محمد شتيوى
مستشار سابق
رسالة في ليلة التنفيذ
الشاعر / هاشم الرفاعي *
تقديم
بقلم / محمد شتيوى
هذه قصيدة مؤثرة من قصائد العصر الحديث , قالها الشاعر هاشم الرفاعي علي لسان شاب مسجون ينتظر الإعدام يبعث بها إلى أبيه واصفاً له شعوره في تلك الليلة ( ليلة تنفيذ الإعدام ) ..
فهو يتساءل أي شئ سيخطر بباله ليكتبه لأبيه وقد عُلق حبل الإعدام على المنصة بانتظار أن يتدلي جسده منها عن قريب فلا عزاء ولا أنيس والليل يلفه بسكونه ويثير ذكرياته فتمر أمام ناظريه متتابعة كالشريط السينمائي فإذا أمضه الألم طلب راحته في قراءة بعض آيات من القرآن ..
وبين الحين والآخر يقطع الصمت رنين السلاسل التي يمسكها لها السجان , وينظر إليه من كوة الباب شامتاً وكأنه الصياد يراقب صيده , ولكن ماذا جني السجان وما ذنبه ؟ إنه إنسان طيب الأخلاق مثلك يا أبى لكنه مأمور وهذا عمله فإن نام عنه لحظة ذاق أبناءه مرارة الجوع والحرمان .
وأنا في سجني أعاتب نفسي وألومها لوماً شديداً فما الذي أغراني بالثورة الحمقاء , وما الذي كان سيضرني لو مشيت مع القطيع في إذعان وذلة , ثم ما الذي سأحققه بموتي والظلم باق جاثم علي الصدور ؟!
لكن نفسي تعود فتقول إن للحياة غاية أسمي من التصفيق للطغيان والتهليل للظلم , إن موتك لن يضيع سُدي فستظل روحك المظلومة كالقذى في أعينهم تعكر صفو حياتهم وتملأها كدراً , وسوف يلتقي دمع السجين المعذب مع دم الشهيد الممزق فيصبحان طوفاناً وسيلاً جارفاً يهدُّ قلاعَ الطُّغاة ويمحو آثارهم بعد أن ظنُّوا أنهم أخمدوا الثورة وركنوا إلى الراحة والدَّعة ..
لست أدرى هل سيذكر الناس قصتي بعد حين أم أنها ستطوى في غياهب النسيان , لكن الذي أدريه حقاً وأعلمه يقيناً أنني ليس بإمكاني أن أتجرع الذل كأساً مراً , فلا قيمة للحياة إن فقدت معني الحرية وتحولت إلي قيود وإرهاب وإذلال للإنسان .
أبي إذا طلع الصباح وأشرقت الشمس وغردت الطيور فرحة باليوم الجديد وخرج بائع اللبن ينادي بنغماته العذبة المليئة بالتفاؤل والأمل .. حينها سيدق بابي جلادان قاسيا القلب وبعد قليل أكون متدلياً من الحبل متأرجحاً كالذبيحة ..
ولكن لا عليك .. تعزَّ وتصبَّر فإن هذا الحبل الذي سأشنق لم يصنعوه بأنفسهم وحاشاهم !!! .. إنما جلبوه من بلاد الحضارة والحرية لكي يعلموننا هذه الحضارة علي أرض الواقع
أنا لا أريدك أن تعيش ما بقي لك من العمر محطماً صريع الآلام والأحزان وليكن عزاءك أن ابنك قُتل مظلوماً وهو برئ ولتذكر – يا أبي الحبيب – كل هذه الحكايات التي حدثتني عنها في صغري عن حب الوطن المسلم وفدائه فها أنا ذا قد فعلت ..
لكنني أطلب منك إذا سمعت نحيب أمي في عتمة الليل وهي تبكي علىّ أن تطلب منها أن تسامحني وأن تغفر لي فمازال صوتها الحنون يتردد في مسامعي وهي تقول لي " يا بني إني قد أصبحت مريضة قد كبرت سني ورق عظمي وانحني ظهري ولم يعد لي من قوة على احتمال الأحزان , فأدخل السرور إلي قلبي بأن تبحث عن زوجة صالحة ( بنت الحلال ) ..هذه كانت أمنيتها الأخيرة في الحياة ولست أدري كيف وبأي قلب ستبيت أمي بعدها ؟!
