محمد شتيوى
مستشار سابق
وزير البطاطس !
" أحبتنا .. لنا حــقٌ عليكــم ... ومن عرف الحقوق رعي وصانا "
بقلم / محمد شتيوى
في زمن من الأزمان وفى عصر من العصور
كان هناك ملك يحكم مملكة جميلة مترامية الأطراف (1) , وكان لهذا الملك أعوان ونواب ومستشارون ووزراء
فكان له نائبان لا بأس بهما , وكان له مستشارين اثنين أولهما صامت كالسمكة , والثاني لديه نشيط كالذبابة .
وكان له مع ذلك وزراء يديرون مصالح المملكة , منهم وزير الاختراعات , ومنهم وزير الصحة , ومنهم وزير البناء والتخطيط , ومنهم وزير العلوم , ومنهم وزير الثقافة ..
وكان هذا الأخير فتى عزيز النفس كريم الخلق ما لم يغضبه أحد أو يجور عليه , فإذا حدث تحول إلى النقيض ..
وكان هذا الوزير لا يَفْتُرُ عن طرح أفكار جديدة في كل يوم لتطوير المملكة ولراحة الرَّعية من سكان تلك المملكة ...
فكان من أفكاره إعادة صياغة بعض قوانين المملكة بحيث تكون فعالة تخدم المواطنين وتخدم المملكة , وكان من أفكاره استقلال كل وزارة عن الأخرى إدارياً بحيث يباشر الملك التنسيق بين هذه الوزارات مما يحقق التعاون والتكامل , وكان الأمر من قبلها فوضى عارمة ..
وكان ذلك الوزير كأنه بئر أفكار لا يغور (2) , فكل يومٍ يخرج بفكرة جديدة لخدمة صالح المملكة وشئونها ... ولم يكن الأمر سهلاً - كما تظن - بل كان يجهد عقله في التفكير , ولربما قضى الليالي الطوال يفكر في أمر جيد يطرحه على ملكه لتزداد رفعة المملكة .
وكان يفكر في أحوال المملكة في كل وقت .. في سيره ووقوفه وجلسات تأمله وأثناء تناوله طعامه , بل وأثناء اغتساله ودخوله الخلاء ..
وكان من جرَّاء ذلك أن سارت المملكة بخطي حثيثة (3) وثابتة وقوية نحو التطور والتقدم والعلوم والرفعة .. وإن لم تكن قد بلغت الغاية
وكان هذا الوزير قد شُغف بحب تقدم مملكته شغفاً شديداً , وأحب ذلك حباً جمَّا (4) , فكان يخدم بإخلاص لا يعرف التواني وبجد لا يعرف الفتور .
أما الملك فهو إنسان دمث (5) الخلق , طيب القلب , حسن السيرة , جميل السريرة (6) , وكان يحب الخير لكل واحد من رعيته ووزرائه وأعوانه .
وكان لفرط (7) انشغاله لربما يظل ساهراً طوال الليل يراجع أمراً ينوى تنفيذه , أو يدبر شأنا من شئون مملكته الواسعة , وكان يصيبه المرض أحيانا ولكنه لا يفتر عن العمل , بل يأخذ نفسه بالعزيمة , ويحملها على الاجتهاد حملا .
وكشأن أي إنسان آخر فإن هذا الملك لا يخلو من العيوب , وكان في اعتقاد هذا الملك أنه من الممكن أن يسوى بين الجميع في كل شئ ; فهو يريد أن يكون بائع البطاطس كوزير الحرب , ويريد أن يستوي كبير وزرائه مع جامع القمامة , ويريد أن يتعادل ذوو الخبرة ومن قضوا العمر الأكبر في خدمة مليكهم مع صغار الموظفين ومحدثيهم .
كان الملك يريد أن يلغي الفوراق بين طبقات الحكم , أن لا يأمر الوزير أحداً ولا ينهاه , وأن يعمل كل امرئ بما يراه مناسباً , مع أن الشرع والعقل يدلان كليهما أن الأمور لا تسير إلا إذا كان هناك رأس يُطاع يدبر الأمور ..
