ماجدة صبّاح
عضو فعال
رسالة ..إلى أخٍ...في بلاد الغربة
دقت ساعة الصفر وخرج أخي، خرج يودع أحضان أمه ونظرات زوجه، يودع ضحكات طفله تلك التي مزجت كثيراً بالبكاء، فإذا هو رجل..لا يقدر على الفراق، يحاكي الماضي، يتأمل السقف، الجدران، حتى البلاط!
خرج أخي، وقلوبنا تتبعه، رعشات أطرافنا نحوه تهفو، محمد يخرج الآن من البيت الذي عاش فيه صباه وشبابه، ودّع فيه أحزانه وذكرياته المليئة بالفرح، ودّع أيامه التي اختلطت فيها ضحكات الانبساط بدموع البكاء..
صوت تكتكة عقارب الساعة تأزف بموعد حان..حان الآن يا محمد وقت الرحيل!
حشود في قاعة الانتظار تريد توديع أخي، الكل يسلم عليه وهذا يقبله، الثاني يوصيه والثالث يمازحه،وأنا.. مكاني رابضة!!
أرى أمامي مرجا ممروجا بذكريات الماضي ويتلألأ، أسود هو حالك..أنزلت رأسي؛ وإذ بي أرى تحت قدمي أختي الصغرى، أيقنت أن تلك الصور لم تعد بي فحسب للوراء مع الذكريات، بل عادت بي إلى البيت!
أدركت حين اتجهت إلى غرفة أخي وأنا أرى المكان قد تداعى وحشة أنه ذهب..قد افتقدت الجدران نازحاً وقد فاضت رقة وشوقاً..ها قد رحل!!
ترك غزة، وذهب...إلى هناك، إلى بلادٍ بعيدة، أراها في عينيه كواكب مترامية في عباب الوحشة تركض تصارع شوقي وحنيني، تصارع محمد!
اعتذر منك..لم أستطع توديعك، فقد غلبت العواطف قلبي وربطته بسلاسل من حديد أحسست وكأنها النار المسجورة!
الآن..الآن، أنا عدم!
الحياة يا أخي، بسمة ودمعة، لقاء وفراق، وكل شيء في هذه الدنيا له ثمن، حتى أنت! الآن ..لك ثمن، أنا لا أعي حقيقة أأنت مهاجر أم نازح أم زائر ثم عائد؟
قلبي لا يحتمل أكثر من هذا، أتذكر حين كنا نتضارب بالمخدات بالرمل بالماء نرش بعضنا بعضاً..
أتذكر حين كنا نجلس نتسامر؟ نضحك، نلعب، نركض ثم نقع أرضاً، ثم نقوم، نركل الكرة، نضرب كرة التنس بكل قوتنا، حتى لا نخسر اللعبة..والواقع، كنا نضربها بكل تحنانٍ..حتى لا يخسر اللعبة الآخر!
الآن، قلمي يخط خطوطاً غريبة، كلمات لا أعرف لها معنىً..أكتب، دون أن أشطب، فكل ما يخرجه قلمي هو ذاك المكنون في صدري، ذاك الذي قد كان مخزوناً في قلبك..ولا أدري الآن...؟
ضعيفة أنا الآن يا أخي، أنا وحدي..معي بقية أخوتي وضعيفة!! وأنت يا مسكين؟ لوحدك..ما من قريب، ما من صديق، ما من أخ يداديك حتى تصل.
أخي،
أنت الآن في بلد مسحورة، بلد العجائب، وكأنها تلك البلاد التي كنت أصورها لك، حين كنت أقص عليك قصة الشاطر حسن، وسندباد، أنت تسير هناك خلف البحر، وفوق الأفق، أنت ذاهب إلى مكان قلّ الراجعون منه، وإن رجعوا، عادوا متبدلي الحال، متقلبي المزاج، ولربما يعودون بأناس جدد معهم لم نعهد أن نعايش مثلهم!
أي والله يا أخي، إن من يصل هناك يتبدل ويتقلب إلا من رحم ربك. أرى الكثير منهم يذهبون أخوة لنا وأحبة، يودعوننا بدموعهم وقلوبهم، يودعون ترابهم قبل الذهاب، يقبلون شجر الزيتون والليمون، يأخذون معهم حفنة من تراب بلدهم حتى لا ينسوه، ثم يعودون..يعودون على غير هدىً، دعاة لحضارة أمة سلبت حضارتنا، سلبت إنسانيتنا!
يا أخي،
أنت في أرض لا يفرق ساكنوها بين الطيب والخبيث، كل ما يحدث هناك طيب، فإياك إياك من الوقوع في فخهم..فعليك بالدين وبالعقل.
