قد أثنى الله تعالى على الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، ووصف المجاهدين فقال تعالى: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ". وندب إلى جهاد الأعداء ووعد عليه أفضل الجزاء. والرأي في الحرب إمام الشجاعة.
وكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: اعلم أن عليك عيوناً من الله ترعاك وتراك، فإذا لقيت العدو فاحرص على الموت توهب لك السلامة، ولا تغسل الشهداء من دمائهم، فإن دم الشهيد يكون له نوراً يوم القيامة. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهينا إلى خيبر: " الله أكبر خربت خيبرنا، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " . وعنه رفعه: " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " . وعن ابن مسعود رفعه: " إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل . وقيل: إن أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنه لم يشهد بدراً، فلم يزل متحسراً يقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه، فلما كان يوم أحد قال: " واها لريح الجنة دون أحد " . فقاتل حتى قتل، فوجد في بدنه بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. وعن فضالة بنت عبيد رفعه: " كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر " . وعن سهل بن حنيف رفعه: " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " . فنسأل الله أن يرزقنا الشهادة، ويجعلنا من الذين أحسنوا فلهم الحسنى وزيادة.
وقال أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه في كتابه سراج الملوك قال: كان شيوخ الجند يحكون لنا في بلادنا، قالوا: دارت حرب بين المسلمين والكفار، ثم افترقوا، فوجدوا في المعترك قطعة خودة قدر الثلث بما حوته من الرأس، فقالوا: إنه لم ير قط ضربة أقوى منها ولم يسمع بمثلها في جاهلية ولا إسلام، فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم، فكانوا إذا عيروا بانهزامهم يقولون: لقينا أقواماً هذا ضربهم، فيرحل أبطال الروم إليها ليروها.
ومن الحزم أن لا يحتقر الرجل عدوه؟ وإن كان ذليلاً، ولا يغفل عنه وإن كان حقيراً، فكم بوغوث أسهر فيلاً، ومنع الرقاد ملكاً حليلاً.
وقد امرنا الله سبحانه وتعالى بإعداد القوة لإرهاب المشركين .قال الله تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الحيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " ، فقوله تعالى: " ما استطعتم مشتمل على كل ما هو مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة. وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة حين مر على أناس يرمون، فقال: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي " ، ألا إن القوة الرمي " . وأفضل العدة أن تقدم بين يدي اللقاء عملاً صالحاً من صدقة وصيام ورد المظالم وصلة الرحم ودعاء مخلص، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وأمثال ذلك. والشأن كل الشأن في استجادة القواد، وانتخاب الأمراء، وأصحاب الألوية، فقد قالت حكماء العجم: أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد. فلا ينبغي أن يقدم الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة، والشجاعة والجرأه، ثابت الجأش، صارم القلب، صادق البأس، ممن قد توسط الحروب، ومارس الرجال ومارسوه، ونازل الأقران وقارع الأبطال عارفاً بمواضع الفرص خبيراً بمواضع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، فإنه إذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كانوا جميعاً كأنهم مثله، فإنه إن رأى لقراع الكتائب وجهاً وإلا رد الغنم إلى الزريبة.
واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء . وكانت سوق الجهاد منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحمل الراية من بعده أصحابه وخلافئه الراشدين فافتتحوا بلاد كثيرة دخلت في حمى الإسلام ولم يزل الجهادقائم في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الاسلام في مشارق الارض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلات قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الاقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والاوليا والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه.
فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك، يقتل ويسبي ويغنم، حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه، فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرة هدية، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده، بحيث أن ملوك تلك النواحي كلها تؤدي إليه الخراج خوفا منه.
ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين، ولم يبق إلا أن يلتقي مع ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر.
ثم إن قتيبة قتل بعد ذلك، قتله بعض المسلمين.
ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعا يعبد الله فيه، وامتلات قلوب الفرنج منهم رعبا.
ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم.
وموسى بن نصير يجاهد في بلاد المغرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرهم.
وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الاسلام وتركوا عبادة الاوثان.
وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان فتحوا غالب هذه النواحي ودخلوا في مبانيها، بعد هذه الاقاليم الكبار، مثل الشام ومصر والعراق واليمن وأوائل بلاد الترك، ودخلوا إلى ما وراء النهر وأوائل بلاد المغرب، وأوائل بلاد الهند.
فكان سوق الجهاد قائما في القرن الاول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بني أمية وفي أثناء خلافة بني العباس مثل أيام المنصور وأولاده، والرشيد وأولاده، في بلاد الروم والترك والهند.
وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلادا كثيرة من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها.
وخالد بن الوليد رضي الله عنه سيف أسله الله سبحانه وتعالى على المشركين له المواقع المشهورة التي انتصر فيها وأذل الكفر وأهله بعون الله سبحانه وتعالى يقول خالد: ما أدري من أي يومي أفر: يوم أراد الله أن يهدي لي فيه شهادة، أو يوم أراد الله أن يهدي لي فيه كرامة.
قال قيس بن أبي حازم: سمعت خالدا يقول: منعني الجهاد كثيرا من القراءة, ورأيته أتي بسم، فقالوا: ما هذا ؟ قالوا: سم، قال: باسم الله.
وشربه.
قلت – أي الإمام الذهبي -: هذه والله الكرامة، وهذه الشجاعة.
وقد كان سليمان بن عبدالملك من أمثل الخلفاء، نشر علم الجهاد، وجهز مئة ألف برا وبحرا، فنازلوا القسطنطينية، واشتد القتال والحصار عليها أكثر من سنة.
الامام العلامة القاضي الامير، مقدم المجاهدين، أبو عبد الله الحراني ثم المغربي أسد بن الفرات. مولده بحران سنة أربع وأربعين ومئة.مضى أسد أميرا على الغزاة من قبل زيادة الله الأغلبي متولي المغرب، فافتتح بلدا من جزيرة صقلية ، وأدركه أجله هناك في ربيع الآخر، سنة ثلاث عشرة ومئتين.
وكان مع توسعه في العلم فارسا بطلا شجاعا مقداما، زحف إليه صاحب صقلية في مئة ألف وخمسين ألفا. قال رجل: فلقد رأيت أسدا وبيده اللواء يقرأ سورة " يس "، ثم حمل بالجيش، فهزم العدو، ورأيت الدم وقد سال على قناة اللواء وعلى ذراعه.
وأما المظفر بن الأفطس سلطان الثغر الشمالي من الاندلس كان رأسا في العلم والادب والشجاعة والرأي، فكان مناغرا للروم، شجى في حلوقهم، لا ينفس لهم مخنقا، ولا يوجد لهم إلى الظهور عليه مرتقى. وكان مع استغراقه في الجهاد لا يفتر عن العلم، ولا يترك العدل.
وكان كاتبه الوزير أبو محمد عبد الله بن النحوي أحد البلغاء،فكتب أذفونش - لعنه الله - يرعد ويبرق – أي يتهدد ويتوعد -، فأجاب: وصل إلى الملك المظفر من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ويفرق، ويهدد بالجنود الوافرة، ولم يدر أن لله جنودا أعز بهم الاسلام، وأظهر بهم دين نبينا عليه الصلاة والسلام، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، فأما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم، فبالذنوب المركوبة، والفرق المنكوبة، ولو اتفقت كلمتنا علمت أي مصائب أذقناك، كما كانت آباؤك مع آبائنا، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك، أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد في كل عام عليه، ونحن فإن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر تخوضه، ولا صعب تروضه، إلا سيوف يشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في يومك، وبالله وملائكته نتقوى عليك، ليس لنا سواه مطلب، ولا إلى غير مهرب، وهل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، شهادة، أو نصر عزيز.
وأما تاج الملوك صاحب دمشق كان عجبا في الجهاد، لا يفتر من غزو الفرنج، ولو كان له عسكر كثير، لاستأصل الفرنج.
وأما نور الدين الشهيد صاحب الشام، الملك العادل ليث الاسلام كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، قل أن ترى العيون مثله. افتتح أولا حصونا كثيرة، وفامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحب أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلاف من الفرنج، وأظهر السنة بحلب وقمع الرافضة.