هذا الأمر لا بأس به لو كان يريد أن يكون الجميع متعاونون لا يتكبر أحدٌ على أحد , ولا يشمخ (8) إنسان بأنفه علي أخيه .
ولكن هذا الأمر لا يصلح إذا أخذنا برأي " بائع البطاطس " في قضية سياسية خطيرة , وأهملنا رأى صاحب الشأن , ولا أن نستشير " جامع القمامة " في زواج ابنة الملك , وندع رأي كبير الوزراء , ولا أن نأخذ القرار من وسط صغار الخبرة وندع الكبار ..
كانت نظرة شاذة لفكرة " المساواة "
وكان الملك يري أن علينا أن نضع الكهول في المقدمة ويترك الشباب للمؤخرة , رغم أن الكهول قد أخذوا فرصتهم الحياة وأن عليهم أن يتركوا للشباب فرصتهم أيضاً , وينشغلوا بالتفكير في يوم موتهم وقدومهم علي العليم الخبير
وقد أجهد وزير الثقافة نفسه في أن يُفهم الملك خطأ هذه النظرة , وخَطَلَ (9) هذا الرأي , مرة بالتلميح , وأخري بالتصريح , ولكنه لم يجد لدي الملك أذنا صاغية (10) ولا نفساً واعية ..
وبرغم هذا فقد نال هذا الوزير حُظوة (11) كبيرة لدي ملكه بفضل جهده الذي لا يُنكر , وعمله الذي لا ينقطع , رغم إصابته بمرض جعله يسير ببطء شديد , ويتحرك حركة ضعيفة , وكان الوزير قد نذر نذراً لئن شفاه الله من هذا المرض ليبذلن للملكة صحته وقوته حتى يراها بجوار النجوم علاءً ورفعة .
* * * * *
أما عن وزراء و أعوان الملك الآخرين فقد كان أكثرهم يشبهون ( تنابلة السلطان ) (12) لا يفعلون شيئاً إلا فيما ندر , إذا طلب الملك رأيهم في شئ , بعثوا برقيات اعتذار لأنهم منشغلون بإدارة أمور المملكة , بينما هم في بيوتهم نائمين كالجثث , فاستمرأو (13) الراحة واستحبو الكسل ..
وقد أضاع كسلُ أولئك " التنابلة " الحُسَّاد على وزير الثقافة الكثير من مشروعاته التي كانت تتطلب تعاون الجميع .. ولكنه كتم الأمر في نفسه عسي أن تصلح الأحوال بعد حين ..
ولأن الملك يحب العدل والمساواة ( من وجهة نظره ) فقد تركهم على حالهم , وآثر (14) راحتهم على مصلحة المملكة , فكان أن انحدرت مصالح تلك الوزارت وأصابها ما يشبه الشلل من جرَّاء سُقم وجمود أفكار أصحابها .
وكان منهم المثابرون المُجِدُّون الذين يعملون بصمتٍ , ولا يحدثون ضجيجاً , وإن كانت آثار أعمالهم ظاهرة لا تخفي ..
* * * * *
مرت الأيام علي هذه المملكة سعيدة في ظاهرها , وإن كانت تحمل في باطنها بذور الانحلال والتفكك والضعف .. بسبب حسد " تنابلة السلطان " للمنزلة التي بلغها وزير الثقافة , وبسبب أن اتخاذ القرار صار فوضى كما بينَّا .
وذات يومٍ رأي أحد الوزراء رأياً ما يمس شأناً من شئون وزير الثقافة , وكان أن تم تنفيذه على التوِّ (15) ودون استشارة وزير الثقافة ولا الاهتمام برأيه .
وعندما عاد وزير الثقافة إلى وزارته وجد هذا الأمر قد صار أمراً واقعاً , ووجد من ينتظره علي باب وزارته طالباً منه أن يبرز هويته وأن يفتش ملابسه .
استشاط (16) وزير الثقافة غضباً , ولكن هذا الحارس اللحوح لم يتنازل عن رأيه قط , فسارع وزير الثقافة إلي الملك يشكو إليه ..
