نظرة موضوعية في الطب النبوي
الدكتور محمد على البار
الدكتور محمد على البار
لقد وردت أحاديث كثيرة في باب التداوي مما بوّب له أهل علم الحديث كالإمام البخاري والإمام مسلم والترمذي والنسائي وجعلوه ضمن كتبهم المشهورة في الحديث فمثلاً صحيح البخاري يحتوي على (113) حديثاً في الطب، وقد جمعها البخاري في كتاب الطب من صحيحه وكذلك فعل الإمام مسلم وبقية علماء الحديث.
ثم ظهر مجموعة من العلماء أفردوا الأحاديث الواردة في الطب النبوي بكتاب مستقل وأول من فعل ذلك الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق (153 ـ 205هـ/ 770 ـ 820م)، ووضع رسالة صغيرة في حفظ الصحة وضمّنها الأحاديث النبوية المتعلقة بموضوعاتها دون أن يذكر نص الحديث. وقد قمت بشرح هذه الرسالة وذكر الأحاديث التي أشار إليها. وهي الرسالة المشهورة باسم الرسالة الذهبية لأن المأمون أمر كتابتها بماء الذهب لنفاستها.
ثم قام الفقيه الأندلسي المالكي المشهور عبدالملك بن حبيب الألبيري (174 ـ 238 هـ الموافق 790 ـ 853م) بجمع طائفة من الأحاديث النبوية تحت مسمى (الطب النبوي) وأغلبها في الطب العلاجي، ولكنه تطرق إلى أخلاقيات مهنة الطب ومن له الحق في الممارسة الطبية وكيفية الأذن بالعمل الطبي، وتعرض لإجراء الفحوصات الطبية مثل فحص البول (يسمى القارورة) إلى غير ذلك من المواضيع الهامة، وهي رسالة صغيرة في حوالي 20 صفحة، قمت أيضاً بشرحها شرحاً موسعاً ونشرتها في كتاب حافل.
ثم ظهر أبو بكر بن السني (المتوفى سنة 364هـ) وأصدر كتاباً في الطب النبوي وتبعه ابن نعيم الأصبهاني المتوفى (سنة 430هـ) والمستغفري (سنة 432هـ) ثم ظهرت مجموعة كبيرة من كتب الطب النبوي أشهرها كتاب الإمام ابن القيم وهو في الأصل فصل من كتابه العظيم (زاد المعاد في هدي خير العباد)، وكتاب الإمام الذهبي. وقد نشرت قائمة بكتب الطب النبوي العامة في مقدمة كتابي (الطب النبوي لعبدالملك بن حبيب الألبيري الأندلسي). كما ذكرت قائمة طويلة بالكتب التي تخصصت في موضوع الوباء والطاعن وذلك في مقدمة كتابي (ما رواه الواعون في أخبار الطاعون للإمام السيوطي) وهي قائمة تضم أكثر من سبعين كتاباً في موضوع الطاعون والأمراض الوبائية فقط.
وإذا تركنا جانباً هذه المكتبة الثرية في مصنفات علماء المسلمين فيما يسمى الطب النبوي، سنجد أن أكثر اهتمام هؤلاء القدماء كان منصباً على الجانب العلاجي وهو في ظني جانب صغير مما يمكن أن يطلق عليه الطب النبوي، لأنه معتمد على آية وحديث. ويمكن أن نقسمها إلى الأقسام التالية لتيسير دراستها وتبويبها:
1 ـ الطب النبوي المتعلق بحفظ الصحة والارتقاء بها وتنميتها: وهو أوسع أبواب الطب النبوي، ولم أجد أحدًا اهتم به من القدماء إلا النذر اليسير (أثناء وضعهم كتب الطب النبوي العلاجية). واهتم بعض المحدثين من الأطباء بهذا الجانب الشديد الأهمية ومن أفضلهم في هذا الباب الدكتور محمد ناظم نسيمي والدكتور نجيب الكيلاني ـ يرحمهما الله ـ. ولكاتب هذه السطور إسهامات في هذا الباب (مثل سلسلة كتب سنن الفطرة: الختان والسواك). وكذلك فعل الأخ الدكتور حسان شمسي باشار وأصدر بعض الكتب الطبية في هذا الباب.