لا تقل، لا يوجد مساجد، لا أعرف وقت الصلاة، لا أعرف مسلمين هناك..هذا ليس بعذر.
داوم على الذهاب إلى منهل راحه معلول، استمع للمحاضرات، دوّن واكتب، عبر وانقد، وفكر..فكر في كل صغيرة وكبيرة تنطق أمامك..واحترس أن تقع في فخ حلاوة كلمهم، عش يا أخي في فضاء لا نهاية لحدوده مع العلم، ودعك ممن يلهون عبثاً يرتعون في أرضهم كالأنعام.
شغل عقلك وجرد حسامه ولا تتهاون أمام كتب المستشرقين منهم، وتخير لعقلك ما تجده أقوم لدينك وأنصح لأمتك وأقرب لفهمك، اقرأ لهم وقلبك معلق بالإيمان، اقرأ لهم وعقلك في رأسك، لا تأخذ كل ما يقولونه من: ديمقراطية، تقدمية، سلام، حرية.. لا تأخذه أمرا مقرر عليك فعله، ستجد يا أخي، حلاوة فيما يقولون، ولكن..احذر، ريحهم طيب والباطن أخبث، بل كن طيب الريح حسن الفكر والباطن..خذ الصحيح من قولهم، والحسن من فعلهم، ودع ما لذ وطاب أمام عينيك..فهو النار، إنه النار يا أخي!
وإياك أن تكون كمن رأى في الإناء ظل الماء يلهث يريد إدراكه، ثم ما أن يصله..حتى يجده سما زعافا!
أو كالذي الذي أكل الكوز، فإذا به مصيب من أوله الطعم الحلو واللذة، حتى إذا ما وصل إلى قعره..أصابته الحمى واصفرّت مرارته، وجاء يتأسى...
يا أخي، سترى هناك جسوراً، منازلاً، عمارات، مبانٍ شاهقاتٍ..فلا يهولنك ما ستراه يا أخي، وإياك إياك أن تحقر بلدك وأهلك حين ترى مثل تلك المظاهر، ولا تنسى أننا نحن أهل الحضارة، نحن من بناها، لا يا أخي، أنا لا أفخر بعظام الأوائل المدفونة تحت التراب، بل أفخر بديني الذي هداهم إلى تلك الطريق، والذي أبداً لن ينزوي.
وتذكر دائماً: قلبك مسلم، يضخ دماً عربياً، يسرى في عروق جسدك فيصل عقلك النيّر..
لا تقل أنا وحدي في هذا العالم الضخم وبين هذه الأمم العالية، لا تقل أنا ضعيف، بل انظر إلى بلاد الأندلس، بدأت سيطرتهم عليها ببضع رجال دين..ثم هاهم قد حاصروها وامتلكوها.
قد صدق من قال:
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ....من سرّه زمن ساءته أزمانُ!
فالحياة تارة مجدها لك وأخرى عليك، وأنت من يتحكم بها وبمدة كونها لك، ولا تقل الشرق الفارغ!
بل إن فيه من المال ما فاض وزاد، وإن فيه عقولا وسواعد ومقدرات لا تحصى، ولكن..ينقص الشرق العزيمة والإيمان والعلم، فهيا يا أخي..ننتظرك أنت ومن ذهب معك، ننتظر عودتكم وأنتم تحملون العلم إلينا، والعزيمة في أياديكم وإيمانكم لا يزال قائماً في أذهانكم..إنها مهمتكم، فلا تتوانوا...
يا أخي، ادرس أحوال القوم هناك، ادرس عاداتهم، وانظر إلى أفعالهم، وإلى ما صنعت أياديهم، ولكن..وعقلك في رأسك..
خذ عنهم المزايا واترك الغث لمن قلبه سوداوي، واحمد الله واعبده وقم الليل وادعوه أن يثبتك.
وفي الوقت الذي تشعر فيه أن قلبك قد ضعف، وعقلك قد شرد،وعينيك قد زاغت...احزم أمتعتك وجهز حقائبك..أو اتركها إن كانت ستأخذ منك وقتاً..وعد إلى هنا، عد سالماً بعقلك ودينك، واترك البلاد لمن سواها..ولا تتردد!
وأخيراً،
أوصيك بالصلاة، أوصيك بصلاة الفجر وقراءة القرآن، وأستودعك أمانة عند الله الذي استودع عندك أمانة الدين والعقل والنفس، فاحفظ أمانة الله، يحفظك الله.
وسلام من الملك القدوس ورحمة وطيب ختام.