وتركه الملك يبين شكواه , ويوضح مبتغاه , واستمع إليه بغير اكتراث (17) ثم كان أن أصدر قراراً ضعيفاً متخاذلاً يقضي بإلغاء قرار الوزير الدخيل وإبقاء الأمر علي ما هو عليه قبل القرار المشئوم .
* * * * *
وبرغم إلغاء القرار فقد أحس وزير الثقافة بأنه صار مهملاً غير معتبر الرأي بعد كل ما بذله وقدمه لصالح المملكة من جهد ووقت .
أحس الوزير بأنه تلقي صفعة قوية علي وجه مشاعره .
ومرت في ذهنه كل مشاهد البذل والتضحية التي قدمها لمملكته التي نشأ فيها وكبر
يومٌ أراد تنفيذ أمر ما ولم يجد في خزانة الدولة ما يكفي فكان أن أخرج من حُر ماله وبذل بسخاء حتى أتم هذا الأمر علي الوجه الذي يُرتضي .
ويوم تحمل إهانة من أحد الرعية الذي رأي أنه لمجرد أن لديه شيئاً يقوله فلديه الحق في أن يهين من شاء .. وسكت الوزير إرضاء لمليكه الذي كان يصبو إلى عدل مزعوم .
ويوم قصَّر في حق بيته لكي يخدم مصالح المملكة .
وأيام تحمل فيها إهانات تنابلة السلطان وكسلهم وتوانيهم وحسدهم وبغضهم .
وأيام طويلة انتظر قرار الملك في أمر لا يخصه ولا يفيده بل يفيد غيره .
* * * * *
ومضي الوزير لي بيته يكاد يقتله الغم , وما أن استلقي علي فراشه حتى فاجأه طارق علي الباب , فتحامل علي نفسه وذهب ليري ما هناك
وكان هذا رسول من قبل الملك يُلغي فيها بعض صلاحيات وظيفته - التي شُغف بها وأحبها حتى النخاع – بدعوي أنه يتعالي علي الرعية , ويبدو أن السبب يتمثل في أن الوزير قرّر أن يقيم مؤتمراً تعليمياً لبعض من استجد في خدمة المملكة ليرسم لهم سياسة العمل التي ارتضاها , ولكن هذا لم يعجب الملك الذي كان يري أن بائع البطاطس لابد أن يعمل كما تُشير عليه البطاطس لا كما تمليه عليه مصالح المملكة .
لقد وشي التنابلة في أذن الملك وأوحو إليه أن وزير الثقافة يتآمر لانتزاع السلطة من يد الملك وأخذها لنفسه , فقرر الملك انتزاع سلطات الوزير واحدة فواحدة .
تسلم الوزير الرسالة وحزّ (18) في نفسه – وهو الرقيق النفس السريع التأثر والانفعال – ما آل (19) إليه الأمر من جَحْدِ الفضل , وإهمالِ الوفاء , وتَسَلُّطِ الدهماء (20) على الأمور .
فقرر أن يطلب من الملك إقصائه (21) عن الوزارة التي أعياه أمرها .
* * * * *
وفي الصباح ذهب إلي مقرَّ وزارته لينهي بعض الأمور الهامة
ثم عرَّج (22) علي قصر الملك ليبلغه ما عقد عليه عزمه , واستقر عليه رأيه
ولما أن دخل إلى القصر وطلب مقابلة الملك أبلغه خدم القصر أن الملك في اجتماع خطير مع " بائعي البطاطس " المُسنِّين , وكان علي الوزير المسكين الانتظار ريثما يفرغ الملك من اجتماعه .
ولما أن فرغ الملك وعرض عليه الوزير طلبه لم يمانع الملك لحظة , ورماه بنظرة ساخرة وكلمه بكلام لا يتكلم بمثله مع بائعي البطاطس المُسنِّين .
غادر الوزير القصر والألم يقتله , لا لأنه فقد مكانته - التي لم ينلها أصلاً كما كان ينبغي - وإنما علي مملكته التي كان مخلصاً لها فطردته وأقصته وعاملته بنقيض ما كان يتصور أن تعامله به .
