مقامات آخر الزمان
المقامة السنغالية
كاظم فنجان الحمامي
حدثنا صابر بن حيران. قال : طرحتني النوى مطارحها. حتى إذا وصلت ساحل السنغال. خففت سرعة السفينة في الحال. واقتربت من تلال تغطيها الرمال. فحين رميت المخطاف. عند مقتربات تلك الضفاف. أخذت عيناي رجلا قد لف رأسه ببرقع حياء. وحمل قربة مملوءة بالماء. ونصب جسده. وبسط يده. واحتضن عياله. وتأبط أطفاله. وهو يقول بصوت يدفع الضّعف في صدره. ويتلوّى من آثار السياط في ظهره: اللهم آمنا على حياتنا. يا من منحتنا حرياتنا. يا رب يا محمود. يا واحد يا ودود. يا مشهود يا موجود. اكفنا شر العبودية لغيرك. فأنت الخالق المعبود. واحفظ عبادك في هذه البلاد. من ذل الرق والاستعباد. وخلصنا من الفتن. ما ظهر منها وما بطن. فدنوت منه وبدأت الكلام بالسلام. وتحية الإسلام. فولاّني جميلا. وأوليته جزيلا. فقال : أنا رجل من أهل الجزيرة الغورية. من السواحل السنغالية. مزقني الاملاق. فجبت الآفاق. تترامى بي المرامي. وتتهادى بي الموامي. وها أنا أهيم في الطريق. هربا من تجار الرقيق. أتوقع الاسطول الأسباني كل لمحة. واراقب الساحل كل صبحة. حتى طويت طريق الرعب وتجاوزت حدّه. وصرت إلى حمى الأمن ووجدت برده. وبلغت السواحل. وقد حفيت الرواحل. وأكلتها المراحل. ومازلت أعاني. من ظلم الاسطول الاسباني. فقد غزتنا تلك الكلاب الغاوية. والذئاب العاوية. والأقوام المارقة. فخطفت أبناء جلدتي من الأفارقة. وقيدتهم بالسلاسل. واقتادتهم في قوافل. تجرهم كالحوابل. وهم يمشون متثاقلين متهالكين. والسياط تلسع ظهورهم العارية. وجذوعهم الخاوية. وأرجلهم الدامية. يساقون قهرا. أو يموتون صبرا. فقتلت منهم ستة ملايين شنقا وبطشا. وجوعا وعطشا. وساقت الأحياء إلى معتقل بيت العبيد. وكبلتهم بأصفاد الحديد. ثم أبحرت بهم عبر بوابة اللاعودة. نحو الأفق البعيد. فتبعثر أفراد الأسرة الواحدة. في بلدان متعددة. وأماكن متباعدة. وصارت قيمة الإنسان. بقدر ما يحمله في فمه من أسنان. يفحصونهم كالخيول. ويجرونهم كالعجول. فباعوا الأب إلى البرغواي. والأم إلى الأورغواي. وتوزع الأولاد والأحفاد. في كل الأصقاع والبقاع. بين تكساس وأركنساس. وفرجينيا وكليفورنيا. وبوسطن وواشنطن. وتبدلت اسمائهم وجنسياتهم ولغاتهم ودياناتهم. حتى غاب تذكارهم. وانمحت آثارهم. وشيعتني صورهم. وانقطعت أخبارهم. .
فقلت له : احمد الله حمد الإخلاص. على حسن الخلاص. الذي فكك من حلق الإسار. وأنفذك من حد الشفار. وحررك من ذل الرق. إلى عزة العتق. فقال : الحمد لله الذي فك أسرنا. وجعل من بعد عسرنا يسرنا. وأخرجنا من البلاء. خروج السيف من الجلاء. وجعل لنا من مضايق الأمر مخرجا نجيحا. وفي مغالق الأحوال مسرحا فسيحا. .