2 ـ الطب النبوي العلاجي: وتشمل مواضيع كثيرة مثل العسل والحبة السوداء والحناء والصبر والثفاء والسنامكي.. الخ، والحجامة والكي وفيها العديد من الكتب. وإذا تحدث الناس عن الطب النبوي تبادر إلى أذهانهم هذه الأحاديث المتعلقة بالعلاجات المختلفة، ولم يوسعوا الدائرة بل قصروها على هذه الأحاديث فقط.
3 ـ الطب النبوي النفسي والروحي: وهو يتداخل مع موضوعات هامة مثل الصلاة والصيام والذكر وتلاوة القرآن وقوة الإيمان، والحياة الزوجية السليمة، والحياة الاجتماعية السليمة (والبعد عن الربا وتأثيراته المدمرة على المجتمعات). وموضوع الرقية، ومعالجة الأمراض النفسية. ويدخل في ذلك الممارسات الخاطئة في مجال الرقية وإخراج الجن والعفاريت، ومعالجة السحر والحسد والعين. وما يحدث من مآسي باعتبار معظم الأمراض ناتجة عن جن وسحر وحسد وعين.. الخ.
4 ـ الطب النبوي المتعلق بأحاديث العدوى وجوانبها الإيمانية والطبية.
5 ـ الطب النبوي المتعلق بموضوعات متعلقة بالعلوم الطبية: التشريح، علم الأجنة، علم وظائف الأعضاء. إلخ.
6 ـ مخطوطات وكتب الطب النبوي: ودراسة هذه الكتب المخطوطة والمطبوعة والمحققة وغير المحققة.. إلخ. ولكاتب هذه السطور إسهامات كتابية (مجموعة من الكتب والمقالات في كل هذه الأنواع).
7 ـ أخلاقيات وقوانين مهنة الطب: وبابها واسع في الطب النبوي، وهي تشمل المواضيع الطبية الفقهية، والتي اهتمت بها المجامع الفقهية اهتماماً بالغاً في العقود الثلاثة الماضية.
الموقف الفقهي من الطب النبوي
يشمل مفهومنا للطب النبوي أبواباً كثيرة كما ذكرنا ومن أهمها الفوائد الصحية للوضوء والاستنجاء والصلاة والصيام.. إلخ. وهذه كلها تندرج في أبواب أخرى من كتب الأحاديث أو الفقه، وبالتالي لا تدخل عند من كتب من الفقهاء والمحدثين والأطباء في موضوع الطب النبوي. وهي لا شك من أساسيات الدين الإسلامي، وفيها فروض ومندوبات، كما أن هناك مباحات ومحرمات ومكروهات.. وكلها تندرج تحت باب من أبواب الفقه الواسع، ولكن أغلب العلماء والفقهاء والمحدثين عندما تحدثوا عن الطب النبوي اقتصروا على الطب النبوي العلاجي فقط. وانقسموا إلى فريقين:
الأول: يرى أن كل ما صح عن النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو وحي يوحى، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينطق عن الهوى. ويرون أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدين، فإن حصل منه خطأ صححه الوحي، وممن ذهب إلى ذلك الإمام ابن القيم في كتابه الطب النبوي، والإمام الذهبي كذلك في كتابه الطب النبوي، ومنهم السبكي والمحلي والبناني وغيرهم.
الثاني: يرى أن أمر النبوة والعصمة مقصورة على أمور الدين وإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يبعث ليعلمنا تفاصيل أمور الدنيا، ويذكرون في ذلك حديث تأبير النخل، عندما أشار ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدم تأبيره فأثمر شيصاً (ثمراً رديئاً) فقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم، وهو حديث صحيح. وبالتالي فلا يحمل أي شيء من الطب على الوحي، وما جاء عنه إنما يعبر عن معلوماته الشخصية ومعلومات عصره، وقد يخطئ في ذلك، وليس هو بمعصوم في الباب وقد يعرف غيره في الطب أكثر مما يعرف هو، فهو ليس بطبيب، ولم يبعث لمداواة الأجسام بل لإقامة الدين والعقيدة والشريعة.
وفي حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار). (أخرجه البخاري في صحيحه). وفي حديث ابن عباس قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب). (الشفاء للقاضي عياض ج2/201).