* * * * *
لم تمض أيام قلائل حتى ثار الدهماء علي الملك وعاونهم " التنابلة " بأن انسحبوا من وزاراتهم , واغتم الملك غماَ شديداً حتى أصابه المرض وأقعده .
وساءت أحوال المملكة وعمها الخراب وهجرها أغلب سكانها حتى صارت مدينة للضباع والهوام (23) .
وفي يوم من الأيام وبينما تنحدر شمس المملكة المنهارة نحو الغروب , كان في الأفق هناك رجلان يسيران معاً خروجاً من المدينة , وكان أحدهما يتكئ (24) علي الآخر في ضعف , والآخر يسانده بكل قوته وهما يسيران رويداً رويداً والظلام يسدل أستاره علي أطلال المملكة الغابرة ..
أما الرجل الأول فكان الملك , وأما الرجل الثاني فكان وزير الثقافة
لقد ظل معه حتي النهاية رغم كل شئ .
تمت بحمد الله
____________________________
(1) مترامية الأطراف : واسعة
(2) غارَ الماء : أي سفل في الأرض.
(3) حثيثة : مسرعة .
(4) جمَّاً : كثيراً .
(5) دمث : سهل الخُلُق .
(6) السريرة : ما يكتمه الإنسان .
(7) لفرط : لشدة
(8) شمخ الرجل بأنفه : تكبَّر .
(9) الخطل : المنطق الفاسد المضطرب .
(10) صاغية : مستمعة .
(11) حُظوة : منزلة .
(12) تنابلة السلطان : أسطورة شعبية تُضرب مثلاًً فى الكسل والخمول .
(13) استمرأ : استحلاه وركن إليه .
(14) آثر : فضَّل
(15) التو : الحال .
(16) استشاط : احتدم وامتلأ .
(17) بغير اكتراث : بغير مبالاة .
(18) حز في نفسه : قطَّع وأثَّر فيها .
(19) آل : رجع .
(20) الدهماء : جماعة الناس .
(21) إقصاءه : إبعاده .
(22) التعريج علي الشئ : الإقامة عليه .
(23) الهوام : العقارب والحيات .
(24) يتكئ : يستند .
" أحبتنا .. لنا حــقٌ عليكــم ... ومن عرف الحقوق رعي وصانا "
بقلم / محمد شتيوى
في زمن من الأزمان وفى عصر من العصور
كان هناك ملك يحكم مملكة جميلة مترامية الأطراف (1) , وكان لهذا الملك أعوان ونواب ومستشارون ووزراء
فكان له نائبان لا بأس بهما , وكان له مستشارين اثنين أولهما صامت كالسمكة , والثاني لديه نشيط كالذبابة .
وكان له مع ذلك وزراء يديرون مصالح المملكة , منهم وزير الاختراعات , ومنهم وزير الصحة , ومنهم وزير البناء والتخطيط , ومنهم وزير العلوم , ومنهم وزير الثقافة ..
وكان هذا الأخير فتى عزيز النفس كريم الخلق ما لم يغضبه أحد أو يجور عليه , فإذا حدث تحول إلى النقيض ..
وكان هذا الوزير لا يَفْتُرُ عن طرح أفكار جديدة في كل يوم لتطوير المملكة ولراحة الرَّعية من سكان تلك المملكة ...
فكان من أفكاره إعادة صياغة بعض قوانين المملكة بحيث تكون فعالة تخدم المواطنين وتخدم المملكة , وكان من أفكاره استقلال كل وزارة عن الأخرى إدارياً بحيث يباشر الملك التنسيق بين هذه الوزارات مما يحقق التعاون والتكامل , وكان الأمر من قبلها فوضى عارمة ..
وكان ذلك الوزير كأنه بئر أفكار لا يغور (2) , فكل يومٍ يخرج بفكرة جديدة لخدمة صالح المملكة وشئونها ... ولم يكن الأمر سهلاً - كما تظن - بل كان يجهد عقله في التفكير , ولربما قضى الليالي الطوال يفكر في أمر جيد يطرحه على ملكه لتزداد رفعة المملكة .