أبي .. هذا ما جري ببالي فكتبته إليك بعقل ذاهل وفكر مشتت , لكن إذا انتصر الحق في النهاية وهو لا شك منتصر رغم أنوف الطغاة فسوف يذكرني كل من عاش مهاناً وكل من ذاق الظلم وسوف يمجدني ويرفع من شأني ..
وإلي اللقاء في ظل عدالة إلهية لا ظلم فيها ولو بمثقال ذرة , حيث يُجازي كل امرئ بما كسبت يداه .
* * * *
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني ... والحبلُ والجلادُ ينتظراني
هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَةٍ ... مَقْرورَةٍ صَخْرِيَّةِ الجُدْرانِ
لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِها ... وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفاني
سَتَمُرُّ يا أبتاهُ لستُ أشكُّ في ... هذا وتَحمِلُ بعدَها جُثماني
الليلُ مِنْ حَولي هُدوءٌ قاتِلٌ ... والذكرياتُ تَمورُ في وِجْداني
وَيَهُدُّني أَلمي فأنْشُدُ راحَتي ... في بِضْعِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ
والنَّفْسُ بينَ جوانِحي شفَّافةٌ ... دَبَّ الخُشوعُ بها فَهَزَّ كَياني
قَدْ عِشْتُ أُومِنُ بالإلهِ ولم أَذُقْ ... إلاَّ أخيراً لذَّةَ الإيمانِ
شكرا لهم أنا لا أريد طعامهم ... فليرفعوه فلست بالجوعان
هذا الطعام المر ما صنعته لي ... أمي و لا وضعوه فوق خوان
كلا و لم يشهده - يا أبتي - معي ... أخوان جاءاه يستبقان
مدوا إلي به يدا مصبوغة ... بدمي و هذه غاية الإحسان !
والصَّمتُ يقطعُهُ رَنينُ سَلاسِلٍ ... عَبَثَتْ بِهِنَّ أَصابعُ السَّجَّانِ
ما بَيْنَ آوِنةٍ تَمُرُّ وأختها ... يرنو إليَّ بمقلتيْ شيطانِ
مِنْ كُوَّةٍ بِالبابِ يَرْقُبُ صَيْدَهُ ... وَيَعُودُ في أَمْنٍ إلى الدَّوَرَانِ
أَنا لا أُحِسُّ بِأيِّ حِقْدٍ نَحْوَهُ ... ماذا جَنَي فَتَمَسُّه أَضْغاني
هُوَ طيِّبُ الأخلاقِ مثلُكَ يا أبي ... لم يَبْدُ في ظَمَأٍ إلى العُدوانِ
لكنَّهُ إِنْ نامَ عَنِّي لَحظةً ... ذاقَ العَيالُ مَرارةَ الحِرْمانِ
فلَرُبَّما - وهُوَ المُرَوِّعُ سحنةً - ... لو كانَ مِثْلي شاعراً لَرَثاني
أوْ عادَ - مَنْ يدري ؟ - إلى أولادِهِ ... يَوماً تَذكَّرَ صُورتي فَبكاني
وَعلى الجِدارِ الصُّلبِ نافذةٌ بها ... معنى الحياةِ غليظةُ القُضْبانِ
قَدْ طالَما شارَفْتُها مُتَأَمِّلاً ... في الثَّائرينَ على الأسى اليَقْظانِ
فَأَرَى وُجوماً كالضَّبابِ مُصَوِّراً ... ما في قُلوبِ النَّاسِ مِنْ غَلَيانِ
نَفْسُ الشُّعورِ لَدى الجميعِ وَإِنْ هُمُو ... كَتموا وكانَ المَوْتُ في إِعْلاني
وَيدورُ هَمْسٌ في الجَوانِحِ : ما الَّذي ... بِالثَّوْرَةِ الحَمْقاءِ قَدْ أَغْراني؟
أَوَ لَمْ يَكُنْ خَيْراً لِنفسي أَنْ أُرَى ... مثلَ الجُموعِ أَسيرُ في إِذْعانِ؟!
