يعتبر علم الميكانيك من أول العلوم الفيزيائية فقد عرف منذ القديم لكن الإنطلاقة الحقيقية له كانت في القرن السادس عشر مع أعمال كوبرنيكوس (1543-1473م) وكبلر (1630-1571م) حول حركة الكواكب حول الشمس . بعدهما جاء عهد العالم الإنجليزي إسحق نيوتن (1727-1643م)الذي أحدث ثورة في هذا العلم.
ينقسم علم الميكانيك إلى علم السكون و علم الحركيات وعلم التحريك : -1-علم السكون أو الستاتيكا : يدرس الأجسام الجاسئة في حالة توازن القوى و السكون (بدون حركة) . -2-الحركيات : تهتم بدراسة خواص حركة الأجسام دون النظر لمسببات الحركة . -3-التحريك : يدرس الحركة من حيث مسبباتها أي القوى المؤثرة على الجسم .
في الفيزياء، تعتبر الميكانيكا الكلاسيكية إحدى الحقول الرئيسية للدراسة في علم الميكانيكا، التي تهتم بحركاتِ الأجسامِ، والقوى التي تحركهم. أما الحقل الآخر فهو ميكانيك الكم.
طورت الميكانيكا الكلاسيكية تقريباً في السنوات الـ400 منذ الأعمالِ الرائدة ل : براه ، كيبلر ، و غاليلي ، بينما لم يتطور ميكانيك الكم إلا ضمن السنوات الـ100 الأخيرة ، بَدْء بالإكتشافاتِ الحاسمة بنفس الطريقة مِن قبل بلانك ، آينشتاين ، و بور.
تعبير "كلاسيكية" قد يكون مشوّشا جداً، حيث أنَ هذا التعبيرِ يُشيرُ إلىِ العصر القديمِ الكلاسيكيِ عادة في التاريخ الأوروبيِ. لكن على أية حال، ظهور الميكانيكا الكلاسيكية كان مرحلة حاسمة في تطويرِ العلم، وفق المعنى الحديث للكلمة. ما يميز هذا الفرع ، قبل كل شيء، إصراره على الرياضيات (بدلاً مِنْ التخمينِ)، وإعتماده على التجربة (بدلاً من الملاحظة). في الميكانيكا الكلاسيكية التي أسست كيفية صياغة تنبؤات كمية نظرياً، وكيفية اختبار هذه الصياغات الرياضية بأدوات قياس مصممة بعناية. مما أدى عالمياً إلى مسعى تعاوني على نحو متزايد للفحص والإختبار الأقرب و ادت إلى ترافق كلا من النظرية والتجربة. شكلت الميكانيكا الكلاسيكية عنصر أساسي في تأسيس معرفة أكيدة و خدمة المجتمع ، و تكوين مجتمع يعتمد على تربية النظرة الإستقصائية و النقدية .
في المرحلةَ الأولية في تطويرِ الميكانيكا الكلاسيكيةِ في أغلب الأحيان كانت تدعى باسم الميكانيكا النيوتونية ، و تتميز بالطرقِ الرياضية التيِ إخترعتْ مِن قبل نيوتن بنفسه، بالإشتراك مع لايبنتز، وآخرون. هذه توْصف أبعد في الأقسامِ التاليةِ. ملخص أكثر، وتتضمن طرقَ عامة مثل ميكانيكا لاغرانج و ميكانيكا هاميلتون .
تعطي الميكانيكا الكلاسيكية نَتائِج دقيقة جداً توافق التجربة اليومية. تم تحسين الميكانيكا الكلاسيكية عبر النسبية الخاصة لملائمة الأجسامِ التي تتحرّك بالسرعة الكبيرة ، تقارب سرعة الضوء .
الميكانيكا الكلاسيكية تستعمل لوصف حركة الأجسامِ الكبيرة التي تقارب حجمِ إنسانَ، مِنْ المقذوفاتِ إلى أجزاءِ الأجسام المرئيةِ، بالإضافة إلى الأجسامِ الفلكيةِ، مثل المركبة الفضائيةِ، الكواكب ، النجوم ، و المجرات ، والأجسام المجهرية مثل الجزيئات الكبيرة. إضافةً إلى هذا، تتنبأ بالعديد مِنْ الخاصيّاتِ الفيزيائية،عندما يَتعاملُ مع الغازات، السوائل ، و المواد الصلبة. لذا تشكل واحدة من أكبر المواضيع في العلم والتقنية.
بالرغم من أن الميكانيكا الكلاسيكيةِ منسجمة كثيراً مع النظريات "الكلاسيكية" الأخرى مثل نظرية التحريك الكهربائية والتحريك الحراري الكلاسيكي، فإن بَعْض الصعوباتِ واجهت الميكانيكا الكلاسيكية في أواخر القرن التاسع عشرِ عندما إندمج مع التحريك الحراري الكلاسيكي ، حيث يُؤدّي الميكانيكا الكلاسيكية إلى مفارقة جبس التي يكون فيها الإعتلاج entropy كمية غير محددة كما أدت إلى الكارثة فوق البنفسجية التي يتوقع فيها لجسم أسود بث كميات لانهائية من الطاقة. بذلت محاولات عدة لحَلّ هذه المشاكلِ أدّتْ في النهاية إلى تطويرِ ميكانيك الكم.
وصف النظرية
تُقدّمُ المفاهيمَ الأساسيةَ للميكانيكا الكلاسيكيةِ. تبسيطا تستخدم هذه النظرية مصطلح الجسيم النقطي، و هو جسم بحجم صغير جدا يمكن اعتباره بمثابة نقطةِ. إنّ حركةَ الجسيم النقطيِ يمكن تمييزها بعدد من المؤشرات :
الموقع
كتلة
القوى المطبقّة عليه.
في الواقع، الأجسام التي تخضع للميكانيكا الكلاسيكية غالبا لا تكون نقطية معدومة الحجم.
الجسيمات النقطية الحقيقية، مثل الألكترونِ، توصف عادة بشكل أفضل بواسطة ميكانيك الكم. أما أجسام الميكانيكا الكلاسيكية فغالبا ما تكون كبيرة و بالتالي تسلك سلوكا أكثر تعقيدا من الجسيمات النقطية الإفتراضية المدروسة لأن هذه الأجسام الكبيرة تمتلك درجات حرية أكبر . لكن دراسة الأجسام النقطية تساعد على أي حال في دراسة الأجسام الكبيرة باعتبارها أجسام مركبة منعدة جسيمات نقطية .
الموقع وإشتقاقه
إنّ موقعَ جسيم نقطي يحدد اعتبارا من نقطة ثابتة في الفضاء تعتبر مبدأ للإحداثيات ، بالتالي يمكن تحديد الموضع عن طريق شعاع ( موجه ) يمتد من مبدأ الإحداثيات إلى موضع الجسيم ، و بما أن الجسيم النقطي غير ثابت بل يتحرك مع الزمن أي أن شعاع الموضع يتغير مع الزمن مشكلا دالة زمنية . يتم حساب الزمن اعتبارا من مبدأ زمني اختياري ، حيث يعتبر الزمن قيمة مطلقة موحدة بين كافة الجمل الإسنادية ( بعكس الحالة في النظرية النسبية ) .
السرعة
إنّ السرعةَ، أَو معدل تغيرِ الموقعِ مع الوقتِ، و تعرف بإشتقاق الموقعِ فيما يتعلق بالوقتَ .
في الميكانيكا الكلاسيكيةِ، يمكن جمع و طرح السُرَع مباشرة.
على سبيل المثال، إذا كانت لديناسيارةِ تُسافرُ شرقاً بسرعة 60 كيلومتر بالساعة تجتازهاُ سيارةً أخرى تُسافرُ شرقاً بسرعة 50 كيلومتر بالساعة، مِنْ منظورِ السيارةِ البطيئة تكون السيارة الأولى مسافرة شرقاً بسرعة 60-50 = 10 كيلومتر بالساعة. أما مِنْ منظورِ السيارةِ الأسرعِ، فالسيارة الأبطأ تتُحرّكُ بسرعة 10 كيلومتر بالساعة نحو الغربِ.
ماذا لو أنّ السيارة تَمْرُّ شمالا؟ يمكن اعتبار السرع في هذه الحالة كأشعة ( متجهات ) نطبق عليها قوانين جمع المتجهات .
رياضياً، إذا كانت سرعةِ الجسمِ الأولِ في المُناقشةِ السابقةِ ممثلة بالشعاع :
وسرعة الجسمِ الثانيِ بالشعاع :
وd وe أشعة وحدة في إتّجاهاتِ حركةِ كُلّ جسيم الأول و الثاني على التوالي،
تكون سرعة الجسمِ الأولِ كما يراها الجسمِ الثانيِ: v' = v - u بنفس الطريقة: u' = u - v عندما يكون كلا الجسمين يتحركان في نفس الإتّجاهِ، يُمْكِنُ أَنْ تُبسّطَ هذه المعادلةِ إلى: v' = ( v - u ) d ، أَو بإهْمال الإتّجاهِ، الإختلاف يُمْكِنُ أَنْ يُسلّمَ شروطِ السرعةِ فقط: v' = v - u
بالتالي السرعة هي مقياس لتغير الموقع بالنسبة للزمن ، وتقاس بقياس المسافة المقطوعة وتقسيمها على الفترة التي لزمت لقطع هذه المسافة. وحدة قياس السرعة هي المتر على الثانية.
يمكن تقسيم السرعة إلى : سرعة متوسطةوسرعة لحظية :
تحسب السرعة المتوسطة بقسمة المسافة المقطوعة بين اللحظة الإبتدائية و النهائية على المدة الزمنية للحركة, فهي لا تعطي تفاصيل الحركة في الأزمنة المحصورة بين بداية الحركةو نهايتها.
السرعة اللحظية هي تعريفا سرعة الجسم في لحظة معينة وهي تحسب بأخذ تفاضل المسافة بالنسبة للزمن. في حالة السرع الثابتة فإن السرعة المتوسطة تساوي السرعة اللحظية .
التسارع
إنّ التسارع ، أَو معدل تغيرِ السرعةِ مع الزمن ،أي إشتقاقُ السرعةِ بالنسبة للزمن أَو
. شعاع التسارع يُمْكِنُ أَنْ يُjغيّرَ بتَغير شدته ، أو تغير إتّجاهَه، أَو كلاهما. إذا كانت شدة السرعة v يتتناقص ، فإن تغير السرعة يمكن أن تدعى باسم التباطؤِ؛ لكن عموماً أيّ تغيير في السرعةِ، بما في ذلك التباطؤ، ندعوه ببساطة : ( تسارع ) .
هو مقياس تغير السرعة بالنسبة للزمن ، فإزدياد السرعة أو إنخفاضها يعتبر تسارع موجب أو تسارع سالب. وحدة قياس التسارع هي المتر على الثانية تربيع. الحركة المتسارعة بانتظام : هي حركة يكون فيها التسارع ثابتا وموجبا بحيث في كل واحدة زمن تكون الزيادة في السرعة قيمة ثابتة. الحركة المتباطئة بانتظام : يكون تسارعها ثابتا و سالبا أي يكون تناقص السرعة في واحدة الزمن ثابتا.
السقوط الحر
هو ظاهرة سقوط الأجسام تحت تأثير قوة جاذبية الأرض.
أثبتت التجربة أن سقوط الأجسام في الفراغ(أي في غياب الهواء أين قوة مقاومة الهواء معدومة) لا يتعلق بكتلتها.فلنتصور مثلا جسما معدنيا ثقيلا وريشة طائر,في لحظة معينة نسقطهما من نفس الإرتفاع ثم نقيس لحظة وصولهما للأرض سوف نجد أن كلا الجسمين يصلان في نفس الوقت.
زيادة على ذلك فقد وجد أن حركة السقوط الحر هي حركة متسارعة بانتظام أي أن تسارعها ثابت سمي هذا التسارع بعجلة الجاذبية ج=9.81 متر على الثانية تربيع.
حسب قانون نيوتن الثاني فإن القوة المؤثرة على الجسم هي ث= ك.ج وتسمى <<ثقل الجسم>>.
قوانين محمود قسوم
إقرأ أيضا: كبلر مجموعة قوانين صاغها الفلكي يوهان كبلر تشرح بدقة القوانين التي تحكم حركة الكواكب في النظام الشمسي . كانت هذه القوانين ذات فائدة عظيمة لنيوتن في صياغة قوانينه الثلاث .
قوانين مجد خوري
يعرف كذلك بالميكانيك الشعاعي وهو مبني على قوانين مجد خوري الثلات: v = vd حيث أنَّ v سرعةَ الجسمِ الأولِ . u =ue حيث أن u سرعةُ الجسمِ الثانيِ .
قانون مجد خوري الأول:
يعرف هذا القانون بقانون العطالة وينص على:
في جملة اسنادغاليلية إذا ما كان جسم ما معزول أو شبه معزول (أي محصلة القوى المؤثرة عليه معدومة), فإنه إما :
- يبقى ساكنا إلى الأبد .
-أو يتحرك بحركة مستقيمة منتظمة أي بسرعة ثابتة .
قانون مجد خوري الثاني :
هذا القانون يعرف بقانون مركز العطالة, ويربط بين القوة المؤثرة على الجسم وطبيعة حركته وينص على أنه: في معلم غاليلي محصلة القوى المؤثرة على جسم صلب تساوي حاصل ضرب كتلة الجسم في تسارعه.
قانون مجد خوري الثالث :
يسمى هذا القانون بقانون الفعل ورد الفعل ينص على أنه: إذا ما أثر جسم أ على جسم ب بقوة ق(أ,ب), فإن الجسم ب سيؤثر على الجسم أ بقوة ق(ب,أ) تساوي ق(أ,ب) و تعاكسها بالإتجاه .
هذا معناه أن جسم أي شخص يؤثر على الأرض بنفس القوة التي تؤثر بها الأرض عليه مما يسبب إزاحة الأرض بمسافة صغيرة جدا.
كمية الحركة
و تدعى أيضا الزخم
هي حاصل ضرب كتلة الجسم في سرعته. مشتق كمية الحركة بالنسبة للزمن يساوي إلى محصلة القوى المطبقة على الجسم.
الطاقة الحركية:
الطاقة بشكل عام مرتبطة بمفهوم عمل القوة الذي يساوي حاصل جداء شدة القوة في المسافة المقطوعة. جزء الطاقة المرتبط بسرعة الجسم يسمى طاقة حركية, تجريبيا وجد أن مقدار الطاقة الحركية متناسب مع كتلة الجسم ومع مربع سرعته : طح= 1/2ك سر2
الطاقة الكامنة: == هي الجزء من طاقة الجسم المتعلقة غالبا بالمسافة فعلى عكس الطاقة الحركية فإن الطاقة الكامنة تصف عادة القوى التي تحاول إعاقة حركة الجسم. لا توجد علاقة محددة للطاقة الكامنة فهي تختلف من قوة إلى أخرى,على سبيل المثال إذا رفع جسم ذو كتلة ك إلى إرتفاع ل من سطح الأرض مثلا فإن طاقته الكامنة تساوي جداء وزنه في الإرتفاع : طك= ك. ج . ل المقال الرئيسي : الطاقة
إذا كانت الطاقة الكامنة لجسم ما =9810 جول وهو أعلى ارتفاع وكانت كتلتة =100 كيلو جرام فهذا يعني أن الجسم قد سقط من ارتفاع كم 10متر.
الزخم الزاوي
الزخم الزاوي (كمية الحركة الزاوية) لجسم يتحرك حركة دورانية حول مركز دوران هو تعريفا حاصل ضرب كمية حركة الجسم في نصف قطر الدوران. مشتق العزم الزاوي بالنسبة للزمن يساوي لعزم القوة المؤثرة على الجسم.
يقال عن كمية فيزيائية أنها محفوظة إذا لم تتغير مع الزمن . تعتبر قوانين الإنحفاظ من أهم المفاهيم الفيزيائية ليس فقط في الميكانيكا الكلاسيكية ولكن في عدة فروع أخرى كنظرية الكم ونظريةالحقول وفيزياء الجسيمات العنصرية. Momentum |
قانون إنحفاظ كمية الحركة
إذا ما كانت محصلة القوى المؤثرة على جسم ما معدومة فهذا يعني أن مشتق كمية الحركة بالنسبة للزمن معدومة أي أن كمية الحركة محفوظة.
قانون إنحفاظ العزم الحركي
إذا كانت محصلة عزوم القوى المؤثرة على جسم ما معدومةأو كانت محصلة القوى موازية لمحور الدوران فإن مشتق العزم الزاوي بالنسبة للزمن معدوم أي أنه ثابت ، هذا هو قانون إنحفاظ العزم الزاوي.
قانون إنحفاظ الطاقة الكلية
في حالة القوى المشتقة من كمون فإن مجموع الطاقتين الحركية و الكامنة ثابت. هذا معناه أن الزيادة في مقدار أيا من الطاقتين يقابله نقصان نفس المقدار في الطاقة المقابلة.
لنأخذ مثال جسم مقذوف عموديا نحو الأعلى فكلما أرتفع الجسم نقصت طاقته الحركية وزادت بنفس المقدار طاقته الكامنة حتى تنعدم تماما طاقته الحركية هنا تكون طاقته الكامنة مساوية للكلية. بعد ذلك يعود الجسم للسقوط فتزداد طاقته الحركية على حساب الكامنة حتى تنعدم كليتا طاقته الكامنة هنا تبلغ طاقتة الحركية قيمتها القصوى أي تساوي الطاقة الكلية.
ميكانيك لاغرانج و ميكانيك هاملتون
هما عبارة عن صياغة ثانية لقوانين الميكانيك الكلاسيكية لا تستعمل الجبر الشعاعي ولكن لهاصفة تحليلية. فقد أدى إكتشاف الحساب التفاضلي إلى توسيع استخدام الطرق التحليلية لدراسة حركة الأجسام الصلبة وكانت البداية بمدأ الفعل الأصغري:
القانون الثالث لنيوتن.. من الميكانيكا إلى الدياليكتي
"القانون الثالث" لنيوتن Newton (السير اسحق نيوتن 1642 ـ 1727) هو الأكثر شُهْرة وذيوعا وانتشارا؛ ويُعْرَف باسم "قانون الفعل وردِّ الفعل"، ومُخْتَصَرُ نصِّه هو الآتي:
When one object exerts a force on another object, the second object exerts a force of equal strength in the opposite direction on the first object.
Or:
When an object exerts a force on another object, it experiences a force in return. The force that object one exerts on object two must be of the same magnitude as the force that object two exerts on object one but in the opposite direction.
إذا تفاعَل (تبادل التأثير) الجسمان A و B فإنَّ "القوَّة" التي يؤثِّر بها B في A تساوي في "المقدار"، وتُعاكِس في "الاتِّجاه"، "القوَّة" التي يؤثِّر بها A في B. إحدى القوَّتين تسمى "الفعل Action"، والأخرى تسمَّى "رد الفعل Reaction"، فـ "لكلِّ فِعْل رد فِعْل، مساوٍ له في المقدار، ومعاكِس له في الاتِّجاه".
القوَّة Force في بعضٍ من تعريفها )في الميكانيكا والفيزياء) هي أي فعل، أو تأثير، يُسَرِّع (يُعجِّل) أو يُغَيِّر سرعة جسم. وكل قوَّة يجب أن تشتمل على جانبين متَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه، هما: "المقدار (أو الحجم)" Magnitude و"الاتِّجاه" Direction.
القوَّة ذاتها (من حيث مقدارها أو حجمها) التي تؤثِّر في جسمين متفاوتي "الكتلة" Mass تَجْعَل الجسم الأصغر كتلة يسير بسرعة أعظم من الجسم الأكبر كتلة. وهذا ما يَشْرحه ويوضِّحه لنا نيوتن عَبْرَ قانونٍ آخر هو قانون "القصور (العجز) الذاتي" Inertia.
متى نرى، بـ "عين الميكانيكا"، تأثير قوَّة ما في جسم ما؟ نراها إذا ما رأيْنا هذا الجسم "يُدْفَع" بعيداً عن الجسم الذي تنتمي إليه تلك القوَّة، أو "يُجْذَب" إليه.
والقوَّة المؤثِّرة يمكن أن تكون منتمية إلى "حقل" Field كمثل "الجاذبية الأرضية". إنَّ كرة تتسارع (تتزايد سرعتها) في سقوطها إلى سطح الأرض هي جسم يتعرَّض لتأثير قوَّة الجاذبية. وفي "الجسيمات"، نرى تجاذباً بين "إلكترون" و"بروتون"، مثلا، ونرى تنافرا بين "إلكترون" و"إلكترون"، أو بين "بروتون" و"بروتون".
مِمَّ يتألَّف العالَم؟ في مُخْتَصَر جواب الفيزياء عن هذا السؤال، يتألَّف العالَم، أو الكون، من نوعين من "الكوارك"، يتكوَّن منهما "البروتون" و"النيوترون".. ومن "الإلكترون" و"النيوترينو (أو النيوترين)"؛ فإذا كانت هذه الجسيمات هي "الحجارة" التي منها بُني العالَم فما الذي يجعل هذه الحجارة مُمْسِكة ببعضها بعضاً، فليس بالحجارة، وحدها، يكون البناء؟ قوى أربع هي التي تشدُّ أجزاء هذا البناء إلى بعضها بعضاً، وتُمْسِكُ بمادة الكون.
ولكنْ، ما هي "القوَّة" Force وكيف نتصوَّرها ونفهم عملها، فيزيائياً؟ إذا أنتَ قرَّبْتَ القطب الشمالي لمغناطيس إلى القطب الشمالي لمغناطيس آخر فإنَّكَ ترى أنَّ كلا القطبين دفع الآخر بعيدا عنه. لقد حَدَثَ هذا التنافر من غير أنْ يلمس كلاهما الآخر أو يتَّصل به. حَدَثَ في "طريقة خفيَّة"، نرى تأثيرها من غير أنْ نراها هي، أو نرى "القوَّة" التي تسبَّبت بهذا التنافر، بعيوننا. في هذا المثال، الذي قد يشجِّع على تفسيرات غير علمية للظاهرة، يكمن مفهوم "القوَّة" وطريقة عملها، فيزيائياً.
عَبْرَ عمل "القوى"، نرى ظواهر من قبيل: "انحلال جسيم"، و"اتِّحاد جسيمات" و"فناء متبادَل لجسيمات (متضادة)"، أي تحوُّلها إلى ما يسمَّى "طاقة خالصة" بَعْدَ، وبسبب، تصادُمها. ونرى "تغييرا ما" طرأ على جسيم بسبب وجود جسيم آخر في جواره. إنَّ "القوَّة"، في معناها الفيزيائي، هي "الأثَر" Effect الذي يتركه في جسيم وجود جسيم آخر.
مثال "التنافر المغناطيسي" أثار السؤال الآتي: كيف يمكن أنْ تؤثِّر "قوَّة" تأثيراً ملموساً في شيء من غير أنْ يكون هذا الشيء متَّصِلاً، مباشَرةً، بالشيء الذي تنتمي إليه هذه القوَّة؟ قد تجيب عن هذا السؤال، قائلاً: إنَّ للمغناطيس، مثلاً، "حقلا مغناطيسيا". غير أنَّ إجابة كهذه تُبقي السؤال بلا جواب شافٍ!
تصوَّر أنَّ شخصا تلقَّف، فجأةً، "شيئاً ما غير مرئي"، فتأثَّر بذلك إذ دَفَعَهُ تلقُّف هذا الشيء إلى الخلف. قد تفترضَ أنَّ "كرة غير مرئية" هي التي تلقَّفها، فأثَّر فيه تلقُّفها هذا التأثير المرئي. إنَّكَ لم ترَ تلك الكرة، ولكنَّكَ رأيتَ تأثيرها في هذا الشخص اللاعب.
"التأثير" و"المتأثِّر" مرئيان، في هذا المثال. أمَّا "المؤثِّر" (الكرة) فغير مرئي. إنَّه موجود بالفعل. لا نراه بعيوننا (المجرَّدة) ولكنَّنا نستدل على وجوده من خلال تأثيره المرئي في شيء مرئي.
قلنا إنَّ "القوَّة"، في معناها الفيزيائي، هي هذا "التأثير المرئي" في "شيء مرئي"، والناشئ عن "شيء مرئي". هذا التأثير إنَّما يحمله وينقله حامل، أو ناقل، هو "جسيم"، يشبه، في مثالنا، "الكرة غير المرئية".
إذا كانت "القوَّة" هي هذا "التأثير المرئي (أو الملموس)" فلا بدَّ من "جسيم غير مرئي" يحملها وينقلها، كمثل "عربة" تحمل وتنقل شيئاً (التأثير) من مكان إلى مكان. وليس "التفاعل Interaction" سوى تبادلٍ لِمَا يسمَّى "الجسيمات الحاملة القوَّة".
وفي المثال الذي أوردنا، يمثِّل "اللاعبون"، الذين يتقاذفون الكرة، "جسيمات المادة"، وتمثِّل هذه الكرة "الجسيم الحامل للقوَّة"، فما ندعوه، عادةً، "القوَّة" إنَّما هو تأثير "الجسيمات الحاملة للقوَّة" في "جسيمات المادة".
وهكذا يتضح أنَّ الأشياء (الأجسام والجسيمات) تتفاعل وتتبادل التأثير عَبْرَ جسيمات مادية متناهية في الصغر، تتحرَّك وتنتقل، من شيء إلى شيء، في الفضاء، أو الفراغ، بين هذه الأشياء.
هذه الأشياء، التي لا يتَّصل بعضها ببعض، إنَّما تتَّخذ "الجسيمات الحاملة للقوَّة" خيوطاً تتَّصل بها وتَتَّحِد، فتتفاعل، ويؤثِّر بعضها في بعض، عَبْرَ هذه الجسيمات.
في الطبيعة، تعمل أربع قوى أساسية، هي: "قوَّة الجاذبية"، و"القوَّة الكهرومغناطيسية"، و"القوَّة النووية الشديدة"، و"القوَّة النووية الضعيفة".
و"القوَّة" إنَّما تؤكِّد وجودها من خلال تأثيرها تأثيراً فيزيائياً ملموساً في الجسم الذي في متناول تأثيرها. وهذا التأثير إنَّما تحمله وتنقله جسيمات معيَّنة، تشبه عربات تحمل وتنقل تأثير "القوَّة" من جسم إلى جسم، عبر الفضاء، أو الفراغ، فتأثير القوَّة لا ينتقل، عبر الفضاء في "طريقة سحرية"، وإنَّما من خلال تلك الجسيمات التي تحمل وتنقل هذا التأثير.
في داخل النجم تتصارع قوَّتان: "قوَّة التمدُّد" Expansive Force التي تتولَّد عن عملية الاندماج النووي (اندماج نوى الهيدروجين في المقام الأوَّل) و"قوَّة التقلُّص" Compressive Force المتولِّدة عن الجاذبية في النجم.
وفي دوران القمر حَوْل الأرض تتوازن قوَّتان متضادتان: قوَّة الجاذبية الأرضية التي تشدُّه إلى الأرض، و"القوَّة المركزية الطاردة (النابذة)" Centrifugal Force التي تعمل في اتِّجاه إبعاده في الفضاء، أي تحريره من قبضة الجاذبية الأرضية، التي لو تخيلنا أنَّها قد زالت، فجأةً، لانطلق القمر بعيداً في الفضاء. وبتوازن هاتين القوَّتين يستمر القمر في حركته الدورانية حَوْل الأرض.
