية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________
المصدر : كتاب (دروس رمضان)
لفضيلة الشيخ : محمد إبراهيم الحمد
المصدر : كتاب (دروس رمضان)
لفضيلة الشيخ : محمد إبراهيم الحمد