ما ضَرَّني لَوْ قَدْ سَكَتُّ وَكُلَّما ... غَلَبَ الأسى بالَغْتُ في الكِتْمانِ؟
هذا دَمِي سَيَسِيلُ يَجْرِي مُطْفِئاً ... ما ثارَ في جَنْبَيَّ مِنْ نِيرانِ
وَفؤاديَ المَوَّارُ في نَبَضاتِهِ ... سَيَكُفُّ في غَدِهِ عَنِ الْخَفَقانِ
وَالظُّلْمُ باقٍ لَنْ يُحَطِّمَ قَيْدَهُ ... مَوْتي وَلَنْ يُودِي بِهِ قُرْباني
وَيَسيرُ رَكْبُ الْبَغْيِ لَيْسَ يَضِيرُهُ ... شاةٌ إِذا اْجْتُثَّتْ مِنَ القِطْعانِ
هذا حَديثُ النَّفْسِ حينَ تَشُفُّ عَنْ ... بَشَرِيَّتي وَتَمُورُ بَعْدَ ثَوانِ
وتقُولُ لي إنَّ الحَياةَ لِغايَةٍ ... أَسْمَى مِنَ التَّصْفيقِ ِللطُّغْيانِ
أَنْفاسُكَ الحَرَّى وَإِنْ هِيَ أُخمِدَتْ ... سَتَظَلُّ تَعْمُرُ أُفْقَهُمْ بِدُخانِ
وقُروحُ جِسْمِكَ وَهُوَ تَحْتَ سِياطِهِمْ ... قَسَماتُ صُبْحٍ يَتَّقِيهِ الْجاني
دَمْعُ السَّجينِ هُناكَ في أَغْلالِهِ ... وَدَمُ الشَّهيدِ هُنَا سَيَلْتَقِيانِ
حَتَّى إِذا ما أُفْعِمَتْ بِهِما الرُّبا ... لم يَبْقَ غَيْرُ تَمَرُّدِ الفَيَضانِ
ومَنِ الْعَواصِفِ مَا يَكُونُ هُبُوبُهَا ... بَعْدَ الْهُدوءِ وَرَاحَةِ الرُّبَّانِ
إِنَّ اْحْتِدامَ النَّارِ في جَوْفِ الثَّرَى ... أَمْرٌ يُثيرُ حَفِيظَةَ الْبُرْكانِ
وتتابُعُ القَطَراتِ يَنْزِلُ بَعْدَهُ ... سَيْلٌ يَليهِ تَدَفُّقُ الطُّوفانِ
فَيَمُوجُ يقتلِعُ الطُّغاةَ مُزَمْجِراً ... أقْوى مِنَ الْجَبَرُوتِ وَالسُّلْطانِ
أَنا لَستُ أَدْري هَلْ سَتُذْكَرُ قِصَّتي ؟ ... أَمْ سَوْفَ يَعْرُوها دُجَى النِّسْيانِ؟
أمْ أنَّني سَأَكونُ في تارِيخِنا ... مُتآمِراً أَمْ هَادِمَ الأَوْثانِ؟
كُلُّ الَّذي أَدْرِيهِ أَنَّ تَجَرُّعي ... كَأْسَ الْمَذَلَّةِ لَيْسَ في إِمْكاني
لَوْ لَمْ أَكُنْ في ثَوْرَتي مُتَطَلِّباً ... غَيْرَ الضِّياءِ لأُمَّتي لَكَفاني
أَهْوَى الْحَياةَ كَريمَةً لا قَيْدَ .. لا ... إِرْهابَ .. لا اْسْتِخْفافَ بِالإنْسانِ
فَإذا سَقَطْتُ سَقَطْتُ أَحْمِلُ عِزَّتي ... يَغْلي دَمُ الأَحْرارِ في شِرياني
أَبَتاهُ إِنْ طَلَعَ الصَّباحُ عَلَى الدُّني ... وَأَضاءَ نُورُ الشَّمْسِ كُلَّ مَكانِ
وَاسْتَقْبَلُ الْعُصْفُورُ بَيْنَ غُصُونِهِ ... يَوْماً جَديداً مُشْرِقَ الأَلْوانِ
وَسَمِعْتَ أَنْغامَ التَّفاؤلِ ثَرَّةً ... تَجْري عَلَى فَمِ بائِعِ الأَلبانِ