وكان بطلا شجاعا، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير. وكسر الفرنج والارمن على حارم وكانوا ثلاثين ألفا، فقل من نجا.
وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه، رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره. حكى من صحبه حضرا وسفرا أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وكان يواخي الصالحين، ويزورهم،جاهد، وانتزع من الكفار نيفا وخمسين مدينة وحصنا.
وأما صلاح الدين فمحاسنه جمة، لا سيما الجهاد، فله فيه اليد البيضاء ببذل الاموال والخيل المثمنة لجنده.وله عقل جيد، وفهم، وحزم، وعزم وانتزع القدس من الفرنجة بعد معركة حطين.
والملك الكامل له المواقف المشهورة في الجهاد بدمياط المدة الطويلة، وأنفق الاموال وكافح الفرنج برا وبحرا يعرف ذلك من شاهده، ولم يزل على ذلك حتى أعز الله الاسلام، وخذل الكفر.
وألب آرسلان السلطان الكبير، الملك العادل من عظماء ملوك الاسلام وأبطالهم.وخطب له على منابر العراق والعجم وخراسان، ودانت له الامم، وأحبته الرعايا، ولا سيما لما هزم العدو، فإن الطاغية عظيم الروم أرمانوس حشد، وأقبل في جمع ما سمع بمثله، في نحو من مئتي ألف مقاتل من الروم والفرنج والكرج وغير ذلك وصل إلى منازكرد وكان السلطان قد رجع من الشام في خمسة عشر ألف فارس، وباقي جيوشه في الاطراف، فصمم على المصاف، وقال: أنا التقيهم - وحسبي الله - فإن سلمت، وإلا فابني ملكشاه ولي عهدي.
ولما التقى الجمعان، وتراءى الكفر والايمان، واصطدم الجبلان، طلب السلطان الهدنة، قال أرمانوس: لا هدنة إلا ببذل الري، فحمي السلطان، وشاط، فقال إمامه: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره، ولعل هذا الفتح باسمك، فالقهم وقت الزوال - وكان يوم جمعة - قال: فإنه يكون الخطباء على المنابر، وإنهم يدعون للمجاهدين.
فصلوا، وبكى السلطان، ودعا وأمنوا، وسجد، وعفر وجهه، وقال: يا أمراء ! من شاء فلينصرف، فما هاهنا سلطان. وعقد ذنب حصانه بيده، ولبس البياض وتحنط، وحمل بجيشه حملة صادقة،وقعوا في وسط العدو يقتلون كيف شاؤوا، وثبت العسكر، ونزل النصر، وولت الروم، واستحر بهم القتل، وأسر طاغيتهم أرمانوس، أسره مملوك لكوهرائين، وهم بقتله، فقال إفرنجي: لا لا، فهذا الملك.
وابن أبي عامر الملك المنصوركان بطلا شجاعا، حازما سائسا، غزاء عالما، جم المحاسن، كثير الفتوحات، عالي، الهمة، عديم النظير وكان للمنصور نكاية عظيمة في الفرنج وكان إذا فرغ من قتال العدو، نفض ما عليه من غبار المصاف، ثم يجمعه ويحتفظ به، فلما احتضر أمر بما اجتمع له من ذلك بأن يذر على كفنه، وغزا نيفا وخمسين غزوة، وتوفي مبطونا شهيدا وهو بأقصى الثغر .
ومن مفاخر المنصور: أنه قدم من غزوة، فتعرضت له امرأة عند القصر، فقالت: يا منصور ! يفرح الناس وأبكي ؟ إن ابني أسير في بلاد الروم.
فثنى عنانه وأمر الناس بغزو الجهة التي فيها ابنها.
ثم لما بطل الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلادا كثيرة، وضعف الاسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار المصرية والشامية، وضعف الاسلام وقل ناصروه، وجاء الفرنج فأخذوا غالب بلاد الشام حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة.
وكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: اعلم أن عليك عيوناً من الله ترعاك وتراك، فإذا لقيت العدو فاحرص على الموت توهب لك السلامة، ولا تغسل الشهداء من دمائهم، فإن دم الشهيد يكون له نوراً يوم القيامة. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهينا إلى خيبر: " الله أكبر خربت خيبرنا، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " . وعنه رفعه: " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " . وعن ابن مسعود رفعه: " إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل . وقيل: إن أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنه لم يشهد بدراً، فلم يزل متحسراً يقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه، فلما كان يوم أحد قال: " واها لريح الجنة دون أحد " . فقاتل حتى قتل، فوجد في بدنه بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. وعن فضالة بنت عبيد رفعه: " كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر " . وعن سهل بن حنيف رفعه: " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " . فنسأل الله أن يرزقنا الشهادة، ويجعلنا من الذين أحسنوا فلهم الحسنى وزيادة.
وقال أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه في كتابه سراج الملوك قال: كان شيوخ الجند يحكون لنا في بلادنا، قالوا: دارت حرب بين المسلمين والكفار، ثم افترقوا، فوجدوا في المعترك قطعة خودة قدر الثلث بما حوته من الرأس، فقالوا: إنه لم ير قط ضربة أقوى منها ولم يسمع بمثلها في جاهلية ولا إسلام، فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم، فكانوا إذا عيروا بانهزامهم يقولون: لقينا أقواماً هذا ضربهم، فيرحل أبطال الروم إليها ليروها.
ومن الحزم أن لا يحتقر الرجل عدوه؟ وإن كان ذليلاً، ولا يغفل عنه وإن كان حقيراً، فكم بوغوث أسهر فيلاً، ومنع الرقاد ملكاً حليلاً.
وقد امرنا الله سبحانه وتعالى بإعداد القوة لإرهاب المشركين .قال الله تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الحيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " ، فقوله تعالى: " ما استطعتم مشتمل على كل ما هو مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة. وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة حين مر على أناس يرمون، فقال: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي " ، ألا إن القوة الرمي " . وأفضل العدة أن تقدم بين يدي اللقاء عملاً صالحاً من صدقة وصيام ورد المظالم وصلة الرحم ودعاء مخلص، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وأمثال ذلك. والشأن كل الشأن في استجادة القواد، وانتخاب الأمراء، وأصحاب الألوية، فقد قالت حكماء العجم: أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد. فلا ينبغي أن يقدم الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة، والشجاعة والجرأه، ثابت الجأش، صارم القلب، صادق البأس، ممن قد توسط الحروب، ومارس الرجال ومارسوه، ونازل الأقران وقارع الأبطال عارفاً بمواضع الفرص خبيراً بمواضع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، فإنه إذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كانوا جميعاً كأنهم مثله، فإنه إن رأى لقراع الكتائب وجهاً وإلا رد الغنم إلى الزريبة.
واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء . وكانت سوق الجهاد منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحمل الراية من بعده أصحابه وخلافئه الراشدين فافتتحوا بلاد كثيرة دخلت في حمى الإسلام ولم يزل الجهادقائم في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الاسلام في مشارق الارض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلات قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الاقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والاوليا والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه.
فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك، يقتل ويسبي ويغنم، حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه، فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرة هدية، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده، بحيث أن ملوك تلك النواحي كلها تؤدي إليه الخراج خوفا منه.
ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين، ولم يبق إلا أن يلتقي مع ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر.
ثم إن قتيبة قتل بعد ذلك، قتله بعض المسلمين.
ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعا يعبد الله فيه، وامتلات قلوب الفرنج منهم رعبا.
ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم.
وموسى بن نصير يجاهد في بلاد المغرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرهم.
وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الاسلام وتركوا عبادة الاوثان.
وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان فتحوا غالب هذه النواحي ودخلوا في مبانيها، بعد هذه الاقاليم الكبار، مثل الشام ومصر والعراق واليمن وأوائل بلاد الترك، ودخلوا إلى ما وراء النهر وأوائل بلاد المغرب، وأوائل بلاد الهند.