ومن ذلك ما ذكره ابن اسحاق في سيرته في سياق غزوة بدر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزل منزلاً فقال له الحباب بن المنذر: يارسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يارسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حرصاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشرت بالرأي (سيرة ابن هشام ج2/200).
وممن قال بهذا القول القاضي عبدالجبار، وابن خلدون، والقاضي عياض، وولي الله الدهلوي، ومن المعاصرين الشيخ محمد أبو زهرة في كتاب (تاريخ المذاهب الإسلامية)، والشيخ عبدالوهاب خلاف، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ عبدالجليل عيسى.. إلخ. وقد قام الشيخ الدكتور محمد سليمان الأشقر باستعراض مختلف الأقوال في بحثه القيم (مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية) المقدم لمؤتمر الطب الإسلامي الرابع المنعقد في إسلام أباد في باكستان وإصدار المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت (ربيع الأول 1407هـ الموافق نوفمبر 1986م) (ج4/109 ـ 132). وانتهى الباحث إلى تقسيم الأحاديث الواردة في الطب إلى الأقسام التالية:
1 ـ الأحاديث الواردة في حكم أصل العمل بالطب والمعالجات وتناول الأدوية (وما يتبعها من مسؤولية وديات.. إلخ). فهذه واجبة الاتباع لأنها تشريع، وفيها أحكام التداوي وموضوع التوكل.. إلخ.
2 ـ الأحاديث المتعلقة بمن يقوم بإجراء التداوي وجواز تطبيب النساء للرجال والعكس والمسلم للكافر والعكس، وأحاديث عيادة المرضى.. ومنع التداوي بالخمر والمحرمات.. والنهي عن بعض أنواع العلاجات.. وكلها واجبة الاتباع بصورة عامة.
3 ـ أحاديث متعلقة بأنواع من العلاجات والممارسات التي كانت سائدة في عصره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه تتغير بتغير الزمان، ويمكن تجربتها والبحث عن فوائدها وأضرارها.. الخ. كما يبحث أي مادة أخرى.
4 ـ أحاديث مرتبطة بشعائر وعبادات: مثل (السواك والختان..إلخ)، فهي واجبة الاتباع.
5 ـ أحاديث توافقها نصوص قرآنية مثل شفاء العسل فهذه مدعومة بالقرآن الكريم ولا مجال لإنكارها.
6 ـ معالجات ذكرها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر أن جبريل أخبره بها وأن الله يحبها فهذه كذلك تدخل في باب الوحي، فإذا صحت الرواية والسند فتدخل في باب الوحي، وإلا كانت مثل الأحاديث الأخرى التي لم تصح أو التي كانت درجتها ضعيفة أو متروكة أو موضوعة. وهذه لا حجة فيها قط.
7 ـ أحاديث متعلقة بالعدوى والطاعون والجذام وهي متعلقة إلى حد كبير بجانب الاعتقاد ولهذا تأخذ أهمية خاصة ويتم قبولها إذا صحت سنداً، وكثير منها صحيح بل في أعلى مراتب الصحة.
ويرى الشيخ الفاضل الدكتور محمد سليمان الأشقر أن الأحاديث المتعلقة بأنواع العلاجات والممارسات التي كانت في عصره وأقرها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تترك بالكلية، بل تبحث فإن ثبتت جدواها اعتمدت، وإن ثبت عدم جدواها وعدم فاعليتها تترك، ولا حرج في ذلك.
وهو في ظني قول عدل وفيه إنصاف وحكمة، وأما ما نراه من ممارسات فأغلبها إلى الشعوذة أقرب وخاصة الممارسات المتعلقة بإخراج الجن وأنواع الرقي ومعالجة السحر والعين.. وحتى الممارسات المتعلقة بالأعشاب أو الحجامة أو الكي فعلى أهميتها إلا أنها ينبغي أن تدرس دراسة واضحة ولا تترك لمن هب ودب، ولابد لها من تقنين وتنظيم، وإيجاد دراسة خاصة لهذا الفن من الممارسات الطبية ويكون مدعوماً بالأبحاث العلمية التي توضح مدى فاعليته.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
منقول من اجل الفائده
من موقع رابطه علماء المسلمين