وَأتى يَدُقُّ- كما تَعَوَّدَ - بابَنا ... سَيَدُقُّ بابَ السِّجْنِ جَلاَّدانِ
وَأَكُونُ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ مُتَأَرْجِحَاً ... في الْحَبْلِ مَشْدُوداً إِلى العِيدانِ
لِيَكُنْ عَزاؤكَ أَنَّ هَذا الْحَبْلَ ما ... صَنَعَتْهُ في هِذي الرُّبوعِ يَدانِ
نَسَجُوهُ في بَلَدٍ يَشُعُّ حَضَارَةً ... وَتُضاءُ مِنْهُ مَشاعِلُ الْعِرفانِ
أَوْ هَكذا زَعَمُوا ! وَجِيءَ بِهِ إلى ... بَلَدي الْجَريحِ عَلَى يَدِ الأَعْوانِ
أَنا لا أُرِيدُكَ أَنْ تَعيشَ مُحَطَّماً ... في زَحْمَةِ الآلامِ وَالأَشْجانِ
إِنَّ ابْنَكَ المَصْفُودَ في أَغْلالِهِ ... قَدْ سِيقَ نَحْوَ الْمَوْتِ غَيْرَ مُدانِ
فَاذْكُرْ حِكاياتٍ بِأَيَّامِ الصِّبا ... قَدْ قُلْتَها لي عَنْ هَوى الأوْطانِ
وَإذا سَمْعْتَ نَحِيبَ أُمِّيَ في الدُّجى ... تَبْكي شَباباً ضاعَ في الرَّيْعانِ
وتُكَتِّمُ الحَسراتِ في أَعْماقِها ... أَلَمَاً تُوارِيهِ عَنِ الجِيرانِ
فَاطْلُبْ إِليها الصَّفْحَ عَنِّي إِنَّني ... لا أَبْتَغي مِنَها سِوى الغُفْرانِ
مازَالَ في سَمْعي رَنينُ حَديثِها ... وَمقالِها في رَحْمَةٍ وَحنانِ
" أَبُنَيَّ: إنِّي قد غَدَوْتُ عليلةً ... لم يبقَ لي جَلَدٌ عَلى الأَحْزانِ "
" فَأَذِقْ فُؤادِيَ فَرْحَةً بِالْبَحْثِ عَنْ ... بِنْتِ الحَلالِ , وَدَعْكَ مِنْ عِصْياني "
كانَتْ لها أُمْنِيَةً رَيَّانَةً ... يا حُسْنَ آمالٍ لَها وَأَماني
وَالآنَ لا أَدْري بِأَيِّ جَوانِحٍ ... سَتَبيتُ بَعْدي أَمْ بِأَيِّ جِنانِ ؟!
هذا الذي سَطَرْتُهُ لكَ يا أبي ... بَعْضُ الذي يَجْري بِفِكْرٍ عانِ
لكنْ إذا انْتَصَرَ الضِّياءُ وَمُزِّقَتْ ... بَيَدِ الْجُموعِ شَريعةُ القُرْصانِ
فَلَسَوْفَ يَذْكُرُني وَيُكْبِرُ هِمَّتي ... مَنْ كانَ في بَلَدي حَليفَ هَوانِ
وَإلى لِقاءٍ تَحْتَ ظِلِّ عَدالَةٍ ... قُدْسِيَّةِ الأَحْكامِ والمِيزانِ (1)
الملف الصوتي للقصيدة موجود بالمرفقات (2)
__________________________________
* شاعر مصري التحق بمعهد الزقازيق الديني التابع للأزهر الشريف سنة 1947م وحصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية في عام 1951م، ثم أكمل دراسته في هذا المعهد وحصل على الشهادة الثانوية سنة 1956م ثم التحق بكلية دار العلوم وتوفي قبل أن يتخرج سنة 1959م.
