البطل في الأدب الإسلامي (1)
---------------------------------------
---------------------------------------
البطل في العمل الأدبي ( قصة أو مسرحية أو ملحمة ) هو تجسيد لمعانٍ معينة ، أو رمز لدور ما من أدوار الحياة وخاصة الهامة منها ، وقد يكون هذا البطل أنموذجاً يحتذى ، أو مثالاً سيئاً يولد النفور والاشمئزاز ، وهو في كلا الحالين ذو تأثير إيجابي قبولاً أو رفضاً ، وكلما كانت الشخصية ( البطل ) قريبة من الواقع ، حافلة بعناصر الإقناع ، مكتملة الملامح والسمات ، أصبحت أكثر جاذبية وأعمق تأثيراً ..
ولشخصية البطل مواصفات بدنية ونفسية وعقلية ، كما أنه يرتبط بسلوكيات في الأفعال والأقوال والقيم تجعله أكثر تحديداً وظهوراً ، ولا ينفي ذلك التصور أن تخضع هذه الشخصية لمؤثرات وعوامل ومواقف تغير من تصرفاتها وعواطفها وأفكارها وأحلامها ، وتطورها من حال إلى حال وقد تصاب هذه الشخصية ( لأسباب فنية أو موضوعية ) بالتجمد أو التحجر ..وترتبط شخصية البطل ( وخاصة في المسرحية ) بمظاهر خارجية لها دلالاتها كالملبس والحركة والصوت ورد الفعل وغير ذلك من الأمور الواضحة التي تبدو للعيان ، وهذه كلها ( في كثير من المواقف ) جزء لا يتجزأ من تلك الشخصية ..
وتختلف سمات الأبطال في الآداب العالمية قديماً وحديثاً من عصر إلى عصر ، ومن مكان إلى آخر ، لأن الظروف التاريخية والجغرافية أو البيئة ، تساهم في بلورة الشخصية وتعطيها أبعاداً داخلية وخارجية متميزة ، كما تتغير المهمة المنوطة بالبطل وفق الكثير من التصورات العقائدية والنظرة إلى طبيعة الحياة وما يجري فيها من أحداث ، وما يناط بالمرء فيها من عمل ، وطرائق كسب العيش ، والإنهماك في قضايا عديدة تتعلق بالحرب أو السياسية أو الاقتصاد أو العمل اليومي وغير ذلك ..
وكانت التراجيديات الإغريقية تختار بطلها من الملوك والأمراء والقادة الكبار ، بينما الواقعيات الحديثة تهتم بالإنسان العادي البطل ، الذي يصارع من أجل حياة أفضل ، وكان المثال ( البطل ) الإغريقي يصارع قوى الشر ، وفق قناعات وثنية مادية ، بينما المثال في الواقعية الإشتراكية مثلاً ينازل التمايز الطبقي ، والإستغلال الرأسمالي ، في جو من الأحقاد والحزازات وسوء الظن ، طبقاً لفلسفة معينة تستند إلى ما يسمى بحتمية الصراع الطبقي ، وانتصار طبقة بعينها هي طبقة البروليتاريا ..
ويتميز البطل ( الوجودي ) بحساسية مفرطة ووعي عقلي فلسفي يبدو جليا في تصرفاته وأحكامه وسلوكه ، كما يبدو في رفضه الكامل لكل المسلمات القديمة ( صحيحها وباطلها ) وينفر من القيم الدينية والأخلاقية ، ويظن أن هذه إنما جاءت لتكبل إرادة الإنسان ، وتهدم حريته التي تعتبر أهم قيمة في وجوده ، ولذلك جاء البطل متمرداً رافضاً ساخطاً على كل شيء في الحياة القائمة ..
وفي هذا الجو أيضاً ولد البطل ( العبثي ) الذي لم يجد في الحقيقة قيمة يتشبث بها حسبما صور له وهمه ، فلا هو نعم بالإيمان الموروث ، ولا هو ابتدع بناءً خلقياً جديداً ، بل لم يجد أي جدوى من هذا أو ذاك ، فانطلق دون وعي أو منهج ، واعتبر اللا فلسفة ، وكيف لا يفعل ذلك وهو يرى أن العشوائية والفوضى تسود كل ما في الوجود ، وأن الموت قادم لا محالة ، وأنه ليس وراء الموت شيء ، هذا الخلاص المزعوم جعله يتخبط ويمارس حياته في طيش وجنون ، بعد أن عطَّل وظيفة الضمير وأغلق قلبه وعقله عن فهم الحياة على وجه صحيح ..
وكفر البطل ( الرومانسي ) بالعقل ، وتشبث بحرقة العواطف وتهويماتها ، وأخذ يتغنى بحرمانه وعذابه وأساه ، واستعذب ذلك التوهم ، وغرق في بحوره العاصفة ، دون أن يحاول الخروج من هذا الكابوس الرهيب ..
