وسائل عشرة للنجاة من الغفلة
----------------------------
كتبه / إيهاب الشريف----------------------------
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد :
فقد سبقنا الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- إلى صيد سمين صاده من خاطره ، وسطـَّره في مؤلفه "صيد الخاطر" ، متأملا ومتفكرا في الغفلة التي تطارد المتعبدين ، وكيف تتغير القلوب بعد استماع الموعظة ، فتعود إلى الغفلة بعد التذكر واليقظة !!
تعجب الإمام من ذلك وحلل الأسباب ، فقال : [قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة ، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة !! فتدبرت السبب في ذلك، فعرفته ..
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك ، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها ، لسببين :
أحدهما: أن المواعظ كالسياط ، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت وقوعها ..
والثاني : أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مُزَاحَ العِلَّةِ ، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا ، وأنصت بحضور قلبه ، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها ، وكيف يصح أن يكون كما كان ؟! وهذه حالة تعم الخلق ، إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر ..
فمنهم من يعزم بلا تردد ، ويمضي من غير التفات ، فلو توقف بهم رَكْبُ الطَّبْعِ لَضَجُّوا ، كما قال حنظلة عن نفسه : نافق حنظلة !!
ومنهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً ، ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحياناً ، فهم كالسنبلة تميلها الرياح !!
وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه ، كماء دحرجته على صفوان !! -أي صخرة ملساء-] .. انتهى كلام الإمام ..
هذا الكلام النفيس يتضمن عدة علاجات للغفلة الجاثمة على القلوب ، والتي يشتكي منها بعض شباب الصحوة ، فمن المفيد تفنيد ذلك وإيضاحه مع بعض الإضافة ، كي نصل إلى الدواء الناجع -بإذن الله- ..
1- العصمة ليست إلا للأنبياء ، وأما نحن ومَن سوانا من بني آدم؛ فَتَحْتَ قوله -صلى الله عليه وسلم- : (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني ، ومهما تدرجت في معارج التُّقَى ستظل من بني آدم ، ستظل خطاءً .. نعم قد يقل الخطأ مع التزكية بالتخلية والتحلية ، ولكن لن تصبح رسولا ولا ملكا ، فعِ ذلك ، كي لا تيأس إذا أصبت بسهم غـَرْبٍ من نفسك أو شيطانك ، ولربما كان ذلك عقيب طاعة أو طفرة إيمانية ، فأصابك ذلك بنوع يأس أو قنوط ..
2- القلوب تتقلب ، ولذلك سمي القلب قلبا ، والإيمان يزيد وينقص ، مكانا وزمانا ، فلن تكون في محلتك كما كنت في حرم الله ، ولن تكون بعد رمضان على نفس الدرجة التي كنت عليها في رمضان ، فتَقَبَّلْ ذلك طالما كنت أثناء الفترة في دائرة السنة ، وكلما سقطت فقم وكرر المحاولة ، وأدِم طرق الباب ، فيوشك أن يـُفتح لك ..
3- أيا حنظلة اليوم .. لم يوافق صاحبُ الملة -صلى الله عليه وسلم- حنظلةَ الأمس على ما أراده ، وهو أن يدوم على الحالة التي يكون عليها بين يديه -صلى الله عليه وسلم- ، وإنما قال له : (يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ) رواه مسلم ، فماذا عن ساعة هذه الأيام ! وقد كثرت الشواغل، وفـُتحت علينا الدنيا !! فانتبه لضوابط هذه الساعة ، ولـْتـُمِرَّهَا بسلام ، ولا تعدمها ، فذلك لن يكون ..
4- العزيمة العزيمة .. فإذا حضرت مجلسا أو استمعت الموعظة ، فليكن همك وشغلك : ماذا سأطبق منها ؟ بم سأخرج ؟ ورتب ذلك في خاطرك وذهنك أو دَوِّنْهُ ، وطالِبْ نفسَك بتنفيذه ، ويوما بعد يوم ، وموعظة بعد أخرى ، تترقى النفس في مدارج التقى ، وتسمو في سماء الهدى ، وتـُقـْبـِل على ما يقربها من حبيبها ، وتنفر عما يبعدها ، فلْتَسْعَ للعمل ، ولْتتبعِ القول بالفعل ، فالله يحب منك ذلك ، ويُقَرِّبُكَ بسببه : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(العنكبوت:69) ..