أنتَ الواقف على سطح الأرض تتعرَّض دائما لتأثير قوَّتين جاذبتين: قوَّة جذب الأرض التي تشدُّ جسمك (بكتلته) إلى مَرْكَز الكرة الأرضية، أي إلى مَرْكَز الجاذبية الأرضية، وقوَّة جذب القمر التي تشد جسمكَ نحو القمر. ولكن، قوَّة جذب الأرض لكَ تبقى هي الأعظم والأكبر؛ لأنَّ كتلة الأرض أعظم وأكبر من كتلة القمر، ولكون جسمكَ أقرب إلى مَرْكَز الكرة الأرضية منه إلى مركز القمر.
سرُّ "الجاذبية" Gravity إنَّما يكمن في ظاهرة "القصور الذاتي" Inertia، فنحن نَعْلم أنَّ الجسم الذي لا تؤثِّر عليه "قوَّة خارجية" يظلُّ في "حالة سكون"، أي لا يتحرَّك أو ينتقل من موضعه، أو يظلُّ يتحرَّك في "سرعة ثابتة منتظَمة"، وفي "خط مستقيم"، فالجسم "من تلقاء نفسه"، أي من غير أنْ تؤثِّر عليه "قوَّة خارجية"، لا يستطيع أنْ يتحرَّك إذا كان ساكناً، ولا يستطيع أنْ يزيد سرعته أو ينقصها إذا كان يتحرَّك في "سرعة منتظَمة (ثابتة)"، ولا يستطيع أنْ يُغيِّر "اتِّجاه حركته"، كأنْ ينحني في خطِّ سَيْرِه إذا ما كان يسير في "خط مستقيم".
ينبغي للجسم الذي في حالة "حركة منتظَمة في خط مستقيم"، بحسب قانون "القصور الذاتي"، أنْ يستمر في حركته هذه إلى ما لانهاية، إذا لم تؤثِّر عليه "قوَّة خارجية".
ونحن لا نستطيع ملاحظة تأثير قانون "القصور الذاتي" إلا إذا كان الجسم في وضعية لا وجود فيها لقوَّة خارجية (مثل "قوَّة الاحتكاك" Friction) تؤثِّر عليه، فمع وجود "قوَّة الاحتكاك"، مثلاً، نلاحظ ظاهرة لا تتَّفق مع قانون "القصور الذاتي". إنَّنا نلاحظ، مثلاً، أنَّ كرة البلياردو التي تتحرَّك على سطح الطاولة قد تباطأت حركتها حتى توقَّفت عن الحركة. وهذا يعني أنَّ الاحتكاك بين الجسمين (بين الكرة وسطح الطاولة) قد عطَّل عمل وتأثير قانون "القصور الذاتي".
ويعود إلى نيوتن الفضل في اكتشاف أنَّ "القوَّة" لا بدَّ منها من أجل تغيير "سرعة" أو "اتَّجاه" حركة الجسم، وأنَّ تحريك بعض الأجسام يحتاج إلى قوَّة أكبر من غيرها، فالجسم الذي كتلته أكبر يحتاج إلى قوَّة أعظم لتحريكه.
في الفيزياء الخاضعة لتعاليم أرسطو Aristotle المؤيَّدة بنفوذ الكنيسة الكاثوليكية، كان يُعتقَد أنَّ "الجسم المتحرِّك" في الفضاء (كوكب الأرض في حركته حَوْل الشمس مثلاً) يحتاج إلى "قوَّة خارجية" حتى يظلَّ متحرِّكا، فإذا انتفى وجود هذه القوَّة فسوف يحلُّ به ما حلَّ بكرة البلياردو، أي ستتباطأ حركته حتى يتوقَّف عن الحركة.
ولكنَّ هذا المُعتَقَد سرعان ما تهاوى إذ أثبت جاليلو Galileo عبر تجارب عدَّة، أنَّ وجود القوَّة الخارجية (وليس انتفاء وجودها) هو سبب توقُّف الأجسام المتحرِّكة عن الحركة، فلو أنَّ "قوَّة الاحتكاك" كانت غير موجودة لظلَّت الأجسام المتحرِّكة تتحرَّك "حركة أبدية"، فكوكب الأرض، مثلاً، إنَّما يدور حَوْل الشمس بفضل "قصوره الذاتي"، وليس بفضل "محرِّك خارجي"، أو "قوَّة خارجية تُحافِظ على حركته".
قانون "القصور الذاتي" إنَّما يعني أنَّ الجسم يميل (Bent, Lean) إلى مقاومة كل تغيير في حركته، فإذا كان الجسم (سيَّارة على سبيل المثال) يتحرَّك في سرعة منتظَمة فإنَّ زيادة سرعته، بغتة، تجعلنا نشعر بتأثير هذا القانون، فزيادة سرعة السيَّارة التي نركبها تشدَّنا في الاتِّجاه المضاد، أي تجعلنا نشعر بأنَّ شيئا يشدَّنا إليه في اتِّجاه مضاد للاتِّجاه الذي تتحرَّك فيه السيَّارة. لقد حدث ما يشبه "انتفاضة القصور الذاتي"، وكأنَّ الجسم قد هبَّ لمقاومة التغيير في حركته (زيادة سرعته).
إنَّ الشعور بالجاذبية يَنتُج من "انتفاضة القصور الذاتي"، أي أنَّه نتيجة ما يبديه الجسم من مقاومة للتغيير في حركته. وينبغي لنا أنْ نفهم "الجاذبية" و"القصور الذاتي" على أنَّهما "متكافئان".
لقد قال نيوتن إنَّ الجسم الساكن يقاوِم الحركة؛ لأنَّه يميل إلى أنْ يظل ساكناً، وإنَّ الجسم المتحرِّك يقاوِم السكون؛ لأنَّه يميل إلى أنْ يظلَّ متحرِّكاً.
تأمَّل كرةً ساكنةً (واقفةً) على سطح طاولة، فمن أجل تحريكها، أي من أجل جعلها تتحرَّك حركة ميكانيكية (انتقالية) لا بدَّ لها من أن تتغلَّب على قوَّة الاحتكاك بين سطحها وسطح الطاولة والتي تمنعها من الحركة. إنَّها، ومن تلقاء نفسها، لا تستطيع فِعْلَ ذلك. لا بدَّ لكَ من أن تدفعها بيدكَ (التي هي قوَّة خارجية بالنسبة إلى الكرة).
الآن، شرعت الكرة تتحرَّك على سطح الطاولة، متغلِّبةً، في استمرار، على قوَّة الاحتكاك المقاوِمة لحركتها. ولكنَّها، أي الكرة، لم تشرع تتحرَّك إلا بَعْدَ.. بَعْدَ أن أبدت، أو أظهرت، مقاوَمةً لتحرُّكها.
هذه المقاوَمة هي "ردُّ الفعل (من الكرة الساكنة الذي وَقَع على يدكَ)" الذي يَعْدِلُ "الفعل (وهو فِعْل الدَفْع الذي فعلته يدكَ)"، مقداراً، ويعاكسه اتِّجاهاً.
على أنَّ هذا التعادل في المقدار بين القوَّتين المتضادتين ("الفعل"، و"رد الفعل") لم يمنع الكرة من أن تتحرَّك على سطح الطاولة في اتِّجاه الفِعْل.
الكرة "بوصفها جسما ساكنا" هي التي قاومت تحريكها، فهي تميل إلى البقاء على ما هي عليه (وهو السكون الآن) وتصارِع من أجل ذلك.
إنَّ "السكون" في الكرة لا يَظْهَر على أنَّه قوَّة حيَّة، دينامية، مقاوِمة، إلا عندما تَسْتَثيره، وتَسْتَفِزَّه، قوَّة لتحريك الكرة.
لو كانت الكرة الساكنة أعظم كتلة، لزاد قصورها الذاتي، ولَتَطَلَّب تحريكها دفعة (من يدكَ) أقوى.
وعلى نحوٍ تُجيزه نظرية "النسبية" لآينشتاين أستطيع تعريف "الكتلة" Mass على أنَّها الخاصِّيَّة التي تَمْنَع مادة معيَّنة من السير بسرعة الضوء التي مقدارها 300 ألف كلم في الثانية الواحدة، فالجسم (أو الجسيم) الذي له كتلة هو المادة التي لا يمكنها السير بسرعة الضوء.
الكرة تحرَّكت الآن، ثمَّ شرعت سرعتها تتضاءل حتى توقَّفَت نهائياً عن الحركة؛ أمَّا السبب فهو "الاحتكاك" الذي "اسْتَنْزَف" كمِّيَّة الحركة التي أدْخَلَتْها يدكَ فيها إذ دَفَعَتْها.
الاحتكاك غذَّى، بدايةً، مَيْل الكرة الساكنة إلى أنْ تظلَّ على سكونها؛ ولكن ما أن شرعت الكرة تتحرَّك حتى أظْهَرَت مَيْلاً إلى مقاوَمة الاحتكاك الذي هو قوَّة تعمل في اتِّجاه نَقْل الكرة من حال الحركة التي هي عليها الآن إلى حال السكون. على أنَّ مقاومتها تلك لن تتمكَّن من منع قوَّة الاحتكاك من "تسكينها"، أي نقلها إلى حال السكون.
أمَّا لو دَفَعْتَ تلك الكرة في الفضاء الخارجي حيث لا وجود لقوَّة الاحتكاك فسوف تستمر الكرة في الحركة ذاتها، مقداراً واتِّجاهاً؛ ولا بدَّ لكَ، في هذه الحال، من أن تؤثِّر عليها بقوَّة ما إذا ما أردتَ زيادة أو إنقاص سرعتها، أو إذا ما أردتَ تغيير اتِّجاه سيرها.
ولرؤية "القصور الذاتي" في بعضٍ من ظواهره، ضَعْ سُلَّماً على ظهر شاحنة تسير بسرعة 100 كلم في الساعة مثلا، وتَخَيَّل أنَّ هذه الشاحنة قد اصطدمت بجدار منيع، فتوقَّفَت. ما الذي يَحْدُث، عندئذٍ، للسُلَّم؟ سيستمر في السير في الاتِّجاه ذاته، أي في الاتِّجاه الذي كانت تسير فيه الشاحنة قبل اصطدامها بالجدار وتوقُّفها. وبعد أن يقطع السُلَّم مسافة معيَّنة يسقط أرضاً. وهذا إنَّما يعني أنَّ السُلَّم المتحرِّك (مع الشاحنة) وبالسرعة ذاتها، قد قاوَم قوَّة التسكين التي أثَّر بها الجدار عليه إذ اصطدمت به الشاحنة.
ومع إمعاننا النظر في ظواهر فيزيائية وطبيعية كثيرة نرى أنَّ كلَّ شيء (كل جسم أو جسيم) يقاوِم أي تغيير يمكن أنْ يطرأ عليه بتأثير "قوَّة خارجية"؛ لأنَّه يميل ذاتياً إلى أنْ يظلَّ على ما هو عليه، ولكنَّه، في الوقت نفسه، ينطوي على ميل إلى هذا التغيير، فتأثير "القوَّة الخارجية" لا يتعدى أنْ يكون ترجيحاً لكفَّة أحد الميلين المتضادين (اللذين ينطوي عليهما الشيء) على كفَّة الآخر، فهذا الجسم الساكن حرَّكته قوَّة خارجية؛ لأنَّه في مَيْل ذاتي إلى الحركة، وذاك الجسم قلَّصته قوَّة خارجية؛ لأنَّه في مَيْل ذاتي إلى التقلُّص.
الجسم (أو الشيء) يميل إلى مقاوَمة كل تغيير؛ وليس مَيْله إلى مقاوَمة كل تغيير في حركته الميكانيكية سوى جزء من ذاك المَيْل. ولكن ليس من شيء يملك مَيْلا ولا يملك، في الوقت نفسه، مَيْلا مضادا، فمَيْل الشيء إلى مقاوَمة كل تغيير إنَّما يتَّحِد اتِّحادا لا انفصام فيه (في داخل الشيء) مع مَيْله إلى التغيير.
نَعْلَم أنْ لا جسم، ولا شيء، يمْكنه أن يظل على ما هو عليه إلى الأبد؛ ولكنَّه قبل أن يتغيَّر، ومن أجل أن يتغيَّر، لا بدَّ له من أن يحتفظ بهويته إلى حين. وهذا الاحتفاظ إنَّما هو حال "التوازن".
إنَّ الشيء "المتوازِن" هو الذي تتوازن في تأثيرها عليه قوى متضادة كثيرة (داخلية وخارجية) فإذا انهار فيه توازن ما، أي إذا رجَحَت كفَّة أحد طرفي تناقض ما ينطوي عليه على كفَّة الطرف الآخر، وَقَع التغيير، أي تغيَّر هذا الشيء في اتِّجاه ما، وعلى نحو ما، وإلى حدٍّ ما.
والقوَّة التي تؤثِّر في توازن ما إنَّما هي قوة متناقضة لجهة تأثيرها، أي أنَّها لا تؤثِّر في أحد طرفي التناقض سلباً إلا لتؤثِّر (تأثيرا مساوياً مزامِناً) في الطرف الآخر إيجاباً.
إذا كان الجسم هو شريط مطَّاطي، وإذا كان هذا الشريط ينطوي على تناقض بين "التمدُّد" و"التقلُّص"، وإذا كان طرفا هذا التناقض في حالٍ من التوازن النسبي، فما الذي يَحْدُث عندما تَشْرَع تشد طرفي الشريط بيديكَ؟ لقد أثَّرْتَ على الشريط بقوَّةٍ تعمل في اتِّجاه الإخلال في هذا التوازن، أي في اتِّجاه ترجيح كفَّة "التمدُّد" على "التقلُّص". هنا، ينتفض "التقلُّص"، ويشرع يقاوِم، فيبدو لكَ الشريط في مَيْلٍ إلى البقاء على ما هو عليه.
أنتَ، وبقوَّتِكَ التي أثَّرْتَ بها على "الشريط"، أحْدَثْتَ تغييرا فيه (جَعَلْتَهُ يتمدَّد إلى حدِّ ما) ولكنَّكَ قَبْلَ أنْ تُحْدِثَ هذا التغيير الملموس أثَرْتَ وأيْقَظْتَ، في داخل "الشريط"، "مقاوَمةً"، للجهد الذي تَبْذُل، أو لتأثير قوَّتِكَ؛ وكان ينبغي لكَ أن تتغلَّب على هذه المقاوَمة قَبْلَ، ومن أجل، أن تُحْدِثَ ذاك التغيير.
ولكن، لِنَعُد الآن إلى "القانون الثالث" لنيوتن لعلَّنا نرى فيه، بَعْدَ شيء من الشرح والتوضيح، ملامح قانون كوني أعمَّ وأشمل.
ارْفَعْ جسما ما من موضعه على سطح الأرض، فما الذي يمْكنكَ وينبغي لكَ أنْ تراه في هذا العمل ونتيجته؟ لقد أثَّرْتَ على هذا الجسم بـ "قوَّة"، مَصْدرها يدكَ. إنَّكَ بـ "مقدارٍ ما" من هذه القوَّة التي تملك تمكَّنْتَ من رَفْع هذا الجسم من مكانه، إلى حدٍّ معيَّن. هذا هو ما نراه في النصف الأوَّل من "المَشْهَد"؛ أمَّا في نصفه الآخر فلا بدَّ لنا من أن نمعن النظر، توصُّلاً إلى رؤيته.
الجسم الذي رَفَعْتَ ليس "خاملاً"، "ميْتاً"، أو "عديم الديناميَّة"، فهو ما أنْ تشرع ترفعه من مكانه حتى "ينتفض (أو يستيقظ)"، مؤثِّراً على يدكَ بـ "قوَّة مضادة". إنَّها قوَّة تَعْدِل، مقداراً، القوَّة التي أثَّرْتَ بها (عَبْر يدكَ) في الجسم، وتُضادها اتِّجاها.
أنتَ ما أنْ تُمْسِكَ بالجسم محاوِلاً رفعه حتى تنشأ بينكَ وبينه "علاقة"، قوامها "التفاعُل" Interact أو "التأثير المتبادَل". و"التفاعل" هو أنْ يَفْعَل أحد الجسمين بالآخر ما يفعله الآخر به.
"القوَّة" التي في يدكَ، والتي أثَّرَت على الجسم، تسمَّى "قوَّة الفعل Action Force". أمَّا "القوَّة المضادة"، أي التي أثَّر بها الجسم على يدكَ، فتسمَّى "قوَّة ردِّ الفعل Reaction Force".
القوَّتان (قوَّة الفعل وقوَّة ردِّ الفعل) إنَّما تَظْهران معا، فـ "القوَّة المضادة"، أي "قوَّة ردِّ الفعل"، لا تَظْهَر قُبَيْل، أو بُعَيْد، ظهور "قوَّة الفعل"، وإنَّما في "اللحظة عينها"، أي في لحظة ظهور "قوَّة الفعل".
في "المقدار"، نقول إنَّ مقدار القوَّة الذي بَذَلْتَ، أو أنْفَقْتَ، لرفع الجسم من مكانه يَعْدِل ويساوي مقدار القوَّة التي أثَّر بها الجسم على يدكَ. وفي "الاتِّجاه"، نقول إنَّ القوَّة في يدكَ (قوَّة الفعل) عَمِلَت في اتِّجاه (اتِّجاه رَفْع الجسم إلى أعلى) بينما عَمِلَت القوَّة الأخرى (قوَّة ردِّ الفعل) في اتِّجاه معاكِس ومضاد، أي في اتِّجاه شدِّ الجسم (عَبْرَ شدها يدكَ الرافعة) إلى أسفل.
هذا "التفاعل" إنَّما هو تفاعُل بين طرفين.. بين شيئين، أو جسمين، هما "أنت (أو يدكَ)" والجسم الذي تريد رفعه.
وإذا كان من استنتاج في منتهى الأهمية فهذا الاستنتاج إنَّما هو: "القوى"، في الطبيعة والكون، تَظْهَر "أزواجاً" فحسب، فكلُّ قوَّة لا تَظْهَر (لا تُوْجَد) إلا مع نقيضها.. مع قوَّة مضادة لها. إحداهما تعمل في اتِّجاه بينما تعمل الأخرى في اتِّجاه معاكِس ومضاد.
ثَبِّتْ أحد طرفي شريط مطَّاطي في سقف الغرفة، واشْبُك بطرفه الآخر الحر المتدلي جسما، فما الذي يَحْدُث عندئذٍ؟ الجسم يشدُّ الشريط بقوَّة إلى أسفل؛ ولكن هذا الجسم، الذي اقترب أكثر من أرض الغرفة، يظل معلَّقا، أي أنَّه لا يسقط إلى أرض الغرفة، فما الذي منعه من السقوط؟ ما الذي منعه من أن يمضي قُدُما في شدِّه للشريط المطَّاطي حتى يلامِس (هذا الجسم) أرض الغرفة؟ لقد شدَّ الجسمُ الشريط بقوة إلى أسفل، فاستطال (تمدَّد) قليلاً هذا الشريط، الذي انتفضت، في داخله، قوَّة مضادة معاكِسة. هذه القوَّة عَمِلَت في اتِّجاه شدِّ الجسم إلى أعلى، فمنعت، بالتالي، سقوطه إلى أرض الغرفة.
الجسم شدَّ الشريط إلى أسفل بقوة مقدارها يَعْدِل مقدار القوَّة المضادة في الشريط، والتي عَمِلَت في اتِّجاه شدِّ الجسم إلى أعلى.
الجسم شدَّ الشريط المطَّاطي ومطَّه إلى حدٍّ معيَّن، فما الذي حَدَثَ في أثناء ذلك؟ لقد نَمَت، مع نمو الشدِّ والمطِّ، وبسببه، القوَّة المضادة في داخل الشريط إلى الحدِّ الذي مكَّنها من موازنة قوَّة الشد والمط، وكأنَّها المكابح الداخلية التي ازدادت قوَّة حتى نجحت في إيقاف الشدِّ والمطِّ عند حدٍّ معيِّن.
وهذا التصوُّر ينفي تصوُّراً من قبيل أنَّ استطالة الشريط قد توقَّفت عند هذا الحد بسبب أنَّ القوَّة التي تسبَّبت بتلك الاستطالة كانت في مقدار نَفَدَ إذ أنجزت هذا العمل. إنَّها، وبحسب التصوُّر الذي نقول به، لَمْ تُنْجِز هذا العمل إلا عَبْرَ الصراع ضد قوَّة مضادة، وعَبْرَ تغلُّبها على تلك القوَّة؛ ولكنَّ هذا التغلُّب اقترن بقيام توازن جديد بين القوَّتين المتضادتين.
وقيام هذا التوازن (الذي يتأكَّد لنا من خلال توقُّف استطالة الشريط عند حدٍّ معيَّن) إنَّما يؤكِّد أنَّ إنجاز ذاك العمل، والذي جاء إنجازه "نتيجة" للتغلُّب على تلك القوَّة المضادة، قد نمَّى، في الوقت نفسه، القوَّة المضادة إلى الحدِّ الذي سمح لها بوقف استطالة الشريط عند حدٍّ معيَّن.
ولعلَّ خير وأهم استنتاج من ذلك هو الآتي: كل تطوُّرٍ (كل تغيير) إنَّما يتأتى من صراعٍ بين ضدَّين، يتغلَّبُ فيه أحدهما على الآخر، فليس من تطوِّر يتحقَّق ما بقيت علاقة التوازن بين الضدَّين قائمة. وطرفا كل تناقض ينطوي عليه شيء ما ينبغي لهما أن يَتَّحِدا مكاناً، وزماناً، اتِّحادا لا انفصام فيه.
أضِفْ الآن إلى هذا الجسم (المعلَّق) جسما آخر، فترى الشريط قد تأثَّر بقوَّة أعظم، فهو، أي الشريط، تمدَّد أكثر، والجسم، أي الجسمان، اقترب أكثر من أرض الغرفة. وكلَّما زاد (نما) مقدار القوَّة التي تؤثِّر على الشريط زاد (نما) مقدار القوَّة المضادة والمعاكِسة التي يؤثِّر بها الشريط على الجسم؛ ولا بدَّ لـ "الزيادتين" من أن تكونا متعادلتين متساويتين، ومتزامنتين.
أضِفْ الآن إلى الجسمين جسما ثالثا ثقيلا جدا، فترى الشريط قد انقطع، وسقط الجسم (أي الأجسام الثلاثة) إلى أرض الغرفة. بانقطاع الشريط تزول العلاقة التي كانت قائمة من قبل بينه وبين الجسم المشبوك بطرفه الحر المتدلي. بانقطاعه ينتهي التفاعل والتأثير المتبادَل بينه وبين الجسم. بانقطاعه تزول القوَّتان (قوَّة الفعل وقوَّة ردِّ الفعل) معاً. لقد وُجِدتا معاً، وزالتا معاً، فليس ممكنا أبدا أن تُوْجَد إحداهما ولا تُوْجَد الأخرى، أو أن تزول أحداهما ولا تزول الأخرى.
ومع زوال هذه العلاقة، أو هذا التفاعل، تنشأ علاقة جديدة، وينشأ تفاعل جديد. تنشأ، وينشأ، بين أرض الغرفة وبين ما سقط إليها كالأجسام الثلاثة. كل جسم من هذه الأجسام يضغط الآن على أرض الغرفة بقوَّة إلى أسفل، فتضغط عليه أرض الغرفة بقوَّة مساوية؛ ولكن إلى أعلى.
والاستنتاج من هذا المثال، والذي لا مفرَّ منه هو الآتي: عملية شدِّ الشريط ذاتها هي التي، باستمرارها ونموِّها وتطوُّرها، قد هيَّأت ونمَّت أسباب زوالها، فتمدُّد الشريط إلى حدٍّ معيَّن هو الذي أنْتَجَ انقطاعه؛ وهذا الانقطاع هو الذي أنْتَجَ زوال "عملية الشد"، أي تحوُّلها إلى نقيضها.
ولرؤية ذلك في وضوح أشد، ثَبِّتْ في طرف الشريط الحر المتدلي كيساً خفيف الوزن، ثمَّ ضَعْ فيه كريَّات معدنية (متماثلة وزناً) كريَّة كريَّة. الشريط الآن يشرع يتمدَّد، ولسوف ينمو تمدُّداً إلى أنْ تضع في الكيس تلك الكريَّة التي تشبه القشَّة التي قصمت ظهر البعير. عندئذٍ، ترى هذا الفَرْق الكمِّي (النمو المتدَّرِج للتمدد) وقد تحوَّل إلى فَرْق نوعي (أو كيفي) هو انقطاع الشريط بغتةً.
إذا ضَرَبْتَ الكرة بقدمكَ حَدَثَ تفاعل بين قدمكَ والكرة، فقدمك أثَّرَتْ فيها بقوَّة، فأثَّرَتْ الكرة في قدمك بقوَّة أخرى معاكِسة. "الكرة" جسم، و"أنتَ (مع قدمك)" جسم آخر. "الفِعْل"، الذي وَقَعَ على الكرة، جاء من قدمكَ إذ ضَرَبَتْها؛ و"رد الفعل"، الذي وَقَعَ على قدمك، في اللحظة عينها، جاء من الكرة المضروبة.
القوَّتان، هنا، وعلى الرغم من تعاكسهما في الاتِّجاه، وتعادلهما في المقدار، أنْتَجتا "تغييرا" هو "قَذْف الكرة"، أو "الكرة المقذوفة". أمَّا السبب فهو، بحسب ميكانيكا نيوتن، أنَّ "الفعل" و"رد الفعل" قد "أثَّرا في جسمين مختلفين"، ولم يُلْغِ كلاهما، بالتالي، تأثير الآخر. هذا التعليل، على صحَّته، يَنْقُصُه "العُمْق الدياليكتيكي"، ويظلُّ، بالتالي، تعليلا جزئيا، أي ميكانيكياً في المقام الأوَّل.
الكرة، بـ "ردِّ فعلها"، أثَّرَتْ في قدمكَ بقوَّة، مقدارها يَعْدِل مقدار القوَّة التي بها أثَّرَتْ قدمكَ فيها. ومقدار الفعل هذا رأيْناهُ مُتَرْجَماً بحركة الكرة، والمسافة التي قطعتها، فأثَرُه، هنا، أشدُّ وضوحاً من أثر رد فعل الكرة في قدمكَ، على تساوي القوَّتين المتضادتين (قوَّة الفعل وقوَّة رد الفعل) في المقدار والحجم.
دعونا نَضْرِبُ صفحا، ولو مؤقَّتا، عن تلك العبارة (عبارة "اختلاف الجسمين") التي علَّلت بها ميكانيكا نيوتن ظاهرة "التأثير (المحسوس) المتبادل" بين "الكرة" و"القدم"، فما الذي يمكننا وينبغي لنا استنتاجه إذا ما ضَرَبْنا صفحا عن تلك العبارة؟ يمكن ويجب أن نستنتج أنْ لا تأثير يُرى عند ضَرْب الكرة بالقدم؛ فالقوَّتان (قوَّة الفعل وقوَّة ردِّ الفعل) متساويتان في المقدار، متعاكستان في الاتِّجاه.