وكان البطل في إطار ( المادية والفرويدية والطبيعية ) وليداً للتقدم المادي الخارق في مجالات العلم والصناعة والتقنية ، فهذا البطل لا يؤمن إلا بما يراه ويحسه ويسمعه أو يتذوقه ، وليس وراء عالم الحواس شيء آخر ، ولم يعد للجانب الروحي أو الميتافيزيقي في الإنسان قيمة يعترف بها علمياً ، مادام خارج التصور المادي للحياة ، ولا يمكن قياسه بالمقاييس ، أو إثباته في أروقة معامل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وغيرها ..
كانت الفلسفة والأدب في القرون ( الثلاثة أو الأربعة ) الأخيرة يسيران جنباً إلى جنب ، واحتدمت حرارة الحوار ، وبالتالي حرارة الصراع بين المدارس المختلفة الفكر والفن ، بل في إطار المدرسة الواحدة كانت تخرج تيارات فرعية ، تثير من الجدل والصراع في داخل المدرسة الواحدة ، أكثر مما تثير مع المدارس الأخرى المخالفة ويكفي أن نشير إلى التيارات والمدارس الفرعية التي تولدت عن الواقعية أو الرمزية أو الرومانسية مؤكدة في هذا البحر الهائج من الفلسفات والاتجاهات والتفسيرات ، بل إن الدارس أيضا يقف مذهولاً وهو يقرأ تاريخ تلك المدارس ، وكيف سطعت وترعرعت ، ثم كيف أخذت تتمزق وتذبل ، ثم كيف يحكم عليها بالخطأ ، بل بالفناء ، وقد يكون الأمر مقبولاً بالنسبة لاتجاهات فنية تتوهج ثم يهال عليها تراب النسيان ، أما الفلسفات ( وهي عادة تقوم على أسس أدق وأعمق ) فإن الأمر يعتبر غريباً ، وخاصةً أن بناتها عرفوا بالتفكير المنهجي ، والدقة في البحث ، والتأني في الوصول إلى النتائج ..
ولم يخل الأمر من وجود تيارات دينية فنية وفكرية في أوربا إبان ذلك الصراع المحتدم ، حيث ظهرت فئة من رجال الدين المسيحي تبنوا قيماً دينية وأخلاقية ، وصاغوها في إطار فلسفي ، ونجح منهم فنانون وأدباء في تقديم نماذج قادرة على التصدي والذيوع ، لكن الزحف المادي الجديد كان أقوى من أن يتراجع أمام الأدب المسيحي المدافع ..
في هذا الجو المشحون بالجنون الفكري والفن ، أصبح لشخصية ( البطل ) في الآداب الأوروبية الجديدة سمات وملامح تعبر بقوة عن هذه التيارات الصاخبة ، التي كانت ومازالت غير قادرة على الرسوخ والصمود ، وبدا البطل بصفة عامة ( كإنسان العصر ) غريباً ..
هذه الغربة المحزنة وصمت البطل ، وجعلته ساخطاً رافضاً متمرداً ، لا يعرف الطمأنينة والإستقرار ولا ينعم بالسعادة أو الحب الحقيقي ، إنه يعاني القلق والإكتئاب والوحدة والعجز ، المعبرة عن خوائه الروحي ، وإمكاناته المحدودة وخضوعه لسيطرة الآلة ، ودورانه في ساقية المطالب المعيشية الآنية ، قد أفرغت كيانه من مقومات القوة القادرة على صنع التغيير ، وإن فقره العقائدي قد جرده من أهم أسلحة معركة الحياة .. ذلك هو البطل ( المعاصر ) في الآداب الأوروبية ، بل وفي آداب الشرق التي تقلد وتعيش عالة على التراث العلمي والتكنولوجي والفكري للغرب ..
ـ بطل يائس يتغنى بيأسه ويقدم التراتيل والصلوات المرذولة ، بطل متمرد رافض قد تنكر لكل شيء ، فمات بين جوانحه الأمل ، بطل منطوٍ منعزل ، تقطعت روابطه بدفء الأخوة والصداقة ، فأصبح في التيه وحده ..
ـ بطل هارب إلى الحانات والمراقص والموسيقى المجنونة ، يغرق تعاسة في الخمر والمخدرات والشذوذ ، يمضي مختاراً إلى حيث الفناء ..
ـ بطل غارق حتى أذنيه في الوهم ، يخدعه الساسة ، وتخدره الفنون ، ويصنعه الإعلام ، دمية تتحرك حسب الأوهام والأهواء .. بطل بلا فضيلة ..
ولو كان هذا الإنسان مدركاً حقاً لمأساته راغباً في التخلص منها لهان الأمر ، لكن تراكم الترهات والخداع ، واستغلال ( العلم ) فيما يُقدم من تحليلات وتفسيرات ، قد زاد الطين بلة ، وأكد أن الكارثة باقية ، فالبطل لا يعرف أنه مريض ويحتاج إلى علاج ، وهكذا تمضي الفنون بالإنسان التعس من متاهة إلى أخرى ..
-------------------------------------------
المصدر : كتاب ( مدخل إلى الأدب الإسلامي )
المصدر : كتاب ( مدخل إلى الأدب الإسلامي )