وكان يفكر في أحوال المملكة في كل وقت .. في سيره ووقوفه وجلسات تأمله وأثناء تناوله طعامه , بل وأثناء اغتساله ودخوله الخلاء ..
وكان من جرَّاء ذلك أن سارت المملكة بخطي حثيثة (3) وثابتة وقوية نحو التطور والتقدم والعلوم والرفعة .. وإن لم تكن قد بلغت الغاية
وكان هذا الوزير قد شُغف بحب تقدم مملكته شغفاً شديداً , وأحب ذلك حباً جمَّا (4) , فكان يخدم بإخلاص لا يعرف التواني وبجد لا يعرف الفتور .
أما الملك فهو إنسان دمث (5) الخلق , طيب القلب , حسن السيرة , جميل السريرة (6) , وكان يحب الخير لكل واحد من رعيته ووزرائه وأعوانه .
وكان لفرط (7) انشغاله لربما يظل ساهراً طوال الليل يراجع أمراً ينوى تنفيذه , أو يدبر شأنا من شئون مملكته الواسعة , وكان يصيبه المرض أحيانا ولكنه لا يفتر عن العمل , بل يأخذ نفسه بالعزيمة , ويحملها على الاجتهاد حملا .
وكشأن أي إنسان آخر فإن هذا الملك لا يخلو من العيوب , وكان في اعتقاد هذا الملك أنه من الممكن أن يسوى بين الجميع في كل شئ ; فهو يريد أن يكون بائع البطاطس كوزير الحرب , ويريد أن يستوي كبير وزرائه مع جامع القمامة , ويريد أن يتعادل ذوو الخبرة ومن قضوا العمر الأكبر في خدمة مليكهم مع صغار الموظفين ومحدثيهم .
كان الملك يريد أن يلغي الفوراق بين طبقات الحكم , أن لا يأمر الوزير أحداً ولا ينهاه , وأن يعمل كل امرئ بما يراه مناسباً , مع أن الشرع والعقل يدلان كليهما أن الأمور لا تسير إلا إذا كان هناك رأس يُطاع يدبر الأمور ..
هذا الأمر لا بأس به لو كان يريد أن يكون الجميع متعاونون لا يتكبر أحدٌ على أحد , ولا يشمخ (8) إنسان بأنفه علي أخيه .
ولكن هذا الأمر لا يصلح إذا أخذنا برأي " بائع البطاطس " في قضية سياسية خطيرة , وأهملنا رأى صاحب الشأن , ولا أن نستشير " جامع القمامة " في زواج ابنة الملك , وندع رأي كبير الوزراء , ولا أن نأخذ القرار من وسط صغار الخبرة وندع الكبار ..
كانت نظرة شاذة لفكرة " المساواة "
وكان الملك يري أن علينا أن نضع الكهول في المقدمة ويترك الشباب للمؤخرة , رغم أن الكهول قد أخذوا فرصتهم الحياة وأن عليهم أن يتركوا للشباب فرصتهم أيضاً , وينشغلوا بالتفكير في يوم موتهم وقدومهم علي العليم الخبير
وقد أجهد وزير الثقافة نفسه في أن يُفهم الملك خطأ هذه النظرة , وخَطَلَ (9) هذا الرأي , مرة بالتلميح , وأخري بالتصريح , ولكنه لم يجد لدي الملك أذنا صاغية (10) ولا نفساً واعية ..
وبرغم هذا فقد نال هذا الوزير حُظوة (11) كبيرة لدي ملكه بفضل جهده الذي لا يُنكر , وعمله الذي لا ينقطع , رغم إصابته بمرض جعله يسير ببطء شديد , ويتحرك حركة ضعيفة , وكان الوزير قد نذر نذراً لئن شفاه الله من هذا المرض ليبذلن للملكة صحته وقوته حتى يراها بجوار النجوم علاءً ورفعة .
* * * * *
أما عن وزراء و أعوان الملك الآخرين فقد كان أكثرهم يشبهون ( تنابلة السلطان ) (12) لا يفعلون شيئاً إلا فيما ندر , إذا طلب الملك رأيهم في شئ , بعثوا برقيات اعتذار لأنهم منشغلون بإدارة أمور المملكة , بينما هم في بيوتهم نائمين كالجثث , فاستمرأو (13) الراحة واستحبو الكسل ..
