ألا يستقيم أن نكون إخوانا ؟!
--------------------------
اختلف الإمام الشافعي ، رحمه الله ، مع أحدهم في مسألة ، فما كان من الإمام ، وقد لقي صاحبه هذا بعد جلسة الحوار والمناظرة التي اختلفا بها ، وكما يحدّث صاحبه نفسه ، إذ يقول : "ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى : ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة..؟!".لقد كان ميدان الحوار وما يزال وسيبقى الامتحان الأصعب في حياة الداعية ، الذي يكشف عن طيب معدنه ، ومتانة أخلاقه ، وأصالة منبته ، وجودة تربيته ، إنه امتحان لصدق انتمائه ، وعمق إيمانه ، وشمول فهمه ، وهو أيضا الميدان الأرحب لتجليات الداعية في الكشف عن مواهبه ، وحسن أخلاقه ، وسمو أهدافه ، ونزاهة ألفاظه ، ومدى تسخير طاقاته في خدمة هدفه ، من حيث التسابق والتنافس في تقديم الأنفع ، واختيار الأفضل ، والانحياز إلى الحق ..
والحوار علامة نجاح وتوفيق ، فالذين ينجحون في ميدانه ، ويحرصون على أركانه ، فيخرجون منه مؤتلفي القلوب ، سليمي الصدور ، لا شحناء وبغضاء ، أو حقد وكراهية ، يؤكدون بذلك سلامة منهجهم ، وصدق توجههم ، واستقامة مسيرتهم .
فالحوار منهج قرآني رفيع ، أدب رباني جميل ، وخلق نبوي كريم ، أكده القرآن في كثير من الصور والمشاهد الحوارية التي تعددت أطرافها وتباينت ، ففيه مشاهد حوارية لله تعالى مع ملائكته وأنبيائه ورسله ، بل ومع إبليس عليه اللعنة.
وفيه مشاهد حوارية بين الأنبياء وأقوامهم وذويهم ، بالإضافة إلى تلك المشاهد الحوارية الرائعة ، التي حفظتها لنا السيرة النبوية العطرة .. كل ذلك كي يؤكد أهمية الحوار ، ويركز معالم نجاحه ، وأسس بنيانه .. واعتماده شعاراً مع الآهل والاخوان ، وطابعاً متميزاً في أسلوب الدعوة والتعامل مع الآخرين ..
ولما كان الحوار امتحاناً صعباً للنفوس ، فما أكثر الذين يسقطون في حلباته ، ببيان حقيقتهم ، حيث يستبد بهم الغضب ، ويسيطر عليهم الهوى ، ويشتط بهم العجب والغرور ، ويأخذهم التعصب كل مأخذ فيتهمون النيات ، ويقدحون السرائر ويمتهنون الآخر ، فيصولون ويجولون بأصوات مرتفعة ونبرات حادة ، وألفاظ نابية قاسية ، تذهب هيبة الحوار ، وتضيع فائدته المرجوة بل تحوله إلى نار محرقة لا تبقي ولا تذر .. غير الشحناء والحقد والكراهية .
لهذا كله يأتي تساؤل الإمام الشافعي -رحمه الله- ، بجماله وجلاله ، وروعة بيانه ، وصفاء إيمانه ، ألا يستقيم أن نكون إخواناً ، وإن لم نتفق ؟!
إن الحوار ضرورة في البناء والعطاء ، والخلاف وارد وأمر لازم ، لاختلاف العقول وتفاوت المدارك .. فالمطلوب أن تتسع صدورنا ، فلا يصح (للصدر إلا واسع الصدر) وتعلو بنا هممنا ، وتسمو بنا أخلاقنا ، فتختلف آراؤنا ، ولا تختلف قلوبنا ، فنبقى أخوة أحبة .. فاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية .
وقد تحدث شيخ الإسلام عن صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم– أنهم "كانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشورة ومناصحة ، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية ، مع بقاء الألفة والعصمة ، وأخوة الدين" .
وعلى هذا سار سلفنا الصالح ، فقد اختلف الإمام الليث بن معد مع ربيعة –رحمهما الله– في مسائل كثيرة ، وهذا الخلاف لم يمنعه من إنصاف الرجل ، والشهادة له بذكر مناقبه ، فقد كتب يقول : "… ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير ، وعقل أصيل ، ولسان بليغ ، وفضل مستبين ، وطريقة حسنة في الإسلام ، ومودة صادقة لإخوانه عامة ، ولنا خاصة..".
------------------------------------------------
المصدر :
لمؤلفه الدكتور : عبد الله فرج الله