أختك المشتاقة
واعذروا تقصيرتي يا أحبتي...
ومودتي
دقت ساعة الصفر وخرج أخي، خرج يودع أحضان أمه ونظرات زوجه، يودع ضحكات طفله تلك التي مزجت كثيراً بالبكاء، فإذا هو رجل..لا يقدر على الفراق، يحاكي الماضي، يتأمل السقف، الجدران، حتى البلاط!
خرج أخي، وقلوبنا تتبعه، رعشات أطرافنا نحوه تهفو، محمد يخرج الآن من البيت الذي عاش فيه صباه وشبابه، ودّع فيه أحزانه وذكرياته المليئة بالفرح، ودّع أيامه التي اختلطت فيها ضحكات الانبساط بدموع البكاء..
صوت تكتكة عقارب الساعة تأزف بموعد حان..حان الآن يا محمد وقت الرحيل!
حشود في قاعة الانتظار تريد توديع أخي، الكل يسلم عليه وهذا يقبله، الثاني يوصيه والثالث يمازحه،وأنا.. مكاني رابضة!!
أرى أمامي مرجا ممروجا بذكريات الماضي ويتلألأ، أسود هو حالك..أنزلت رأسي؛ وإذ بي أرى تحت قدمي أختي الصغرى، أيقنت أن تلك الصور لم تعد بي فحسب للوراء مع الذكريات، بل عادت بي إلى البيت!
أدركت حين اتجهت إلى غرفة أخي وأنا أرى المكان قد تداعى وحشة أنه ذهب..قد افتقدت الجدران نازحاً وقد فاضت رقة وشوقاً..ها قد رحل!!
ترك غزة، وذهب...إلى هناك، إلى بلادٍ بعيدة، أراها في عينيه كواكب مترامية في عباب الوحشة تركض تصارع شوقي وحنيني، تصارع محمد!
اعتذر منك..لم أستطع توديعك، فقد غلبت العواطف قلبي وربطته بسلاسل من حديد أحسست وكأنها النار المسجورة!
الآن..الآن، أنا عدم!
الحياة يا أخي، بسمة ودمعة، لقاء وفراق، وكل شيء في هذه الدنيا له ثمن، حتى أنت! الآن ..لك ثمن، أنا لا أعي حقيقة أأنت مهاجر أم نازح أم زائر ثم عائد؟
قلبي لا يحتمل أكثر من هذا، أتذكر حين كنا نتضارب بالمخدات بالرمل بالماء نرش بعضنا بعضاً..
أتذكر حين كنا نجلس نتسامر؟ نضحك، نلعب، نركض ثم نقع أرضاً، ثم نقوم، نركل الكرة، نضرب كرة التنس بكل قوتنا، حتى لا نخسر اللعبة..والواقع، كنا نضربها بكل تحنانٍ..حتى لا يخسر اللعبة الآخر!
الآن، قلمي يخط خطوطاً غريبة، كلمات لا أعرف لها معنىً..أكتب، دون أن أشطب، فكل ما يخرجه قلمي هو ذاك المكنون في صدري، ذاك الذي قد كان مخزوناً في قلبك..ولا أدري الآن...؟
ضعيفة أنا الآن يا أخي، أنا وحدي..معي بقية أخوتي وضعيفة!! وأنت يا مسكين؟ لوحدك..ما من قريب، ما من صديق، ما من أخ يداديك حتى تصل.
أخي،
أنت الآن في بلد مسحورة، بلد العجائب، وكأنها تلك البلاد التي كنت أصورها لك، حين كنت أقص عليك قصة الشاطر حسن، وسندباد، أنت تسير هناك خلف البحر، وفوق الأفق، أنت ذاهب إلى مكان قلّ الراجعون منه، وإن رجعوا، عادوا متبدلي الحال، متقلبي المزاج، ولربما يعودون بأناس جدد معهم لم نعهد أن نعايش مثلهم!
أي والله يا أخي، إن من يصل هناك يتبدل ويتقلب إلا من رحم ربك. أرى الكثير منهم يذهبون أخوة لنا وأحبة، يودعوننا بدموعهم وقلوبهم، يودعون ترابهم قبل الذهاب، يقبلون شجر الزيتون والليمون، يأخذون معهم حفنة من تراب بلدهم حتى لا ينسوه، ثم يعودون..يعودون على غير هدىً، دعاة لحضارة أمة سلبت حضارتنا، سلبت إنسانيتنا!
يا أخي،
أنت في أرض لا يفرق ساكنوها بين الطيب والخبيث، كل ما يحدث هناك طيب، فإياك إياك من الوقوع في فخهم..فعليك بالدين وبالعقل.