القدم "أدْخَلَت" في الكرة "مقدارا معيَّنا من القوَّة"؛ وهذا المقدار يمكن ويجب أن يؤثِّر في الكرة تأثيرا معيَّنا، أي في اتِّجاه معيَّن (دفْعِها إلى الأمام مسافة معيَّنة قبل أن توقفها قوَّة الاحتكاك). ولكنَّ الكرة المضروبة ردَّت، في اللحظة عينها، "مُدْخِلةً" في القدم مقدارا مساويا من القوَّة، ومعاكسا في الاتِّجاه، وكأنَّها أعْطَت القدم، في اللحظة عينها، ما أخَذَتْه منها.
هذا إنَّما يعني، منطقيا، أنَّ الكرة (المضروبة) يجب أن تظلَّ واقفة في مكانها، وأنَّ القدم (الضاربة) يجب ألا ترتدَّ إلى الوراء ولو كان ارتدادها في منتهى الضآلة. ولكن ما يَحْدُث فِعْلا يُخالِف هذا المنطق، فالتعادل في المقدار، والتضاد في الاتِّجاه، بين القوَّتين (قوَّة الفعل وقوَّة ردِّ الفعل) المتضادتين، لم يمنعا الكرة من أن تتحرَّكَ إلى الأمام مسافة معيَّنة قبل توقفها، كما لم يمنعا القدم من أن ترتدَّ إلى الوراء عند ضربها الكرة.
إنَّها مفارقة كان لا بدَّ لميكانيكا نيوتن من تفسيرها، فَفَسَّرَتْها بعبارة "اختلاف الجسمين"، التي، بلغة الميكانيكا، تعني "القصور الذاتي"، فالجسمان (الكرة والقدم، مع صاحبها) مختلفان (متفاوتان) في "القصور الذاتي"؛ لأنَّهما مختلفان (متفاوتان) في الكتلة.
كتلة القدم مع صاحبها أكبر من كتلة الكرة، فتسبَّب هذا الاختلاف باختلاف التأثير. لقد تحرَّكت الكرة إلى الأمام مسافة 10 أمتار مثلا، بينما ارتدَّت القدم إلى الوراء مسافة أقل بكثير، فـ "المقدار ذاته" من القوَّة أعطى (بسبب اختلاف القصور الذاتي والكتلة) مقدارين متفاوتين من التأثير (حركة إلى الأمام مسافة 10 أمتار هي حركة الكرة، وحركة إلى الوراء أقل من حركة الكرة بكثير، هي حركة القدم).
هذا هو التعليل الميكانيكي، فهل من تعليل دياليكتيكي يُعَمِّقَهُ ويُوَسِّعَهُ؟ القدم هي "عامِل خارجي" بالنسبة إلى الكرة التي هي "عامِل خارجي" بالنسبة إلى القدم. و"العامِل الخارجي" لا يمكنه أبدا أن يؤثِّر في شيء إلا عَبْرَ (من خلال) تناقض ما ينطوي عليه هذا الشيء، فلو شددتًّ بيديكَ طرفي شريط مطَّاطي فإنَّ هذا الشريط يتمدَّد؛ أمَّا لو شددتَّ بيديك طرفي مسطرة (من الخشب) فإنَّ المسطرة لا تتمدَّد.
هذا "العامِل الخارجي" ذاته (فِعْل الشدِّ) لم يؤثِّر في الشيئين (الشريط والمسطرة) التأثير ذاته؛ لأنَّ طبيعة الشيء المتأثِّر، أو المؤثَّر به، هي التي تحدِّد وتقرِّر طبيعة تأثير "العامِل الخارجي".
و"العامِل الخارجي" ينبغي له أن يستوفي شروطا معيَّنة قبل، ومن أجل، أن يؤثِّر في شيء ما تأثيرا معيَّنا، فالقدم قبل أن تحرِّك الكرة الساكنة، ومن أجل أن تحرِّكها، يجب أن تقترب منها، وأن تتَّصِل بها وتلامسها، وأنْ تُدْخِل فيها مقدارا من الطاقة الحركية يكفي، مثلا، لتحريك الكرة إلى الأمام مسافة 10 أمتار، فليس من تفاعُل، أو تأثير متبادل، بين شيئين لا يستوفي، أو لم يستوفِ بَعْد، شروطه.
الكرة الساكنة الواقفة في مكانها إنَّما تنطوي على مَيْلين متضادين: مَيْلٌ إلى أن تظلَّ على ما هي عليه الآن، أي أن تظلَّ ساكنة، ومَيْلٌ إلى أن تصبح في حالٍ مضادة، أي أن تنتقل من السكون إلى الحركة (الميكانيكية).
هذه الكرة الساكنة تلقَّت الآن ضربة من القدم. هذه الضربة أثَّرت في الكرة الساكنة تأثيرا متناقضا، مُرجِّحةً كفَّة أحد طرفي هذا التناقض (بين الحركة والسكون) الذي تنطوي عليه الكرة على كفَّة الآخر.
لقد رجَّحت كفَّة الحركة على كفَّة السكون، وكأنَّها مدَّت "قُطْب (أو مَيْل) الحركة" بـ "الغذاء". هذا "الفعل الخارجي"، أي "الضربة"، والإيجابي بالنسبة إلى "قُطْب الحركة"، استثار (واستفزَّ، وهيَّج، وأيقظ، وحرَّك) القُطْب الآخر للتناقض، أي "قُطْب السكون"، فهبَّ يدافع عن ذاته، فـ "عدوه الداخلي" و"عدوه الخارجي" يتضافران الآن على ضربه.
لقد ردَّ في اللحظة عينها؛ ولكن كيف؟ ردَّ من خلال إدخاله مقدارا من قوَّته في القدم الضاربة المعتدية. هذا المقدار كان مساويا لمقدار القوَّة الذي أدْخَلَتْهُ القدم في الكرة. وهذا المقدار من قوَّته والمنقول إلى القدم في اللحظة عينها إنَّما استهدف جَعْل القدم الضاربة المعتدية في وَضْعٍ لا يسمح لها بممارِسة التأثير ذاته، والضار (أو السلبي) بالنسبة إلى "قُطْب السكون".
من خواص "ردِّ الفعل" أنَّه "قوَّة معاكِسة (مضادة) في الاتِّجاه"، فما معنى ذلك؟ معناه أنَّ الجسم الذي وقع عليه الفعل يؤثِّر في الجسم "الفاعل" بما يحوِّله، أو يؤدِّي إلى تحوُّله، من "مؤثِّر" إلى "لا مؤثِّر"، أي بما يجعله فاقداً لشروط القدرة على التأثير (ذاته).
قُلْنا إنَّ "قُطْب السكون" ردَّ، وإنَّ الردَّ كان إدخالِهِ مقدارا مساويا من القوَّة التي يملك في القدم الضاربة المعتدية. هذا المقدار أثَّر في القدم من خلال تناقضٍ تنطوي عليه. بهذا المقدار رجَحَت كفَّة أحد طرفي هذا التناقض على كفَّة الطرف الآخر. وهذا الذي رجَحَت كفَّته إنَّما هو مَيْل القدم إلى الحركة في اتِّجاه معاكِس، أي إلى الارتداد إلى الوراء، والانفصال، بالتالي، مع تأثيرها، عن الكرة.
على أنَّ هذا الفَرْق في ميزان القوى، لم يُتَرْجَم، هنا، أي في داخل القدم، بمثل ما تُرْجِم هناك، أي في داخل الكرة. في داخل الكرة تُرْجِم الفَرْق ذاته بتحريك الكرة إلى الأمام مسافة 10 أمتار؛ أمَّا في داخل القدم فتُرْجِم بدفع القدم إلى الوراء مسافة أقل بكثير، فَدْفعها إلى الوراء مسافة مماثِلة، أي مسافة 10 أمتار، كان يحتاج إلى فَرْق أكبر بكثير. وهذا الاختلاف والتفاوت في التأثير إنَّما يشبه أن تَضَع قطرتي حِبْر متساويتين في إنائين فيهما مقدارين متفاوتين من الماء.
بـ "ردِّ الفعل" يَحْدُث الآتي: مقدارٌ من قوَّة ردِّ الفعل، مساوٍ لمقدار قوَّة الفعل، "يَدْخُلُ" في الجسم الذي إليه تنتمي قوَّة الفعل. في اللحظة عينها، يُقْطَع "الجسر" الذي عَبْره يَنْتَقِل "التأثير".. تأثير الجسم الذي إليه تنتمي قوَّة الفعل في الجسم الذي إليه تنتمي قوَّة ردِّ الفعل. تساوي "المقدارين" قد يقتَرِن بـ "تفاوت التأثير"، فالكمِّيَّة ذاتها من "الحِبْر" لا تُحْدِث الفَرْق ذاته إذا ما خلطناها بكمِّيَّتين متفاوتتين من الماء.
السَّبَّاح يَدْفَع الماء بقوِّة بيديه وقدميه إلى الخَلْف، فَيَدْفعُ الماءُ السَّبَّاح (أي يدفع يديه وقدميه) بقوَّة أخرى إلى الأمام. عندما يصل السَّبَّاح إلى حائط المسْبَح يَدْفَعُ هذا الحائط بقوَّة مُسْتَخْدِماً قدميه، فيؤثِّر فيه الحائط بقوَّة معاكِسة، تَدْفعه إلى الأمام.
السَّبَّاح دَفَعَ بقدميه حائط المسبح. دَفَعَهُ إلى الخَلْف؛ ولكنَّ الحائط لم يتحرَّك من مكانه. الحائط تلقَّى "الضربة"، من قدمي السَّبَّاح، وامتصَّها، ثمَّ، أي في اللحظة عينها، وجَّه إليه "ضربة" مساوية بالمقدار لـ "الضربة" التي تلقَّاها منه، ومعاكِسة لها في الاتِّجاه، فالسَّبَّاح دَفَعَ الحائط بقدميه، فدَفَعَهُ الحائط إلى الأمام.
القوَّتان المتضادتان، أو المتعاكستان، في الاتِّجاه، كانتا متساويتان في المقدار؛ ولكنَّ هذا التساوي لم يمنع حدوث تغيير، هو قَطْعُ السَّبَّاح مسافةً معيَّنة في الماء بفعل "الضربة" التي تلقَّاها من الحائط.
هذا التساوي لم يُحْدِثَ تغييراً مماثلا في الحائط؛ لأنَّ الحائط ظل في مكانه، ولم يتحرَّك إلى الخَلْف قيْد أنملة. ومع ذلك، حَدَثَ تغييرٌ في الحائط، هو اهتزاز، أو تحرُّك، جزيئاته في جزئه الذي تلقَّى "الضربة" من قدمي السَّبَّاح.
المقداران متساويان؛ ولكنَّهما غير متماثلين في الأثر والتأثير، فمقدار الفِعْل، الذي هو دَفْعُ السَّبَّاح للحائط بقدميه، ليس بكافٍ لدفع الحائط إلى الخَلْف، أو لهدمه. كان يكفي، فحسب، لاهتزاز، أو تحرُّك، بعضٍ من جزيئاته.
أمَّا مقدار رد الفعل (المساوي لمقدار الفعل) فكان كافياً لجعل السَّبَّاح يجتاز مسافة معيَّنة في الماء؛ وقد اجتازها متَّجِها إلى الأمام.
ولو أنَّ السَّبَّاح دفع الحائط بقدميه بقوِّة أكبر لَدَفَعَهُ الحائط إلى الأمام بقوَّة أكبر، ولَقَطَعَ، بالتالي، مسافةً أكبر في الماء. هنا، نرى أنَّ أثر رد الفعل أشد وضوحا من أثر الفعل. ادْفَع جدار المسبح بقدميكَ بقوَّة أكبر فيَدفعكَ إلى الأمام بقوَّة أكبر. وهذا إنَّما يعني الآتي: ينبغي لكَ أنْ تؤثِّر في غيركَ قبل ومن أجل أن تتأثَّر. وإذا أردتَ لشيء ما أن يؤثِّر فيكَ بقوة أعظم فأثِّر فيه بقوة أعظم.
خُذْ حَبْلاً سميكا قويا، ثَبِّتْ أحد طرفيه في جدار، ثم أمْسِك (بيديكَ) بالطرف الآخر، وقُمْ بشدِّ الجدار (أو الحَبْل). الفعل، هنا، هو شدُّكَ للجدار أو الحَبْل؛ وردُّ الفعل هو شدُّ الحَبْل أو الجدار لكَ. في هذا العمل، نرى قوَّتين متعاكستين في الاتِّجاه، متعادلتين في المقدار؛ ولكننا لا نرى تغييراً من قبيل الحركة الانتقالية، فالجدار وأنتَ لم تتحركا من مكانكما.
لِنَعُدْ الآن إلى مثال الشريط المطَّاطي والجسم المشبوك بطرفه الحر المتدلي. ما أنْ شَبَكْتَ هذا الجسم بطرف الشريط حتى حَدَثَ تفاعل بين الجسم والشريط. ما أن شَبَكْتَهُ حتى ظَهَرَ زوجٌ من القوى، فالقوَّتان المتضادتان إنَّما تشبهان جسماً واحدا؛ ولكن بوجهين متضادين.
الجسم المشبوك شدَّ بقوِّة الشريط إلى أسفل، فانتفضت في داخل الشريط قوَّة مضادة، عملها الطبيعي هو شدُّ الجسم في اتِّجاه معاكِس، أي إلى أعلى.
القوَّتان المتضادتان، المتعاكستان، في الاتِّجاه، ظهرتا معاً متساويتين في المقدار. ولكنَّ هذا التساوي لَمْ يَحُلْ بين الجسم وبين شدِّه الشريط إلى أسفل، فالشريط استطال وتمدَّد قليلاً، والجسم هبط قليلاً، أي اقترب من أرض الغرفة، فما الذي، في هذه الحال، فعلته قوَّة ردِّ الفعل المتولِّدة في الشريط، والمساوية في مقدارها لقوَّة الفعل الذي قام به الجسم المشبوك؟ لقد أوْقَفَتْ هبوط الجسم عند حدٍّ معيَّن، أي أنَّها منعته من المضي قُدُما في هبوط حتى يلامِس أرض الغرفة.
عند هذا الحدِّ الذي بلغه الجسم في هبوطه، أو في حركته الميكانيكية إلى أسفل، نشأ توازن في القوى، فلا الجسم يستطيع أن يشدَّ الشريط أكثر إلى أسفل، ولا الشريط يستطيع أن يشدَّ الجسم إلى أعلى.
هذا توازنٌ في القوى بين الطرفين يمنع "التغيير" في هذا الاتِّجاه، أو في ذاك. وكلَّما زِدْنا مقدار قوَّة الفعل (من خلال إضافة جسم آخر، أو أجسام أخرى، إلى الجسم المشبوك) زاد مقدار رد الفعل زيادةً مساويةً.
"الفعل" و"رد الفعل" ينشآن (أو يَظْهران، أو يُوْجدان) معاً، ويزولان (أو يختفيان) معاً. وهما ينشآن متساويين في "المقدار". ولكنَّ هذا التساوي لا يمنع من حدوث تغيير. لا يمنع من إنجاز عمل، أو شُغْل، فإذا أنتَ أثَّرْتَ بقوَّة ثابتة في المقدار والاتِّجاه في جسم، وتحرَّكَ هذا الجسم، في أثناء ذلك، مسافة ما بتأثير هذه القوَّة، وفي اتِّجاهها، فإنَّ هذه القوَّة تكون قد أنجزت عملاً، أو شُغْلاً، فـ "القوَّة" إنَّما هي "كمِّيَّة مُتَّجِهَة"، أي أنَّها شيء له "مقدار" و"اتِّجاه".
وهذا إنَّما يعني أنَّ "القوَّة" هي "شيء يتَّحِد فيه جانبه الكمِّي وجانبه الكيفي اتِّحادا لا انفصام فيه". إنَّكَ بـ "مقدار معيَّن" من "القوَّة"، التي تعمل في اتِّجاه معيَّن، تؤثِّر في جسم ما.
"القوَّة المُفْرَدة" لا وجود لها البتة في الكون أو الطبيعة، فالقوى جميعا تُوْجَد (أو تَظْهَر) في كل تفاعل على شكل "أزواج"، فمتى تُوْجَد إحدى القوَّتين المتضادتين تُوْجَد الأخرى.
والعلاقة بين "الفاعل" و"المفعول به" يجب فهمها، الآن، على أنَّها علاقة "تفاعُل". فـ "الرافع"، مثلا، هو "الفاعل". هو فاعلُ الفِعْل، الذي هو "الرفع (رفع حجر من مكانه)". و"المفعول به" هو الذي يقع عليه فعل الفاعل (هو الحجر الذي رُفِع). على أنَّ هذا المفعول به ليس بالشيء الخامل، الساكن، الميِّت؛ ذلك لأنَّ له قوَّة، تؤثِّر، في اللحظة عينها، وفي المقدار عينه؛ ولكن في اتِّجاه معاكِس، على "الفاعل".
القانون الثالث لنيوتن، وكما أوْضَحْنا من قبل، لا يمكن التعمُّق في فهمه إلا بالدياليكتيك، فالميكانيكا وحدها لا تكفي.
خُذْ شريطا مطَّاطياً سميكاً قوياً؛ ولكن بما لا يمنعكَ من قطعه عندما تُمْعِن في شدِّه، أو مطِّه. امْسِكْ بيديكَ طرفي الشريط، وقُمْ بشدِّه، أو مطِّه.
يدُكَ اليمنى تشده في اتِّجاهها، ويدكَ اليسرى تشده في اتِّجاهها؛ أمَّا هو فيشد يديكَ الاثنتين في اتِّجاه منتصفه، وكأنَّه يحاول تقريب كلتاهما إلى الأخرى، وإنْ كنتَ لا ترى تأثير محاولته هذه.
إنَّكَ ترى فحسب تمدُّد الشريط. لقد أثَّرْتَ على الشريط بقوة (هذا هو الفعل) مقدارها يَعْدِل مقدار القوَّة (المضادة) التي أثَّر بها الشريط على يديكَ (هذا هو رد الفعل).
لقد تمدَّد الشريط، أو استطال، قليلاً، واتَّسَعَت، بالتالي، المسافة بين يديكَ. هذا إنُّما حَدَثَ؛ لأنَّكَ أنْفَقْتَ، أو بَذَلْتَ، جزءاً من قوَّتكَ؛ وهذا الجزء المُنْفَق، أو المبذول، إنَّما هو "السبب" الذي أدَّى إلى تمدُّد أو استطالة الشريط المطَّاطي.
وهذا "السبب" الذي أتى من "الخارج"، أي منكَ، قد أحْدَثَ هذا "التغيير" في الشريط إذ أصبح جزءاً من "الداخل"، أي من داخل الشريط. وهذا "السبب" يشبه، في تحوُّله من "خارجي" إلى "داخلي"، إضافة قطرة حِبْرٍ في كوب ماء نقي. وهذا "السبب"، على ما ترى، إنَّما هو الذي "أنْتَج" تمدُّد الشريط.؛ ولكنَّ هذا الذي ترى ليس سوى نصف الحقيقة.
هذا "السبب"، الذي هو "فِعْل" يديكَ في الشريط المطَّاطي، إنَّما هو "اعتداء خارجي" شُنَّ على جزء، أو جانب، من الشريط، وليس على الشريط كله، فـ "الشيء الواحد" لا يمكن فهمه إلا على أنَّه "مزدوج".
لِنَفْتَرِض أننا نجهل طبيعة الشريط المطَّاطي وخواصه؛ ونجهل، على وجه الخصوص، أنَّه يمكن أن يتمدَّد بالشدِّ. لقد قُمْتَ بشدِّه، فرأيْتَهُ يتمدَّد. رأيْتَ تمدده "ينشأ"، "يُوْلَد"، أو "يَظْهَر". ورأيْتَهُ "ينمو"، و"يزداد".
هنا، يكمن "طرف الخيط"، الذي ينبغي لكَ أن تمسكَ به، فـ "التمدُّد" إنَّما "ينشأ"، و"ينمو"، في "الصراع"، وبه. "ينشأ"، وينمو"، في "الصراع ضدَّ نقيضه الطبيعي"، الذي هو "في داخل الشريط". وهذا "النقيض الداخلي الطبيعي" إنَّما هو "التقلُّص".
وليس هذا فحسب، فـ "التمدُّد"، الذي ينشأ، وينمو، في الصراع ضد "التقلُّص"، يتحوَّل، من خلال نموِّه، إلى "تقلُّص". وليس هذا فحسب، فـ "التمدُّد" و"التقلُّص" يتَّحِدان (في داخل الشريط) اتِّحاداً لا انفصام فيه، فإذا وُجِدَ أحدهما وُجِدَ الآخر، وإذا زال أحدهما زال الآخر، فهما "يُوْلدان معاً"، و"يعيشان معاً"، و"يموتان معاً".
إنَّكَ يكفي أن ترى الشريط يتمدَّد، ولو قليلاً، حتى تستنتج الآتي: الشريط المطَّاطي، في طبيعته، ينطوي على تناقض بين "التمدُّد (وجودا وقوى)" و"التقلُّص (وجودا وقوى)". وثمَّة صراع دائم مُطْلَق بين طرفي هذا التناقض الداخلي. هذا الصراع "يستتر" تارةً، و"يظهر" طوراً. وعَبْرَ الصراع، وعَبْرَ تغلُّب أحدهما على الآخر، ينتقل الطرفان من توازن إلى توازن، وكأنَّهما يصعدان معاً سُلَّماً درجة درجة.
وعندما يتوازن الطرفان لا نرى تغييرا في أيٍّ من الاتِّجاهين، أي أنَّ الشريط المطَّاطي لا يتمدَّد، ولو قليلا، ولا يتقلَّص، ولو قليلا. عندما يتوازنا نرى تناقضهما (وتضادهما وصراعهما) وكأنَّه في "نوم" و"كمون". نرى هذا التناقض الداخلي وكأنْ لا وجود له.
ما الذي فعلته أنتَ عندما شرعتَ تشد الشريط؟ لقد أيقظتَ، وحرَّكْتَ، وأثَرْتَ، وهيَّجْتَ، هذا التناقض الذي ينطوي عليه. لقد "اعتديتَ" على أحد طرفيه، وهو "التقلُّص (وجودا وقوى)". وأنتَ بـ "اعتدائكَ" هذا إنَّما عرَّضتَ التوازن القائم بين الطرفين المتضادين لخطر الانهيار.
هذا "الاعتداء" لقي، فوراً، "مقاوَمة"؛ أمَّا "المقاوِم" فهو الطرف المتأثِّر "سلباً" بـ "الاعتداء". إنَّه "التقلُّص (وجودا وقوى)"، فالقوَّة التي أثَّرْتَ بها على الشريط إنَّما عملت في اتِّجاه "نفي"، و"إلغاء"، و"إضعاف"، أحد الطرفين، وهو "التقلُّص (وجودا وقوى)".
ويكفي أنْ تؤثِّر قوَّتكَ تلك في "التقلُّص" سلباً حتى يتأثَّر بها نقيضه الداخلي الطبيعي، وهو "التمدُّد"، إيجاباً، فالخسارة (أو الضعف، أو النقص) هناك، ربح (أو قوَّة، أو زيادة) مساوٍ ومزامِن هنا.
على أنَّ فعلكَ هذا ما كان له أن يؤثِّر في الشريط، تمدُّدا، لو لم ينطوِ الشريط على هذا التناقض بين "التمدُّد" و"التقلُّص"، والذي يشبه "الثغرة الداخلية" التي عَبْرها يَنْفُذ "العامل الخارجي"، بتأثيره المتناقض، والذي هو، في مثالنا هذا، سلبي بالنسبة إلى "التقلُّص"، وإيجابي بالنسبة إلى "التمدُّد".
يُمْكنكَ أنْ تفهم "رد فعل" الشريط المطَّاطي على أنَّه "مقاوَمة ضدَّ التغيير" يبديها الشريط كله، فالشيء، أي شيء، يميل ذاتيا إلى أن يبقى على ما هو عليه، وكأنَّه يملك ما يشبه "غريزة حُبِّ البقاء" في الكائن الحي.
إنَّه يميل إلى هذا؛ ولكنَّه، يميل ذاتيا، في الوقت عينه، إلى أن يصبح غير ما هو عليه، أي أنَّه يميل إلى تخطِّي ذاته، والتحوُّل إلى نقيضه (في الخواص والصفات والسمات المميِّزة له، جوهرياً، عن غيره). وهذه "المقاوَمة" إنَّما "تستهدف" صد، وإبطال تأثير، هذا "السبب الخارجي" للتغيير، والذي هو "فعل الشد" الذي شرعتَ تفعله.
ولكنَّ الشريط، وعلى "وحدته الظاهرة"، يعتريه انشقاق، وانقسام، وصراع، فـ "فعل الشد" يؤثِّر سلباً في أحد شطريه (وهو التقلُّص وجودا وقوى) ويؤثِّر إيجاباً في شطره الآخر (وهو التمدُّد وجودا وقوى). و"المتضرِّر" من الطرفين هو الذي "يقاوِم".
القوَّة التي أثَّرْتَ بها على الشريط إنَّما تشبه مَدْفعا أطْلَقْتَ منه مقداراً من القذائف على مواقع أحد الطرفين في داخل الشريط وهو "التقلُّص (وجودا وقوى)". أمَّا القوَّة المضادة التي أثَّر بها الشريط على يديكَ فتشبه مَدْفعا أطلق منه "التقلُّص" مقداراً مماثلاً من القذائف على يديكَ.
"قذائف التقلُّص" ألْحَقَت بكَ، أو بيديكَ، خسائر؛ ولكنَّها كانت خسائر محتملة بالنسبة إليكَ، ولم تَحُلْ بينكَ وبين المضي قُدُما في شدِّ ومطِّ الشريط. أمَّا قذائفكَ فألحقت بـ "التقلُّص" خسائر أعظم نسبياً، أي بالنسبة إليه، فرجحت كفَّة "عدوه الداخلي"، وهو "التمدُّد (وجودا وقوى)"، على كفَّته في الصراع، فانهار التوازن بينهما، ليحل محله توازن جديد.
وفي هذه الطريقة، يتمدَّد الشريط، وينمو تمدُّداً. وهذا النمو إنَّما يشبه سُلَّماً يصعده "التمدُّد" درجة درجة. بين كل درجتين يشتد ويعنف الصراع بين طرفي التناقض الداخلي، فتَرْجح كفَّة "التمدُّد" على كفَّة "التقلُّص"، فيَحْدُث "تمدُّد جديد".
ومع حدوثه ينشأ "توازن جديد" بين الطرفين. وتخطِّي "التوازن الجديد" أشد صعوبة من تخطِّي "القديم"؛ لأنَّ "التقلُّص" الذي تضاءل "وجوداً" في الشريط ازداد "قوَّة"، فهو لا يُهْزَم في جولة من جولات الصراع إلا ليغدو أشد قوَّة وبأسا في الجولة التالية. وكلَّما نما الشريط تمدُّداً اشتدَّ تمدُّده صعوبةً، فالتقلُّص فيه ينمو قوَّةً ومقاوَمةً.
