مفهوم الإنسان الصالح والأمة الصالحة

فى البداية اود ان اعتذر لكل احبائى اعضاء منتديات شبكة كتاب العرب عن انشغالى الفترة الماضية بالدخول الى المنتدى وذلك لاهتمامىبامر مرض والدتى (شفاها الله وعفاها).
ولكنى سأحاول بين الحين والاخر ان اختلس لحظات من وقتى لاسعد بها بينكم
اكرر اعتذارى اخوانى الاعزاء:
................................................................................
والان اترككم مع المقال:
لا شك أن الإنسان الصالح الذي تهدف الرسالة الإسلامية إلى بنائه ليس هو الإنسان الغني المترف، الذي يتمتع بطيبات الحياة، ويحيا في العيش الرغيد، ويتفنن في العلوم الدنيوية‏.‏‏.‏ ثم هو بعد ذلك جاهل بربه، جاهل بالغاية التي خلق من أجلها على هذه الأرض، فمثل هذا الإنسان عند الله أحط قدراً من الأنعام‏.‏‏.‏ كما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏179‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم‏}‏‏.‏
ونفي الله لسمع هؤلاء وبصرهم وعقولهم ليس على إطلاقه، بل هم أهل بصر وسمع وعلم، ولكن ذلك كله محصور في أمر الدنيا‏.‏‏.‏ كما قال تعالى عنهم ‏{‏ولكن كثيراً من الناس لا يعلمون* يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏ ‏(‏الروم‏)‏ وقال عن عاد وثمود ‏{‏وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين‏}‏ ‏(‏العنكبوت‏:‏38‏)‏ أي ذوي بصيرة وخبرة بالحياة الدنيا فهم أهل بصر بالزراعات والصناعات والبناء وشئون الحياة والمعاش كما قال صالح لقومه ‏(‏ثمود‏)‏‏:‏ ‏{‏أتتركون فيمنا ها هنا آمنين، في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين، فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏146-150‏)‏
فالذين عاشوا خلال جنات وعيون وزروع ونخيل طلعها هضيم ونحتوا الجبال بيوتاً ‏{‏جابوا الصخر بالواد‏}‏، لا شك أنهم كانوا على علم بالحياة وبصرفيها‏.‏ فإن كل ذلك لا يتأتى إلا بعلوم دنيوية فائقة متقدمة‏.‏
وكذلك أيضاً قال هود لقومه ‏(‏عاد‏)‏‏:‏ ‏{‏أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون‏.‏‏.‏ أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏128-135‏)‏‏.‏
فالذين بنوا بكل سفح من سفوح جبالهم بناءاً فخماً كان آية في الجمال والدقة، واتخذوا المصانع كأنهم مخلدون أبداً أو ليخلدوا أبداً، وبطشوا بأعدائهم بغير رحمة، وحازوا الأموال والأولاد، وعاشوا في الجنات والبساتين، لا شك أن هؤلاء كانوا يتمتعون بالبصيرة الدنيوية والعلم المادي الذي أهلهم لذلك، ولكن كل ذلك لم يخرجهم عند الله من دائرة الإجرام، ولم يرفعهم من مرتبة الحيوانات‏.‏‏.‏ كما قال تعالى عنهم ‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين‏}‏ ‏(‏يونس‏:‏13‏)‏
بل إن الله سبحانه وتعالى مدح نفسه على إهلاكهم وإزالتهم من وجه الأرض حيث يقول سبحانه‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين‏}‏‏.‏ ‏(‏الأنعام‏:‏42-45‏)‏
وإهلاك الله للقرى الظالمة والدول الجائرة الكافرة قد يكون بالدمار الشامل وترك ديارهم خراباً وأرضهم يباباً ‏(‏خراباً لا شيء فيها‏)‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏45‏)‏ أي بئر معطلة عن السقي مع امتلائها بالماء وقصر مشيد لا يسكنه أحد‏!‏‏!‏
وقد يكون الهلاك بتسليط غيرهم عليهم من أهل الإيمان تارة، أو من أمثالهم من أهل الكفر أخرى، كما سلط الله هذه الأمة الإسلامية على الأمم التي كفرت به من أهل الكتاب الذين بدلوا شرائع الله وانحرفوا عن هديه سبحانه‏.‏‏.‏ قال تعالى بعد أن أورث المسلمين أرض اليهود في المدينة يهود بني قريظة ‏{‏وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها، وكان الله على كل شيء قديراً‏}‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏45‏)‏ وقال عن أمثالهم يهود بني النضير‏:‏ ‏{‏يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏2‏)‏
وبشر الله نبيه قبل موته أن أمته سترث الأمم وتملك العالم شرقه وغربه‏.‏ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها‏]‏‏.‏ ‏(‏رواه الترمذي‏)‏
وقرأ سعد بن أبي وقاص عندما دخل إيوان كسرى بعد فتح فارس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين‏، كذلك وأورثناها قوماً آخرين‏}‏ ‏(‏الدخان‏)‏ فبكى وبكى الناس وراءه‏.‏
وقد يهلك الله الظالمين بالظالمين، ويؤدب المؤمنين بالكافرين‏.‏‏.‏ كل ذلك وفق حكمته التامة، وعلمه المحيط‏.‏