وقد أضاع كسلُ أولئك " التنابلة " الحُسَّاد على وزير الثقافة الكثير من مشروعاته التي كانت تتطلب تعاون الجميع .. ولكنه كتم الأمر في نفسه عسي أن تصلح الأحوال بعد حين ..
ولأن الملك يحب العدل والمساواة ( من وجهة نظره ) فقد تركهم على حالهم , وآثر (14) راحتهم على مصلحة المملكة , فكان أن انحدرت مصالح تلك الوزارت وأصابها ما يشبه الشلل من جرَّاء سُقم وجمود أفكار أصحابها .
وكان منهم المثابرون المُجِدُّون الذين يعملون بصمتٍ , ولا يحدثون ضجيجاً , وإن كانت آثار أعمالهم ظاهرة لا تخفي ..
* * * * *
مرت الأيام علي هذه المملكة سعيدة في ظاهرها , وإن كانت تحمل في باطنها بذور الانحلال والتفكك والضعف .. بسبب حسد " تنابلة السلطان " للمنزلة التي بلغها وزير الثقافة , وبسبب أن اتخاذ القرار صار فوضى كما بينَّا .
وذات يومٍ رأي أحد الوزراء رأياً ما يمس شأناً من شئون وزير الثقافة , وكان أن تم تنفيذه على التوِّ (15) ودون استشارة وزير الثقافة ولا الاهتمام برأيه .
وعندما عاد وزير الثقافة إلى وزارته وجد هذا الأمر قد صار أمراً واقعاً , ووجد من ينتظره علي باب وزارته طالباً منه أن يبرز هويته وأن يفتش ملابسه .
استشاط (16) وزير الثقافة غضباً , ولكن هذا الحارس اللحوح لم يتنازل عن رأيه قط , فسارع وزير الثقافة إلي الملك يشكو إليه ..
وتركه الملك يبين شكواه , ويوضح مبتغاه , واستمع إليه بغير اكتراث (17) ثم كان أن أصدر قراراً ضعيفاً متخاذلاً يقضي بإلغاء قرار الوزير الدخيل وإبقاء الأمر علي ما هو عليه قبل القرار المشئوم .
* * * * *
وبرغم إلغاء القرار فقد أحس وزير الثقافة بأنه صار مهملاً غير معتبر الرأي بعد كل ما بذله وقدمه لصالح المملكة من جهد ووقت .
أحس الوزير بأنه تلقي صفعة قوية علي وجه مشاعره .
ومرت في ذهنه كل مشاهد البذل والتضحية التي قدمها لمملكته التي نشأ فيها وكبر
يومٌ أراد تنفيذ أمر ما ولم يجد في خزانة الدولة ما يكفي فكان أن أخرج من حُر ماله وبذل بسخاء حتى أتم هذا الأمر علي الوجه الذي يُرتضي .
ويوم تحمل إهانة من أحد الرعية الذي رأي أنه لمجرد أن لديه شيئاً يقوله فلديه الحق في أن يهين من شاء .. وسكت الوزير إرضاء لمليكه الذي كان يصبو إلى عدل مزعوم .
ويوم قصَّر في حق بيته لكي يخدم مصالح المملكة .
وأيام تحمل فيها إهانات تنابلة السلطان وكسلهم وتوانيهم وحسدهم وبغضهم .
وأيام طويلة انتظر قرار الملك في أمر لا يخصه ولا يفيده بل يفيد غيره .
* * * * *
ومضي الوزير لي بيته يكاد يقتله الغم , وما أن استلقي علي فراشه حتى فاجأه طارق علي الباب , فتحامل علي نفسه وذهب ليري ما هناك
وكان هذا رسول من قبل الملك يُلغي فيها بعض صلاحيات وظيفته - التي شُغف بها وأحبها حتى النخاع – بدعوي أنه يتعالي علي الرعية , ويبدو أن السبب يتمثل في أن الوزير قرّر أن يقيم مؤتمراً تعليمياً لبعض من استجد في خدمة المملكة ليرسم لهم سياسة العمل التي ارتضاها , ولكن هذا لم يعجب الملك الذي كان يري أن بائع البطاطس لابد أن يعمل كما تُشير عليه البطاطس لا كما تمليه عليه مصالح المملكة .