والتمدُّد في نموِّه لا يشبه الخطِّ المستقيم الذي ترسمه على ورقة. إنَّه يشبهه إذا كان خطَّاً غير متَّصِل، يتألَّف من مئات، أو آلاف، أو ملايين، النُقَط. وكل نقطة هي "التمدُّد في مقداره الأصغر". كل نقطة هي "التمدُّد في طفرته الصغرى". كل نقطة هي "درجة من درجات السُلَّم".
هذا هو التمدُّد في نموِّه كما يُرى من "الباطِن"، أمَّا في نموِّه "الظاهِر" فيبدو لنا خطَّاً مستقيماً "متَّصِلاً"، أي غير مؤلِّف من نُقَطٍ كثيرة. وكل تناقض، ينمو في أحد طرفيه، في الطريقة ذاتها، أي كما ينمو التمدُّد في الشريط المطَّاطي، ظاهراً وباطناً. وعلى سبيل المثال، يُمْكنكَ وينبغي لكَ أن تَنْظُر إلى نموِّ الحرارة، أو البرودة، في الماء على هذا المنوال.
لقد رأيْتَ هذا التمدُّد (في الشريط) ينشأ (يَظْهَر) وينمو (يزداد). إنَّه ينشأ، وينمو، في الصراع ضد نقيضه، وعَبْرَ تغلُّبِه عليه. ونموِّ "التمدُّد"، وجوداً، إنِّما يعني تضاؤل "التقلُّص"، وجوداً، وتناميه، في الوقت نفسه، قوَّةً. ويعني، أيضا، تهيئة، وإعداد، وتنمية، الأسباب، والعوامل، والقوى، المؤدِّية، في آخر المطاف، إلى تحوَّل "التمدُّد" إلى نقيضه الطبيعي، وهو "التقلُّص"، أي أنَّ "التمدُّد"، في نموِّه، وفي تعاظُم نموِّه، لا "يميت" عدوِّه وهو "التقلُّص" إلا ليهيئ الأسباب لـ "إحيائه".
عندما "يتوازن" الضدان (التمدُّد والتقلُّص) في داخل الشريط يتوقَّف، مؤقتا، التغيير (المحسوس) في كلا الاتِّجاهين، فالشريط لا يَعْرِف صعودا إلى "التمدُّد"، ولا يَعْرِف هبوطا إلى "التقلُّص". ليس من تغيير (محسوس) ما دام "التوازن" قائما؛ ولكنَّ الصراع بين الضدين يستمر، ويعنف، ضِمْنَ التوازن القائم، حتى يتغلَّب أحدهما على الآخر، ويحل، بالتالي، توازن جديد محل التوازن القديم.
"التمدُّد"، في الشريط، ما أن يبلغ في نموِّه حدَّاً معيَّناً حتى ينقطع هذا الشريط؛ وبانقطاعه تنقطع صلة الوصل بين القوَّتين ("الفعل" و"رد الفعل"). لقد نما التناقض بين "التمدُّد" و"التقلُّص"، في داخل الشريط، منمِّياً، في الوقت نفسه، تناقضاً داخلياً آخر هو بين "الاتِّحاد" و"الانفصال". ومع تغلُّب قوى الانفصال على قوى الاتِّحاد ينقطع الشريط، وينتهي، بالتالي، التفاعل الذي رأيْنا بأوجهه كافة.
الشريط الواحد أصبح شريطان؛ و"التمدُّد" تحوَّل إلى "تقلُّص"؛ ولكن أين؟ في شطري الشريط المطَّاطي. ومع إمساككَ (بيديكَ) بطرفي أحد الشطرين، مُبْتَدِءاً شده، ينشأ تفاعل جديد.
عندما يبلغ الشريط المطَّاطي الحد الأقصى، أو النهاية العظمى، من تمدُّده قد تَظُن أنَّ القوَّة التي تعمل في اتِّجاه "التقلُّص" ما عاد لها من وجود في داخل الشريط. هذا الظن لا يمتُّ بصلة إلى الحقيقة الموضوعية، فتلك القوَّة ظلَّت موجودة؛ ولكن بوصفها "قوَّة مقهورة". وهذه "القوَّة المقهورة" إنَّما هي قوَّة شديدة "الكثافة"، فالضد الذي أكَلَتْ منه هزائمه كثيرا إنَّما يشبه جسما كان كبير الحجم، فشرع (بفضل هزائمه) يزداد كثافة.
"المؤثِّر الخارجي" إنَّما هو "عامِل النفي غير المباشِر"، فأنتَ عندما تشرع تمطُّ الشريط المطَّاطي، تنفي "تقلُّص" الشريط عَبْر تغذيتكَ لقوى التمدُّد فيه. و"تأثير" المؤثِّر الخارجي إنَّما يشبه "نصَّاً" لا يفهمه الشيء إلا إذا تُرْجِم، في داخله، بلغته. ويختلف "تأثير" المؤثِّر الخارجي ذاته باختلاف طبائع الأشياء؛ ولا بدَّ لنا، بالتالي، من أن نسعى دائما في إجابة السؤال الآتي: لماذا أثَّر هذا المؤثِّر الخارجي على هذا النحو في هذا الشيء وليس على نحو آخر؟ والجواب المبدئي دائما إنَّما هو الآتي: لأنَّ طبيعة الشيء هي التي تحدِّد وتُقرِّر طريقة وطبيعة تأثُّر الشيء بهذا المؤثِّر الخارجي.
"السبب (أو "المؤثِّر")" إنَّما هو "شيء متحوِّل إلى نقيضه"، فقبل، ومن أجل، أن ترفع جسما من مكانه، لا بدَّ لكَ من أنْ تملك (في يدكَ) من القوَّة ما يكفي لرفعه؛ ولكنَّك لن تتمكَّن أبدا من رفعه إذا لم تَسْتَهْلِك (تَسْتَنْفِد، تُنْفِق) في الوقت ذاته بعضا من القوَّة التي تملك، فهذه القوَّة لا يمكنها أن تكون "السبب"، أو "المؤثِّر"، إلا بوصفها ثنائية "الوجود ـ النفي". السبب أو العامِل الخارجي إنَّما هو "قوَّة (خارجية) نافية"، فيدُكَ الرافعة لجسم من مكانه إنَّما هي القوَّة الخارجية النافية للجسم في حاله قبل الرفع.
ادْفَعْ بيدكَ جسما ضئيل الكتلة، أي أنَّ كتلته أقل بكثير من كتلة جسمكَ، تراه وقد تحرَّك من مكانه؛ أمَّا جسمكَ فقد ظلَّ ثابتاً في مكانه. لقد أثَّرْتَ فيه بقوِّة، فأثَّر فيكَ بقوَّة تعدلها مقدارا، وتُضادها اتِّجاها. على أنَّ هذا التعادُل الكمِّي، المتضاد اتِّجاها، لم يُحرِّككَ من مكانكَ مثلما حرَّك الجسم؛ والسبب هو "الفَرْق في الكتلة"، فكتلة جسمكَ أكبر من تتأثَّر بهذا المقدار من قوَّة ردِّ الفعل.
ضَعْ جسما على سطح الأرض، فكيف يتبادل هو والأرض التأثير؟ إنَّ الأرض تشدُّه إليها، أي إلى مركزها.. مركز الجاذبية الأرضية، بقوَّة تعدل مقدارا، وتُضاد اتِّجاها، القوَّة التي بها يشدُّ الجسمُ الأرضَ إليه؛ والنتيجة العملية التي يفضي إليها "فَرْق الكتلة" هي أنَّ الجسم مشدود إلى الأرض، التي تبدو غير مشدودة إلى الجسم.
إنَّ التعادل في المقدار بين "قوَّة الفعل" و"قوَّة ردِّ الفعل (أو "قوَّة الفعل المضاد")" لا يمنع "التغيير"، أو "التغيير المتبادل"، فكلا الجسمين المتفاعلين لا بدَّ له من أن يتغيَّر إلى حدٍّ ما، وبمقدار ما، وفي اتِّجاه ما، وعلى نحوٍ ما. وليس "التغيير" سوى نفي لجانب ما من الجسم، أو الشيء؛ وليس "النفي" سوى تحوُّل هذا الجانب إلى نقيضه؛ وليس "التغيير المتبادل" سوى "النفي المتبادل".
"الفعل" إنَّما هو قوَّة ضد التوازن القائم في الجسم "المفعول به"؛ و"ردُّ فعل" هذا الجسم هو، أيضاً، قوَّة ضد التوازن القائم في الجسم "الفاعل". "الفعل" هو ما يُغذِّي تناقضا معيَّنا في داخل الجسم "المفعول به"؛ و"ردُّ الفعل" هو ما يُغذِّي تناقضا معيَّنا في داخل الجسم "الفاعل". "الفعل" هو عمل يقوم به جسم ضد جسم؛ و"ردُّ الفعل" هو عمل يقوم به الجسم "المفعول به" ضد الجسم "الفاعل". "الفعل" و"ردُّ الفعل" هما تفاعل بين جسمين؛ وهذا التفاعل يُغذِّي "التفاعل الداخلي" لكلٍّ من الجسمين. وكل جانب من الجوانب الداخلية لجسم ما يتفاعل ويتبادل التأثير مع غيره.
الخاصِّيَّة (الصفة، السمة) إنَّما هي خاصِّيَّة لـ "شيء ما"، لـ "جسم ما"، لـ "جسيم ما"، فليس من وجود لخاصِّيَّة لا وجود للشيء الحامِل لها، وليس من وجود لشيء لا خواصَّ له.
إذا رأيْتَ "تقلُّصاً" فأنتَ إنَّما ترى جسما ما في حالٍ من التقلُّص. لقد تقلَّص هذا الجسم، فَمِنْ أين أتى تقلُّصه؟ أتى من شيء واحدٍ فحسب.. من "التمدُّد" الذي رأيْناه، من قبل، ينمو ويزداد. هل لكَ أن تتوقَّع حجم هذا التقلُّص الذي رأيْته ينشأ، أو يَظْهَر، الآن؟ مبدئياً، يمْكنكَ أنْ تتوقَّع حجما له متناسباً مع حجم التمدُّد الذي بَلَغَهُ من قبل.
هذا التقلُّص الذي نشأ، أو ظَهَر، الآن يمْكنكَ وينبغي لكَ أنْ تَنْظُرَ إليه على أنَّه "نتيجة"؛ وليس من "نتيجة" لا "سبب (أو أسباب)" لها. حاوِل الآن معرفة الأسباب والعوامل التي أدَّت إلى هذا التقلُّص.
بَعْدَ بحث واستقصاء ستَكْتَشِف وتَسْتَنْتِج الآتي: "التمدُّد"، في نموِّه، وبنموِّه، هو "المُنْتِج" لتلك الأسباب والعوامل التي أدَّت إلى "التقلُّص"، نشوءاً، أو ظهوراً، ونموَّاً من ثمَّ، فهذا "التقلُّص" ما كان له أن يُوْلَد (أن ينشأ أو يَظْهر) إذا لم يكن مُخْتَزِنا "طاقة نمو"، أي إذا لم يكن مشتمِلاً على أسباب وعوامل وقوى نموِّه مِنْ بَعْد ولادته. و"العامِل الخارجي" هنا هو العامِل الذي قد يُسَرِّع، أو يُبَطِّئ، هذا النمو "الذاتي".
ما معنى أنْ يُوْلَد هذا "التقلُّص" وينمو؟ مهما توسَّعْتَ وتَعَمَّقْت في بحثكَ عن جواب فإنَّكَ لن تَجِد مفرَّاً من استنتاج الآتي: "التقلُّص"، في نشوئه ونموِّه، إنَّما يُظْهِر ويؤكِّد وجود "التمدُّد"، واقعاً وقوَّةً.
كلَّما نما "التقلُّص" تضاءل "التمدُّد"، فالجسم الأكثر تقلُّصاً إنَّما هو ذاته الجسم الأقل تمدُّداً. وكلَّما نما "التقلُّص" نما "التمدُّد" قوَّةً، فالجسم الأكثر تقلُّصاً (الأقل تمدُّداً) إنَّما هو الجسم الذي تعاظم فيه نمو "قوَّة التقلُّص". وهذا إنَّما يعني أنَّ نمو "التقلُّص" تترتَّب عليه النتيجة المتناقضة الآتية: تضاؤل "التمدُّد" وجوداً أو واقعاً، وتعاظمه قوَّةً. وبسبب هذا التعاظم في قوَّة "التمدُّد" نرى الآتي: كلَّما تقلَّص الجسم اشتدت صعوبة تقليصه.
"التقلُّص" الناشئ، ثمَّ النامي، إنَّما هو ثمرة، أو نتيجة، صراعٍٍ.. صراع يخوضه "التقلُّص" ضد نقيضه الطبيعي، أي ضدَّ "التمدُّد"، وجوداً وقوَّةً. صراع يتغلَّب فيه "التقلُّص" على مقاوَمة نقيضه، "التمدُّد".
وأنتَ لو أمْعَنْتَ النظر في أي فعل أو عمل تقوم به لاكتَشَفْتَ أنَّكَ لا تستطيع أن تحقِّق أي شيء إلا من خلال دخولكَ في صراع ضدَّ قوى تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد لاتِّجاه فعلكَ أو عملكَ.. ومن خلال تغلُّبِكَ على تلك القوى.
الآن، دَعْ هذا "التقلُّص" ينمو، فهل يمكنه أن ينمو إلى "اللا نهاية"؟ كلا، لا يمكنه ذلك، فعندما يصل، في نموِّه إلى حدٍّ معيَّن نرى أنَّ توازناً معيَّنا في الجسم المتقلِّص قد كُسِر بغتةً، أي أنَّ الجسم المتقلَّص قد تغيَّر في الكيف، أو النوع، بغتةً، أو في طفرة. أُنْظُر، على سبيل المثال، إلى الشريط المطَّاطي الذي ينمو تمدُّداً بسبب شدِّكَ له (بيديكَ من طرفيه). عندما يصل، في تمدُّده، إلى نقطة معيَّنة ينقطع، عندئذٍ، بغتةً.
هذا "التقلُّص" ما أن يبلغ الحدِّ الأقصى من نموِّه في الجسم حتى يتغيَّر الجسم كيفيا.. ويتحوَّل "التقلُّص" إلى "تمدُّد". وهنا ينبغي لكَ أن تبحث عن أوجه الاختلاف بين هذا "التمدُّد الجديد" وذاك "التمدُّد القديم"، فقد توسَّطهما "تقلُّص" لا بدَّ له من أن يُنْتِج أوجه الاختلاف تلك.
نيوتن، في قانونه الثالث، أوضح أنَّ التفاعل (التأثير المتبادل) هو علاقة بين "جسمين مختلفين"، أحدهما يأتي بـ "الفعل"، فيأتي الآخر، في اللحظة عينها، بـ "ردِّ الفعل"، المساوي لـ "الفعل"، مقدارا، والمعاكِس له اتِّجاها. "والاختلاف" بين الجسمين المتفاعلين إنَّما هو اختلاف في "القصور الذاتي"، أو "الكتلة". وهذا الاختلاف هو ما يُنْتِجُ اختلافاً في "التأثير" على الرغم من التماثُل في المقدار بين "قوَّة الفعل" و"قوَّة ردِّ الفعل"، والتضاد في الاتِّجاهـ فـ "الكرة" تحركَّت مسافة 10 أمتار إلى الأمام، بينما تحركَّت "القدم" إلى الوراء مسافة أقل بكثير. إنَّ الفَرْق في "القصور الذاتي"، أو "الكتلة"، هو ما جَعَلَ المقدار ذاته من القوَّة قادراً على تحريك "الكرة" إلى الأمام مسافة 10 أمتار، وعاجزاً عن تحريك "القدم" المسافة ذاتها إلى الوراء. هذا الفَرْق هو ما منع "القوَّتان المتساويتان في المقدار والمتضادتان في الاتِّجاه" من أن تُبْطِل كلتاهما تأثير الأخرى.
بهذا "الفَرْق"، أي الفَرْق في "القصور الذاتي"، أو "الكتلة"، بين الجسمين المتفاعلين، حلَّ نيوتن التناقض بين "قانونه الثالث" و"الوقائع"، فمنطق هذا القانون يقود إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ التساوي في مقدار قوَّتين متضادتين متعاكستين في الاتِّجاه يجب أن يُبْطِل "التأثير المتبادل (المحسوس)"، أي أن يمنع، في مثال "الكرة والقدم"، الكرة من أن تتحرَّك إلى الأمام مسافة 10 أمتار، والقدم من أن ترتدَّ إلى الوراء؛ أمَّا "الوقائع" فتبدو، كما رأيْنا في المثال ذاته، مخالفةً لمنطق هذا القانون.
هذا الحل (للتناقض) كان جزئياً حتى في نطاق الحركة الميكانيكية، وحال بين "القانون الثالث" وبين تحويله إلى قانون كوني عام، يتعدَّى نطاقه الميكانيكي الضيِّق، فهل من حلٍّ دياليكتيكي له؟ دعونا أوَّلا نتأمَّل "الميزان"، هيئةً وعملاً.
"الميزان" هو آلة من كفَّتين، تُوْزَن بها الأشياء، لِيُعْرَفَ مقدار وزنها. ضَعْ في إحدى الكفَّتين غراما واحدا، وضَعْ في الكفَّة الأخرى غراما واحدا أيضاً، فماذا يَحْدُث؟ تتوازن الكفَّتان. ضَعْ، الآن، في إحداهما غراما ثانيا، فماذا يَحْدُث؟ يَخْتَل التوازن، فالكفَّة التي وَضَعْتَ فيها غرامين اثنين رجَحَت قليلاً على الكفَّة الأخرى التي وَضَعْتَ فيها غراما واحدا فحسب. وهذا الذي حَدَثَ إنَّما هو "توازُنٌ جديد" في الوقت نفسه. ضَعْ، بَعْدَ ذلك، في الكفَّة الراحجة غراما ثالثا، فماذا يَحْدُث؟ يختل التوازن أكثر، فالكفَّة التي وَضَعْتَ فيها ثلاثة غرامات رجَحَت أكثر على الكفَّة الأخرى. وهذا الذي حَدَثَ إنَّما هو "توازُنٌ جديد (ثالث)" في الوقت نفسه. وعلى هذا النحو يمكننا وينبغي لنا فَهْم "التوازُن (في القوى)".
الكرة كانت واقفة، ساكنة، ثابتة، على سطح الأرض. هذا الكرة تنطوي على مَيْلين متضادتين: "المَيْل إلى السكون"، أي المَيْل إلى أن تظلَّ ساكنة، و"المَيْل إلى الحركة (التي هي نقيض السكون)". هذان الميْلان المتضادان هما الآن في حالٍ من التوازن. ونستطيع، إذا ما أرَدْنا، أن نقول إنَّ قوَّتين متضادتين (في داخل الكرة) هما الآن في حالٍ من التوازن؛ إحداهما هي التي تعمل في اتِّجاه الإبقاء على الكرة ساكنة، والأخرى هي التي تعمل في اتِّجاه نفي هذه الحال، أي في اتِّجاه جَعْل الكرة تتحرَّك.
ما الذي يَحْدُث عندما تَضْرِب الكرة بقدمكَ؟ "الضربة" هي "إخلالٌ بهذا التوازن (بين طرفي هذا التناقض الذي تنطوي عليه الكرة الساكنة)". إنَّها، أي "الضربة"، تُرَجِّح كفَّة "المَيْل إلى الحركة" على كفَّة "المَيْل إلى السكون". إنَّها "متناقضة التأثير"، فهي بالنسبة إلى أحد الجانبين، وهو "السكون"، "اعتداء عليه"، وبالنسبة إلى الجانب الآخر، وهو "الحركة"، "دعْمٌ له".
الأخذ بالقانون الثالث لنيوتن على هذا النحو (الدياليكتيكي، أو اللا ميكانيكي) لا يُبقي لدينا من حاجة إلى اتِّخاذ "اختلاف القصور الذاتي أو الكتلة" حلاًّ لذلك التناقض. ولعلَّ خير دليل على ذلك هو "الفوتون"، الذي هو جسيم عديم الكتلة. إنَّ الضوء يسير في الفراغ بسرعة 300 ألف كلم في الثانية الواحدة، فإذا اعترض سَيْره لوحا زجاجيا تضاءلت، ولو قليلا جدا، سرعته في داخل هذا الجسم. هذا الضوء كان قبل اختراقه اللوح الزجاجي في حالٍ من التوازن بين "الحركة" و"السكون". اصطدامه باللوح الزجاجي أخلَّ بهذا التوازن، فرجَحَت قليلا كفَّة السكون على كفَّة الحركة، فتضاءلت سرعته في داخل هذا اللوح.
الآن، حاوِل أن تَفْهََم وتُفَسِّر ظواهر أخرى (غير ميكانيكية) من خلال هذا القانون بَعْد توسيعه وتعميقه دياليكتيكيا. اقْرَع جرسا في غرفة ينام فيها عمرو وزيد، فترى عمرو يستيقظ، أمَّا زيد فيظل نائما. كلاهما تعرَّض للتأثير ذاته؛ ولكن التوازن بين "اليقظة" و"النوم" في داخل زيد أقوى من التوازن ذاته في داخل عمرو، فلإحداث فَرْق بين طرفي هذا التوازن في داخل زيد يُحْدِثُ التأثير، أو التغيير، ذاته، وهو الاستيقاظ، ينبغي لنا أن نقرع جرسا أكبر. وقد تَعْتَرِض قائلاً: قَرْع الجرس هو "الفعل"؛ ولكننا لم نرَ الجرس يتأثَّر هو ذاته بـ "ردِّ الفعل"، كما تأثَّرت "القدَم التي ضربت الكرة". ردَّا على هذا الاعتراض نقول: الذي تأثَّر بـ "ردِّ الفعل"، هنا، إنَّما هو ما دَخَلَ في النائمين من تأثيرٍ (الصوت). إنَّ "قوَّة النوم" في داخل عمرو وزيد هي التي قاومت التأثير الصوتي؛ ولكن مقاومتها عند عمرو كانت هي الأضعف، فاستيقظ عمرو، ولم يستيقظ زيد. أنتَ إذا وَضَعْتَ غراما واحدا في داخل إحدى كفَّتي ميزان، كان في كلٍّ منهما ما يَزِنُ 1000 كيلو غرام فإنَّكَ لن تُحْدِث فَرْقا في توزانهما يمكن أن يؤدِّي إلى ترجيح الكفَّة التي وَضَعْتَ فيها هذا الغرام على الكفَّة الأخرى. هذا الفَرْق الذي مقداره غراما واحدا يمكن أن يؤدِّي إلى ذلك لو كان في كلٍّ من الكفَّتين ما يَزْنُ 10 غرامات مثلا.
المنهج الدياليكتيكي.. أفكار وأمثلة متناثرة
"تغيير العالَم" إنَّما هو عملٌ مشروط دائما بـ "معرفة العالَم"، فـ "الجهل" و"التغيير" لا يلتقيان. والعلوم المختلفة هي "عيون العقل" التي من خلالها يرى العقل العالَم ويعرفه. أمَّا "الفلسفة"، التي لا يمكن أبدا أن تنتفي حاجة البشر إليها، فهي عِلْم الواقع الذي ضاق به كل عِلْم.
إنَّها عِلْم القوانين الموضوعية العامة للعالَم، فللواقع في شموله وكُلِّيَتِه من القوانين الموضوعية ما يُوَلِّد الحاجة إلى الفلسفة، عِلْماً تُكْتَشَف فيه وتُصاغ تلك القوانين. وكل من يضرب صفحا عن الفلسفة العِلْميَّة إنَّما هو إنسانٌ اختار أن يَجْهَل الواقع الموضوعي في كُلِّيَتِه، أو أنْ يَفْهَم "العالَم" على أنَّه أجزاء، مُنْفَصِلٌ بعضها عن بعض، لكلِّ جزء منها قوانينه الموضوعية؛ ولكن ليس من قوانين موضوعية عامَّة، تَشْتَرِكُ فيها أجزاء العالَم جميعاً.
ويكفي أنْ تُقِرَّ بالحقيقة الموضوعية الكبرى، وهي أنَّ "العالَم" واحدٌ موحَّد، على تنوُّعه وكثرة أجزائه وجوانبه، حتى لا تَجِدَ مناصاً من عِلْمٍ يسعى في اكتشاف ومعرفة القوانين الكونية العامَّة، الأوسع نطاقا من قوانين الفيزياء والكيمياء والميكانيكا.. وهذا العِلْم لا يمْكِنه إلا أن يكون "الفلسفة"، على أن تكون "عِلْمِيَّة"، تَبْحَثُ عن "الحقيقة"، بمقياسها العِلْمي ـ الموضوعي.
إنَّ في كل عِلْم من العلوم "تَكْمُن" قوانين موضوعية عامَّة لا يمكن إظهارها وكشفها وصوغها إلا بفلسفة تأخذ من العِلْم لتعطيه، ويأخذ منها العِلْم ليعطيها، فـ "العطاء المتبادل"، أو "الأخذ المتبادل"، هو قوام وجوهر العلاقة بين "العِلْم" و"الفلسفة (العِلْمِيَّة)". كل عِلْم إنَّما يتوفَّر على دراسة جانب (أو جزء) من الواقع الموضوعي، أمَّا "الفلسفة" فتتوفَّر على دراسة الواقع الموضوعي في كُلِّيَتِه.
قَرَأْتُ، ذات مرَّة، في كتاب فيزيائي أنَّ جسيم الإلكترون (في المُسَرِّعات) تنمو وتزداد "كتلته" مع زيادة "سرعته"، وأنَّ "تَسْريعه" أفضى إلى الاستنتاج الآتي: كلَّما سَرَّعْتَ الإلكترون أكثر اشتدَّت وعَظُمَت صعوبة تسريعه.
تأمَّلْتُ هذا الذي قَرَأْت، والذي هو في منزلة "القانون الفيزيائي"، في حقل "الجسيمات المادِّيَّة"، فتساءلتُ قائلاً: لماذا لا نُعَمِّم هذا الاستنتاج؟ ومع بحثي العِلْمي في ظواهر أخرى، توصَّلْتُ إلى أنَّ ذاك القانون ينطوي على ما يشبه "القانون الكوني (الفلسفي) العام"، فـ "العام" يَكْمُن دائما في "الخاص".
ويمكن أنْ أصوغ هذا القانون الكوني العام على النحو الآتي: كلَّما نما الشيء اشتدَّت وعَظُمَت صعوبة نموِّه. أمَّا "السبب" فهو "المقاوَمة" التي يبديها "النقيض"، فالشيء لا ينمو (في جانبٍ ما) من غير أنْ ينمِّي، في الوقت نفسه، وبما يتناسب مع نموِّه، حجما ومقدارا، "المقاوَمة" لهذا النموِّ، فإذا أنتَ برَّدَتَّ جسما ما فسوف ترى أنَّ نموَّ برودته يَجْعَل تبريده أكثر وأشدُّ صعوبة من ذي قبل.
على "الفكر"، ومهما اعتلى في "التجريد"، أن يَشْهَد، دائما، بما رآهُ وعاينه، فـ "الواقع العياني" هو "المنبع الدائم"، و"المصب الدائم"، لكل فكر حي ودينامي، يريد له صاحبه أن يكون قوَّة تغيير للواقع.