(1) مصدر القصيدة : موقع أدب - الموسوعة العالمية للشعر العربى
http://adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=74370
(2) لم أقف على صاحب الإلقاء الصوتي للقصيدة - ولربما كان الشاعر نفسه
الشاعر / هاشم الرفاعي *
تقديم
بقلم / محمد شتيوى
هذه قصيدة مؤثرة من قصائد العصر الحديث , قالها الشاعر هاشم الرفاعي علي لسان شاب مسجون ينتظر الإعدام يبعث بها إلى أبيه واصفاً له شعوره في تلك الليلة ( ليلة تنفيذ الإعدام ) ..
فهو يتساءل أي شئ سيخطر بباله ليكتبه لأبيه وقد عُلق حبل الإعدام على المنصة بانتظار أن يتدلي جسده منها عن قريب فلا عزاء ولا أنيس والليل يلفه بسكونه ويثير ذكرياته فتمر أمام ناظريه متتابعة كالشريط السينمائي فإذا أمضه الألم طلب راحته في قراءة بعض آيات من القرآن ..
وبين الحين والآخر يقطع الصمت رنين السلاسل التي يمسكها لها السجان , وينظر إليه من كوة الباب شامتاً وكأنه الصياد يراقب صيده , ولكن ماذا جني السجان وما ذنبه ؟ إنه إنسان طيب الأخلاق مثلك يا أبى لكنه مأمور وهذا عمله فإن نام عنه لحظة ذاق أبناءه مرارة الجوع والحرمان .
وأنا في سجني أعاتب نفسي وألومها لوماً شديداً فما الذي أغراني بالثورة الحمقاء , وما الذي كان سيضرني لو مشيت مع القطيع في إذعان وذلة , ثم ما الذي سأحققه بموتي والظلم باق جاثم علي الصدور ؟!
لكن نفسي تعود فتقول إن للحياة غاية أسمي من التصفيق للطغيان والتهليل للظلم , إن موتك لن يضيع سُدي فستظل روحك المظلومة كالقذى في أعينهم تعكر صفو حياتهم وتملأها كدراً , وسوف يلتقي دمع السجين المعذب مع دم الشهيد الممزق فيصبحان طوفاناً وسيلاً جارفاً يهدُّ قلاعَ الطُّغاة ويمحو آثارهم بعد أن ظنُّوا أنهم أخمدوا الثورة وركنوا إلى الراحة والدَّعة ..
لست أدرى هل سيذكر الناس قصتي بعد حين أم أنها ستطوى في غياهب النسيان , لكن الذي أدريه حقاً وأعلمه يقيناً أنني ليس بإمكاني أن أتجرع الذل كأساً مراً , فلا قيمة للحياة إن فقدت معني الحرية وتحولت إلي قيود وإرهاب وإذلال للإنسان .
أبي إذا طلع الصباح وأشرقت الشمس وغردت الطيور فرحة باليوم الجديد وخرج بائع اللبن ينادي بنغماته العذبة المليئة بالتفاؤل والأمل .. حينها سيدق بابي جلادان قاسيا القلب وبعد قليل أكون متدلياً من الحبل متأرجحاً كالذبيحة ..
ولكن لا عليك .. تعزَّ وتصبَّر فإن هذا الحبل الذي سأشنق لم يصنعوه بأنفسهم وحاشاهم !!! .. إنما جلبوه من بلاد الحضارة والحرية لكي يعلموننا هذه الحضارة علي أرض الواقع
أنا لا أريدك أن تعيش ما بقي لك من العمر محطماً صريع الآلام والأحزان وليكن عزاءك أن ابنك قُتل مظلوماً وهو برئ ولتذكر – يا أبي الحبيب – كل هذه الحكايات التي حدثتني عنها في صغري عن حب الوطن المسلم وفدائه فها أنا ذا قد فعلت ..
لكنني أطلب منك إذا سمعت نحيب أمي في عتمة الليل وهي تبكي علىّ أن تطلب منها أن تسامحني وأن تغفر لي فمازال صوتها الحنون يتردد في مسامعي وهي تقول لي " يا بني إني قد أصبحت مريضة قد كبرت سني ورق عظمي وانحني ظهري ولم يعد لي من قوة على احتمال الأحزان , فأدخل السرور إلي قلبي بأن تبحث عن زوجة صالحة ( بنت الحلال ) ..هذه كانت أمنيتها الأخيرة في الحياة ولست أدري كيف وبأي قلب ستبيت أمي بعدها ؟!