لا تقل، لا يوجد مساجد، لا أعرف وقت الصلاة، لا أعرف مسلمين هناك..هذا ليس بعذر.
داوم على الذهاب إلى منهل راحه معلول، استمع للمحاضرات، دوّن واكتب، عبر وانقد، وفكر..فكر في كل صغيرة وكبيرة تنطق أمامك..واحترس أن تقع في فخ حلاوة كلمهم، عش يا أخي في فضاء لا نهاية لحدوده مع العلم، ودعك ممن يلهون عبثاً يرتعون في أرضهم كالأنعام.
شغل عقلك وجرد حسامه ولا تتهاون أمام كتب المستشرقين منهم، وتخير لعقلك ما تجده أقوم لدينك وأنصح لأمتك وأقرب لفهمك، اقرأ لهم وقلبك معلق بالإيمان، اقرأ لهم وعقلك في رأسك، لا تأخذ كل ما يقولونه من: ديمقراطية، تقدمية، سلام، حرية.. لا تأخذه أمرا مقرر عليك فعله، ستجد يا أخي، حلاوة فيما يقولون، ولكن..احذر، ريحهم طيب والباطن أخبث، بل كن طيب الريح حسن الفكر والباطن..خذ الصحيح من قولهم، والحسن من فعلهم، ودع ما لذ وطاب أمام عينيك..فهو النار، إنه النار يا أخي!
وإياك أن تكون كمن رأى في الإناء ظل الماء يلهث يريد إدراكه، ثم ما أن يصله..حتى يجده سما زعافا!
أو كالذي الذي أكل الكوز، فإذا به مصيب من أوله الطعم الحلو واللذة، حتى إذا ما وصل إلى قعره..أصابته الحمى واصفرّت مرارته، وجاء يتأسى...
يا أخي، سترى هناك جسوراً، منازلاً، عمارات، مبانٍ شاهقاتٍ..فلا يهولنك ما ستراه يا أخي، وإياك إياك أن تحقر بلدك وأهلك حين ترى مثل تلك المظاهر، ولا تنسى أننا نحن أهل الحضارة، نحن من بناها، لا يا أخي، أنا لا أفخر بعظام الأوائل المدفونة تحت التراب، بل أفخر بديني الذي هداهم إلى تلك الطريق، والذي أبداً لن ينزوي.
وتذكر دائماً: قلبك مسلم، يضخ دماً عربياً، يسرى في عروق جسدك فيصل عقلك النيّر..
لا تقل أنا وحدي في هذا العالم الضخم وبين هذه الأمم العالية، لا تقل أنا ضعيف، بل انظر إلى بلاد الأندلس، بدأت سيطرتهم عليها ببضع رجال دين..ثم هاهم قد حاصروها وامتلكوها.
قد صدق من قال:
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ....من سرّه زمن ساءته أزمانُ!
فالحياة تارة مجدها لك وأخرى عليك، وأنت من يتحكم بها وبمدة كونها لك، ولا تقل الشرق الفارغ!
بل إن فيه من المال ما فاض وزاد، وإن فيه عقولا وسواعد ومقدرات لا تحصى، ولكن..ينقص الشرق العزيمة والإيمان والعلم، فهيا يا أخي..ننتظرك أنت ومن ذهب معك، ننتظر عودتكم وأنتم تحملون العلم إلينا، والعزيمة في أياديكم وإيمانكم لا يزال قائماً في أذهانكم..إنها مهمتكم، فلا تتوانوا...
يا أخي، ادرس أحوال القوم هناك، ادرس عاداتهم، وانظر إلى أفعالهم، وإلى ما صنعت أياديهم، ولكن..وعقلك في رأسك..
خذ عنهم المزايا واترك الغث لمن قلبه سوداوي، واحمد الله واعبده وقم الليل وادعوه أن يثبتك.
وفي الوقت الذي تشعر فيه أن قلبك قد ضعف، وعقلك قد شرد،وعينيك قد زاغت...احزم أمتعتك وجهز حقائبك..أو اتركها إن كانت ستأخذ منك وقتاً..وعد إلى هنا، عد سالماً بعقلك ودينك، واترك البلاد لمن سواها..ولا تتردد!
وأخيراً،
أوصيك بالصلاة، أوصيك بصلاة الفجر وقراءة القرآن، وأستودعك أمانة عند الله الذي استودع عندك أمانة الدين والعقل والنفس، فاحفظ أمانة الله، يحفظك الله.
وسلام من الملك القدوس ورحمة وطيب ختام.
أختك المشتاقة
واعذروا تقصيرتي يا أحبتي...
ومودتي