قال صابر بن حيران : واستمرت هذه الكارثة لثلاثة قرون. وأطارت واقع السكون. فعز عليّ مسمعها. وأثر في القلب موقعها. إنها كارثة إنسانية تستك لها المسامع. وترتج لها الأضالع. أتت بما هد الأصلاب. وأطار الالباب. وفرق الأحباب. ولم ينج من ودائع الأغماد. إلا من حصل في جوامع الأصفاد. فقد كانت سواحل الغرب الأفريقي نهزة الطالب. وفرصة المغالب. فهي العود المركوب. والزند المضروب. اجتاحتها سفن القراصنة بقلب نغل. وصدر دغل. وطوية معلولة. وعقيدة مدخولة. ومازالت وثائق الرق والأستعباد. والعبودية والاضطهاد. يطويها لثام. لا تميطه الصحافة والاعلام. باستثناء الفلم الوثائقي المشهور. للكاتب الزنجي أليكس هيلي الغيور. الذي جسد محنة الشعب المغدور. في فلم (الجذور). فلا يغرنك هذا التظاهر الأوربي المونق. فوراءه البلاء الموبق. فاجدادهم من أركان البؤس. وملامح النحس. ورمد العين. وغداة البين. وسمة الشين. ومنع الماعون. وسنة الطاعون. وقراد القرود. وكهنة اليهود. وسكين الحدود. وعين الحسود. والنوائب السود. وصنان الإبط. وسراق النفط. وعذاب الإنسان. وشريعة الحيوان. وقطار الرذيلة. وأعداء الفضيلة. ومخالب الاستعمار. وحنجرة الاستحمار. ومزرعة الفجّار. ومحبرة التزوير. وديناميت التفجير. ومصدر الفتن. ومقلع المحن. وخضراء الدمن. وحانة الخمّارة. ومجتلب الخسارة. وزهرة الافيون. وتهور المجنون. ووجه الشيطان. وعقل الصبيان. وســـم الدهر. ومعمل المكر. وفيروس الشر. وقراصنة البر والبحر. .
قال صابر بن حيران : إنها لمهزلة كبرى أن يقام نصب الحرية. ورمز الإنسانية. على جثث وجماجم عشرات الملايين. الذين أبادتهم مشانق العبودية. في مجازر يشيب لهولها الولدان. وتناقلت أخبارها الركبان. على الرغم من اعتذارهم بعد فوات الأوان. وكان (أبو الحرية) الأمريكية المزعومة. (جورج واشنطن نفسه). أول من انتهك حرية تلك الشريحة المحرومة. والطبقة المعدومة. فهو يملك في حوزته. ثلاثمائة عبد وجارية يعملون في مزرعته. ولم يحرر منهم واحدا قط. وكان من امهر تجار البشر. وسيعلم يوم المحشر. إنّ الله قد سوى بين البرية. في ورود حوض المنية. وحملهم فيها على عدل الحكومة والقضية. لينظر كل أحد إلى نفسه. ويعلم إنه مستثمر ما أنبت غرسه. .
البصرة 27/9/2008
حدثنا صابر بن حيران. قال : طرحتني النوى مطارحها. حتى إذا وصلت ساحل السنغال. خففت سرعة السفينة في الحال. واقتربت من تلال تغطيها الرمال. فحين رميت المخطاف. عند مقتربات تلك الضفاف. أخذت عيناي رجلا قد لف رأسه ببرقع حياء. وحمل قربة مملوءة بالماء. ونصب جسده. وبسط يده. واحتضن عياله. وتأبط أطفاله. وهو يقول بصوت يدفع الضّعف في صدره. ويتلوّى من آثار السياط في ظهره: اللهم آمنا على حياتنا. يا من منحتنا حرياتنا. يا رب يا محمود. يا واحد يا ودود. يا مشهود يا موجود. اكفنا شر العبودية لغيرك. فأنت الخالق المعبود. واحفظ عبادك في هذه البلاد. من ذل الرق والاستعباد. وخلصنا من الفتن. ما ظهر منها وما بطن. فدنوت منه وبدأت الكلام بالسلام. وتحية الإسلام. فولاّني جميلا. وأوليته جزيلا. فقال : أنا رجل من أهل الجزيرة الغورية. من السواحل السنغالية. مزقني الاملاق. فجبت الآفاق. تترامى بي المرامي. وتتهادى بي الموامي. وها أنا أهيم في الطريق. هربا من تجار الرقيق. أتوقع الاسطول الأسباني كل لمحة. واراقب الساحل كل صبحة. حتى طويت طريق الرعب وتجاوزت حدّه. وصرت إلى حمى الأمن ووجدت برده. وبلغت السواحل. وقد حفيت الرواحل. وأكلتها المراحل. ومازلت أعاني. من ظلم الاسطول الاسباني. فقد غزتنا تلك الكلاب الغاوية. والذئاب العاوية. والأقوام المارقة. فخطفت أبناء جلدتي من الأفارقة. وقيدتهم بالسلاسل. واقتادتهم في قوافل. تجرهم كالحوابل. وهم يمشون متثاقلين متهالكين. والسياط تلسع ظهورهم العارية. وجذوعهم الخاوية. وأرجلهم الدامية. يساقون قهرا. أو يموتون صبرا. فقتلت منهم ستة ملايين شنقا وبطشا. وجوعا وعطشا. وساقت الأحياء إلى معتقل بيت العبيد. وكبلتهم بأصفاد الحديد. ثم أبحرت بهم عبر بوابة اللاعودة. نحو الأفق البعيد. فتبعثر أفراد الأسرة الواحدة. في بلدان متعددة. وأماكن متباعدة. وصارت قيمة الإنسان. بقدر ما يحمله في فمه من أسنان. يفحصونهم كالخيول. ويجرونهم كالعجول. فباعوا الأب إلى البرغواي. والأم إلى الأورغواي. وتوزع الأولاد والأحفاد. في كل الأصقاع والبقاع. بين تكساس وأركنساس. وفرجينيا وكليفورنيا. وبوسطن وواشنطن. وتبدلت اسمائهم وجنسياتهم ولغاتهم ودياناتهم. حتى غاب تذكارهم. وانمحت آثارهم. وشيعتني صورهم. وانقطعت أخبارهم. .