أبي .. هذا ما جري ببالي فكتبته إليك بعقل ذاهل وفكر مشتت , لكن إذا انتصر الحق في النهاية وهو لا شك منتصر رغم أنوف الطغاة فسوف يذكرني كل من عاش مهاناً وكل من ذاق الظلم وسوف يمجدني ويرفع من شأني ..
وإلي اللقاء في ظل عدالة إلهية لا ظلم فيها ولو بمثقال ذرة , حيث يُجازي كل امرئ بما كسبت يداه .
* * * *
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني ... والحبلُ والجلادُ ينتظراني
هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَةٍ ... مَقْرورَةٍ صَخْرِيَّةِ الجُدْرانِ
لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِها ... وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفاني
سَتَمُرُّ يا أبتاهُ لستُ أشكُّ في ... هذا وتَحمِلُ بعدَها جُثماني
الليلُ مِنْ حَولي هُدوءٌ قاتِلٌ ... والذكرياتُ تَمورُ في وِجْداني
وَيَهُدُّني أَلمي فأنْشُدُ راحَتي ... في بِضْعِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ
والنَّفْسُ بينَ جوانِحي شفَّافةٌ ... دَبَّ الخُشوعُ بها فَهَزَّ كَياني
قَدْ عِشْتُ أُومِنُ بالإلهِ ولم أَذُقْ ... إلاَّ أخيراً لذَّةَ الإيمانِ
شكرا لهم أنا لا أريد طعامهم ... فليرفعوه فلست بالجوعان
هذا الطعام المر ما صنعته لي ... أمي و لا وضعوه فوق خوان
كلا و لم يشهده - يا أبتي - معي ... أخوان جاءاه يستبقان
مدوا إلي به يدا مصبوغة ... بدمي و هذه غاية الإحسان !
والصَّمتُ يقطعُهُ رَنينُ سَلاسِلٍ ... عَبَثَتْ بِهِنَّ أَصابعُ السَّجَّانِ
ما بَيْنَ آوِنةٍ تَمُرُّ وأختها ... يرنو إليَّ بمقلتيْ شيطانِ
مِنْ كُوَّةٍ بِالبابِ يَرْقُبُ صَيْدَهُ ... وَيَعُودُ في أَمْنٍ إلى الدَّوَرَانِ
أَنا لا أُحِسُّ بِأيِّ حِقْدٍ نَحْوَهُ ... ماذا جَنَي فَتَمَسُّه أَضْغاني
هُوَ طيِّبُ الأخلاقِ مثلُكَ يا أبي ... لم يَبْدُ في ظَمَأٍ إلى العُدوانِ
لكنَّهُ إِنْ نامَ عَنِّي لَحظةً ... ذاقَ العَيالُ مَرارةَ الحِرْمانِ
فلَرُبَّما - وهُوَ المُرَوِّعُ سحنةً - ... لو كانَ مِثْلي شاعراً لَرَثاني
أوْ عادَ - مَنْ يدري ؟ - إلى أولادِهِ ... يَوماً تَذكَّرَ صُورتي فَبكاني
وَعلى الجِدارِ الصُّلبِ نافذةٌ بها ... معنى الحياةِ غليظةُ القُضْبانِ
قَدْ طالَما شارَفْتُها مُتَأَمِّلاً ... في الثَّائرينَ على الأسى اليَقْظانِ
فَأَرَى وُجوماً كالضَّبابِ مُصَوِّراً ... ما في قُلوبِ النَّاسِ مِنْ غَلَيانِ
نَفْسُ الشُّعورِ لَدى الجميعِ وَإِنْ هُمُو ... كَتموا وكانَ المَوْتُ في إِعْلاني
وَيدورُ هَمْسٌ في الجَوانِحِ : ما الَّذي ... بِالثَّوْرَةِ الحَمْقاءِ قَدْ أَغْراني؟
أَوَ لَمْ يَكُنْ خَيْراً لِنفسي أَنْ أُرَى ... مثلَ الجُموعِ أَسيرُ في إِذْعانِ؟!