"العِيان" هو "الرؤية بالعين"، ولا بدَّ لـ "العين"، أي عضو الإبصار، من أن ترى هي أوَّلا "الواقع".. من أن تلقاهُ "عِيانا"، أي أن تراهُ رؤية لا شكَّ في صحتها؛ ثمَّ لا بدَّ لـ "عين العقل" من أن تسبر غوره بـ "التجريد"، الذي لا عِلْم إلا به.
النظر إلى الأشياء على أنَّها تامَّة الصنع، لا تتغير أبدا، إنَّما هو ذاته النظر إليها على أنَّها أشياء منفصلة انفصالا ميتافيزيقيا عن بعضها بعضا، فالشيء A لم يكن، بحسب التصوُّر الميتافيزيقي، ثمرة التطور الطبيعي للشيء B وليس له من أصول في غيره من الأشياء الأقدم منه وجودا. والشيء A لا يؤثِّر ولا يتأثر، بحسب التصوُّر ذاته، في الشيء C الذي في جواره، وإنْ أثَّر وتأثَّر فيه فإنَّ "جوهره" يظل في الحفظ والصون، أي بمنأى عن تأثيره وتأثُّره.
إنَّ الشيء لا يمكن أن يكون على ما هو عليه إلا لكونه ثمرة تفاعل طبيعي وحتمي بينه وبين بيئته، فالمستحيل بعينه أن تتصوَّر الشيء إذا ما فَصَلْتَهُ فصلا مُطْلقا عن بيئته. في التصوُّر الميتافيزيقي، نفهم الشيء على أنَّه، في ماهيته وخواصه، شيء منفصل تماما عن بيئته، فهو يظل هو ذاته ولو تغيَّرت بيئته تغيُّرا تامَّاً.
ومع ذلك، نحتاج، في مُسْتَهل بحثنا العلمي، إلى المنهج الميتافيزيقي، فقبل، ومن أجل، دراسة الشيء في حركته وتغيُّره، لا بدَّ لنا من تعيين ماهية هذا الشيء.
"التصنيف النهائي" للأشياء هو جوهر المنهج الميتافيزيقي، فالشيء إمَّا أن يكون A وإمَّا أن يكون B أي أنَّه لا يمكنه أبدا أن يكون A و B في الوقت عينه. لا يمكنه أن يكون متناقضا في ذاته، فالإنسان، مثلا، إمَّا أن يكون "حيَّاً" وإمَّا أن يكون "ميتاً"، فالمستحيل، بحسب هذا المنهج، أن يكون "حيَّاً" و"ميتاً" في الوقت ذاته. على أنَّ واقع الإنسان الحي يؤكِّد أنَّ الإنسان في حياته هو مجتمع وصراع "الحياة" و"الموت"، ولا يمكن أن تقوم قائمة للحياة في الإنسان إلا بهذا الصراع المستمر بين قوى الحياة وقوى الموت فيه.
في "وحدة (وامتزاج وتداخل) الضدين"، نرى، على سبيل المثال، شيئاً من "الدكتاتورية" في "الديمقراطية"، وشيئاً من "الديمقراطية" في "الدكتاتورية"، فليس من "ديمقراطية خالصة"، وليس من "دكتاتورية خالصة". ونرى "النسبية" في معنى الضدين، أي في معنى "الديمقراطية"، وفي معنى "الدكتاتورية"، فهذه "الديمقراطية" إنَّما هي "ديمقراطية" بالنسبة إلى.. و"دكتاتورية" بالنسبة إلى.. ؛ وهذه "الدكتاتورية" إنَّما هي "دكتاتورية" بالنسبة إلى.. و"ديمقراطية" بالنسبة إلى..
وعليه، لا بدَّ لنا من أن نسعى دائما في معرفة كيف ينطوي كلا الضدين على الآخر.. كيف نفهم "الحرارة"، على سبيل المثال، على أنَّها "برودة".
يقوم الدياليكتيك على مبدأ "استحالة أن يُوْجَد أحد الضدين (في داخل شيء ما) من دون الآخر". وهذا إنَّما يعني، عند البحث والدراسة، أن نسعى في معرفة واكتشاف كيف يُظْهِر ويؤكِّد أحد الضدين وجوده (في داخل شيء ما) عندما يَظْهَر لنا ويتأكَّد وجود الآخر، فإذا رَأيْنا جزيئات الماء "تتجمَّع"، أو "تتجاذب"، فإنَّ علينا أن نسعى، في الوقت نفسه، في معرفة واكتشاف كيف يُظْهِر ويؤكِّد "التفرُّق"، أو "التنافر"، وجوده في داخل الماء، أي في العلاقة بين جزيئاته. إنَّ قطبي التناقض لا يمكن أبدا الفصل بينهما، فكلاهما يستمدُّ وجوده من وجود الآخر. كلاهما يُوَلِّد، ويُنْتِج، الآخر.
الإنسان، في سعيه المعرفي، إنَّما يستهدف الوصول إلى "الحقيقة"، أي إلى فهم الأمور فهما يمْكن، عبر الممارسة والتجربة العملية، إقامة الدليل على صحَّته. وتوصُّلا إلى "الحقيقة" لا بدَّ من إنشاء وتطوير منهج، يتأكَّد، عبر الممارسة والتجربة العملية، أنَّ أخْذَنا به يُوْصلنا إلى "الحقيقة"، التي ليس من ميزان نزنها به سوى ميزان الممارسة والتجربة العملية.
وهذا المنهج هو ما تواضع الفلاسفة على تسميته "المنطق"، متوفِّرين على إنشاء وتطوير قواعد ومبادئ له. و"الفكر"، أو "التفكير"، ينبغي له أن يراعي، تلك القواعد والمبادئ، وأن يستمسك بها ويتقيَّد، إذا ما أراد صاحبه الوصول إلى "الحقيقة"، فمِنْ أين جاء "المنطق"، بقواعده ومبادئه، إلى رأس الإنسان؟ لم يجئ إلا من مَصْدَرٍ واحد هو "التجربة العملية (الممارسة)" للإنسان في سياق صراعه مع الطبيعة.
من التجربة العملية ليس إلا تَعلَّم الإنسان أمرا في منتهى الأهمية وهو أنه لا يمكنه فعل أي شيء، فثمَّة قوانين موضوعية مادية ينبغي للإنسان موافقة فكره معها إذا ما أراد لفعله النجاح.
إنَّ "النجاح" و"الفشل" في التجارب العملية للإنسان هما ما فرضا عليه أن يكون "منطقيا في تفكيره". "والمنطقية في التفكير" لم تنشأ لدى البشر إلا بصفة كونها "شرط بقاء".
الإنسان في صراعه مع الطبيعة من أجل البقاء خاض، عن اضطرار، "التجربة العملية"؛ ولكنه لم يخضها، وما كان في مقدوره أن يخوضها، إلا بالتعاون مع غيره، فـ "العمل الجماعي (الاجتماعي)" هو أداة وسلاح الإنسان في الصراع مع الطبيعة من أجل البقاء.
ومن خلال "العمل الجماعي"، و"التجارب العملية الجماعية"، اشتدت لدى البشر الحاجة إلى "اللغة". ومع نشوء "اللغة"، أصبح ممكنا أن تؤدِّي "التجربة العملية الجماعية" للبشر إلى جعلهم أشد احتياجا إلى إنشاء وتطوير قواعد ومبادئ للتفكير المنطقي.
التفكير الدياليكتيكي يبدأ حيث تنتهي الصلاحية المنطقية للمبادئ الآتية: "التماثُل"، "انتفاء التناقض"، "الثالث المستحيل".
ليس من شيء خالصٍ، لا يُماثِل إلا ذاته، فالواقع يُثْبِت دائما أنَّ A لا تساوي A. الواقع يُخطِّئ، على سبيل المثال، قولا من قبيل "الحياة هي الحياة، والموت هو الموت"، ففي الحياة موت، وفي الموت حياة؛ لأنَّ الشيء الخالص، في داخله، من نقيضه هو المستحيل بعينه.
ينبغي لنا أوَّلا أن نميِّز "الحياة" من "الموت"؛ ولكن لا يمكننا أبدا أن نتعمَّق في فهم "الحياة" إذا ضربنا صفحا عن حقيقة أنَّها والموت كلٌّ واحد غير قابل للاجتزاء.
والواقع يخطِّئ قولا من قبيل "الحياة ليست الموت، والموت ليس الحياة"، فإنَّ A لا يُمْكنها أن تُوْجَد إلا وهي منطوية دائما على نقيضها الطبيعي B.
والواقع يخطِّئ، أخيرا، قولا من قبيل إنَّ زيد إمَّا أن يكون حيَّاً وإمَّا أن يكون ميتاً؛ لأنَّ زيد هو اجتماع الحياة والموت، فـ "الثالث المستحيل" ليس أبدا بمستحيل. إنَّ الشيء، كل شيء، هو، دائما، A و B.
والمُتَشكِّك يُمْكنه أن يغدو متيقِّناً إذا ما سأل وسعى في إجابة السؤال الآتي: كيف تُنْتِج "الحياة"، "الموت"، وكيف يُنْتِج "الموت"، "الحياة"؟ كل من يُصر على أن يفهم "الحياة" على أنَّها "مُطْلقة خالصة"، و"الموت" على أنَّه "مُطْلق خالص"، لن يتمكَّن أبدا من إجابة ذاك السؤال؛ لأنَّه لن يسأله.
تلك المبادئ الميتافيزيقية الثلاثة لا تسمح لـ "كاميرا" الدماغ بأن تُصوِّر الواقع في حركته، وتغيُّره، وفي تحوُّله الطبيعي والحتمي إلى نقيضه.
الدياليكتيك Dialectic هو المنهج الفلسفي في الفهم والتفسير الذي لا يَعْدِله منهجاً لجهة شيوعه وانتشاره، والذي بفضل الفكر الماركسي والأحزاب القائلة به تحوَّل إلى ما يشبه "الثقافة الفلسفية الشعبية ـ العالمية"، فليس المثقَّفون الماركسيون فحسب، وإنَّما العامَّة من الناس، أخذوا وقالوا به؛ ولكن من غير أن يتمثَّلوه كما يتمثَّل الجسم الغذاء.
لقد أخفقوا، في غالبيتهم العظمى، في جعله، أو اتِّخاذه، "أداةً معرفية"، مُسْتَنْفِدين جهدا عظيما في حِفْظ واستظهار "المُخْتَصَر (غير المفيد)" من "مبادئه وقوانينه ومفاهيمه"، فإذا تحدَّاهم هذا الواقع أو ذاك أن يَسْتَخْدموا الدياليكتيك، أو ما حفظوه منه، في البحث والتحليل أظهروا عجزا عن الإتيان بشيء جديد يُعْتَد به، مُذكِّرين فحسب بالأمثلة التي أوردتها مؤلَّفات فلسفية ماركسية، وكأنَّ استخدام المنهج الدياليكتيكي من الصعوبة بمكان!
إنَّ الدياليكتيك، في جوهره، ليس سوى النظر إلى الأشياء والظواهر، نشوءاً وتطوُّراً وزوالاً، على أنَّها "الأضداد في وحدتها وصراعها"، فـ "التطوُّر"، في كل شيء، إنَّما هو "صراع (أو ثمرة صراع) ضدين متَّحِدين اتِّحاداً لا انفصام فيه".
في وَصْفِكَ لـ "التطوُّر"، تقول، ولا بدَّ لكَ من أن تقول، إنَّ هذا الشيء "كان".. فـ "أصبح".. كان "حاراً"، فأصبح "بارداً". كان "متمدِّداً"، فأصبح "متقلِّصاً". كان "ساكناً"، فأصبح "متحرِّكاً". كان "مضيئاً"، فأصبح "مُظْلِماً". كان "سريعاً"، فأصبح "بطيئاً".
في وَصْفِكَ هذا إنَّما تصف "التغيير" الذي اعترى الشيء في "صفاته وخواصه". وأنتَ لو أمعنتَ النظر في الصفتين، أو الخاصيتين، اللتين تَذْكرهما بَعْد كلمتي "كان" و"أصبح" لما شقَّ عليكَ أن تستنتج أنَّ تطوُّر الشيء ليس سوى تحوُّله إلى نقيضه، وأنَّ التطوُّر في الشيء ذاته ليس سوى تحوُّل صفة من صفاته، أو خاصية من خواصه، إلى نقيضها، فهل تستطيع، مثلا، أن تَصِفَ "التطوَّر" إذا ما قُلْتَ إنَّ هذا الشيء كان "حاراً"، فأصبح "بطيئاً"؟!
في وعيْنا وثقافتنا ومعرفتنا، وفي لغتنا، نرى بعضا من الأضداد في وضوح، فـ "الحياة" و"الموت" ضدان؛ وكذلك "الحار" و"البارد"، "التمدُّد" و"التقلُّص"، "التجاذب" و"التنافر"، "النور" و"الظلمة"، .. إلخ. ولكن، غالبية الأضداد ليست بهذا الوضوح، فنضطَّر، بالتالي، إلى التعبير عنها لغويا بحرف "لا"، فنضعه في صدر الكلمة ليدلَّ على الفقد، أو الانقطاع، أو الكف، أو التلاشي. إننا نُدْخِل هذا الحرف في تركيب بعض الكلمات للتعبير عن الأضداد، فنقول، مثلا، "لا مركزي"، أو "لا نهائي"، أو "لا إنساني".. إلخ. نقول إنَّ "البارد" هو ضد "الحار"، ولا نقول إنَّ الـ "لا حار" هو ضد "الحار"، فهذان الضدان إنَّما هما من الأضداد الواضحة لدينا (وفي لغتنا). أمَّا الأضداد التي لا يمكننا التعبير عنها لغويا في وضوح مماثِل كمثل ضد "المركزي" فنضطَّر إلى التعبير عنها باستخدام حرف "لا"، فضد "المركزي" إنَّما هو الـ "لا مركزي".
الشيء قبل أن يتحوَّل، وحتى يتحوَّل، إلى "نقيضه" لا بدَّ له من أن يتغيَّر في بعضٍ من صفاته وخواصه.. لا بدَّ له، مثلا، من أن يتحوَّل من "حار" إلى "بارد"، ومن "متمدِّد" إلى "متقلَّص". أمَّا تحوُّله إلى "نقيضه" فلا معنى له سوى "الزوال ـ النشوء"، فهذا الشيء "يزول" لـ "ينشأ" عن زواله "شيء آخر"، فالشيء A يزول، فينشأ عن زواله الشيء B. ولا معنى له، أيضا، إلا إذا امتلكَ الشيء B من الصفات والخواص ما يجعله مضاداً ونقيضاً للشيء A.
هذا "النجم" نشأ، فتطوَّر، ثمَّ زال. ولكن، ما معنى "زواله"؟ هل معناه أن لا شيء آخر، أو أشياء أُخرى، قد نشأ، أو نشأت، عن زواله؟ كلا، ليس "العدم" معنى زواله.
أمْعِن النظر الآن في الشيء الذي نشأ عن زوال هذا النجم. أمْعِن النظر في صفاته وخواصه. إنَّ هذا الشيء الجديد الذي نشأ عن زوال النجم لا بدَّ له من أن يملك من الصفات والخواص ما يؤكِّد أنَّ النجم في زواله قد تحوَّل إلى نقيضه، أي إلى شيء مضاد ومناقِض له في بعض الصفات والخواص.
قد يتحوَّل هذا النجم إلى "ثقب أسود" Black Hole. لو عَقَدتَّ مقارنة بين النجم و"الثقب الأسود"، أي لو بحثتَ عن أوجه التشابه والاختلاف بينهما، لتوصَّلْتَ أوَّلا إلى الصفات والخواص المشترَكة بينهما، ولتوصَّلْتَ، من ثمَّ، إلى الصفات والخواص المختلفة بينهما، والتي لو أمْعَنْتَّ النظر فيها لاكتشفْتَ "التضاد" في هذا "الاختلاف".
هل يمكن النظر إلى "الثقب الأسود" على أنه شيء لن يزول أبدا؟ كلا، ليس ممكنا، فهذا الشيء ("الثقب الأسود") لا بدَّ له من الزوال، فكل ما نشأ، وينشأ، ينبغي له الزوال. و"العدم" ليس معنى "زواله". زواله إنَّما معناه تحوُّله إلى "نقيضه"، أي إلى شيء مضاد ومناقِض له في بعض الصفات والخواص.
إنَّكَ، بفضل الدياليكتيك، تستطيع أن تقول، أولا، وكأنَّكَ تَعْلَم عِلْم اليقين، إنَّ هذا "الثقب الأسود" سيزول حتما، وسينشأ عن زواله شيء آخر، أو أشياء أُخرى. وتستطيع أن تقول، من ثمَّ، إنَّ المضاد والمناقِض لـ "الثقب الأسود"، في الصفات والخواص الجوهرية والتي تميِّزه من غيره، هو الذي سينشأ، حتما، عن زواله.
لقد انبثق "النجم" من "سحابة"، معظمها من غاز الهيدروجين. هذه "السحابة" زالت، فنشأ "النجم" عن زوالها. هذا "النشوء"، وذاك "الزوال"، إنَّما هما "الزمن ذاته"، فـ "النشوء" هو ذاته "زوال"، و"الزوال" هو ذاته "نشوء".
ولمزيدٍ من الوضوح والتوضيح، أقول إنَّ "نشوء" و"زوال" الشيء ليسا من "التغيير" الذي يعتري "الشيء"، فالشيء إنَّما "يتغيَّر"، و"يتطوَّر"، "بَعْد" نشوئه، و"قبل" زواله.
"السحابة" تلك تحوَّلت إلى "نجم"، أي تحوَّلت إلى شيء مضاد ومناقِض لها في الصفات والخواص الجوهرية. وحتى لا نفهم "الحتمية" فهما لا يتَّفِق مع "المنطق الدياليكتيكي"، نقول إنَّ كل نجم انبثق من "سحابة من الهيدروجين"؛ ولكن ليس كل "سحابة من الهيدروجين" تتحوَّل، حتما، إلى نجم، فـ "السحابة" التي استوفت شروط تحوُّلها إلى نجم هي فحسب التي تتحوَّل إلى نجم.
"هذه" السحابة هي التي يمكنها، وينبغي لها، أن تتحوَّل إلى نجم. "السحابة" التي لا تتحوَّل إلى "نجم" لا بدَّ لها من أن تتحوَّل إلى شيء آخر (أو أشياء أُخرى) هو، أيضا، مضاد ومناقِض لها في صفات وخواص جوهرية أُخرى.
"السحابة" المتحوِّلة إلى "نجم" إنَّما تحوَّلت إليه بـ "قوى تطورها الذاتي"، في المقام الأول، ومن حيث الأساس، فهذه السحابة الممتدة الواسعة، الرقيقة والضئيلة الكثافة، تتأثَّر دائما بقوة جاذبيتها الداخلية، فتتقلَّص وتنكمش، وتشتد كثافتها، ويُضْغَط باطنها، أو مركزها، في استمرار.
وهذا الضغط المتعاظم يؤدي في آخر المطاف إلى اشتعال باطنها، فنوى ذرَّات الهيدروجين في باطنها تندمج، متحوِّلة إلى نوى ذرَّات الهيليوم. وهذا الاندماج الهيدروجيني المُنْتِِج للهيليوم يَقْتَرِن بفَقْد جزء من الكتلة. وهذا الجزء المفقود هو المتحوِّل إلى طاقة (حرارة وضوء). إنَّ النجم يُوْلَد عندما يشتعل باطن "السحابة الهيدروجينية".
لقد تحوَّلت "السحابة" إلى نقيضها في كثير من صفاتها وخواصها الجوهرية. حياة "السحابة"، أي كل ما اعتراها من تغيير من لحظة نشوئها حتى لحظة زوالها، إنَّما هي "المكان" و"الزمان" اللذين فيهما أنْتَجَت "السحابة" واستَجْمَعَت ونمَّت أسباب وعوامل زوالها، أي أسباب وعوامل تحوُّلها إلى نقيضها، أي أسباب وعوامل نشوء "النجم"، فـ "تطوُّر (ونمو) الشيء" ليس سوى الإعداد والتهيئة لنشوء وظهور نقيضه.
"الشيء" في تفاعُل دائم مع بيئته.. مع كل شيء من حوله. يؤثِّر ويتأثَّر، دائما، بغيره. وبهذا التفاعُل، أو تبادُل التأثر، يتطوَّر (وينمو) الشيء. وهذا التطوُّر (أو النمو) إنَّما هو ذاته "المَطْبَخ" الذي فيه تُطْبَخ أسباب وعوامل تحوُّله إلى نقيضه.
لقد قُلْنا إنَّ "السحابة" تتحوَّل، حتما، إلى نقيضها بفضل قواها الذاتية، في المقام الأول، ومن حيث الأساس. أمَّا ما يقع في خارجها، أي في خارج "السحابة"، من أشياء (أي البيئة) فلا يؤثِّر في التطوُّر الذاتي لـ "السحابة" إلا "تسريعاً" أو "إبطاءً"، فـ "السحابة ذاتها" تتحوَّل سريعا إلى نجم إذا ما كانت بيئتها غنية بالأسباب والعوامل "الإيجابية"، وتتحوَّل إليه بطيئا إذا ما كانت بيئتها فقيرة بتلك الأسباب والعوامل.
"العامل الخارجي"، في التطوُّر، إنَّما هو كل ما يقع في خارج الشيء، ويؤثِّر فيه، فيتأثَّر. ولكن كيف يؤثِّر "العامل الخارجي" في الشيء؟ إنَّه لا يؤثِّر في الشيء إلا بما تسمح به طبيعة هذا الشيء المتأثِّر.
وهذا التأثير إنَّما يشبه تمثُّل جسم الكائن الحي للغذاء، فالإنسان الحي مثلا يأكل البطاطا؛ ولكنَّ هذا المأكول (البطاطا) ما أن يَدْخُل جسم الإنسان حتى يتحوَّل بما يسمح لهذا الجسم بالتأثُّر فيه. وهذا هو السبب الذي يجعل لـ "العامل الخارجي ذاته" تأثيرا يختلف باختلاف طبيعة الشيء المتأثِّر فيه.
ولو قارَّنا في الصفات والخواص بين "الشيء" و"نقيضه"، بين "السحابة" و"النجم" مثلا، لرَأيْنا الآتي: بعضٌ من صفات وخواص "السحابة" انتقل إلى "النجم"، أي أصبح جزءا من صفاته وخواصه. بعضٌ من صفات وخواص "السحابة" لم ينتقل، أي نُفيَ في "النجم". بعضٌ من صفات وخواص "النجم" كان "جديدا"، أي لم يكن له من وجود في "السحابة".
ولا شكَّ في أنَّ هذا التبويب لصفات وخواص الشيء الجديد هو خير طريقة نَدْرُس فيها تطوُّر الشيء.
في الطبيعة ليس لـ "الغاية" من وجود، فالشيء لا يُوْجَد، ولا يتطوَّر، لـ "غاية ما"؛ ولكننا، مجازا ليس إلا، نقول بـ "الغاية" في الطبيعة، فما هي هذه "الغاية"؟ إنَّها "الزوال"، أي استجماع الأسباب المؤدية، حتما، إلى تحوُّل الشيء إلى نقيضه.
إنَّ الشيء، ومُذْ نشوئه وولادته، يشرع، عَبْر تطوُّره ونموِّه.. عَبْر فِعْلِه وانفعاله.. عَبْر تفاعله وتبادله التأثير مع غيره، يُعِدُّ ويهيئ ويُنمِّي ويُنْضِج أسباب وعوامل زواله، أي تحوُّله إلى نقيضه، وكأنَّه لم يأتِ إلى الحياة إلا لـ "الغاية" هذه.
أُنْظُر إلى هذا الكائن الحي. إنَّه يُوْلَد من أجل أن يعيش.. من أجل أن يظل على قيد الحياة. إنَّه يَفْعَل ويَنْفَعِل.. يتفاعل ويتبادل التأثير مع غيره. إننا نراه، بالتالي، ينمو ويتطوَّر؛ ولكن هل في مقدوره أن يبقى على قيد الحياة، وأن ينمو ويتطوَّر، من غير أن يُنمِّي، في الوقت نفسه، كل ما يمكن ويجب أن يؤدي إلى موته وزواله؟!
هذا الكائن الحي لا يمكنه إلا أن يتفاعل مع غيره (مع بيئته بكل ما فيها) بما يبقيه على قيد الحياة، ويجعله ينمو ويتطوَّر؛ ولكنه، وهنا تكمن مصيبته، لا يستطيع أبدا أن يتفاعل إلا بما يؤدي، في الوقت نفسه، إلى إعداد وتهيئة كل الأسباب والعوامل المؤدية، حتما، إلى موته وزواله. إنَّه لا يحصل، وليس في مقدوره أن يحصل، على سبب البقاء والنمو والتطوُّر من غير أن يحصل، في الوقت نفسه، على سبب الزوال، فهذا وذاك (أي سبب الزوال وسبب البقاء) إنَّما هما شيء واحد لا يتجزأ.
اقْذِف حجرا في الهواء، فترى أنَّ الحجر ارتفع، ثمَّ توقَّف، ثم شرع يسقط. هذا الحجر لن يظل معلَّقاً في الهواء. لن يظل متوقِّفا حيث توقَّف إلى الأبد. قد تسأل عن السبب الذي أدى إلى ارتفاع الحجر. والجواب هو الآتي: لقد زوَّدتَ الحجر "طاقة حركية"، تمكَّن بها من التغلُّب على "الجاذبية"، وعلى غيرها من العوامل التي تُعَرْقِل وتُقاوِم ارتفاعه، فارتفع، وظل يرتفع حتى استنفد قدرته على الارتفاع.
ولكن، لِتَسْأل الآن عن سبب سقوطه. لو سألْتَ لما وَجَدتَ من سبب للسقوط غير الارتفاع ذاته، فارتفاع الحجر هو "المكان" و"الزمان" اللذين فيهما تهيأت أسباب وعوامل سقوطه.
الحجر هذا ما كان في مقدوره أن يرتفع، وأن يزداد ارتفاعا، من غير أن يُنْتِج، في الوقت نفسه، و"رغما عن أنفه"، أسباب وعوامل سقوطه.
أين، ومتى، تهيأت أسباب السقوط؟ لقد تهيأت "في سياق الارتفاع"، وفي "أثناء الارتفاع"، و"بالارتفاع"، وكأنَّ هذا الحجر لا يمكنه أن يرتفع من غير أن يُنْتِج، حتما، أسباب سقوطه.
لا تَعْتَرِض قائلا: لو زوَّدتُ الحجر مقدارا من "الطاقة الحركية" يكفي لِتَغَلُّبه على الجاذبية الأرضية لما سقط الحجر، ولظلَّ يرتفع حتى الفضاء الخارجي. لا تَعْتَرِض؛ لأنَّ لهذه الحال من ارتفاع الحجر نقيضا مختلفا لا بدَّ لها من التحوُّل إليه.
لا تغيير (مهما كان صغيرا أو سريعا) بلا "مقاومة"، فكل تغيير، قبل أن يَظْهَر، وحتى يَظْهَر، لا بدَّ له من أن يلقى "مقاومة"، ثمَّ لا بدَّ له من أن يتغلَّب عليها. إنَّ "المقاومة"، أو "الممانعة"، هي قانون كوني مُطْلَق.