المهم هنا أن نعلم أن الأمة الصالحة، والمجتمع الصالح في ميزان الله، ليسا هي الأمة والدولة التي تعيش في بيوت جميلة وشوارع واسعة، وحدائق غناء، وملاعب حديثة‏.‏‏.‏ وبل قد يكون هذا كله موجوداً وتكون هذه الأمة ملعونة في ميزان الله موصوفة بالظلم والطغيان، والكفر والعصيان‏.‏
وكذلك الحال أيضاً في الأفراد، فليس الفرد الصالح أو الإنسان الصالح هو الغني المترف المنعم، العليم بشؤون دنياه، الظريف المنمق، الجميل المتأنق، بل قد يكون الإنسان موصوفاً بهذه الصفات جميعها، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة‏]‏‏.‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏
وقال تعالى عن قارون الذي افتخر بماله وزينته وثروته وسلطانه‏:‏ ‏{‏أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون‏}‏ ‏(‏القصص‏:‏48‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏وأهل النار كل جعظري جواظ مستكبر‏]‏ ‏(‏رواه أحمد وأبو داود‏)‏‏.‏‏.‏ والجعظري‏:‏ هو الغليظ الشديد المنيع في قومه وسربه‏.‏
وهنا نأتي إلى السؤال‏:‏ إذاً ما صفات المجتمع الصالح والأمة الصالحة في ميزان الله وما صفات الفرد الصالح أو الإنسان الصالح الذي يحبه الله ويتولاه‏؟‏‏؟‏
والجواب‏:‏
أن الأمة الإسلامية الصالحة هي الأمة التي يكون تجمعها والتئامها وترابطها على أساس الإيمان بالله ورسالاته والعمل وفق محبته ورضوانه فتكون بذلك علاقة أفرادها قائمة على أساس الأخوة في الله، وما تقتضيه هذه الأخوة من التراحم والتعاطف والتعاون والنصرة والموالاة، ويكون تعاملها مع غيرها من أمم الأرض قائما على أساس من هذه العقيدة أيضاً‏.‏ فهي داعية للناس جميعاً أن يكونوا إخوة في رحاب الإسلام‏.‏ وهي تعادي في سبيل عقيدتها وتحارب في سبيلها، وتسالم وتصالح وتعاهد وتهادن وفق هذه العقيدة أيضاً، ومصالحها الدنيوية لإيمانها ودينها‏.‏
والفرد الصالح لبنة في هذا المجتمع وعضو في هذه الأمة‏.‏ يؤمن بالله ويسخر حياته كلها من أجل دينه‏.‏‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين‏}‏ ‏(‏الأنعام‏:‏162‏)‏ وهو مع جعله حياته لله ومماته لله يحب الخير للناس جميعاً ويحمل الهداية للناس كافة، ولا يدخر وسعاً في إسعاد الآخرين من قضاء حقوق العباد التي ألزمه الله بها، فهو بار بوالديه‏.‏‏.‏ وأصل لأرحامه‏.‏‏.‏ نافع لجيرانه‏.‏‏.‏ متعاون مع إخوانه‏.‏‏.‏ كاف شره عن الناس، قد سلم الناس من لسانه ويده، وائتمنوه على حرماتهم وأموالهم، وهو مع ذلك يغضب لله ويرضى له، ويعادي في الله ويحب فيه، يعادي في الله أعداء الله ولو كانوا أقرب الناس إليه، ويحب في الله أحباب الله ولو كانوا أبعد الناس عنه، ويقاتل في سبيل الله من كفر واعتدى ولو كانوا من الآباء والأبناء والأخوة والعشيرة، هذا في جانب الخلق‏.‏
أما أخلاقه مع الخالق فهي أكمل الأخلاق فهو شاهد لله بما شهد سبحانه لنفسه من أنه الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ، المصور الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى القائم على كل نفس بما كسبت، مؤمن برسالات الله‏.‏
ومثل هذا الإنسان الصالح محبوب عند الله ولو كان في أسمال بالية، وبيت متواضع، وبطن جائع‏.‏ وذلك المجتمع والأمة التي تضم أمثال هذا هي خير الأمم ولو عاشت في صحارى قاحلة، وشوارع ضيقة، وبيوت رثة بالية‏!‏‏!‏
وها نحن نقرأ في القرآن عن بني إسرائيل أن الله اختارهم لحمل رسالة، وفضلهم على العالمين في زمانهم، وكانوا شعباً مشرداً مطروداً يسامون الخسف ويصبحون ويمسون في الذل والإهانة، يعيشون مع الفراعنة يستحيون نساءهم، ويقتلون أبناءهم ويسومونهم سوء العذاب فيسخرونهم في البناء وفلاحة الأرض، وتنظيف الطرقات، وخدمة البيوت، ومع ذلك نقرأ في القرآن ثناء الله عليهم واجتباءه لهم وتفضيلهم على العالمين في زمانهم، لما قاموا برسالة الله وعبدوه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏47‏)‏، وهذا في موضعين من القرآن، وفي موضع ثالث قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد اخترناهم على علم على العالمين‏}‏ ‏(‏الدخان‏:‏32‏)‏ أي على علم بأنهم أصلح الناس في زمانهم ومن الله عليهم بأن نصرهم على عدوهم، وأنجاهم من بطشه وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها‏.‏ كما قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏137‏)‏