ما ضَرَّني لَوْ قَدْ سَكَتُّ وَكُلَّما ... غَلَبَ الأسى بالَغْتُ في الكِتْمانِ؟
هذا دَمِي سَيَسِيلُ يَجْرِي مُطْفِئاً ... ما ثارَ في جَنْبَيَّ مِنْ نِيرانِ
وَفؤاديَ المَوَّارُ في نَبَضاتِهِ ... سَيَكُفُّ في غَدِهِ عَنِ الْخَفَقانِ
وَالظُّلْمُ باقٍ لَنْ يُحَطِّمَ قَيْدَهُ ... مَوْتي وَلَنْ يُودِي بِهِ قُرْباني
وَيَسيرُ رَكْبُ الْبَغْيِ لَيْسَ يَضِيرُهُ ... شاةٌ إِذا اْجْتُثَّتْ مِنَ القِطْعانِ
هذا حَديثُ النَّفْسِ حينَ تَشُفُّ عَنْ ... بَشَرِيَّتي وَتَمُورُ بَعْدَ ثَوانِ
وتقُولُ لي إنَّ الحَياةَ لِغايَةٍ ... أَسْمَى مِنَ التَّصْفيقِ ِللطُّغْيانِ
أَنْفاسُكَ الحَرَّى وَإِنْ هِيَ أُخمِدَتْ ... سَتَظَلُّ تَعْمُرُ أُفْقَهُمْ بِدُخانِ
وقُروحُ جِسْمِكَ وَهُوَ تَحْتَ سِياطِهِمْ ... قَسَماتُ صُبْحٍ يَتَّقِيهِ الْجاني
دَمْعُ السَّجينِ هُناكَ في أَغْلالِهِ ... وَدَمُ الشَّهيدِ هُنَا سَيَلْتَقِيانِ
حَتَّى إِذا ما أُفْعِمَتْ بِهِما الرُّبا ... لم يَبْقَ غَيْرُ تَمَرُّدِ الفَيَضانِ
ومَنِ الْعَواصِفِ مَا يَكُونُ هُبُوبُهَا ... بَعْدَ الْهُدوءِ وَرَاحَةِ الرُّبَّانِ
إِنَّ اْحْتِدامَ النَّارِ في جَوْفِ الثَّرَى ... أَمْرٌ يُثيرُ حَفِيظَةَ الْبُرْكانِ
وتتابُعُ القَطَراتِ يَنْزِلُ بَعْدَهُ ... سَيْلٌ يَليهِ تَدَفُّقُ الطُّوفانِ
فَيَمُوجُ يقتلِعُ الطُّغاةَ مُزَمْجِراً ... أقْوى مِنَ الْجَبَرُوتِ وَالسُّلْطانِ
أَنا لَستُ أَدْري هَلْ سَتُذْكَرُ قِصَّتي ؟ ... أَمْ سَوْفَ يَعْرُوها دُجَى النِّسْيانِ؟
أمْ أنَّني سَأَكونُ في تارِيخِنا ... مُتآمِراً أَمْ هَادِمَ الأَوْثانِ؟
كُلُّ الَّذي أَدْرِيهِ أَنَّ تَجَرُّعي ... كَأْسَ الْمَذَلَّةِ لَيْسَ في إِمْكاني
لَوْ لَمْ أَكُنْ في ثَوْرَتي مُتَطَلِّباً ... غَيْرَ الضِّياءِ لأُمَّتي لَكَفاني
أَهْوَى الْحَياةَ كَريمَةً لا قَيْدَ .. لا ... إِرْهابَ .. لا اْسْتِخْفافَ بِالإنْسانِ
فَإذا سَقَطْتُ سَقَطْتُ أَحْمِلُ عِزَّتي ... يَغْلي دَمُ الأَحْرارِ في شِرياني
أَبَتاهُ إِنْ طَلَعَ الصَّباحُ عَلَى الدُّني ... وَأَضاءَ نُورُ الشَّمْسِ كُلَّ مَكانِ
وَاسْتَقْبَلُ الْعُصْفُورُ بَيْنَ غُصُونِهِ ... يَوْماً جَديداً مُشْرِقَ الأَلْوانِ
وَسَمِعْتَ أَنْغامَ التَّفاؤلِ ثَرَّةً ... تَجْري عَلَى فَمِ بائِعِ الأَلبانِ
وَأتى يَدُقُّ- كما تَعَوَّدَ - بابَنا ... سَيَدُقُّ بابَ السِّجْنِ جَلاَّدانِ