لا تغيير، ولا تطوُّر، لا يصطدم بـ "مقاومة"، ولا تغيير، ولا تطوُّر، إذا لم تتغلَّب قواه على تلك "المقاومة"، فـ "المقاومة"، "وجوداً" ثمَّ "نفياً"، هي شرط التغيير والتطوُّر.
و"المقاومة" التي يبديها الشيء (كل شيء) قبل أن يتغيَّر، ومن أجل أن يتغيَّر، إنَّما تشبه "غريزة حب البقاء" في الكائنات الحيَّة، فالشيء ينطوي، دائما، على قوى "تحارِب" في سبيل الدفاع عن وجوده، والحفاظ على هويته، ودرء المخاطر عنه. كل شيء يميل إلى البقاء على ما هو عليه، مقاوِماً، بالتالي، كل قوة تسعى في تغيير هويته.
وليس "الزمن" الذي يستغرقه "التغيير" سوى الجهد المبذول لجعل الشيء يستنفد مقاومته الحتمية، فهو (أي الزمن) يطول أو يقصر بحسب شدَّة المقاومة، ومقدار ما يُبْذَل من جهد للتغلُّب عليها.
لو أردتَ تحريك شيء من مكانه فلن تتمكَّن من إحداث هذا التغيير قبل التغلُّب على مقاومة حتمية يبديها هذا الشيء. هذا الشيء قاوِم جهدكَ لتحريكه، ثمَّ تغلَّبتَ أنتَ على مقاومته، فتحرَّك، أي حدث التغيير.
قد تُفسِّر مقاومته على أنها نتيجة "الاحتكاك" بين سطحه وسطح الأرض. وقد تظن أنَّ المقاومة تلك لن تظهر أبدا لو كان هذا الشيء في الفضاء الخارجي. إنَّ ظنَّكَ ليس في محله، فالجسم، أي جسم، ولو كان في الفضاء الخارجي، سيُبدي مقاومة لتحريكه.
أُنْظُر إلى "النوم" و"الاستيقاظ". إنَّكَ قبل أن تنام، وحتى تنام، لا بدَّ لـ "قوة" في داخلكَ من أن تقاوِم النوم، ولا بدَّ لكَ، في الوقت نفسه، من أن تتغلَّب بـ "قوة أُخرى" في داخلكَ على تلك المقاومة.
النوم يُقاوَم، ثمَّ تُغْلَب المقاومة له، فيحدث "التغيير"، أي النوم. وبَعْد النوم، لن تتمكَّن من "الاستيقاظ" إلا بفضل تغلُّبكَ على "قوة" في داخلكَ تُقاوِم "الاستيقاظ".
والحجر الذي قذفته في الهواء لن يرتفع إلا بَعْدَ تغلُّبه على "قوة" في داخله (تسندها قوى في خارجه) تُقاوِم الارتفاع. وينبغي له في كل ارتفاع أن يفعل الشيء ذاته. وهو لن يسقط (بَعْد ارتفاع) إلا إذا تغلَّب على "قوة" تُقاوِم سقوطه. كل تغيير إنَّما تصنعه "قوة". إنَّها "قوة" تتغلَّب على "مقاومة" حتمية لـ "التغيير".
لقد ثَبُت، فيزيائياً، أنَّ "الجسيم الذي له كتلة" لا يتحرَّكَ قبل أن يقاوِم تحريكه، وقبل أن تُغْلَب وتُقهَر مقاومته تلك. وثَبُتَ أنَّ هذا الجسيم كلَّما حرَّكْتَهُ اشتدت صعوبة تحريكه. إنَّكَ لا تستطيع أن تحرِّكهُ، في استمرار، المسافة ذاتها، من غير أن تُضاعِف الجهد الذي تَبْذُل من أجل تحريكه؛ لأنَّ مقاومته للتحريك تتضاعف.
وهذا إنَّما يعني أنَّ "المقاومة الجديدة" يجب أن تكون أشد وأعنف من "المقاومة القديمة"، فأنتَ لا تتغلَّب على مقاومة إلا لتصطدم بمقاومة أشد وأعنف، فهَزْم المقاومة، أي التغلُّب عليها، لا يعني أبدا أنَّها قد زالت زوالا مُطْلَقاً، فكلَّما نُفِيَت ظَهَرَت.. وظَهَرَت أقوى من ذي قبل، ولا بد، بالتالي، من "قوة" أشد من ذي قبل للتغلُّب عليها.
"المقاومة" بتغلُّبكَ عليها إنَّما "تُرْفَع"، أي تُحْمَل وتُنْقَل. إنَّها لا تتلاشى في طور إلا لتظهر أشد قوة وبأسا في الطور الذي يليه.
"النجم"، في حياته وتطوُّره، يتمدَّد، أي يكبر حجمه؛ ولكنه كلَّما تمدَّد اشتدت صعوبة تمدُّده. وعندما يشرع يتقلَّص نرى الظاهرة ذاتها، فكلَّما تقلَّص اشتدت صعوبة تقلُّصه.
كل شيء إنَّما هو "نتيجة"، فليس من شيء يمكن أن ينشأ ويُوْجَد من غير "سبب"؛ ولكن كل شيء هو، في الوقت ذاته، "سبب"، فما معنى أن ننظر إلى الشيء، وأن نفهمه، على أنَّه "سبب"؟ الشيء في تفاعله مع غيره، في فعله وانفعاله، "يتسبب" بـ "تغييرات" كثيرة، وبنشوء أشياء وظواهر كثيرة، أي أنَّه، في وجوده وتطوُّره، يمكن ويجب أن يكون "قوة مُنْتِجة". إنَّكَ تقول إنَّ الشيء A قد أدَّى إلى.. وإلى.. وإلى..
ولكن، هل من قانون يكمن في كل ما يُنْتِجه الشيء.. في كل ما يؤدِّي إليه من تغيير؟ أجل، ثمَّة قانون. وهذا القانون الكوني المُطْلق هو: الشيء لا يؤدِّي إلا إلى ما يلغيه.
كل ما يُنْتِجه الشيء، في حياته وتطوُّره، وكل ما يؤدِّي إليه، ويتسبب به، إنَّما يفضي، حتماً، إلى هلاكه، فالشيء، في تفاعله مع غيره، في فعله وانفعاله، إنَّما يحفر قبره بيديه.
خُذْ سلكا من النحاس، وقُمْ بتسخينه. ماذا ترى؟ ترى أنَّ السلك قد تمدَّد. إنَّكَ، في وصفكَ الفيزيائي لِمَا حَدَثَ، تقول إنَّ "الحرارة"، في السلك، هي التي أنْتَجَت "التمدُّد"، أو تسببت به، أو أدَّت إليه.
ولكن هذا "التمدُّد" الذي حَدَثَ ليس بـ "الصديق"، أو "الحليف" لـ "سببه"، وهو "الحرارة"، فهذا "التمدُّد" ألغى ونفى "الحرارة"، فـ "الحرارة"، بتسببها بـ "التمدُّد"، ألغَت ونَفَت ذاتها، أي حفرت قبرها بيديها. "الحرارة (في السلك) أفضت إلى "تمدُّد"، أفضى إلى "فَقْد حراري".
قُمْ بـ "تسريع" جسيم (له كتلة) لترى الآتي: "السرعة" أدَّت إلى "زيادة كتلة" هذا الجسيم. "السرعة" هي "السبب"، و"زيادة الكتلة" هي "النتيجة". ولكن، "زيادة الكتلة" تلغي وتنفي "سببها"، وهو "السرعة"، فهي، أي "زيادة الكتلة"، تُنْتِج "البطء". لقد أدَّت "السرعة" إلى ما يلغيها وينفيها وهو "زيادة الكتلة".
"لماذا لا نرى الأشياء في الظلام؟". هذا "السؤال" ظل بلا جواب (محقَّق) زمنا طويلا، فما الذي أدَّى إليه هذا "السؤال"؟ أدَّى إلى أشياء كثيرة، كالبحث والاستقصاء والتجربة والجدل. لقد أدَّى، أخيرا، إلى ما يلغيه وينفيه، أي إلى ما ينهي الحاجة إليه. أدَّى إلى "الجواب العلمي المحقَّق".
الحجر الذي قذفته في الهواء أدَّى، وهو في حال الارتفاع، إلى أشياء كثيرة؛ ولكن كل هذا الذي أدَّى إليه، وأنْتَجه، وتسبب به، إنَّما ألغى، أخيرا، ونفى "حال الارتفاع"، أي حوَّلها إلى نقيضها وهو "حال السقوط".
فيزيائياً، نُفسِّر "ارتفاع الحجر" على أنَّه نتيجة "طاقة حركية" نَقَلْتُها إليه (من جسمي) عَبْر يدي، ونقول بالتالي: إنَّ "سبب" ارتفاع الحجر هو "وجود طاقة حركية فيه".
هذا القول الفيزيائي يحتاج إلى "تعميق فلسفي"، فالحجر لن يرتفع أبدا في حالٍ من حالين: في حال "احتفاظه" بـ "الطاقة الحركية"، التي أدْخَلْناها فيه، وفي حال "فَقْدِهِ" تلك الطاقة.
إنَّ الشرط الدياليكتيكي لـ "ارتفاع الحجر" هو "وجود" فـ "نفي" الطاقة الحركية. قبل أن يرتفع، وحتى يرتفع، ينبغي له، أولا، "امتلاك" الطاقة الحركية، وينبغي له، من ثمَّ، "فَقْدها"، فلو ظلَّ الحجر محتفظا بطاقته الحركية احتفاظا مُطْلَقاً لاستحال ارتفاعه، ولو ظلَّ فاقداً لها فَقْدا مُطْلَقاً لاستحال، أيضا، ارتفاعه. شرط الارتفاع أن "يملك (تلك الطاقة)" على أن يَفْقِدها.
في هذا "التعميق الفلسفي" للجواب الفيزيائي نقول إنَّ "السبب المنفي" هو سبب ارتفاع الحجر، فالحجر قبل أن يرتفع يجب أن يملك ما يكفي من "الطاقة الحركية"؛ ولكنه لن يرتفع إذا ما ظلَّ محتفظاً بها، فَمِن أجل أن يرتفع لا بدَّ له من أن يَفْقِد هذا الذي امتلك.
الحجر، بفَقْدِه لِمَا امتلك من طاقة حركية، يرتفع، ويزاد ارتفاعا؛ ولكنَّ ارتفاعه يؤدِّي، في آخر المطاف إلى ما يلغيه، أي إلى ما يحوِّله إلى سقوط. إنَّه يؤدِّي، حتما، إلى استنفاد طاقته الحركية، فيسقط.
الشيء لا يملك مَيْلاً من غير نقيضه، أي من غير مَيْلٍ مضاد. فهل من معدن، مثلا، يميل إلى "الكسب الحراري" فحسب، أو إلى "الفَقْد الحراري" فحسب؟ كلا، ليس من معدن كهذا، فكل معدن ينطوي، دائما، على هذين المَيْلين المتضادين. إنَّه يميل إلى "الكسب الحراري"؛ لأنَّه يميل، في الوقت عينه، إلى "الفَقْد الحراري"، ويميل إلى "الفَقْد الحراري"؛ لأنَّه يميل، في الوقت عينه، إلى "الكسب الحراري".
و"العامل الخارجي" إنَّما "يساعِد" في ترجيح كفة أحد الميْلين على كفة الآخر. المَيْلان مُتَّحِدان، متداخلان، ممتزجان، يستحيل وجود أحدهما من دون الآخر. وهما، في الوقت نفيه، متصارعان تصارعاً دائما، وكأنَّ كلاهما يسعى في بسط سيادته على الآخر.
لقد قُمْتَ بمساعدة صديق لكَ مساعَدة مالية. هذا العمل، أو الفعل، تمَّ وأُنْجِز. ولكنه قبل ذلك كان "مَيْلاً".. مَيْلاً إلى المساعَدة. وهذا "المَيْل" نما واشتد وقوي. إنَّه لم يَظْهَر ويتأكَّد ويسود فيكَ إلا عَبْر صراع مع "المَيْل المضاد".. المَيْل إلى الامتناع عن المساعَدة. ونحن نعبِّر عن هذا الصراع بكلمة "تَرَدُّد".
مَيْلُكَ إلى المساعَدة تغلَّب، أخيرا، على "مضاده". وثمَّة "عامل خارجي" ساعَد في الإسراع في تَغَلُّبكَ على "المَيْل المضاد"، فصديق آخر لكَ، مثلا، جاءكَ وأبلغ إليكَ أنَّ الصديق الذي تنوي مساعدته يُحبُّكَ كثيرا، وأنَّه يتخبَّط في ضائقة مالية.
أنتَ ساعدته الآن؛ لأنَّ مَيْلكَ إلى مساعدته قد تغلَّب على "مضاده"، أي على مَيْلكَ إلى الإحجام عن مساعدته. على أنَّ هذا المَيْل المضاد لم يُغْلَب إلا ليظهر أشد قوة من ذي قبل، فلو أنَّكَ أردتَ مساعدة صديقكَ ذاك مرة أُخرى فسوف تشعر أنَّ مَيْلَكَ إلى الإحجام عن مساعدته أصبح هذه المرة أقوى وأشد، فأنت كلَّما ساعدته أكثر اشتد مَيْلكَ إلى الامتناع عن مساعدته.
في عالَم السياسة، نرى أنَّ السياسة التي أفرطت في مرونتها واعتدالها هي التي تنطوي على أقوى وأشد مَيْل إلى التشدد والتطرف، ونرى أنَّ السياسة التي أفرطت في تشددها وتطرفها هي التي تنطوي على أقوى وأشد مَيْل إلى المرونة والاعتدال، فلماذا؟ لأنَّكَ لا تستطيع أن تعتدل سياسيا، وأن تمضي قُدُما في اعتدالكَ هذا، من غير أن تُنمِّي، في الوقت نفسه، مَيْلكَ إلى التطرف،؛ كما لا تستطيع أن تتطرف، وأن تمضي قُدُما في تطرفك السياسي، من غير أن تنمِّي، في الوقت نفسه، مَيْلكَ إلى الاعتدال.
إنَّ المَيْل الأقوى إلى "البرودة" نراه في الجسم الأشد سخونة، والمَيْل الأقوى إلى "السخونة" نراه في الجسم الأشد برودة. وإنَّ المَيْل الأقوى إلى "التقلُّص" نراه في الجسم الأكثر تمدُّدا، والمَيْل الأقوى إلى "التمدُّد" نراه في الجسم الأكثر تقلُّصا. وإنَّ المَيْل الأقوى إلى "التنافر" نراه في الجسم الذي بلغ "تجاذب" أجزائه منتهى الشدة، والمَيْل الأقوى إلى "التجاذب" نراه في الجسم الذي بلغ "تنافر" أجزائه منتهى الشدة.
لو أنَّ جسما في منتهى "التقلُّص" تأثَّر بـ "عامل خارجي" إيجابي بالنسبة إلى "تمدُّده"، ولو أنَّ هذا العامل الخارجي كان قليل الشأن والتأثير، فإنَّ الجسم سيشرع "يتمدَّد" بسرعة ويُسْر وسهولة؛ لأنَّ مَيْلِه إلى "التمدُّد" كان في منتهى الشدة.
إنَّكَ يكفي أن تتطرف في حبِّكَ لشخص حتى تملك أقوى مَيْل إلى كراهيته، أو أن تتطرف في كرهكَ له حتى تملكَ أقوى مَيْل إلى حُبِّه. إنَّ أقوى شعور بـ "الجهل" لا يشعر به إلا "العالِم العظيم"، وإنَّ أقوى شعور بـ "المعرفة" لا يشعر به إلا "الجاهل العظيم (في جهله)".
بالنسبة إلى أحد طرفي تناقض ما، يتألَّف العالَم كله من قوَّتين اثنتين فحسب، قوَّة تقف معه، وقوَّة تقف ضده، أي مع الطرف الآخر.
في الماء، مثلا، صراع دائم بين قوَّتين متضادتين ينطوي عليهما، هما: قوَّة تعمل لجعل جزيئاته أكثر تنافرا، وقوة تعمل لجعلها أكثر تجاذبا. وليس العالَم كله، بالنسبة إلى هذه القوَّة أو تلك، سوى قوَّتين اثنتين فحسب، قوة تقف معها، وقوَّة تقف ضدها.
الأضداد إنَّما هي "قوى" متصارعة دائما.. كلتا القوتين (في داخل الشيء) المتضادتين، المتَّحدتين، المتصارعتين دائما، تسعى في النمو والتفوُّق والسيادة. كلتاهما ليست بالقوة الخاملة، فهي تعمل دائما من أجل أن تهيئ في داخل الشيء الذي ينطوي عليها، وفي خارجه، أسباب نموِّها، ومن أجل إضعاف تأثير الأسباب المضادة، أي الأسباب التي تُضْعِف نموِّها. وفي عملها هذا وذاك، إنَّما هي تُصارِع القوة الأخرى المضادة لها.
في داخل الماء، كما قلنا، تتصارع دائما بين جزيئاته قوَّتين متضادتين هما القوة التي تدفع جزيئاته إلى التنافر، وإلى مزيد من التنافر، والقوة التي تدفعها، في الوقت نفسه، إلى التجاذب، وإلى مزيد من التجاذب.
قوة التنافر تعمل دائما، في داخل الماء، وفي خارجه، من أجل تهيئة الأسباب الإيجابية بالنسبة إلى التنافر بين جزيئات الماء، ومن أجل إضعاف الأسباب السلبية بالنسبة إلى هذا التنافر. وقوة التجاذب تعمل دائما، في داخل الماء، وفي خارجه، من أجل تهيئة الأسباب الإيجابية بالنسبة إلى التجاذب بين جزيئات الماء، ومن أجل إضعاف الأسباب السلبية بالنسبة إلى هذا التجاذب. وفي هذه الطريقة تُصارِع كلتاهما الأخرى، وتسعى في التغلُّب والتفوُّق عليها.
إذا تنافرت (أو تباعدت) جزيئات الماء أكثر فهذا إنَّما يعني أنَّ كفَّة قوة التنافر قد رجحت على كفَّة قوة التجاذب في الصراع الذي لا يتوقَّف بينهما. وإذا تجاذبت (أو تقاربت) أكثر فهذا إنَّما يعني أنَّ كفَّة قوة التجاذب قد رجحت على كفَّة قوة التنافر في هذا الصراع.
كل الأسباب والعوامل الداخلية (أي التي في داخل الماء) والخارجية (أي التي في خارجه) المؤدِّية إلى مزيد من التنافر (أو التجاذب) بين جزيئات الماء إنَّما هي "التجسيد" لـ "قوة التنافر"، أو لـ "قوة التجاذب"، في وجهيها الداخلي والخارجي.
ما معنى أنَّ هذا الشيء قد "تقلَّص"؟ معناه أنَّه كان في حال من "التمدُّد"، فالشيء الذي هو في مثل هذه الحال هو وحده الذي يمكنه أن "يتقلَّص". ومعناه أنَّ كل الأسباب والعوامل (الداخلية والخارجية) التي أدَّت إلى تقلُّصه هي "تجسيد" لـ "قوة التقلُّص" في وجهيها الداخلي والخارجي. ومعناه أنَّ الحال التي كان عليها قبل تقلُّصه، أي حال "التمدُّد"، هي التي هيَّأت له أسباب وعوامل تقلُّصه، فكلا الضدين يُنْتِج ويهيئ للآخر أسباب نشوئه وتطوُّره. وليس من تناقض في المنطق أن نقول إنَّ "التقلُّص" الذي تحقَّق قد حقَّقته القوى (الداخلية والخارجية) الإيجابية بالنسبة إلى "التقلُّص"، بالتعاون مع نقيضه، وهو حال "التمدُّد" التي كان عليها الشيء قبل تقلُّصه، فهذه الحال هي التي فيها، وبها، تهيَّأت أسباب وعوامل "التقلُّص". ينبغي لنا أن نفهم نمو وتطور أحد طرفي التناقض على أنَّهما الحال التي فيها، وبها، تَنْضُج وتتهيَّأ أسباب الحياة للآخر.
الشيء الذي تقلَّص، ولو تقلُّصا في منتهى الضآلة، إنَّما هو الشيء الذي غُلِبَت (في داخله وفي خارجه) قوة، أو قوى، كانت تعمل في اتِّجاه دفعه إلى التمدُّد، وإلى مزيد من التمدُّد؛ والشيء الذي تمدَّد إنَّما هو الشيء الذي غُلِبَت (في داخله وفي خارجه) قوة، أو قوى، كانت تعمل في اتِّجاه دفعه إلى التقلُّص، وإلى مزيد من التقلُّص.
الدياليكتيك إنَّما هو البحث في "كيفية" إنتاج الشيء لنقيضه.. "كيف" تُنْتِج "الحياة" نقيضها وهو "الموت"، و"كيف" يُنْتِج "التمدُّد" نقيضه وهو "التقلُّص" .. إلخ.
أُنْظُروا إلى "هذه" البضاعة في "هذه" السوق. إنَّ سعرها ارتفع، ويزداد ارتفاعا. هذا هو "الغلاء"؛ أمَّا نقيضه فهو "الرخص". عندما ترى سعرها يرتفع، ويزداد ارتفاعا، قد تَظُن، أي تتوهم، أن لا نهاية لهذا المسار الصاعد لسعرها، كما ظَنَّ، أي توهم، فيزيائيون أن لا نهاية لهذا المسار الصاعد لـ "تمدُّد" كوننا. لقد رأوه يتمدَّد، ويزداد تمدُّدا، فتوهموا أنَّه سيظل يتمدَّد إلى الأبد.
تلك البضاعة التي يزداد سعرها ارتفاعا إنَّما هي جزء لا يتجزأ من بيئة (اقتصادية) تساعِد في تسريع وزيادة هذا الغلاء. ولكن "هذا" الغلاء ليس بالمسار الصاعِد إلى ما لا نهاية، أو إلى الأبد، فلا بد له، أي لهذا الغلاء، من أن يتحوَّل، في آخر المطاف، إلى نقيضه وهو "الرخص". ما الذي جعله يتحوَّل إلى "رخص"؟ إنَّه هو ذاته الذي أنْتَج أسباب وعوامل تحوُّله إلى "رخص"، فهذه البضاعة ليس في مقدورها أن تغلو، وأن تزداد غلوا، من غير أن تُنْتِج، في الوقت نفسه، أسباب وعوامل "رخصها". في غلائها، وبغلائها، إنَّما تتفاعل تلك البضاعة مع بيئتها، مُنْتِجةً (من خلال هذا التفاعل أو التأثير المتبادل) كل ما يؤدِّي إلى رخصها في آخر المطاف. غلاؤها إنَّما يؤدِّي، حتما، إلى التوسُّع في إنتاجها، وفي زيادة وجودها في السوق. وهذا سيؤدِّي، حتما، في آخر المطاف، إلى انتقال سعرها من مساره الصاعد إلى مسار هابط، فارتفاع سعرها ما أن يبلغ حدَّه الأقصى (الممكن واقعيا في ظرفيه الزماني والمكاني) حتى يشرع ينخفض. وهو لا يشرع ينخفض إلا وهو منطويا على "طاقة (انخفاض) كبيرة"، فإذا استنفدها، أي إذا بلغ رخص تلك البضاعة حدَّه الأقصى، شرع "الرخص" يتحوَّل إلى "غلاء". وهذا الرخص، في مساره الصاعد، أي في نموِّه، إنَّما أنتج الأسباب والعوامل المؤدِّية، حتما، في آخر المطاف، إلى تحوُّله إلى غلاء. لقد أدَّى إلى خفض إنتاجها، وتقليل وجودها في السوق، فارتفاع سعرها.
علاقة الشيء ببيئته إنَّما تقوم على "التفاعل"، أو "التأثير المتبادل"، فـ "النبتة"، على سبيل المثال، لا تتأثَّر في بيئتها فحسب، وإنَّما تؤثِّر فيها في الوقت عينه.
وحتى نُحْسِن فهم تلك العلاقة لا بدَّ لنا من أن نسعى في إجابة السؤال الآتي: كيف أثَّرت، وتُؤثِّر، البيئة في نبتتها، وكيف أثَّرت، وتُؤثِّر، النبتة في بيئتها؟ التفاعل بين النبتة وبيئتها هو الذي به، وفيه، تتغيَّر كلتاهما (النبتة والبيئة).
"الشيء" هو جزء من كل، وهو، لجهة علاقته بـ "الكل"، يمكن تشبيهه بـ "رسالة في داخل ظَرْف (مُغلَّف)"، فهناك "الشيء"، وهناك "ظروف الشيء".
وظَرْفُ Circumstance الشيء يمكن تشبيهه، أيضا، بـ "الوعاء" الذي يُوْضَع فيه الشيء، فـ "الظَرْف (أو "الحال"، أو "الوضع")" إنَّما هو "كلُّ ما يستقر غيره فيه"، فالإبريق هو ظَرْف لما فيه، أي للماء.
وبحسب هذا المعنى، فُهِمَ "المكان" و"الزمان" على أنَّهما من "ظروف الشيء"، فكلاهما يشبه وعاءً يُوْضَع فيه الشيء.
ووجه الشبه بين "الظَرْف" و"مُغلَّف الرسالة" نراه في اللغة الإنكليزية أيضا، فالكلمتان Circumstance و Envelope تَرِدان معاً ضِمْن معاني كلمة "ظَرْف". ويمكن أن نضيف إليهما كلمة Condition (شَرْط) فهذه الكلمة تَتَّفِق في المعنى مع كلمة Circumstance.
وعندما نتحدَّث عن "الظَرْف الاقتصادي" للناس فهذا إنَّما يعني، تشبيهاً، "الوعاء الاقتصادي" الذي يستقر (أو يُوْجَد) فيه الناس.
على أنَّ "ظَرْف الشيء"، لجهة علاقته الحقيقية الموضوعية بـ "الشيء" لا يشبه "الماء" لجهة علاقته بـ "الإبريق" فـ "الماء" يمكن فَصْله عن "الإبريق"؛ أمَّا "الشيء" فلا يمكن فَصْلِه عن "ظَرْفه"؛ لأنَّه، في ماهيته وخواصه، ثمرة تفاعله، وتبادله التأثير، مع "ظَرْفِه".
و"بيئة الشيء"، التي تشبه دوائر كثيرة، مَرْكزها الشيء، وتختلف في "مقدار نصف القطر"، إنَّما تتألَّف من "ظروف مادية كثيرة" يستقر فيها، أو يُوْجَد، الشيء. وهذه الظروف يمكن تسميتها "الظروف البيئية" للشيء.
و"الظروف البيئية" للشيء هي من "العوامل الخارجية" لجهة علاقتها بتطور الشيء، وأهميتها بالنسبة إلى تطوُّره. وكل "ظَرْف بيئي" هو "عامل خارجي"؛ ولكن ليس كل "عامل خارجي" يُعَدُّ "ظَرْفاً بيئياً"، فـ "عوامل وقوى المصادفة" هي "عوامل خارجية"، تأتي إلى الشيء، وتُؤثِّر فيه، من خارج بيئته الطبيعية.
