محاسبة النفس (6 )
في مسيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين أن رجلاً زاحمه في منى ، فالتفت الرجل إلى سالم -و سالم علامة التابعين- فقال له: إني لأظنك رجل سوء. فقال سالم : ما عرفني إلا أنت! لأن سالماً رضي الله عنه يشعر في نفسه أنه رجل سوء، وهذا صواب لأن المؤمن يرمي نفسه بالتقصير كلما رآها تعالت أو تطاولت أو نسيت، كما أنه يلوم نفسه ويحاسبها.
لكن الفاجر والمنافق يزكي نفسه أمام الناس! وكان سعيد بن المسيب يقوم وسط الليل ويقول لنفسه: قومي يا مأوى كل شر!
سعيد بن المسيب يقول لنفسه هذا الكلام!! ونحن ماذا نقول لأنفسنا؟
اللهم أسترنا بسترك.
وفي قصة ثابتة بأسانيد صحيحة، قام رجل في الحرم أمام ابن عباس -حبر الأمة وترجمان القرآن- فسبه أمام الناس، و ابن عباس ينكس رأسه!! أعرابي جلف يسب علامة الدنيا ولا يرد عليه.. وواصل الأعرابي الشتم، فرفع ابن عباس رأسه وقال: أتسبني وفي ثلاث خصال؟
قال: ما هي يا ابن عباس ؟
قال: والله ما نزل المطر بأرض إلا سررت بذلك، وحمدت الله على ذلك، وليس لي بها ناقة ولا شاة!!
قال: والثانية؟
قال: ولا سمعت بقاضٍ عادل إلا دعوت الله له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية!!
قال: والثالثة؟
قال: ولا فهمت آية من كتاب الله إلا تمنيت أن المسلمين يفهمون كما أفهم منها!!
هذه هي المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي رباهم أصلاً على أسس العقيدة وأخلاق الإيمان، وإلا فهم أمة أمية خرجت من الصحراء، لكنه صلى الله عليه وسلم بناهم شيئاً فشيئاً، ورصع مجدهم، واعتنى بهم، حتى أصبحوا قادة للأمم، وقدوة حسنة للناس!
وقالوا في المثل: (من لك بأخيك كله) تريد أخاً مهذباً كلَّه، لا، هذا لا يكون.. خذ بعضه، خذ نصفه، خذ ثلثه، خذ ثلثيه.
فهل وجدت في المجتمع المسلم شخصاً -مهما بلغ من الرقي وحسن الخلق- أن يكون كاملاً، لا حيف فيه ولا نقص؟
كلا، هذا لا يكون ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)).
تجد هذا كريماً لكنه غضوب! وتجد هذا حليماً لكنه بخيل! وتجد هذا طيباً لكنه عجول! لأن الله وزع المناقب والمثالب على الناس.
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها ........ كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فإذا عدت معايب الإنسان فاعلم أنه صالح، ولكن بعض الناس لا تستطيع أن تعد معايبه أبداً مهما حاولت!! وبعضهم لخيره وصلاحه، تقول: ليس فيه إلا كذا، وهذا هو الخير، ومن غلبت محاسنه مساوئه فهو العدل في الإسلام. ومن غلبت مساوئه محاسنه، فهو المنحرف عن منهج الله عز وجل لأن الله يزن الناس يوم القيامة بميزان آية الأحقاف، يقول تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)) فبين الله في الآية أن لهم مساوئ، وأنه يتجاوز عنهم سبحانه وتعالى وأن لهم خطايا، وأن لهم ذنوباً، ولكنهم كما يقول الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).
فبعض الناس ماؤه قليل.. أي شيء يؤثر فيه، قطرة تؤثر فيه! ولكن بعضهم لمحاسنه ومناقبه بلغ قلتين، فمهما وضعت فيه لا يتغير أبداً لكرمه، وبذله، وعطائه، وعلمه، وسخائه، وفضله، ودعوته، وخيره، وصلاحه، وصدق نيته إلى غير ذلك من الصفات. وهذا تأتيه أحياناً نزغات من نزغات الشيطان، لكنها لا تؤثر فيه.
ولذلك يقول ابن تيمية ونقلها ابن القيم عنه في مدارج السالكين : أما موسى عليه السلام فإنه أتى بالألواح فيها كلام الله عز وجل فألقاها في الأرض، وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
يقول ابن تيمية : أخوه كان نبياً مثله، ومع ذلك جره بلحيته أمام الناس، ولكن عفا الله عنه!
قال ابن القيم :
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحد........ جاءت محاسنه بألف شفيع
وفي حديث رواه البيهقي بسند حسن، قال: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) .
قال ابن القيم : إلا الحدود، وهذه عبارة تثبت في بعض الروايات من لفظه صلى الله عليه وسلم. فإن الناس متساوون في الحدود، لكن في المسائل التي ليس فيها حدود، فعلينا أن نقيل صاحب العثرة -من أهل الهيئات- عثرته، وأهل الهيئات هم الذين لهم قدم صدق في الإسلام، وفي الدعوة، وفي الخير، وفي الكرم، وفي الصدارة، وفي التوجيه، وفي التأثير، وهم وجهاء الناس، وأهل الخير، وأهل الفضل، فهؤلاء إذا بدرت منهم بادرة فعلينا أن نتحملها جميعاً، وعلينا أن ننظر إلى سجل حسناتهم، وإلى دواوين كرمهم، ومنازلهم عند الله وعند خلقه.
يقول بشار بن برد :
إذا كنت في كل الأمور معاتباً .........صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
ويقول في بيت آخر:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى........ ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فصاحب أخاك، وتحمل منه الزلة، واغفر له العثرة، وتجاوز عن خطئه.
وكان ابن المبارك إذا ذكر له أصحابه قال: من مثل فلان، فيه كذا وكذا من المحاسن، ويسكت عن المساوئ.
وليتنا نتذكر حسنات الناس، فما أعلم أحداً من المسلمين مهما قصر إلا وله حسناته، ولو لم يكن من حسناته إلا أنه يصلي، ولو لم يكن من حسناته إلا أنه يحب الله ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم لكفى.
يؤتى برجل يشرب الخمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر به فجلد، وكان قد أتي به كثيراً.
فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به.
فقال المعلم العظيم صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله).
وفي لفظ: قال رجل: ما له أخزاه الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم).
فأثبت له صلى الله عليه وسلم أصل الحب، وهي حسنة، وأثبت له بقاءه في دائرة الأخوة الإسلامية، وهذه من أعظم الحسنات، فلماذا لا نتذكر للناس محاسنهم وبلاءهم في الإسلام؟
إنك لا تجد شريراً خالصاً إلا رجلاً كفر بالله، أو تعدى على حدوده، أو أعلن الفجور، أو خلع ثوب الحياء، أو عادى الأولياء والأخيار والصالحين، ونبذ الإسلام وراءه ظهرياً.
المصدر
موقع شبكة الاسلام
http://www.alislamnet.com/articles.aspx?id=342&selected_id=-7299969999&page_size=5&links=true
من كتاب (جسور المحبة) للشيخ عائض القرني
حلقات سلسله مثل عليا تربى عليها الصحابة
http://university.arabsbook.com/forum4/thread55448.html
http://university.arabsbook.com/forum4/thread55732.html
http://university.arabsbook.com/forum4/thread56051.html
http://university.arabsbook.com/forum4/thread56341.html