وَأَكُونُ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ مُتَأَرْجِحَاً ... في الْحَبْلِ مَشْدُوداً إِلى العِيدانِ
لِيَكُنْ عَزاؤكَ أَنَّ هَذا الْحَبْلَ ما ... صَنَعَتْهُ في هِذي الرُّبوعِ يَدانِ
نَسَجُوهُ في بَلَدٍ يَشُعُّ حَضَارَةً ... وَتُضاءُ مِنْهُ مَشاعِلُ الْعِرفانِ
أَوْ هَكذا زَعَمُوا ! وَجِيءَ بِهِ إلى ... بَلَدي الْجَريحِ عَلَى يَدِ الأَعْوانِ
أَنا لا أُرِيدُكَ أَنْ تَعيشَ مُحَطَّماً ... في زَحْمَةِ الآلامِ وَالأَشْجانِ
إِنَّ ابْنَكَ المَصْفُودَ في أَغْلالِهِ ... قَدْ سِيقَ نَحْوَ الْمَوْتِ غَيْرَ مُدانِ
فَاذْكُرْ حِكاياتٍ بِأَيَّامِ الصِّبا ... قَدْ قُلْتَها لي عَنْ هَوى الأوْطانِ
وَإذا سَمْعْتَ نَحِيبَ أُمِّيَ في الدُّجى ... تَبْكي شَباباً ضاعَ في الرَّيْعانِ
وتُكَتِّمُ الحَسراتِ في أَعْماقِها ... أَلَمَاً تُوارِيهِ عَنِ الجِيرانِ
فَاطْلُبْ إِليها الصَّفْحَ عَنِّي إِنَّني ... لا أَبْتَغي مِنَها سِوى الغُفْرانِ
مازَالَ في سَمْعي رَنينُ حَديثِها ... وَمقالِها في رَحْمَةٍ وَحنانِ
" أَبُنَيَّ: إنِّي قد غَدَوْتُ عليلةً ... لم يبقَ لي جَلَدٌ عَلى الأَحْزانِ "
" فَأَذِقْ فُؤادِيَ فَرْحَةً بِالْبَحْثِ عَنْ ... بِنْتِ الحَلالِ , وَدَعْكَ مِنْ عِصْياني "
كانَتْ لها أُمْنِيَةً رَيَّانَةً ... يا حُسْنَ آمالٍ لَها وَأَماني
وَالآنَ لا أَدْري بِأَيِّ جَوانِحٍ ... سَتَبيتُ بَعْدي أَمْ بِأَيِّ جِنانِ ؟!
هذا الذي سَطَرْتُهُ لكَ يا أبي ... بَعْضُ الذي يَجْري بِفِكْرٍ عانِ
لكنْ إذا انْتَصَرَ الضِّياءُ وَمُزِّقَتْ ... بَيَدِ الْجُموعِ شَريعةُ القُرْصانِ
فَلَسَوْفَ يَذْكُرُني وَيُكْبِرُ هِمَّتي ... مَنْ كانَ في بَلَدي حَليفَ هَوانِ
وَإلى لِقاءٍ تَحْتَ ظِلِّ عَدالَةٍ ... قُدْسِيَّةِ الأَحْكامِ والمِيزانِ (1)
الملف الصوتي للقصيدة موجود بالمرفقات (2)
__________________________________
* شاعر مصري التحق بمعهد الزقازيق الديني التابع للأزهر الشريف سنة 1947م وحصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية في عام 1951م، ثم أكمل دراسته في هذا المعهد وحصل على الشهادة الثانوية سنة 1956م ثم التحق بكلية دار العلوم وتوفي قبل أن يتخرج سنة 1959م.
(1) مصدر القصيدة : موقع أدب - الموسوعة العالمية للشعر العربى
http://adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=74370
(2) لم أقف على صاحب الإلقاء الصوتي للقصيدة - ولربما كان الشاعر نفسه