الإبداع والتربية (1)
-------------------
-------------------
من الطبيعي أن يكون الإبداع (في المنهج الإسلامي) وسيلة خاصة من وسائل التربية .. وبعيداً عن المصطلحات والمدارس المختلفة لتفسير العلاقة بين الإبداع والتربية ..
فإنه يمكننا القول : إن الإبداع الفني أو الأدبي له تأثيره المتميز على نفس المتلقي وفكره ، سواء أدرك المتلقي ذلك أو لم يدركه ..
إن البهجة أو المتعة التي يخلفها الأثر الأدبي أو استئناف التفكير في المشاكل أو الصراعات التي يطرحها الفنان ، أو اتخاذ موقف من المواقف ، إنما ينبع ذلك كله مما نسميه بالتأثير ، حتى ولو افترضنا أن الفنان كان جمالياً صرفاً ، وتلك المصطلحات التي نقرأ عنها في التراث المسرحي القديم عند الإغريق أو الرومان كالتطهير أو التعاطف أو التسامي وما إلى ذلك ، إنما ترمز جملتها إلى الأثر التربوي للإبداع ، كما تعبر عن التفاعل الوجداني بين ذلك الأثر والمتلقي ..
ولا نستطيع أن نفصل المضمون الفكري عن الشكل الفني في هذا التصور ، فكلاهما ترجمة متلاحقة للإبداع الصحيح ..
والأدب الإسلامي يتمثل ذلك المفهوم ويوظف إمكاناته المختلفة في إحداث الأثر الإيجابي المرتبط بذات الأديب المسلم وتصوراته وتطلعاته ، ويأتي هذا تلقائياً دون تصنع أو زيف ، لأن التكليف يوهي من عرى الإبداع ، ويعطل من تأثيره الفعال ، ويهبط بمنزلة الأديب إلى مرتبة تجعله قاصراً عن القيام بدوره في تخليص الإنسان من الوثنية والانحراف والتخبط ، وتعزله عن دوره الحضاري والاجتماعي ..
والأديب المسلم يعايش عقيدة وفكراً وسلوكاً من نوع ، وهي تؤثر في مكوناته النفسية والعقلية ، وفي قدراته الإبداعية ..
ومن الطبيعي أن تكون علاقاته الخارجية ، وانفعالاته الداخلية ، متسمة بلون من الصراعات أو التساؤلات التي تنبعث أساساً من موقفه من الحياة وحركتها وما تموج به من تناقضات وصراعات ، وليس من المنطقي أن تكون نفس المؤمن خالية من هذه الحركة الموارة ، فهو يرفض ويقبل ، ويحب ويكره ، ويحلم ويأمل ، وينفعل ويعبر ..
إنه ليس بحيرة ساكنة هادئة نائمة ، ومن يتصور غير ذلك فهو واهم ، ثم إن هذا الوضع لا يتناقض مع قوة اليقين ، واطمئنان النفس ، وعمق الإيمان ، وعظمة التسليم لله ..
إن صورة الحياة الهائجة المائجة المضطربة تنعكس على فكر المؤمن ونفسه فتحرك عواطفه ووجدانه ، وتثير فكره ، فيبدع صوراً أدبية جميلة تتسم بالحيوية والصدق ، وبديهي أن استقراره العقائدي يعصمه من الزيف والزيغ والانحراف ، فنحن نقبل من الانطباعيين ما يوافق تصورنا ، ونرفض ما يتناقض مع مفاهيمنا ، ونحترم جهود التجريبيين ، ونتحفظ بالنسبة لبعض تحليلاتهم واستنتاجاتهم ..
فليس من المعقول أن نقبل وجهة نظر "فرويد" في الفن على عواهنها ، أو تفسيرات "ادرلر" و "ويونج" ، فلن يكون الكبت الجنسي دافعاً للإبداع ، أو ترجمة لما يحدث في الفن من تسام ، ولن يكون تعويضاً عن مركب نقص كامن في الإنسان ، وإذا جاز ذلك في بعض الأحوال فليس من السهل منطقياً قبوله كقاعدة عامة ..
لقد أجمع الدارسون في مجال الإبداع والتربية أن القهر والتسلط والكبت تعطل من القدرات الإبداعية وتضيع أثرها الهام ، وتحرم الكبار والصغار من حب الاستطلاع والفضول والتعجب والدهشة والاستكشاف ، والانطلاق في التفكير والتعبير ..
وإذا كانت هناك رغبة حقيقية في تنمية الإنسان فلا بد لنا قبل كل شيء أن نعطيه حرية التعبير ، وحرية الاحتجاج ، وحرية المشاركة في إبداء الرأي والقرار ، وحرية أن يملك فضول الطفل وحركته ..
فلا إبداع بدون حرية ، والقهر يدفع إلى الهروب وارتداء الأقنعة الزائفة ، كما يدفع إلى الإغراق في الرموز والإبهام ، ويدفع إلى اليأس والملل ، وقد تتولد عنه قيم نفعية جديدة ، تضر بالفن وبالتربية معاً ..
ولكي يؤدي الإبداع دوره البناء في التربية فلا بد له من التربية الصالحة ، والهواء النقي ، والتحرر من قيود الذل والهوان ، والقضاء على بطش السلطة ونزواتها وأهوائها ..
ولا بد أيضاً من أساليب تربوية ، ومناهج دراسية ، تلتزم بالقيم العليا التي نزلت من السماء مطهرة صافية منزهة عن جشع الإنسان ، ورغباته الذاتية وأنانيته المفرطة ..
وأمانة الكلمة لا تتحقق إلا في ظل العقيدة السمحاء ، والحرية الأصيلة ، فقد ولد الناس أحراراً بالفطرة ، لكن الغرور الإنساني ، والانحراف الأخلاقي ، قد مهدا لصنع القيود والأغلال .....
--------------------------------
المصدر : كتاب (مدخل إلى الأدب الإسلامي)
للدكتور / نجيب الكيلاني
(بتصرف بسيط)
المصدر : كتاب (مدخل إلى الأدب الإسلامي)
للدكتور / نجيب الكيلاني
(بتصرف بسيط)