5- صنـِّفْ أمراضك وعيوبك ، وحدِّد لكل نوع ما يناسبه من العلاج ، وأنت على يقين أنه ما من داء إلا وقد أنزل الله له دواءً ، فمن الأمراض ما يعالج على المدى الطويل ، وبجرعات محسوبة ومحددة ، ومنها ما يداوى على المدى القريب ، فليست كل الأمراض متساوية ، وكن على يقين -أيضا- أن العلاج لن يخرج بحال من الأحوال عن الوحيين ، فليعظم يقينك فيهما ، وتمسك بهما : (تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي) رواه الحاكم، وحسنه الألباني ..
6- لا تهمل العلاج ، ولا وصفات الأطباء ، أعني أطباء القلوب -"العلماء الربانيين"- وكن دقيقا في الأخذ بها كما يقال لك ، واستشرهم فيما يطرأ عليك من مضاعفات أو تغيرات ، وليكن اهتمامك بقلبك أعظم من اهتمامك ببدنك ، فموت القلب أو مرضه ربما يؤدي بصاحبه إلى جهنم ، أما موت البدن وهلاكه فلربما -مع الصبر والاحتساب- يرفع صاحبه في الجنة ..
7- مع الضعف الشديد ينصح أطباء الأجساد بالإكثار من أنواع معينة من الأطعمة ، بالإضافة لتناول الأدوية ، وكذا يكون حال القلب ، فتناوَلِ المنشطاتِ الإيمانيةَ ، واحرص على المجالسِ النورانيةِ، ولا مانع من الإكثار من الموعظة ، ليبقى الأثر أطول مدة ، ويدوم التذكر ، وتنقشع الغفلة ..
8- ليس عندنا في الإسلام إراحة المريض من حياته لشدة مرضه ، كما يـُفعل في بلاد الغرب !! وإنما ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا يأس أبدا من روْح الله ، فإن تكاثرت السيئات وعظمت الذنوب فلن تكون -إن شاء الله- كقاتل المائة ، الذي أقبل بقلبه وجسده على ربه فقبله ، بل حرَّك الأرض من أجله !! فقبضته ملائكة الرحمة ، فلو بلغت ذنوبك عنان السماء أو كانت ملء الأرض ، فلا عليك إلا أن تجدد التوبة ، وتخلص التوحيد ، وتتقرب من الرحيم الودود ، فيكافئك بملء الأرض من المغفرة ..
9- اجعل لك منبها ومذكرا ، يذكرك إذا نسيتَ ، وينبهك إذا غفلتَ ، ويأخذ بيدك إذا زللتَ .. تنتفع بلَفْظِهِ ولَحْظِهِ ، ويُهَوِّن عليك القبضَ على الجمر ، فإن الرفقاء من أسباب تهوين الغربة الأولى ، كما روي إنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون ، فابحث عنهم ، وتمسك بهم، يُهَوِّنْ بعضُكم على بعضٍ الغربةَ -بإذن الله- ..
10- وقبل ذلك كله وبعده عليك بدوام الافتقار إلى الله -عز وجل- ، وقوة الصلة به ، وحسن الرجاء فيه، والاستعانة به ، وكثرة الدعاء ، فأنا وأنت أحوج من نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى : (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) رواه الترمذي وصححه الألباني ، (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالغفلة) رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني ..
وبعد -أخي- ، تلك عشرة كاملة ، وكل واحدة منها تحتاج لبسط ونشر ، ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق ، فشد يديك بها وترجمها إلى واقع ، ومن الله التوفيق، وعليه الاعتماد ..
ثبت الله قلبك وقدمك ، ورزقني وإياك حلاوة القرب منه ، ولذة الأنس به ، إنه بالإجابة جدير ، وبكل جميل كفيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ..
ومن هنا تكون البداية .. وفي الجنة يطيب اللقاء -إن شاء الله- !!..
-----------------------------
المصدر : "موقع صوت السلف"
المصدر : "موقع صوت السلف"