الأدب الإسلامي والإلتزام (1)
----------------------------------------
----------------------------------------
الإلتزام ليس بدعاً في كثير من الآداب العالمية قديمها وحديثها حتى أولئك الذين يؤمنون (بنظرية الفن للفن ) يعملون في نطاق التزام من نوع معين يرتبط بوجهة نظرهم في الفن ، وكل مذهب من مذاهب الفن أو الأدب يتحرك في إطار معين ، ويلتزم شكلاً وموضوعاً بقيم خاصة يحرص عليها أشد الحرص ويدافع عنها في استماتة ، فالذين يزعمون أنهم يرفضون الالتزام لأنه قيد على حرية الأديب ، ومنافٍ للقيم الفنية والجمالية يلتزمون ( سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا واعترفوا به أم لم يعترفوا ) بقواعد ومبادىء ..
الالتزام إذن منهج وأسلوب عمل وفق تصور معين ويمكن القول : بأنه تقيد بمضمون أو بشكل ، وهو أمر قديم قدم الفنون والآداب ، لكنه لم يك قيداً على النمو والتطور سواء في مجال الإبداع والفكر ، وهكذا يجب أن نفهمه ، إن الكاتب ( أي كاتب ) في أية لغة من اللغات يلتزم بقواعد النحو والصرف مثلاً ، ويعرف أن للنثر طريقته ، وللشعر أسلوبه ، والخلط بين الإثنين قد ينجب مولوداً ثالثاً يجمع بين صفات الشعر والنثر ، وقد تغلب على ذلك المولود صفة أحدهما أكثر من الآخر ، دون أن يلغي ( أي الوليد ) واحداً من الإثنين ، وللشعر ( في القواعد المعترف بها ) إيقاع وموسيقى برغم الدعوات المشبوهة التي تريد أن تسقط الفارق بين ما هو شعر أو نثر في هذه الصفة الهامة ، وللألفاظ دلالالتها التي لا تموت مع الزمن ، فدلالة الشجرة أو النهر أو السماء تظل كامنة في اللفظ يعبر عن ذلك ، على الرغم من ألوان المجاز والكناية ، فالبحر قد يرمز إلى السعة والكرم ، وقد يرمز إلى العنف والثورة ، وقد يكون محط الغموض والخوف ، أو قد تشرق على شاطئه ثغور الأمل ، أو تتهادى على صفحة عرائسه السفن ، وهكذا يبقى اللفظ بدلالالته الأولى ، مع ما قد يرمز إليه من عديد المعاني والصور ، وقديمها أو جديدها ، إنه نوع من الالتزام نحو اللغة بقواعدها ودلالاتها الأصلية ، وينفتح باب الالتزام على مصراعيه أمام الدلالات المجازية ، التي تشكل جانباً هاماً من جوانب الإبداع الفني ..
وهناك ما يمكن أن نسميه الالتزام الداخلي أو الذاتي وهو الوجه الآخر للصدق ، فالتعبير عن النفس وما يعتمل فيها ، والفكر وما يتفاعل فيه ، والخيال وما يضطرم به ، والروح وما ينبث عنها كلها أمور خاصة قد تميز أديباً عن آخر وتجعل من الإبداعات ( شكلاً ومضموناً ) تجارب لها صفة الخصوصية على الرغم من أنها تبدو في إطار النسق العام لهذا اللون الأدبي أو ذاك ، فقد يتناول أديبان حادثة بعينها ( تاريخية أو معاصرة ) لكن يكون لكل منهما رؤيته الذاتية بعينها ، دون أن يتناول ذلك بعض الأساسيات في فن القصة أو المسرحية أو القصيدة ، فلسوف يظل هناك الحبكة أو الصورة الفنية المتميزة ، وسيظل جو المتعة والتأثير برغم تفاوت القدرات والأساليب ، فهل يستطيع منصف أن ينكر ذلك الالتزام الداخلي أو الذاتي ؟؟..
لكن يدور الجدل عادة حول ما يمكن تسميته ( بالالتزام الخارجي ) إن صح التعبير ، ففي كل مجتمع قيود أو نظم تم وضعها لتستقيم الحياة ، وتتسق العلاقات ، وهي أمور قانونية أو إقتصادية أو أخلاقية ، وكثيراً ما يثور حولها الجدل ، فقد يرى بعضهم فيها ، غمطاً لحقوق الإنسان ، أو كبتاً للحريات ، أو جموداً في مجال التطور ، وهي على النقيض مما يتصوره واضعوها ، والفنان يقف إزاء تلك النظم موقف التأييد ، أو موقف الرفض ، وقد نرى فريقاً ثالثاً يتحايل على التملص من هذه النظم بأسلوب أو بآخر ، لكن يظل الالتزام بها هو الموقف السائد أو الغالب ، ويكون ذلك الالتزام أشد كلما تصلبت مواقف السلطة ولجأت إلى العقوبات الصارمة واستغلت سلاح المصادرة أو المحاكمة أو التنكيل وهذا أوضح في النظم الدكتاتورية بالذات ، حيث يتحول الأديب ( برغم أنفه ) إلى بوق للسلطة التنفيذية ، وترجمان لفلسفتها وقناعاتها ، وهنا تتضاءل حرية الأديب ، ويصبح الالتزام ضرباً من الإلزام ، ولعل هذا هو السبب الذي حدا ببعض النقاد إلى القول بأن الالتزام ينبع من الداخل والإلزام يأتي من الخارج ولكن الأمر يبدو صحيحاً في عمومه وإن كنا لا نستطيع قبوله على إطلاقه ، ففي المجتمعات الدكتاتورية قد نرى أدباء مؤمنين بهذا الأسلوب في الحياة عن عقيدة ويقين ، ويعبرون عن قناعتهم تلك بفن يبدو جذاباً مؤثراً ، كما نرى في إطار المذاهب المتمردة كالوجودية واللا معقول أدباء ملتزمين بتصوراتهم الفلسفية عن الإنسان والكون والحياة ، ويعبرون بذلك عن رضى وقناعة ، ويقدمون نماذج أدبية ذات جمال أو جاذبية من نوع خاص ، ويحفل شكلها ببريق أخّاذ يخدع جماهير عريضة من القراء ، وخاصة في أوروبا وأمريكا ، إن هؤلاء ملتزمون ولا يشعرون بأي قيد من قيود الإلزام ، أليس هذا حادثاً ؟؟ قد نرفض ذلك ونعتبره ( إلتزاماً ) منحرفاً أو مريضاً ينبو عن المقاييس الإنسانية الرفيعة ويتعارض مع القيم الدينية السامية ، لكن الإلتزام عند مثل هؤلاء الناس قد يلقى منهم الرفض وينفرون منه أشد النفور ، ولا يقرون إلا بالحرية وحدها ولا يلتزمون بسواها ..
-------------------------------------------
المصدر : كتاب ( مدخل إلى الأدب الإسلامي )