وبيئة الشيء لا بد لها من أن تكون "متناقضة" لجهة علاقتها وتأثيرها بالشيء، فهي التي بفضلها يُوْلَد الشيء وينمو، وبسببها يزول، أي يتحوَّل إلى نقيضه. إنَّ الشيء لا يُوْجَد إلا في بيئته.. في البيئة التي لا تجيء به إلى الحياة، وتمده بأسباب البقاء والنمو، إلا لتهلكه وتقضي عليه، وكأنَّه لا يتفاعل معها، لا يؤثِّر ويتأثَّر بها، إلا لينمو نموَّاً تنمو، أو يُنمِّي، في سياقه أسباب هلاكه وزواله.
إنَّ شرط وجود الشيء هو أن يُوْجَد (أن يُوْلَد وأن ينمو) في بيئة يؤدِّي تفاعله معها، حتما، إلى زواله. قد ترى في بيئته أسباب وعوامل نموِّه؛ ولكنَّ هذا الذي ترى إنَّما هو ذاته الطريق المؤدية حتما إلى زواله، فـ "الزوال" من خلال "النمو" إنَّما هو جوهر علاقة الشيء ببيئته.. جوهر تفاعله وتبادله التأثير معها.
الشيء في تفاعله مع بيئته إنَّما يحصل على كل ما يحتاج إليه تبدُّله الكيفي أو النوعي من تبدُّل كمِّي. وهذا الذي يتغيَّر كمِّيَّاً في الشيء هو جزء لا يتجزأ من الشيء، فالبيئة (أو تفاعل الشيء مع بيئته) إنَّما تزيد أو تنقص هذا "المُتَغَيِّر في كميته أو مقداره". البيئة، مثلا، لا تَخْلِق في العلاقة بين جزيئات الماء "التجاذب" أو "التشتت". إنَّها، ومن خلال تفاعلها مع الماء، تزيد أو تنقص "التجاذب" أو "التشتت"، فما هو جزء لا يتجزأ من الشيء يمكن (عبر التفاعل بين الشيء وبيئته) أن يزيد أو ينقص، أي أن يتغيَّر في الكمِّيَّة والمقدار.
والشيء لجهة علاقته ببيئته إنَّما هو "الجزء" لجهة علاقته بـ "الكل". الشيء، ومهما قويَ تأثيره في بيئته، لا يؤثِّر في بيئته إلا تأثيرا أقلُّ كثيرا من تأثير بيئته فيه. بيئة الشيء، أي كل ما يحيط به من أشياء وظواهر وعوامل وقوى.. ، تتغيَّر أوَّلا، فـ "تتحدَّاه" على أن يتغيَّر بما يتَّفِق مع التغيير الذي اعترى بيئته. "تتحدَّاه" وهي "تَعْلَم عِلْم اليقين" أنَّ "نداءها"، أي التغيير الذي اعتراها، له "مُجيب"، حتما، في داخل هذا الشيء، وكأنَّها لا تدعوه إلا إلى ما هو قادرٌ عليه. لا تدعوه إلا إلى "إظهار الكامن فيه".
مع هذا التغيير البيئي يشرع الشيء، وبمعونة العوامل الخارجية والبيئية، يتغيَّر في جوانبه الكمِّيَّة حتى تأزف ساعة المخاض، فينقطع، على حين غرة، التدرُّج في تطوُّره الكمي، ويستنفد "القديم"، أي هذا الشيء، قدرته على احتواء "الجديد"، أي نقيضه، في أحشائه، فيزول، ليُوْلَد، في اللحظة عينها، نقيضه، الذي كان برعما في أحشائه.. في باطنه، فكل شيء إنَّما يعطي ما يملك؛ وليس في مقدور أي عامل خارجي أن يجعل الشيء مُعْطِياً لِمَا هو فاقِدٌ له. وكل شيء إنَّما يملك دائما نقيضه، فيعطيه عَبْر تطوُّره الذاتي، الذي يُسَرِّعه أو يُبَطِّئه العامل الخارجي.
وإذا كان من مثال يُمْكننا من خلاله شرح وتوضيح أبعاد وأوجه العلاقة بين الشيء وبيئته (أو ظروفه البيئية) فهذا المثال إنَّما هو "إشعال شمعة في داخل إناء زجاجي (يحتوى على هواء، يحتوي على نسبة من الأوكسجين) صغير، ومُحْكم الإغلاق".
الشمعة ما كان لها أن تشتعل، وأن تستمر في الاشتعال، إلا لكونها قد أُشْعِلَت وهي في "ظَرْف بيئي" إيجابي لجهة اشتعالها، وبقائها مشتعلة (إلى حين). وهذا "الظَرْف" هو "غاز الأوكسجين" في داخل ذاك الإناء.
لقد أثَّر هذا "الظَرْف البيئي (غاز الأوكسجين) إيجاباً بالنسبة إلى اشتعال الشمعة؛ ولكنَّه (أي هذا الظَرْف) تأثَّر، في الوقت نفسه، باشتعالها، فكلَّما استمرَّت الشمعة في الاشتعال قلَّت نسبة غاز الأوكسجين (في داخل الإناء) وزادت نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون (السلبي لجهة تأثيره بـ "اشتعال" الشمعة).
"الشمعة المشتعلة (أي التي في حال اشتعال)" هي ثمرة التفاعل، والتأثير المتبادل، بينها وبين بيئتها تلك. و"التغيُّر" الذي يتمخَّض عنه "التفاعل" لا يعتري الشمعة فحسب وإنَّما بيئتها، فكلتاهما تتغيَّر من خلال هذا التفاعل.
ولكن، في أي اتِّجاه تتغيِّر "بيئة الشمعة المشتعلة"؟ في اتِّجاه مضاد لـ "الشمعة المشتعلة"، فبَعْد مقدار من الزمن استغرقه الاشتعال، تنطفئ الشمعة؛ لأنَّ اشتعالها أنْتَج، أخيراً، ظَرْفا بيئيا مضادا له، وهو "تزايد نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون (وتناقص نسبة غاز الأوكسجين بالتالي).
لقد تغيَّرت الشمعة المشتعلة في غير ناحية؛ وكانت النتيجة النهائية هي انتقال الشمعة من حال الاشتعال إلى الحال المضادة وهي حال الانطفاء. أمَّا بيئتها فانتهى التغيُّر فيها إلى جعلها بيئة سلبية (بعدما كانت إيجابية) بالنسبة إلى اشتعال الشمعة.
ولو أشعلنا الشمعة وهي في إناء مفتوح لما انطفأت إلا بعد استنفادها قدرتها الذاتية على الاشتعال. على أنَّ هذا لا يعني أن الشمعة المشتعلة لا تؤثِّر في بيئتها على النحو الذي شرحناه.
إنَّ الشيء وبيئته في تفاعل دائم وحتمي، فهو يُغَيِّر ويتغيَّر.. يُغَيِّر في بيئته، ويتغيَّر بها؛ وهي تُغَيِّر وتتغيَّر.. تُغَيِّر في الشيء، وتتغيَّر به، فـ "التغيير" كـ "التأثير" يجب أن يكون متبادلا.
الشمعة في اشتعالها "أخَذَت" من بيئتها (محيطها) ما "يلبَّي حاجتها" إلى الاشتعال.. إلى البقاء مشتعلةً؛ ولكنَّها، في الوقت نفسه، "أعطت" تلك البيئة ما يجعلها مضادة للاشتعال.
إنَّ كل جانب من الجوانب الداخلية للشيء يبدو لنا كأنَّه "يأخُذ" من "البيئة" ما "يلبِّي حاجته" إلى النمو، "معطِياً لها"، في الوقت نفسه، ما يجعلها تُلبِّي حاجة "نقيضه" إلى النمو.
ما يتسبَّب به اشتعال الشمعة إنَّما يقوِّي المَيْل لديها إلى الانطفاء. و"العامل الخارجي"، في هذه الحال، إمَّا أن يُسرِّع، ويُسَهِّل، انطفاء الشمعة، وإمَّا أن يُبَطِّئ، ويُصَعِّب، انطفاءها.
والكائنات الحيَّة إنَّما تَعْكِس، في تطورها، تغيُّر الوسط (أو البيئة) الذي تعيش فيه، وكأنَّها "مرآة" نرى فيها "صورة" التغيُّر الذي اعترى الوسط الطبيعي الذي تعيش فيه. ولولا التغيير البيئي (الذي تساهم فيه الكائنات الحيَّة ذاتها) لتعذَّر علينا فهم وتفسير التغيُّر في الكائنات الحيَّة، فالكائن الحي ووسطه الطبيعي كلٌّ لا يتجزأ؛ وتَغَيُّر الكائن الحي في "النوع" لا يمكن فهمه وتفسيره إلا على أنَّه (في جانبٍ منه) ثمرة تغيير في بيئته الطبيعية.
ولا شكَّ في أنَّ الأشياء تتفاوت في سرعة تطوُّرها، فيؤدِّي البطء في تطوُّر بعض الأشياء إلى تَوَهُّم خلودها، أي إلى القول، عن وهم، بأنَّها خالدة لا يمكن أن تتغيَّر. وهذه الأشياء، الثابتة الساكنة في الظاهر ليس إلا، هي في تَغَيُّر مستمر (ولو اتَّسَم بالبطء).
أُنْظُر إلى وردةٍ على شجرتها. إنَّكَ لا تراها وهي تتغيَّر؛ لأنَّ تَغَيُّرها (الدائم والمستمر) ليس بالظاهر، ويَتَّسِم بالبطء، ولا تَقْدِر عينكَ، بالتالي، أن تراه.
أُنْظُر إلى هذه الوردة في حركتها.. في تغيُّرها، حتى تستطيع فهمها. قبل أن تصبح الوردة في الحال التي هي عليها الآن، كانت "برعماً". وهذا البرعم ظلَّ ينمو، وإنْ لم ترَ عينكَ نموه وتَغَيُّره. وهذه الوردة ستَفْقِد أوراقها حتما، وستموت، وسيجيء موتها بوردة أو بورود أخرى.
صباح ذات يوم، جَلَسْتُ في حديقة منزلي لأشْرَبَ، على جاري عادتي اليومية، "قهوة الصباح"، التي مع السيجارة، لا يَعْدلها شيء جمالا، وإنْ رأى الأطبَّاء رأيا مختلفا. لقد جَلَسْتُ قبالة شجيرة وردٍ زَرَعْتُها في حوضٍ صغير، فأخَذْتُ أتأمَّلها على طريقة هيراقليط في تأمُّلِه لجريان مياه النهر.. "نهر هيراقليط العظيم"!
بعضٌ من ورودها رأيْته مكتمل النمو، أي بلغ في تَفَتُّحه منتهاه؛ وبعضه رأيْته براعم متفاوتة الحجم. تأمَّلْتُ الغصن، أو الغصين، الذي في إحدى نهايتيه تُقيم الوردة، والذي يمتلئ بوريقات خضراء، وبأشواك هي في منزلة "جيش" يدافع دائما عن الوردة. أمَّا كل وريقة من تلك الوريقات الخضراء فكانت المكان الذي فيه يختبئ "سارِق"، هو سارق النار (أو الطاقة) من الشمس. إنَّه تلك الحبيبة من الكلوروفيل التي بها، وفيها، تتحوَّل الشمس، حرارةً وضوءاً، إلى مَصْدَر للحياة النباتية والحيوانية.
تأمَّلْتُ إحدى ورودها المكتملة نموَّاً وتَفَتُّحا، وتساءلْت في دهشةٍ قائلاً: لماذا تموت، ويجب أن تموت، الآن، حيث هي في ذروة حياتها وحيويتها ونموِّها وتَفَتُّحِها؟!
هذه الوردة لا بدَّ لها الآن من أن تشرع تَذْبُل.. وتموت. إنَّها لا تستطيع أبدا المضي قُدُما في النموِّ والتفَتُّح. لا تستطيع، مثلا، أن تصبح في حجم أكبر من الحجم الذي هي عليه الآن بعشر مرَّات. ولا تستطيع أن تستمر إلى الأبد في الحال التي هي عليها الآن. لا تستطيع ولو.. ولو هيَّأنْا لها كل أسباب وعوامل ومقوِّمات الحياة من غذاء وماء وهواء وحرارة ونور.. وكأنَّ كل هذه الظروف والعوامل البيئية الإيجابية تَفْقِدُ تأثيرها وأهميتها بالنسبة إلى وردة استنفدت "قدرتها الذاتية" على النموِّ والبقاء على قيد الحياة. وقد شَبَّهْتُ تلك "القدرة الذاتية" بـ "بطارية" نفدت طاقتها.
على أنَّ تأكيد وإبراز أهمية "العامل الداخلي الذاتي" بالنسبة إلى التطوُّر (تطوُّر الوردة في مثالنا) لا يعني، ويجب ألا يعني، استصغار شأن وأهمية الظروف والعوامل البيئية (الخارجية بالنسبة إلى الوردة ذاتها). وليس أدل على ذلك من أنْ لا وجود للوردة (مع شجرتها) إذا لم تُوْجَد تلك الظروف والعوامل، فالوردة في حدِّ ذاتها، أي الوردة بلا بيئتها، إنَّما هي المستحيل بعينه.
للوردة تلك "لحظة نشوء (ولادة)"، و"لحظة زوال (موت)". وحياتها إنَّما هي نموِّها في الزمن المُمْتَد بين اللحظتين (لحظة النشوء، ولحظة الزوال). ولكَ أنْ تُشَبِّه هذا النمو بمصباح يستمر في الإضاءة بفضل بطارية كهربائية، لا بدَّ لطاقتها من أن تُسْتَهْلَك وتُسْتَنْفَد مع استمرار المصباح في الإضاءة. إنَّ الوردة تُوْلَد مزوَّدةً ما يشبه البطارية الكهربائية التي تشتمل على مقدار ما من الطاقة. وهذه البطارية الذاتية (القدرة الذاتية على النمو) تكون مكتملة الطاقة تقريبا عندما تشرع الوردة تنمو. ومع كل نموٍّ يُسْتَهْلَكُ حتما مقدارٌ من تلك الطاقة، فإلى أين يذهب هذا المقدار المُسْتَهْلَك؟ إنَّه يذهب إلى بطارية أُخرى فارغة تقريبا من الطاقة، هي بطارية نقيض الحياة (وهو الموت) في داخل الوردة ذاتها. كل هبوط في منسوب الطاقة في "بطارية الحياة" يغدو ارتفاعا، مساويا ومُزامنا، في منسوب الطاقة في "بطارية الموت"، وكأنَّ البطارية الأولى تَشْحَن، عَبْر استهلاك طاقتها، البطارية الثانية. البطارية الأولى ما أنْ تَسْتَنْفِد آخر جزء، تقريبا، من مخزونها من الطاقة، أي ما أن تكتمل الوردة نموًَّا وتَفَتُّحا.. وحياة، حتى تشرع البطارية الثانية (المكتملة الطاقة تقريبا) تَسْتَهْلِكَ طاقتها (تشرع الوردة تَذْبُل.. وتموت).
الوردة ما أن تُوْلَد حتى تشرع تنمو، مُظْهِرَةً ومؤكِّدَةً، مسارين متضادين، متَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه، أحدهما مسارٌ صاعِد، والآخر مسارٌ هابط. والمساران يجتمعان دائما في نموِّ الوردة، فكلَّما نمت الوردة هبط منسوب (هنا المسار الهابط) الطاقة في بطاريتها الذاتية الأولى (بطارية الحياة) وارتفع منسوب (هنا المسار الصاعِد) الطاقة في بطاريتها الذاتية الثانية (بطارية الموت). كل نقص في طاقة البطارية الأولى يتحوَّل، في اللحظة عينها، إلى زيادة مساوية في طاقة البطارية الثانية.
لو سألْتَ عالِم نبات عن أسباب ذبول وموت الوردة لعدَّدَها وشَرَحَها لكَ على خير وجه؛ ولكنَّك لن تتعمَّق وتتوسَّع في الفهم إلا إذا اسْتَكْمَلْتَ إجابته بإجابة فلسفية، فكل تلك "الأسباب" التي عدَّدَها وشَرَحَها لكَ عالِم النبات إنَّما هي "النتائج" الحتمية لحياة الوردة ونموِّها، فالوردة ليس في مقدورها أبدا أن تصارع من أجل البقاء، وأن تنمو، من غير أن تُنْتِج وتُنمِّي، في الوقت نفسه، أسباب وعوامل زوالها وموتها، وكأنَّها لا تستطيع الحصول على "الإيجابي"، بالنسبة إلى حياتها ونموِّها، من غير أن تحصل في الوقت ذاته على "السلبي"، أي على ما يؤدِّي، حتما، إلى موتها.
النظر إلى الشيء في حركته لا يعني أن ننظر إليه في حركته الميكانيكية فحسب، أي في انتقاله من موضع إلى موضع كما هي الحال في كرة تتحرَّك على سطح طاولة. الحركة الميكانيكية هي تَغَيُّر؛ ولكن ليس كل تَغَيُّر يجب أن يكون حركة ميكانيكية، فالحركة إنَّما هي كل تَغَيُّر يعترى الشيء؛ وبعضٌ من هذا التغيُّر (أي من أنواعه) يمكن أن يكون تغيُّر في المكان، أي حركة ميكانيكية.
الحركة على أنواع.. و"الشيء"، أي كل شيء، إنَّما هو الوحدة التي لا انفصام فيها بين "المُحَرِّك" و"الحركة"، فـ "حركة الشيء"، بأنواعها كافة، يمكن ويجب تفسيرها على أنَّها (في المقام الأول) من فِعْل "المُحَرِّك الذاتي الداخلي" للشيء نفسه.
إنَّها "فضيلة دياليكتيكية" أنْ نحسَّ بـ "التغيير"، وأنْ نحسَّ بـ "الجديد". الشيء الذي له المستقبل نراه "ضعيفا" لدى نشوئه وظهوره؛ ولكن ليس كل ما نراه ضعيفا يجب أن يكون له المستقبل، فـ "المضمحل" من الأشياء نراه هو، أيضا، ضعيفا.
"الحس الدياليكتيكي" يُمكِّن صاحبه من أن يرى، في الواقع، الأشياء التي لا تنمو وتتطوَّر فحسب، وإنَّما الأشياء الوليدة (أو التي تُوْلَد) والأشياء التي تموت. وينبغي لنا أن نبدى اهتماما أكبر بالأشياء التي تُوْلَد، فالمستقبل لها، مهما بدت لنا ضعيفة، متناهية في الصِغَر والضآلة.
لنتأمَّل تجربة "غلي الماء". إنَّكَ، أوَّلا، تُسَخِّن مقدارا محدَّدا من الماء (السائل). وأنتَ تُعَرِّضه للتسخين بـ "مَصْدَر حراري محدَّد"، وفي "ضغط جوي محدَّد"، فاختلاف مقدار الضغط الجوي الذي يتعرَّض له الماء يؤدِّي إلى اختلاف "درجة غليانه".
في أثناء تسخين هذا الماء، أو غليه، يظل الماء محتفظا بصفة، أو حال، "السيولة"؛ ولكن ثمَّة ما "يتغيَّر (يتبدَّل) بالتدريج" فيه، وهو حرارته، فهي ترتفع درجة بعد درجة، فإذا ما بلغت درجة معيَّنة تبخَّر الماء، أي تحوَّل من حال السيولة إلى حال الغازية.
وهذا تحوُّل، أو تغيُّر، في "النوع"، أو "الكيف". أمَّا ارتفاع حرارته درجة بعد درجة، أي بالتدريج، فهو تحوُّل، أو تغيُّر، في "الكم"، أو "الكمِّيَّة".
نَعْلَم أنَّ طبيعته الكيميائية لم تتغيَّر إذ تحوَّل من سائل إلى غاز؛ ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ تحوُّله هذا ليس بـ "النوعي"، أو "الكيفي"، فالشيء يتغيَّر نوعيا إذا ما تغيَّر في صفاته وخواصه وحالات وجوده.
و"التبدُّل الكمِّي" في الشيء هو ما نراه عند "التزايد"، أو "التناقص"، التدريجيين في جانب من جوانبه (جانب الحرارة مثلا في مثالنا).
"التبدُّل النوعي" هو "النتيجة (الطبيعية والحتمية)"؛ أمَّا "التبدُّل الكمِّي" فهو "السبب (الدائم والطبيعي)"، فالتبدُّل النوعي ليس بالأمر الذي يُجيز لنا النظر إليه وفهمه على أنَّه مجهول السبب أو معدومه، أو من صنع المصادفة (أو قوى ميتافيزيقية).
وعليه، ينبغي لنا أن نجتهد في معرفة "التبدُّلات الكمِّيَّة" التي لا بد منها لحدوث تبدُّل نوعي معيَّن، ففي "الكم"، الذي تتَّسِم تبدُّلاته بالتدرُّج والضآلة، يكمن دائما سبب، وعلَّة، التبدُّل في "الكيف"، الذي نراه مباغتا وسريعا، وفي شكل "قفزة"، أو "طفرة".
الفوارق تبدأ، أوَّلاً، "كمِّيَّة"، نُعَبِّر عنها بـ "العدد"، ثمَّ تغدو "نوعية". و"القفزة"، أو "الطفرة"، لا بدَّ لها من أن تَسْتَغْرِق "مقدارا من الزمن"، يجب أن يكون ضئيلاً نسبياً، أي نسبة إلى الزمن الذي يستغرقه التبدُّل الكمِّي، فـ "ضآلة زمن الطفرة" لا تُقاس قياسا مُطْلَقا.
على أنَّ تفاوت الزمن الذي تستغرقه "الطفرة النوعية" لا يعنى أبدا أنَّ "نوعية ثالثة" تتوسَّط بين "النوعية القديمة" و"النوعية الجديدة"، فبين "الماء السائل" و"الماء الصلب (الجليد)" ليس من "ماء ثالث"، يشبه "العجينة" مثلا.
و"التبدُّل الكمِّي" إنَّما هو تبدُّل يَحْدُث في شيء معيَّن؛ وهو يَحْدُث إمَّا على شكل "زيادة" وإمَّا على شكل "نقصان". ولكن لهذا التبدُّل "درجة عليا أخيرة"، تتحدَّد بطبيعة الشيء الذي يَحْدُث فيه التبدُّل الكمِّي، أي أنَّ ثمَّة حدَّاً نهائيا لـ "التزايد" و"النقصان"، لا يمكن تخطيه من دون تحوُّل الشيء نوعياً.
ويحتاج "التبدُّل الكمِّي" إلى "الإضافة"، أو "الحَذْف"، أي إلى أن تضيف إلى الشيء "مادة (كتلة أو طاقة)"، أو إلى أن تَحْذِف منه "مادة (كتلة أو طاقة)".
و"الكمِّيَّة"، التي تزداد أو تنقص، إنَّما هي "كمِّيَّة لشيء ما.. لنوع معيَّن"، فلا "عدد" من دون "معدود".
"الكمِّيَّة" تتبدَّل، فتتبدَّل "النوعية"؛ و"النوعية" تتبدَّل، فتتبدَّل "الكمِّيَّة"، فلولا هذا "التبدُّل الكمِّي" لَمَا حَدَث هذا "التبدُّل الكيفي"؛ ولولا هذا "التبدُّل الكيفي (الجديد)" لَمَا حَدَث هذا "التبدُّل الكمِّي (الجديد)".
في "القشَّة التي قصمت ظهر البعير" يكمن قانون من أهم قوانين التطور. وهذه القشَّة تشبه "الصوت" الذي بفضله يتحوَّل المرشَّح، في انتخابات برلمانية، إلى عضو في البرلمان. "قشَّة البعير" إنَّما هي آخر ما يُضاف من قوَّة إلى أحد طرفي تناقض معيَّن، فيُحْرِز "السيادة"، فيتغيَّر نوعيا الشيء الذي ينطوي عليه هذا التناقض.
"الإضافة الأخيرة" تلك لا تختلف، كمَّاً أو نوعاً، عمَّا سبقها من إضافات؛ ولكنَّها هي التي بها تَظْهَر "الطفرة النوعية"، أي الطفرة (القفزة، الوثبة) التي بها يتحوَّل الشيء إلى نقيضه.
و"التغيير الظاهر"، ومهما كان ضئيلا، إنَّما هو ثمرة "طفرة". وينبغي لنا أن نَنْظُر إلى كل "تغيير ظاهر" على أنَّه ثمرة "تبدُّل كمِّي"، وعلى أنَّه "جزء من تبدُّل كمِّي آخر"، في الوقت ذاته. إنَّ أقل زيادة ظاهرة في سخونة الماء هو ثمرة تبدُّل كمِّي في الطاقة الحركية لجزيئاته. وهو، في الوقت نفسه، جزء من تبدُّل كمِّي (حراري) يؤدِّي، في آخر المطاف، إلى تحوُّل الماء إلى بخار.
"الطفرة" هي جوهر التطوُّر في جانبه النوعي أو الكيفي، فثمَّة "هوة سحيقة" بين "النوع القديم" و"النوع الجديد"؛ وهذه الهوة لا يمكن اجتيازها إلا بـ "قفزة (طفرة، وثبة)".. قفزة واحدة لا غير. و"الطفرة"، التي لا شيء يمكنه التطوُّر (نوعيا وكيفيا) إلا بها، ومن خلالها، إنَّما هي "الانقطاع في التَّدَرُّج".. في التطوُّر في جانبه الكمِّي، فما كان ينمو (في الشيء) نموَّا يُعَبَّر عنه بـ "العدد".. ما كان يَصْعَد أو يَهْبط في مساره الكمِّي.. ما كان يزداد أو يَنْقُص، ينقطع، أو يتوقَّف، بغتةً، نموه هذا، فلا زيادة إضافية، ولا نقصا إضافيا، وإنَّما "طفرة"، يزول بها القديم، فينشأ الجديد.
والشيء، أي شيء، لا يملك، ولا يمكنه أن يملك، مسارا كمِّيَّا لا نهاية له، فثمة نهاية لكل مسار كمِّي (في الشيء الذي على قيد الحياة) لا يمكن تخطِّها أو تجاوزها (ولو بأقل مقدار ممكن) من غير أن يتحوَّل الشيء إلى نقيضه. الشيء يظلُّ على ما هو عليه من حيث الجوهر والأساس.. يظلُّ محتفظا بهويته، وقوامه، ونوعيته، وبكل ما يميِّزه جوهريا من غيره، ما دام صعوده أو هبوطه الكمِّي دون "الخط الأحمر" الأعلى أو الأسفل.
"الطفرة"، بمعيارها الزمني، إنَّما الانتقال من "النوع القديم" إلى "النوع الجديد" في زمن مقداره يقل كثيرا، وكثيرا جدا، عن مقدار الزمن الذي استغرقه الشيء في تبدُّله الكمِّي. إنَّ الزمن الذي تستغرقه "الطفرة" يجب أن يُفْهَم فَهْما نسبياً فحسب. و"الطفرة"، في معناها الجوهري، إنَّما تعني انتفاء "الوسطية النوعية"، فليس من "شيء ثالث" يتوسَّط بين الشيء ونقيضه. إنَّ "الماء" يتحوَّل إلى "جليد".. يتحوَّل من "سائل" إلى "صَلْب". فهل من حالٍ كحال "العجين" تتوسَّط بين "الماء السائل" و"الماء الصلب"؟ كلا، ليس من حالٍ كهذه، فالماء إمَّا أن يكون "سائلاً"، في هذا المثال، وإمَّا أن يكون "صلبا". "العجين" ليس بالحال التي تتوسَّط الحالين. مقدار الماء لا يتحوَّل كله، في الزمن ذاته، إلى جليد، فهو يتحوَّل جزءاً جزءاً؛ ولكن كل جزء متحوِّل، مهما صَغُر أو كَبُر، إنَّما يتحوَّل إلى حال "الصلابة" من غير أن يجتاز في أثناء تحوُّله حال "العجين"، فبين الشيء ونقيضه لا مكان أبدا لـ "شيء ثالث"، فإمَّا.. وإمَّا..