فقلت له : احمد الله حمد الإخلاص. على حسن الخلاص. الذي فكك من حلق الإسار. وأنفذك من حد الشفار. وحررك من ذل الرق. إلى عزة العتق. فقال : الحمد لله الذي فك أسرنا. وجعل من بعد عسرنا يسرنا. وأخرجنا من البلاء. خروج السيف من الجلاء. وجعل لنا من مضايق الأمر مخرجا نجيحا. وفي مغالق الأحوال مسرحا فسيحا. .
قال صابر بن حيران : واستمرت هذه الكارثة لثلاثة قرون. وأطارت واقع السكون. فعز عليّ مسمعها. وأثر في القلب موقعها. إنها كارثة إنسانية تستك لها المسامع. وترتج لها الأضالع. أتت بما هد الأصلاب. وأطار الالباب. وفرق الأحباب. ولم ينج من ودائع الأغماد. إلا من حصل في جوامع الأصفاد. فقد كانت سواحل الغرب الأفريقي نهزة الطالب. وفرصة المغالب. فهي العود المركوب. والزند المضروب. اجتاحتها سفن القراصنة بقلب نغل. وصدر دغل. وطوية معلولة. وعقيدة مدخولة. ومازالت وثائق الرق والأستعباد. والعبودية والاضطهاد. يطويها لثام. لا تميطه الصحافة والاعلام. باستثناء الفلم الوثائقي المشهور. للكاتب الزنجي أليكس هيلي الغيور. الذي جسد محنة الشعب المغدور. في فلم (الجذور). فلا يغرنك هذا التظاهر الأوربي المونق. فوراءه البلاء الموبق. فاجدادهم من أركان البؤس. وملامح النحس. ورمد العين. وغداة البين. وسمة الشين. ومنع الماعون. وسنة الطاعون. وقراد القرود. وكهنة اليهود. وسكين الحدود. وعين الحسود. والنوائب السود. وصنان الإبط. وسراق النفط. وعذاب الإنسان. وشريعة الحيوان. وقطار الرذيلة. وأعداء الفضيلة. ومخالب الاستعمار. وحنجرة الاستحمار. ومزرعة الفجّار. ومحبرة التزوير. وديناميت التفجير. ومصدر الفتن. ومقلع المحن. وخضراء الدمن. وحانة الخمّارة. ومجتلب الخسارة. وزهرة الافيون. وتهور المجنون. ووجه الشيطان. وعقل الصبيان. وســـم الدهر. ومعمل المكر. وفيروس الشر. وقراصنة البر والبحر. .
قال صابر بن حيران : إنها لمهزلة كبرى أن يقام نصب الحرية. ورمز الإنسانية. على جثث وجماجم عشرات الملايين. الذين أبادتهم مشانق العبودية. في مجازر يشيب لهولها الولدان. وتناقلت أخبارها الركبان. على الرغم من اعتذارهم بعد فوات الأوان. وكان (أبو الحرية) الأمريكية المزعومة. (جورج واشنطن نفسه). أول من انتهك حرية تلك الشريحة المحرومة. والطبقة المعدومة. فهو يملك في حوزته. ثلاثمائة عبد وجارية يعملون في مزرعته. ولم يحرر منهم واحدا قط. وكان من امهر تجار البشر. وسيعلم يوم المحشر. إنّ الله قد سوى بين البرية. في ورود حوض المنية. وحملهم فيها على عدل الحكومة والقضية. لينظر كل أحد إلى نفسه. ويعلم إنه مستثمر ما أنبت غرسه. .
البصرة 27/9/2008