ولكنهم بعد أن تجاوزوا حدود الله، وعصوا رسله، وشرعوا يقتلون أنبيائهم ويديرون ظهورهم لشريعة ربهم ويدعون في الدين ما لم ينزل عليهم زاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس، وأنهم شعبه المختار، وتطاولوا على الله بالجحود والنكران، واصفين إياه سبحانه بأبشع الصفات كقولهم ‏(‏استراح في اليوم السابع‏)‏ ‏(‏يد الله مغلولة‏)‏ ‏(‏إن الله فقير ونحن أغنياء‏)‏، ومجاوزين حدود شريعته، مستحلين للحرام ظالمين أنفسهم‏.‏
لذلك كله وغيره من المعاصي والذنوب لعنهم الله وطردهم من رحمته وسلط عليهم وإلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، بل وشتت شملهم في الأرض وقوض دولتهم وأنهى من الأرض فضلهم وسبقهم، وجعل اللعنة ملازمة لذكرهم حيث ذكروا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم،ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون، ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما كانوا يفعلون، ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏78-80‏)‏
وقال عنهم أيضاً‏:‏ ‏{‏وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون، وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل الله إليك من ربك طغياناً وكفراً، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏62-64‏)‏
وقال عنهم أيضاً‏:‏ ‏{‏فلما عتوا عما نهوا قلنا لهم كونوا قردة خاسئين، وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم، وقطعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏166-168‏)‏
وإذا تركنا بني إسرائيل، وبعد أن صاروا ملعونين مطرودين من رحمة الله، وجدنا أن الله قد أقام بعدهم أمة عظيمة مدحها في القرآن وأثنى على نبيها حيث يقول سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله‏؟‏ قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏53‏)‏
ونجد أن هؤلاء الأنصار الذين جعلهم الله مثلاً لهذه الأمة في الفداء والتضحية لم يكونوا إلا مجموعة قليلة من صيادي الأسماك يتبعون رسولهم من بلدة إلى بلدة، ومن قرية إلى قرية في قرى فلسطين فراراً من طغيان الرومان ووشايات اليهود الذين جعلوا جهدهم وجهادهم القضاء على دعوة عيسى عليه السلام‏.‏
أقول‏:‏ نجد أن الله يطلب من أتباع محمد نصره والقيام معه كما نصر أتباع عيسى نبيهم صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله‏؟‏ قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين‏}‏ ‏(‏الصف‏:‏14‏)‏
ونفهم من هذا الثناء أن هذه الأمة المهتدية كما أسلفنا كان روادها قليلي العدد، تركهم عيسى ورفعه الله وهم اثنا عشر رجلاً فقط، فقاموا من بعده بنشر الدين، وإعلاء كلمة التوحيد، فنصرهم الله وأعزهم ودمر اليهود على أيديهم، ثم أن الروم المكذبين بالأمس دخلوا بعد ذلك في النصرانية، إلا أنهم بعد مدة وجيزة أفسدوا هذه الرسالة عقيدة وشريعة فأدخلوا عبادة الأصنام، واستحلوا أكل كل حرام، وتغالوا في رسولهم حتى جعلوه الله، أو ابناً لله، جعلوا تلاميذ عيسى رسلاً، ورهبانهم أرباباً ووسائط بينهم وبين الله‏.‏
وبالرغم من أنهم بنوا الكنائس العظيمة والأديرة الأنيقة الجميلة، وجعلوا للدين أعظم الإتاوات والمخصصات، وأنزلوا رهبانهم وعلماء دينهم منازل القادة والعظماء، وأججوا الحروب التي سموها مقدسة، ففتحوا العالم شرقاً وغرباً حتى أصبحت روماً كعبة العالم، وأم القرى في زمانها، حتى قال الناس ‏(‏كل الطرق تؤدي إلى روما‏)‏‏.‏‏.‏ ونشروا النصرانية الضالة في أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا حتى أصبح البحر الأبيض بحيرة رومية نصرانية‏.‏
أقول‏:‏ وبالرغم من كل ذلك إلا أن الله سبحانه وتعالى استغنى عن خدماتهم، ولم يأبه لجهادهم وجهودهم، بل حكم عليهم بالضلال والكفر لغلوهم في عيسى واستحلالهم المحرمات، واستعبادهم الشعوب الضعيفة، وجعلهم الدين كهانة وميراثاً، ولذلك لم تكن أمة النصارى بعد صدرها الأول أمة صالحة، ولا كان رجالها رجالاً صالحين بمفهوم الصلاح الذي يحبه الله ويرضاه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الله نظر قبل مبعثي إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب‏]‏ ‏(‏رواه مسلم وأحمد‏)‏‏.‏
وهؤلاء البقايا الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رهباناً في الفلوات لا يأبه أحدهم لوجودهم ولا يهتم أحد برأيهم‏.‏‏.‏ في وقت كانت نصرانية الشرك في أوجها وعظمتها‏.‏
