نمر العصيمى
New Member
الأمريكية السعيدة
منى محمد العمد
الندوة العالمية للشباب الإسلامي
الندوة العالمية للشباب الإسلامي
أخذت مقعدي وشرعت في تسجيل أسماء الفتيات والنساء اللاتي احتشدن في أول أيام الدراسة في مركز تحفيظ القرآن الكريم , وبينما أنا منهمكة في ذلك , إذ حانت مني التفاتة لأرى امرأتين ( تذودان ) بينما يتسابق ( الرعاء ) إلى السقيا أشرت لهما أن تفضلا , فنظرت إحداهما إلى الأخرى وقد ارتسمت على وجهيهما أمارات حيرة واضحة , ثم عادت وبادلتني ابتسامة ولم تقل شيئا , قمت من مكاني وقدمت لهما مقعدين وطلبت منهما الجلوس ريثما أنتهي من عملية التسجيل , بدا عليهما الارتياح لكنهما اكتفتا بالتبسم ولم تقولا شيئا , غلب على ظني أن لهما قضية ...... سؤال فقهي أو ما شابه , ورحت أتابع ما بدأت به , حتى إذا انتهيت ووزعت الدارسات على الفصول , دعوتهما مرحبة بهما , وهنا قالت إحداهما بلسان أعجمي : هل تتكلمين الإنجليزية ؟
أدركت سبب امتناعهما عن الكلام في البداية , ورحبت بهما بلغتهما هذه المرة , فكأنما انتشلتهما من ( غيابة الجب ) سألتها :
ـ من أين الأخت ؟
ـ من أمريكا , وصلنا الرياض حديثا , قدمنا السعودية لنتعلم القرآن الكريم واللغة العربية .
كانت الكبرى هي المبادرة بالحديث , عرفتني على نفسها ورفيقتها قائلة :
ـ هذه عائشة ابنة زوجي وأنا سعيدة , قلت مازحة :
ـ وهل أنت سعيدة أم أن هذا اسمك فقط ؟ ضحكت وقالت :
ـ أنا أسميت نفسي سعيدة لأني سعيدة بهذا الدين . دعوت لها بالسعادة في الدنيا والآخرة فقد أدخلت السعادة إلى قلبي .
في الفصل قمت بمهمة التعريف بين الدارسات ورحب الجميع بالضيفتين الكريمتين , وقرأنا شيئا من القرآن , كنت ألاحظ أن سعيدة تحرك شفتيها مع كل قارئة , تحاول التعلم بكل ما أوتيت من إمكانات , أخذت إحدى القارئات بتلاوة سورة الهمزة , وما أن قرأت القارئة
( ويل لكل همزة لمزة ) حتى أخذت صاحبتنا الحيرة , سألتها عما بها , وقد كانت تعرف الحروف العربية لكنها تجهل المعاني , قالت :
ـ هي تقول : ويلٌ وهمزةٍ , وأنا لا أرى حرف النون ! ضحكت وقلت في نفسي : هذه ورطة ! وأخذت أشرح لها جهد طاقتي معنى التنوين وشكله , لكن عندما قرأت قارئة أخرى من سورة البلد , أدركت أني وقعت في ورطة جديدة أصعب من سابقتها , فكلمة
( حلٌ ) منونة لكن عليها ضمة واحدة بجانبها ميم صغيرة , فكيف سأشرح لهذه الأخت الأعجمية حكم التجويد واصطلاحات ضبط المصحف , الأمور التي تكاد لا تدركها كثير من الأخوات العربيات المسلمات .
وفي نهاية الدوام حرصت على الخروج قبل صاحبتي , وأبلغت زوجي بأمر هذه الأسرة , فقام على الفور بالتعرف إلى زوج سعيدة , الذي سمى نفسه فجر الدين , ودعوناهما بعد ذلك لزيارتنا في بيتنا , وأعددنا لهم مأدبة عشاء دعونا إليها بعض الأصدقاء لتعريفهم إلى هذه الأسرة المهاجرة , وأبدت أختنا سعيدة إعجابها الشديد بأخلاق المسلمين وكرمهم , وحدثتني عن جارة لها تهديها باستمرار أطباق شهية من الطعام العربي , حمدت الله على ذلك وقلت لها : لم تتعرفي بعد إلى أخلاق المسلمين , فهذا قليل من كثير .
قالت لي ذات يوم والسعادة بادية على محياها :
ـ لقد بدأت أتعلم العربية . قلت :
ـ هذا خبر جميل , وماذا تعلمت ؟ أخذت تستجمع قواها ثم قالت بالعربية :
ـ أنا أحب الرياض . قلت : ما شاء الله , جميل حقا , وماذا أعجبك فيها ؟ قالت :
ـ كل ما فيها حلال , نشتري أي شيء , نأكل أي شيء ولا نخاف من الحرام , وأضافت : هناك في أمريكا , البحث عن الطعام المباح يشكل هاجسا بالنسبة لنا نحن لا نستطيع أن نشتري لنا بيتا إلا بالربا . ( قالت كلمة حلال وكلمة ربا بالعربية ) .وتابعت تقول نشعر بأمان لا مثيل له هنا , نخرج في أي وقت من ليل أو نهار ولا نخاف شيئا , وهناك نمشي نتلفت حولنا نخشى أن نتخطف .