فكان سوق الجهاد قائما في القرن الاول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بني أمية وفي أثناء خلافة بني العباس مثل أيام المنصور وأولاده، والرشيد وأولاده، في بلاد الروم والترك والهند.
وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلادا كثيرة من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها.
وخالد بن الوليد رضي الله عنه سيف أسله الله سبحانه وتعالى على المشركين له المواقع المشهورة التي انتصر فيها وأذل الكفر وأهله بعون الله سبحانه وتعالى يقول خالد: ما أدري من أي يومي أفر: يوم أراد الله أن يهدي لي فيه شهادة، أو يوم أراد الله أن يهدي لي فيه كرامة.
قال قيس بن أبي حازم: سمعت خالدا يقول: منعني الجهاد كثيرا من القراءة, ورأيته أتي بسم، فقالوا: ما هذا ؟ قالوا: سم، قال: باسم الله.
وشربه.
قلت – أي الإمام الذهبي -: هذه والله الكرامة، وهذه الشجاعة.
وقد كان سليمان بن عبدالملك من أمثل الخلفاء، نشر علم الجهاد، وجهز مئة ألف برا وبحرا، فنازلوا القسطنطينية، واشتد القتال والحصار عليها أكثر من سنة.
الامام العلامة القاضي الامير، مقدم المجاهدين، أبو عبد الله الحراني ثم المغربي أسد بن الفرات. مولده بحران سنة أربع وأربعين ومئة.مضى أسد أميرا على الغزاة من قبل زيادة الله الأغلبي متولي المغرب، فافتتح بلدا من جزيرة صقلية ، وأدركه أجله هناك في ربيع الآخر، سنة ثلاث عشرة ومئتين.
وكان مع توسعه في العلم فارسا بطلا شجاعا مقداما، زحف إليه صاحب صقلية في مئة ألف وخمسين ألفا. قال رجل: فلقد رأيت أسدا وبيده اللواء يقرأ سورة " يس "، ثم حمل بالجيش، فهزم العدو، ورأيت الدم وقد سال على قناة اللواء وعلى ذراعه.
وأما المظفر بن الأفطس سلطان الثغر الشمالي من الاندلس كان رأسا في العلم والادب والشجاعة والرأي، فكان مناغرا للروم، شجى في حلوقهم، لا ينفس لهم مخنقا، ولا يوجد لهم إلى الظهور عليه مرتقى. وكان مع استغراقه في الجهاد لا يفتر عن العلم، ولا يترك العدل.
وكان كاتبه الوزير أبو محمد عبد الله بن النحوي أحد البلغاء،فكتب أذفونش - لعنه الله - يرعد ويبرق – أي يتهدد ويتوعد -، فأجاب: وصل إلى الملك المظفر من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ويفرق، ويهدد بالجنود الوافرة، ولم يدر أن لله جنودا أعز بهم الاسلام، وأظهر بهم دين نبينا عليه الصلاة والسلام، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، فأما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم، فبالذنوب المركوبة، والفرق المنكوبة، ولو اتفقت كلمتنا علمت أي مصائب أذقناك، كما كانت آباؤك مع آبائنا، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك، أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد في كل عام عليه، ونحن فإن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر تخوضه، ولا صعب تروضه، إلا سيوف يشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في يومك، وبالله وملائكته نتقوى عليك، ليس لنا سواه مطلب، ولا إلى غير مهرب، وهل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، شهادة، أو نصر عزيز.
وأما تاج الملوك صاحب دمشق كان عجبا في الجهاد، لا يفتر من غزو الفرنج، ولو كان له عسكر كثير، لاستأصل الفرنج.
وأما نور الدين الشهيد صاحب الشام، الملك العادل ليث الاسلام كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، قل أن ترى العيون مثله. افتتح أولا حصونا كثيرة، وفامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحب أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلاف من الفرنج، وأظهر السنة بحلب وقمع الرافضة.
وكان بطلا شجاعا، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير. وكسر الفرنج والارمن على حارم وكانوا ثلاثين ألفا، فقل من نجا.
وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه، رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره. حكى من صحبه حضرا وسفرا أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وكان يواخي الصالحين، ويزورهم،جاهد، وانتزع من الكفار نيفا وخمسين مدينة وحصنا.
وأما صلاح الدين فمحاسنه جمة، لا سيما الجهاد، فله فيه اليد البيضاء ببذل الاموال والخيل المثمنة لجنده.وله عقل جيد، وفهم، وحزم، وعزم وانتزع القدس من الفرنجة بعد معركة حطين.
والملك الكامل له المواقف المشهورة في الجهاد بدمياط المدة الطويلة، وأنفق الاموال وكافح الفرنج برا وبحرا يعرف ذلك من شاهده، ولم يزل على ذلك حتى أعز الله الاسلام، وخذل الكفر.
وألب آرسلان السلطان الكبير، الملك العادل من عظماء ملوك الاسلام وأبطالهم.وخطب له على منابر العراق والعجم وخراسان، ودانت له الامم، وأحبته الرعايا، ولا سيما لما هزم العدو، فإن الطاغية عظيم الروم أرمانوس حشد، وأقبل في جمع ما سمع بمثله، في نحو من مئتي ألف مقاتل من الروم والفرنج والكرج وغير ذلك وصل إلى منازكرد وكان السلطان قد رجع من الشام في خمسة عشر ألف فارس، وباقي جيوشه في الاطراف، فصمم على المصاف، وقال: أنا التقيهم - وحسبي الله - فإن سلمت، وإلا فابني ملكشاه ولي عهدي.
ولما التقى الجمعان، وتراءى الكفر والايمان، واصطدم الجبلان، طلب السلطان الهدنة، قال أرمانوس: لا هدنة إلا ببذل الري، فحمي السلطان، وشاط، فقال إمامه: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره، ولعل هذا الفتح باسمك، فالقهم وقت الزوال - وكان يوم جمعة - قال: فإنه يكون الخطباء على المنابر، وإنهم يدعون للمجاهدين.
فصلوا، وبكى السلطان، ودعا وأمنوا، وسجد، وعفر وجهه، وقال: يا أمراء ! من شاء فلينصرف، فما هاهنا سلطان. وعقد ذنب حصانه بيده، ولبس البياض وتحنط، وحمل بجيشه حملة صادقة،وقعوا في وسط العدو يقتلون كيف شاؤوا، وثبت العسكر، ونزل النصر، وولت الروم، واستحر بهم القتل، وأسر طاغيتهم أرمانوس، أسره مملوك لكوهرائين، وهم بقتله، فقال إفرنجي: لا لا، فهذا الملك.
وابن أبي عامر الملك المنصوركان بطلا شجاعا، حازما سائسا، غزاء عالما، جم المحاسن، كثير الفتوحات، عالي، الهمة، عديم النظير وكان للمنصور نكاية عظيمة في الفرنج وكان إذا فرغ من قتال العدو، نفض ما عليه من غبار المصاف، ثم يجمعه ويحتفظ به، فلما احتضر أمر بما اجتمع له من ذلك بأن يذر على كفنه، وغزا نيفا وخمسين غزوة، وتوفي مبطونا شهيدا وهو بأقصى الثغر .
ومن مفاخر المنصور: أنه قدم من غزوة، فتعرضت له امرأة عند القصر، فقالت: يا منصور ! يفرح الناس وأبكي ؟ إن ابني أسير في بلاد الروم.
فثنى عنانه وأمر الناس بغزو الجهة التي فيها ابنها.
ثم لما بطل الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلادا كثيرة، وضعف الاسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار المصرية والشامية، وضعف الاسلام وقل ناصروه، وجاء الفرنج فأخذوا غالب بلاد الشام حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة.
====================
بتصرف من:
البداية والنهاية
سير أعلام النبلاء
العقد الفريد
المستطرف في كل فن مستظرف
=====================
بتصرف من:
البداية والنهاية
سير أعلام النبلاء
العقد الفريد
المستطرف في كل فن مستظرف
=====================