واستخلف الله من بعد ذلك رسولاً من العرب، وقد كانوا ذاك الوقت أفقر العالمين داراً، وأقل الناس أمناً وقراراً‏.‏‏.‏ فقد كانوا إما تجاراً يجوبون الأرض بين الشام واليمن، أو بدوا رحلاً يجوبون الجزيرة وراء العشب والمطر، وبدأت الأمة الجديدة الصالحة التي اختارها الله لرسالتها الخاتمة تخرج من بين صخور هذه الصحراء، وتُبنى في سهولها ووديانها، ويتبع دين الله حر وعبد وامرأة وصبي، يلوذون بالحبشة تارة، لأن فيها ملكاً لا يستباح جواره، وبأهلهم من الكفر تارة، ثم يتوجهون إلى المدينة فيبنون عريشاً لا يقيهم المطر، وينامون ويقومون في السلاح من الخوف وقد تربص الأعداء بهم من كل صوب‏.‏
يقول أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏استهلت السماء في ليلة إحدي وعشرين يعني من شهر رمضان فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبصرت عيني نظرت إليه صلى الله عليه وسلم انصرف من الصبح ووجه ممتلئ طيناً وماءاً‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏
ويقول أبو هريرة‏:‏ ‏[‏ولقد رأيتنا في صفة مسجد رسول الله نحواً من سبعين، ما منا من له إزار ورداء جميعاً‏]‏ ‏(‏رواه أبو داود والنسائي وغيرهم‏)‏
وقال جابر بن عبدالله الأنصاري‏:‏ ‏[‏ومن منا كان يجد ثوبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏]‏ ‏(‏رواه البخاري‏)‏‏.‏ أي أن عامتهم لم يكن لأحدهم إلا ثوب واحد إما إزار فقط، وإما رداء فقط‏.‏
وتقول عائشة رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين‏:‏ ‏[‏ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏‏.‏‏.‏ والبر هو القمح‏.‏
وقالت أيضاً رضي الله عنها‏:‏ ‏[‏ما شبع آل محمد يومين من خبز بر إلا وأحدهما تمر‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏‏.‏
وقالت أيضاً‏:‏ ‏[‏إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال‏.‏‏.‏ ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار‏]‏ ‏(‏متفق عليه‏)‏‏.‏
ومع تلك الحال التي كان عليها رسول الله وأصحابه فإننا نقرأ ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم، ومحبته لهم، ونعلم يقيناً أن ذلك كان المجتمع الصالح، بل المجتمع المثالي، الذي لم يوجد في الأرض خير منه لا قبله ولا بعده، تصديقاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم،ثم الذين يلونهم‏]‏ ‏(‏رواه البخاري‏)‏‏.‏
ويمن الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة الصالحة فيفتح لها أبواب العالم ومغاليق القلوب، وكنوز الأرض‏.‏‏.‏ فتجبى إليها الثمرات من كل أرض، ويخافها أهل الأرض جميعاً الأحمر والأبيض والأسود، ويأمن الناس في رحابها حتى تخرج المرأة من بصرى الشام إلى صنعاء اليمن وحدها لا تخاف إلا الله، ويفيض المال في يدها فلا يقبله أحد‏!‏‏!‏
وتقوم هذه الأمة بدعوة الله في الأرض فيحقق الله فيها وعده ‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً‏}‏ ‏(‏النور‏:‏55‏)‏
ولكن الأمة يتقادم بها العهد فتنسى كثيراً مما ذكرت به وتتفرق بأبنائها السبل، وتتبع سنن من كان قبلهم في الطغيان والتجبر، والإفراط والتفريط، والبعد عن عقيدة الإسلام وشريعته، فيحل بها أيضاً ما يحل بالأمم السابقة من تسليط أعدائها عليها، وهلاك بعضها ببعض، ولا تزال إلى اليوم تقرعها كل يوم قارعة‏.‏‏.‏ وتفقد كل صباح جزءاً مما كان بيدها بالأمس‏.‏
وها نحن أبناء هذه الأمة نجابه الواقع الأليم الذي نعيشه، ولا يحتاج منا إلى كثير شرح وبيان، والكل منا يحياه ويراه، وإن كان بعضنا أشد إحساساً بوطأته من بعض‏.‏‏.‏
نعيش فرقة شديدة مزقت أمة الإسلام شيعاً وأحزاباً ودولاً وممالك قام بينها التناحر والخلاف والشقاق، وسفك الدماء وانتهاك الأعراض، ومن خلال هذا الخلاف دخل العدو الكافر، وحدث الفساد الكبير الذي حذرنا الله منه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعلمون بصير* والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏ ‏(‏الأنفال‏:‏72-73‏)‏‏.‏
والآن نأتي إلى السؤال الذي قدمنا هذه المقدمة الطويلة من أجله‏:‏ ما الأسباب التي أوصلتنا إلى تلك الحال‏؟‏‏؟‏ وكيف الخروج من المشكلات التي تجابه أمتنا وتعترض سبيل تربيتنا‏؟‏‏؟‏
كيف الطريق إلى المجتمع الصالح والأمة الصالحة‏؟‏‏؟‏ وما المنهاج الذي على أساسه نبني الإنسان الصالح‏؟‏‏؟‏
واترك الاجابة للمرة القادمة ان شاء الله..
المصدر/ كتاب العقبات التىتعترضبناء الامة الاسلامية:
http://www.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=305&CID=1#s2
المصدر الرئيسى موقع نداء الايمان
تمت الراجعة بواسطة اركان العهد
تحياتى:
 