لقد وشي التنابلة في أذن الملك وأوحو إليه أن وزير الثقافة يتآمر لانتزاع السلطة من يد الملك وأخذها لنفسه , فقرر الملك انتزاع سلطات الوزير واحدة فواحدة .
تسلم الوزير الرسالة وحزّ (18) في نفسه – وهو الرقيق النفس السريع التأثر والانفعال – ما آل (19) إليه الأمر من جَحْدِ الفضل , وإهمالِ الوفاء , وتَسَلُّطِ الدهماء (20) على الأمور .
فقرر أن يطلب من الملك إقصائه (21) عن الوزارة التي أعياه أمرها .
* * * * *
وفي الصباح ذهب إلي مقرَّ وزارته لينهي بعض الأمور الهامة
ثم عرَّج (22) علي قصر الملك ليبلغه ما عقد عليه عزمه , واستقر عليه رأيه
ولما أن دخل إلى القصر وطلب مقابلة الملك أبلغه خدم القصر أن الملك في اجتماع خطير مع " بائعي البطاطس " المُسنِّين , وكان علي الوزير المسكين الانتظار ريثما يفرغ الملك من اجتماعه .
ولما أن فرغ الملك وعرض عليه الوزير طلبه لم يمانع الملك لحظة , ورماه بنظرة ساخرة وكلمه بكلام لا يتكلم بمثله مع بائعي البطاطس المُسنِّين .
غادر الوزير القصر والألم يقتله , لا لأنه فقد مكانته - التي لم ينلها أصلاً كما كان ينبغي - وإنما علي مملكته التي كان مخلصاً لها فطردته وأقصته وعاملته بنقيض ما كان يتصور أن تعامله به .
* * * * *
لم تمض أيام قلائل حتى ثار الدهماء علي الملك وعاونهم " التنابلة " بأن انسحبوا من وزاراتهم , واغتم الملك غماَ شديداً حتى أصابه المرض وأقعده .
وساءت أحوال المملكة وعمها الخراب وهجرها أغلب سكانها حتى صارت مدينة للضباع والهوام (23) .
وفي يوم من الأيام وبينما تنحدر شمس المملكة المنهارة نحو الغروب , كان في الأفق هناك رجلان يسيران معاً خروجاً من المدينة , وكان أحدهما يتكئ (24) علي الآخر في ضعف , والآخر يسانده بكل قوته وهما يسيران رويداً رويداً والظلام يسدل أستاره علي أطلال المملكة الغابرة ..
أما الرجل الأول فكان الملك , وأما الرجل الثاني فكان وزير الثقافة
لقد ظل معه حتي النهاية رغم كل شئ .
تمت بحمد الله
____________________________
(1) مترامية الأطراف : واسعة
(2) غارَ الماء : أي سفل في الأرض.
(3) حثيثة : مسرعة .
(4) جمَّاً : كثيراً .
(5) دمث : سهل الخُلُق .
(6) السريرة : ما يكتمه الإنسان .
(7) لفرط : لشدة
(8) شمخ الرجل بأنفه : تكبَّر .
(9) الخطل : المنطق الفاسد المضطرب .
(10) صاغية : مستمعة .
(11) حُظوة : منزلة .
(12) تنابلة السلطان : أسطورة شعبية تُضرب مثلاًً فى الكسل والخمول .
(13) استمرأ : استحلاه وركن إليه .
(14) آثر : فضَّل
(15) التو : الحال .
(16) استشاط : احتدم وامتلأ .
(17) بغير اكتراث : بغير مبالاة .
(18) حز في نفسه : قطَّع وأثَّر فيها .
(19) آل : رجع .
(20) الدهماء : جماعة الناس .
(21) إقصاءه : إبعاده .
(22) التعريج علي الشئ : الإقامة عليه .
(23) الهوام : العقارب والحيات .
(24) يتكئ : يستند .