تبادلنا بعد ذلك الزيارات , ولاحظت خلال وجودي بمنزلهم أن الوضع المادي للأسرة مترد بشكل ظاهر , وعلمت من بعض أطراف الحديث , أنهم يعيشون على راتب المنحة التي تدفعها الجامعة للزوج الذي يدرس العربية لغير الناطقين بها , واعترافا منهم بالجميل الذي أسداه إليهم أحد موظفي سفارة المملكة في الحصول على هذه المنحة فقد أسموا طفلهم باسمه ( هاشم ) . وكان يسرها أن نناديها بكنيتها ( أم هاشم ) .
وحدثت زميلاتي في المدرسة بأمر هذه الأسرة , فسألت إحداهن :
ـ هل هذه الأسرة فقيرة ماديا ؟ أشعر بذلك من حديثك عنهم , قلت :
ـ أما إنها لا تشتكي . لكني أحس من بعض مشاهداتي في منزلهم أنهم يتدبرون أمورهم بصعوبة .
في اليوم التالي قدمت لي صديقتي مظروفا مغلقا وطلبت مني إيصاله للأخت سعيدة , وفي المساء , استدعيت الأخت سعيدة إلى الإدارة وقدمت لها المظروف قائلة : هذا هدية من أخت لك في الله , بدا عليها الاستغراب وتناولت المغلف , وما أن فتحته حتى انخرطت في بكاء شديد . أخذت في تهدئتها وأنا أغالب دموعي تأثرا , قالت وهي تحاول السيطرة على مشاعرها :
ـ هل تعرفني صديقتك ؟ قلت :
ـ يكفي أنها أختك في الإسلام , ردت متسائلة :
ـ ولكن لماذا تعطيني هذا المبلغ ؟ ماذا تريد مني بالمقابل ؟ هل تريد مني أن أعلمها هي أو أحد أولادها اللغة الإنجليزية ؟ قلت :
ـ لماذا تفكرين بهذه الطريقة ؟! هي لا تريد منك ( جزاء ولا شكورا ) إنما تبتغي بذلك وجه الله , فعادت تبكي من جديد . قلت :
ـ تستطيعين الدعاء لها وهذه مكافأة حسنة . ثم سألتها إن كانت تريد دخول الفصل فقد حان وقت درس القرآن , فاعتذرت قائلة :
ـ إني بحاجة أن أخلو إلى نفسي , وأضافت كمن يكلم نفسه : أريد أن أستوعب هذا الحدث , ربت على كتفها وذهبت إلى الفصل فطالباتي ينتظرنني , وبالرغم من أني حاولت إخفاء ما بي إلا أن عائشة ابنة زوج سعيدة ذات الثلاثة عشر ربيعا بادرتني بالسؤال :
ـ ما بك ؟ كان واضحا أنها تدرك أن شيئا ما قد حدث , أضافت : لقد كنت تبكين , أين خالتي ؟ ماذا حدث ؟ قلت :
ـ هي بخير اطمئني , لكنها ترغب بالانفراد قليلا , فاستأذنت عائشة للخروج وقد دمعت عيناها قبل أن تعرف الحكاية .
استدعيت بعد ذلك بقليل إلى الإدارة فقد حضرت المشرفة لزيارتنا , وما أن رأتني حتى بدأتني بسيل من الأسئلة ؟ من هذه المرأة ؟ ولماذا تجلس وحدها في ساحة المدرسة ؟ ولماذا تبكي هكذا ؟ ! قلت : هي إحدى الدارسات في صفي وتمر بظروف خاصة , ولم أشأ أن أسبب لها المزيد من الحرج بإبلاغ القصة للمشرفة , وكانت المشرفة تتحلى بروح مرحة , قالت وهي تضحك عجبا :
ـ سألتها لماذا تبكي فقالت وهي مستمرة بالبكاء :
ـ أنا سعيدة , سعيدة جدا , فإذا كانت تبكي كل هذا البكاء لأنها سعيدة فماذا ستفعل إذا حزنت ؟!
أنهت المشرفة زيارتها للمركز وقمت معها مودعة , فواجهتنا سعيدة مقبلة , كانت مبتسمة هذه المرة والحمد لله , قالت متسائلة وهي لا تزال تهز رأسا عجبا :
ـ أهكذا هو الإسلام ؟! أهكذا هم المسلمون ؟! قلت : يا أختاه أنت حديثة العهد بالإسلام , هذا الدين العظيم الذي يأمر بالإحسان إلى الأهل , الوالدين والأقارب , والجيران حتى لو كانوا غير مسلمين , يأمر بالإحسان حتى إلى الأعداء , إلى الأسرى , بل يأمر بالإحسان إلى البهائم ! فكيف لا يحسن المسلمون إلى مسلم مغترب نزل ضيفا بساحتهم ؟! هذا هو الأصل , فإن وقعت في مشكلة وأنت وسط المسلمين ولم يهبوا لمساعدتك فهذا هو الأمر الذي يدعو للاستغراب وليس العكس .
بدا لي أنها تحمد الله بكل جوارحها على نعمة الإسلام كما لم تفعل من قبل . تذكرت وأنا أصافحها مودعة قول الله تعالى ( والمؤلفة قلوبهم ) وتذكرت قول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) .
فأحسنوا ... أحسنوا (( إن الله يحب المحسنين )) .
</SPAN>