جزاك الله خيراً أخي الكريم أركان العهد على هذا الموضوع القيم جداً ..
بارك الله فيك على حسن انتقائك واختيارك ..

كيف الطريق إلى المجتمع الصالح والأمة الصالحة‏؟‏‏؟‏ وما المنهاج الذي على أساسه نبني الإنسان الصالح‏؟‏‏؟‏
واترك الاجابة للمرة القادمة ان شاء الله..
واصل رعاك الله ، ونحن سوف نتابع معك بإذن الله ..
دمت في حفظ الرحمن وأمنه !!..

ملحوظة :
خالص تمنياتنا وصادق دعواتنا للوالدة الكريمة بالشفاء العاجل ،
واللهّ الكريمَ نسأل أن يمُن عليها بالشفاء التام !!

همسة :
توجد طريقة بسيطة جداً للتخلص من الروابط الموجودة على (الآيات الكريمة) عند النسخ من المصدر !!
وذلك بعمل فلترة للموضوع عن طريق المفكرة ،
وذلك بالنسخ أولاً للمفكرة ثم تعيد النسخ مجدداً من المفكرة إلى صفحة المنتدى !!
 
جزاك الله خيرا اخي اركان .. موضوعك قيم سلمت ايدك

اسال الله ان يتم على والدتك الشفاء العاجل ويمد في عمرها بطاعته
سلامات عليها
 
جزاك الله خيرا على موضوعك القيم
وشفى الله والدتك وجميع المسلمين
 
عودة
أعلى