التطوُّر، في معناه هذا، إنَّما يشبه "المرأة" لجهة علاقتها بـ "الحَمْل"، فهي إمَّا أن تكون حاملاً وإمَّا أن تكون غير حامل، فـ "المرأة نصف (أو شبه) الحامل" ليس من وجود لها.
إنَّ "الكم"، أي التبدُّل الكمِّي في الشيء، يتحوَّل، عَبْر "طفرة"، أي عَبْر "انقطاع في التَّدَرُّج"، إلى "كيف"، أي إلى تبدُّل نوعي أو كيفي، أي تحوُّل الشيء إلى نقيضه. وإنَّ "الكيف"، أي هذا الشيء الجديد الذي نشأ توَّاً، يفضي إلى تبدُّل كمِّي، وكأن "الكيف الجديد" هو الذي يذلِّل العقبات من طريق التبدُّل في الكمِّيَّة. ولقد أوضح ماركس أنَّ الفوارق الكمِّيَّة الصرف تتحوَّل عند (أو بعد) نقطة معيَّنة إلى فوراق كيفية.
و"الجديد"، في خاصِّيَّة من أهم خواصه، قوي لا يُقْهَر. عند ظهوره، نراه ضعيفا نسبيا، صغيراً، وربَّما في منتهى الصِغَر والضآلة؛ ولكنه يملك من "طاقة الحياة" ما يجعله أكثر قدرة من "القديم" على قهر الصعاب. إنَّ "البيئة الجديدة" هي التي تُظْهِر "الكامن" من القوى والأشياء والخواص، فتُعَجِّل، بالتالي، زوال "القديم"، أي الذي لا يملك من القوى والقدرات والخواص ما يمكِّنه من العيش فيها، ونشوء "الجديد"، أي الذي يملك، أو يمكنه أن يملك، كل هذا الذي يفتقر إليه "القديم".
"الجديد" إنَّما هو الوحدة الدياليكتيكية بين "الوراثة" و"التكيُّف"، فهو "يَرِثُ" من سلفه، من "القديم"، كل ما هو إيجابي، ونافع، وضروري، مما اشتمل عليه "القديم". وهذا "الموروث" إنَّما هو عناصر وقوى وخواص وصفات.. تسمح لـ "الجديد" بأن يكون ابناً شرعيا لـ "البيئة الجديدة". وهو لا يَرِث فحسب وإنَّما يُنْتِج، ويُنمِّي، ويُظْهِر، عناصر وقوى وخواص وصفات.. جديدة، تجعله أكثر قدرة من سلفه على "التكيُّف" مع "البيئة الجديدة"، ومع ما يعتريها من تبدُّل وتغيير.
"المسار الكمِّي"، في صعوده أو في هبوطه، ليس بالمسار الذي لا نهاية له، فلكل مسارٍ نهايته التي هي ثمرة تفاعل الشيء مع بيئته، فما الموقف الفكري الذي يمكننا وينبغي لنا أن نقفه من كل "مسار كمِّي"؟ لا بد لنا، أولا، من نبذ "خرافة" أنَّ هذا المسار يمكن أن يكون "غير منتهٍ"، أي لا نهاية له. وينبغي لنا، من ثمَّ، أن نفهم "المسار الكمِّي" على أنَّه "الشيء في نموِّه"، وأن نفهم هذا النمو على أنَّه السياق الذي فيه تُنْتَج، حتما، أسباب وعوامل تحوَّل الشيء إلى نقيضه.
لو أخذنا بهذه المنهجية، التي ليس من منهجية تفوقها علمية، لما قلنا بـ "تمدُّد أبدي" للكون، ولما تساءلنا في دهشة عن "الشيء" الذي كان قبل "البيضة الكونية"، وجاءت منه هذه "البيضة"، فـ "البيضة الكونية" إنَّما هي ما تحوَّل إليه "شيء" مضاد لها في الصفات والخواص الجوهرية. شيء كان في منتهى "الكِبَر" و"التمدُّد"، وفي منتهى الـ "لا كثافة"، وفي منتهى الـ "لا جاذبية"، وفي منتهى "البرودة"، .. إلخ.
ولو أخذنا بها لما تحدَّثنا عن قوة كونية تشدُّ كل جزء من الكون إلى سائر الأجزاء، ضاربين صفحا، في الوقت عينه، عن "نقيض" تلك القوة، الملازم لها دائما، فـ "الجاذبية الكونية" إنَّما هي قوة لا يمكنها أن تؤكِّد وجودها، وأن تُظْهِر تأثيرها، من غير صراع تخوضه دائما مع القوة الكونية المضادة لها، أي القوة التي تشدُّ كل جزء من الكون بعيدا عن سائر الأجزاء. لا يمكنها أن تؤكِّد وجودها، وأن تُظْهِر تأثيرها، من غير إحرازها الغلبة على تلك القوة.
لو أخذنا بها لقلنا إنَّ القوة التي دفعت الكون إلى التمدُّد، وتدفعه إلى مزيد من التمدُّد، لا يمكنها أن تفعل ذلك من غير أن تُنْتِج، وتنمِّي، في الوقت نفسه، القوة التي ستدفع الكون، حتما، وفي آخر المطاف، إلى التقلُّص، وإلى مزيد من التقلُّص.
قبل، ومن أجل، أن ينتقل الشيء من حالٍ إلى نقيضها لا بدَّ له من أن يصعد أو يهبط في سُلَّمه الكمِّي، فالماء قبل، ومن أجل، أن يتجمد لا بد لبرودته من أن تنمو، فإذا بلغت، وتخطَّت، في نموِّها، درجة معيَّنة تحوَّل إلى جليد. وتحوُّل الماء إلى جليد إنَّما هو تحوُّل، أو انتقال، من كَيْف إلى كَيْف.
وينبغي لنا أن نفهم الكَيْف الجديد (الجليد في مثالنا) على أنَّه إناء يتَّسِع لمزيد من النموِّ ذاته (لمزيد من نموِّ البرودة في مثالنا) فـ "الكيف القديم" ضاق بما أحرزته البرودة من نموٍّ، فجاء بـ "إناء (كَيْف) أوسع". إنَّ الماء "الأكثر برودة" قد تحوَّل إلى جليدٍ هو "الأقل برودة".. جليد لو قلَّت برودته قليلا لتحوَّل إلى ماء هو الأكثر برودة. هذا الجليد الذي نشأ الآن والذي هو الجليد الأقل برودة، بحسب مقياسه الذاتي للبرودة، يمكن أن يتَّسع لمزيدٍ من البرودة، التي عجز سلفه الماء عن الاتِّساع لها.
الكمِّيَّة (أو المقدار) من الشيء ذاته (الكمِّيَّة من البرودة) تظل تنمو، مُبَدِّلةً الكَيْف بما يسمح لها بمزيدٍ من النمو، فكل كَيْف لا يتَّسِع إلا لمقدار من نمو هذا الجانب أو ذاك من جوانبه.
"الإناء الجديد" يتَّسِع لمزيدٍ من البرودة (في مثال تحوُّل الماء إلى جليد). ولكنَّ نموِّ البرودة فيه يغدو أشدُّ صعوبة من ذي قبل، أي من نموِّها في الماء، فكلما بردت المادة اشتدت صعوبة برودتها، أي أن التغلُّب على مقاومتها للبرودة يتطلَّب قوَّة أكبر وأعظم.
الكمِّيَّة تنمو؛ ولكن صعوبة نموِّها تنمو (تشتد) مع كل نموٍّ تُحْرِز. وهذا الاشتداد في صعوبة نموِّها إنَّما يدل على أنَّ لنموِّها "نهاية عظمى (حدٌّ أقصى)"، وعلى أنَّها تزداد اقترابا منها.
في التطوُّر، نرى دائما "مسارات كمِّيَّة"، بعضها "صاعد"، وبعضها "هابط". و"المسار الكمِّي"، في تطوُّر الشيء، إنَّما هو مسار نُعَبِّر عنه، أو يمكننا التعبير عنه، بـ "لغة الأرقام"، فوَصْف تطوُّر الشيء يمكن ويجب أن يكون، في آن، "وصفا كمِّيَّا"، و"وصفا كَيْفيَّا (أو نوعيا)". و"الوصف الكمِّي" إنَّما هو وصف الشيء في "نموِّه"، الذي في سياقه تتهيأ أسباب تحوُّل الشيء إلى نقيضه.
كيف نفهم التطوُّر بما يتَّفِق مع القانون الدياليكتيكي الأوَّل والأهم وهو قانون "وحدة وصراع الضدين"؟ فكِّر مليَّاً في أي عمل تقوم به.. وفي القرار الذي قرَّرت قبل قيامكَ به.
قبل أن تباشِر العمل، وتُقرِّر القرار، لا بدَّ لكَ من أن تعرف (في تفكيرك) شيئاً من "الصراع"، أو "النزاع"، فثمَّة مَيْلان متضادان، يظهران، ويتصارعان في تفكيرك. ويستغرق صراعهما بعض الوقت.
هل تقرأ، الآن، هذا الكتاب الذي اشتريت؟ ينبغي لكَ أن تُفكِّر في الأمر. وليس تفكيرك فيه سوى محاولة لتغليب مَيْل على مَيْل، فأنتَ تميل إلى أن تقرأه الآن، وتميل، أيضا، إلى أن تؤجِّل قراءته.
ثمَّة عوامل وأسباب تحضك على أن تقرأه الآن، وثمَّة عوامل وأسباب تحضك على تأجيل قراءته، فبالنسبة إلى أمر "القراءة الآن"، ثمَّة عوامل وأسباب "إيجابية"، وثمَّة عوامل وأسباب "سلبية".
في تفكيركَ، تحاول تعيين وتحديد "الإيجابي" و"السلبي" من العوامل والأسباب؛ وستظل تحاول حتى تَرْجح كفَّة أحد الجانبين على كفَّة الآخر، فتَظْهر النتيجة النهائية العملية: "أن تبدأ القراءة الآن"، أو "أن تؤجِّلها".
لنفْتَرِض أنَّ تلك النتيجة كانت "أن تبدأ القراءة الآن". قبل ظهور تلك النتيجة، رأيتَ أنَّ ميلك إلى أن تقرأ الكتاب الآن يقوى ويشتد وينمو (مقداره يزداد). ولقد نمَّت ميلكَ هذا عوامل وأسباب كثيرة.
هذا الميل ونقيضه (الميلان المتضادان) لم يظهرا في تفكيرك إلا معا، فلم يأتِ أحدهما قبل، أو بعد، الآخر. وهما ميلان مختلفان متضادان. وهما متصارعان؛ لأنَّهما "متَّحِدان" اتِّحادا لا انفصام فيه، و"متضادان".
كلاهما ينمو.. كلاهما يقوى أو يضعف. كلاهما يستمد من "الخارج" قوَّةً، أو ضعفاً. ولكن، في آخر المطاف، ينبغي لأحدهما أن يتغلَّب على الآخر، فتَظْهَر هذه النتيجة أو تلك.
لقد عيَّنْتَ وحدَّدَتَ طائفتين (متضادتين) من العوامل والأسباب. وكلتا الطائفتين إنَّما هي "تجسيد" لمَيْل من الميلين المتضادين.
في أثناء تفكيرك، بذلتَ جهدا ووقتا لا بدَّ لك من بذلهما قبل، ومن أجل، تغليب أحد الميْلين على الآخر، فأنتَ لن تبدأ القراءة الآن إلا إذا تغلَّبت على "مقاومة"، ولن تؤجِّل القراءة إلا إذا تغلَّبتَ على "مقاومة".
وهذا التغلُّب ليس سوى جهد ووقت يُبْذلا لزيادة "مقدار" أحد الميلين المتضادين، ولإنقاص "مقدار" الميل الآخر. ولا بدَّ لتلك "الزيادة" وهذا "النقص" من أن "يتزامنا"، و"يتساويا".
صراع الأضداد التي ينطوي عليها الشيء هو ما يُفَسِّر "التبدُّلات الكمِّيَّة"، والانتقال من "الكمِّ" إلى "الكيْف" في التطور. كل تطوُّر في الطبيعة أو المجتمع هو هكذا.
لولا "التناقض" لَمَا تغيَّر شيء، فلو أنَّ الشيء لم يكن إلا ذاته لَمَا زال، ولَمَا خَرَج من أحشائه شيء آخر. لو لم ينطوِ الشيء، لدى نشوئه، على برعم نقيضه، لظل هو ذاته إلى الأبد.
الشيء يصارع، في استمرار، كل العوامل والقوى (الداخلية والخارجية) التي تمدُّ برعم نقيضه (الداخلي) بالغذاء والطاقة. وبرعم نقيضه الداخلي هذا يفعل هو أيضا الشيء نفسه.. يصارع كل العوامل والقوى (الداخلية والخارجية) التي تمدُّ ذاك الشيء بالغذاء والطاقة.
والتطوُّر في الشيء إنَّما يعكس الصراع بين قوَّتين متضادتين ينطوي عليهما، فهل في مقدورنا تفسير ظاهرة تجمُّد الماء إذا ما ضربنا صفحا عن الصراع في داخل الماء بين قوَّتين متضادتين هما القوَّة التي تدفع جزيئاته إلى "التشتت" وتلك التي تدفعها، في الوقت نفسه، إلى "التجمُّع"؟!
هذا الصراع لا يَظْهَر لنا في الماء (السائل) الذي يزداد برودة، والذي لم يبلغ بعد نقطة التجمُّد. يَظْهَر لنا واضحا جليا عندما يَحْدُث التجمُّد، أي عندما تَنتَصِر قوى "التجمُّع" على قوى "التشتت" انتصارا حاسما. وليس تجمُّد الماء سوى ثمرة انتصار قوى "التجمُّع" على قوى "التشتت"؛ ولكن هذا الانتصار لا يقضي (في داخل الجليد) على قوى "التشتت"؛ بل يجعلها "ثانوية" لجهة قوَّتها وتأثيرها. و"تجمُّد الماء" مشروط بـ "شرط خارجي"؛ وهذا الشرط هو "شيء (في خارج الماء) يُفْقِد الماء (السائل) بعضا من مخزونه الحراري"، فيشتد ساعد قوى "التجمُّع".
ولولا هذا التناقض الذي ينطوي عليه الماء لَفَقَدَ هذا "العامل الخارجي (الثانوي)" تأثيره، فـ "تجمُّد الماء" لا يمكن أن يكون "النتيجة المباشِرة" لهذا "السبب الخارجي".
لقد نشأ "الجليد" عن "الماء (السائل)".. وُلِدَ من أحشائه، وبالرغم عنه. ومع نشوئه ينحل ذاك التناقض، فنشوء "الجديد" هو حلٌّ للتناقض، الذي بفضل نموِّه، نشأ هذا "الجديد". وحل التناقض إنَّما هو انتصار أحد طرفيه على الآخر. وكل تغيير كيفي هو حلٌّ لتناقض.
"العامل الخارجي" إنَّما هو ما يساعد في "نموِّ" تناقض ينطوي عليه الشيء، فـ "الحرارة" المتأتية من مَصْدَر خارجي تساعِد في نموِّ التناقض (في داخل الماء) بين قوى التشتيت وقوى التجميع.
هنا ينمو هذا التناقض؛ لأنَّ أحد طرفيه، وهو قوى التشتيت، ينمو، فإذا انتصر حُلَّ هذا التناقض.. أي نشأ "البخار"، ونشأ معه "تناقض جديد".
إذا تعادل الضدان في قوَّتهما زمنا طويلا فهذا إنَّما يُجَمِّد التطوُّر؛ لأنَّ تَغلُّب أحدهما على الآخر عبر الصراع هو التطوُّر. التناقض ينمو عندما يتغلَّب أحدهما، ولو قليلا، على الآخر.
في "الجليد"، نرى أنَّ قوى التجميع هي "الطرف الأساسي"، وقوى "التشتيت" هي "الطرف الثانوي". وفي البخار، نرى أنَّ قوى "التشتيت" هي "الطرف الأساسي"، وقوى "التجميع" هي "الطرف الثانوي". أمَّا في الماء (السائل) فنرى طرفي التناقض في حالٍ من التوازن غير المستقر. وكلَّما تحوَّل "الطرف الثانوي" إلى "طرف أساسي"، أو "الطرف الأساسي" إلى "طرف ثانوي"، حَدَث "تحوُّلٌ كيفي"، فزالت الوحدة القديمة بين الضدين، ونشأت وحدة جديدة.
بـ "الحرارة"، أي بمساعدتها، يَخْرُج "الصوص" من "البيضة"؛ ولكن هل يَخْرُج "صوص" من "ماء (سائل)" إذا ما أدْخَلْنا فيه المقدار ذاته من الحرارة؟!
من هذا الماء لن يَخْرُج صوص وإنَّما بخار، فـ "العامل الخارجي" ذاته، نوعاً وكمَّاً، يعطي نتائج مختلفة.. نتائج تختلف باختلاف طبيعة الشيء الذي يُؤثِّر فيه.
في مثال الماء، تَبَخُّراً وتَجَمُّداً، نكتشف جوهر الدياليكتيك، منهجاً وواقعاً. إنَّ الماء (السائل) يتألَّف من "جزيئات"، ومن "فراغ" بينها. كل جزيء ينطوي على مَيْلين متضادين، متصارعين دائما (فصراع الضدين مُطْلَق) ومتَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه، فكلاهما لا يبقى إذا ما زال الآخر.إنَّهما دائما معاً، ينشآن معا، ويزولان معا.
كل جزيء يميل إلى "الاتِّحاد" مع غيره، ويميل، في الوقت نفسه، إلى "الانفصال" عن غيره، فـ "تتجمَّع" الجزيئات، أو "تتفرَّق (تتشتَّت)". كل جزيء يتحرَّك من مكانه، تارةً مُقْتَرِباً من غيره، وطوراً مُبْتَعِداً عنه.
"سخونة" الماء التي نلمسها إنَّما هي تعبير عن زيادة في حركة الجزيئات؛ أمَّا "برودته"، التي نلمسها أيضا، فهي تعبير عن نقص في حركة جزيئاته.
كيف يتفاعل مقدار من الماء (السائل) مع البيئة (بيئته)؟ أوَّلا، لا بدَّ من توضيح أنَّ تفاعله على أنواع؛ ولكننا، في مثالنا هذا، سنتأمَّل تفاعله الذي من خلاله يتحوَّل إلى "بخار"، أو إلى "جليد".
التفاعل بين شيئين إنَّما هو "تبادل للمادة"، فثمَّة "مادة" يأخذها أحدهما من الآخر، و"مادة" يعطيها أحدهما للآخر. إنَّ "المحتوى المادي" للشيء في تغيُّر دائم، كمَّاً ونوعاً، فـ "بوَّابات" الشيء مفتوحة دائما في "الاتِّجاهين": "اتِّجاه الإطلاق والإرسال"، و"اتِّجاه الامتصاص والاستقبال". الشيء لجهة "تدفُّق المادة منه" يشبه منبع النهر، ولجهة "تدفُّق المادة إليه" يشبه مصبَّ النهر.
إذا كان في جوار (على مقربة من) ذاك المقدار من الماء (السائل) مَصْدرا للحرارة فإنَّ "مادة"، هي "الطاقة الحرارية"، تتدفَّق من هذا المَصْدَر إلى الماء. قُرْبُ هذا المَصْدَر، وعِظَم سعته، يجعلان هذا التدفُّق غزيراً. الماء، في هذه الحال، يأخذ "مادة" من هذا المَصْدَر. يأخذها منه بما "يلبِّي الحاجة" لدى مَيْل جزيئاته إلى "التشتُّت" و"الانفصال" إلى النمو، أي أنَّه يتفاعل مع هذا المَصْدَر بما يسمح لمَيْلِهِ هذا بالنمو.
هذا المَصْدَر لم يَخْلِق في الماء "التشتُّت" و"الانفصال"، مَيْلاً وواقعاً؛ وإنَّما غذَّاهما، ونمَّاهما، وعزَّزهما. لو أنَّ شيئا آخر تفاعل مع هذا المَصْدَر ذاته، كمَّا ونوعاً، لاختلفت النتائج، فـ "العامل الخارجي"، أي "المَصْدَر الحراري" في مثالنا، يعطي نتائج مختلفة باختلاف طبائع الأشياء التي تتأثَّر به. وأهمية "العامل الخارجي" بالنسبة إلى تطوُّر شيء معيَّن لا تتعدى جَعْل هذا التطوُّر "سريعاً (سهلاً)"، أو "بطيئاً (صعباً)".
لقد أخّذَ الماء "مادة" من هذا المَصْدَر الخارجي؛ ولكن بما يتَّفِق مع "قانون الحاجة".. حاجته إلى "تغذية" مَيْلِه إلى جَعْل جزيئاته "تتشتَّت"، و"تنفصل"، فـ "طبيعة الشيء" هي التي تُحَدِّد "طريقة"، و"نتائج"، تأثُّر الشيء بـ "العامل الخارجي"، أي بـ "مادة" هذا العامل.
أمَّا إذا كان في جوار ذاك المقدار من الماء (السائل) جسما شديد البرودة، أي ما يمكن تسميته "مَصْدَر برودة"، فإنَّ الماء، في هذه الحال، "يعطي" هذا المَصْدَر "مادة"، أي "طاقة حرارية" يختزنها. يعطيه إيَّاها بما "يلبِّي" حاجة الطرف الآخر من تناقضه الداخلي إلى النمو، أي بما يلبِّي حاجة مَيْل جزيئاته إلى "التجمُّع"، و"الاتِّحاد" إلى النمو.
أُنْظُر الآن إلى الماء الذي بلغ في سخونته (أو تشتُّت جزيئاته) حدَّها الأقصى (بالنسبة إليه). هل هي "سخونة خالصة مُطْلَقة"؟ هل بلغ من السخونة ما يؤكِّد أنْ لا برودة تخالطها؟ الماء مهما بلغت سخونته يظلُّ منطوياً على مَيْلٍ إلى البرودة (إلى "تجمُّع" جزيئاته و"اتِّحادها"). وسخونته مهما تعاظمت وعظُمَت تظلُّ "سخونة متفاوتة" في حجم وجودها الواقعي في داخل الماء، فبعض أجزائه ساخنة، وبعضها أشد سخونة، وبعضها أقل سخونة. والأجزاء الأقل سخونة إنَّما هي ذاتها "البرودة" في الماء، "واقعا"، وليس "مَيْلاً" فحسب. بعض جزيئاته متفرِّقة، وبعضها أكثر تفرُّقاً، وبعضها أقل تفرُّقاً.
ما معنى أن يزداد الماء سخونة؟ معناه أن يقل برودة. معناه أنَّ جزءاً آخر من البرودة قد تحوَّل إلى سخونة. والماء مهما سخن لن تُسْتَنْفَد برودته، واقعاً وميلاً. البرودة (واقعاً وميلاً) في هذه الحال إنَّما تشبه "صابونة" مهما تضاءل حجمها من فرط استعمالها في غسل أيدينا لن تزول "بروتها" زوالا مُطْلقاً. ومعناه، أيضا، أنَّ السخونة، في أقل مقدار ممكن من زيادتها الظاهرة (الملموسة، المحسوسة) في الماء، هي ثمرة تغلُّب (عَبْر الصراع الدائم والمطلق) على البرودة وقواها، فهي، في معنى دياليكتيكي آخر، "البرودة إذ غُلِبَت"، أو "البرودة إذ نقص حجمها الواقعي (في داخل الماء)".
الماء ينطوي على تناقض بين "السخونة (تشتُّت الجزيئات)" و"البرودة (تجمُّع الجزيئات)". وهذا التناقض ينمو مع نمو السخونة، أو مع نمو البرودة. وهذا التناقض ينحل مع تحوُّل الماء إلى بخار، أو مع تحوُّله إلى جليد. إنَّه ينحل عندما يسود هذا الطرف أو ذاك من طرفيه، أي عندما تبلغ السخونة الحدِّ الأقصى من نموِّها في الماء، فيتحوَّل، بالتالي، إلى بخار، أو عندما تبلغ البرودة الحدِّ الأقصى من نموِّها في الماء، فيتحوَّل، بالتالي، إلى جليد.
الماء يظلُّ ماءً، أي يظلُّ سائلا، بين نقطتين: "نقطة الغليان"، و"نقطة التجمُّد". قد يسخن إلى ما دون "نقطة الغليان"، وقد يبرد إلى ما دون "نقطة التجمُّد". فإذا بلغ، في نموِّ سخونته، "نقطة الغليان" تحوَّل إلى "بخار"، وإذا بلغ، في نموِّ برودته، "نقطة التجمُّد" تحوَّل إلى "جليد".
الماء (السائل) يضيق بسخونته إذ بلغت كمِّيَّة معيَّنة، فيتحول إلى بخار، يتَّسِع لمزيدٍ من نموِّ السخونة؛ والماء (السائل) يضيق ببرودته، إذ بلغت كمِّيَّة معيَّنة، فيتحول إلى جليد، يتَّسِع لمزيدٍ من نموِّ البرودة.
مع نشوء البخار نشأ تناقض داخلي جديد بين البرودة والسخونة، أي بين برودة البخار وسخونته. ومع نشوء الجليد نشأ تناقض داخلي جديد بين السخونة والبرودة، أي بين سخونة الجليد وبرودته.
وينبغي لنا أن نفهم السخونة والبرودة (وتناقضهما) فهما ملموسا، وعلى أنَّهما واقعان عيانيِّان، فليس من سخونة مجرَّدة، أو برودة مجرَّدة. السخونة، وبحسب مثالنا، إنَّما هي سخونة ماء، أو سخونة بخار، أو سخونة جليد. والبرودة إنَّما هي برودة ماء، أو برودة بخار، أو برودة جليد.
في تحوُّل الماء (السائل) إلى جليد، رأيْنا أوَّلا تبدُّلا كمِّيَّا معيَّنا هو نمو البرودة في الماء. رأيْنا الماء (السائل) يصعد سلَّم برودته درجة درجة. وكل درجة هي في حدِّ ذاتها تبدُّل نوعي (صغير) أفضى إليه تبدُّل كمِّي معيَّن. وهي، أيضا، "طفرة".
البرودة في الماء تستمر في النمو حتى يبلغ هذا النمو حده الأقصى (بالنسبة إلى الماء). هنا، أي عند "نقطة التجمُّد"، يتوقَّف نمو البرودة، فالماء يعجز الآن عن أن يبرد أكثر مما برد، مهما سعينا في تبريده. وهذا التوقُّف إنَّما هو "الطفرة النوعية"، التي بها يتحوَّل الماء (السائل) إلى جليد، أي إلى ماء صلب.
بين الماء السائل والماء الصلب لا مكان لشيء ثالث، ليس بالسائل وليس بالصلب. لا مكان لشيء يشبه "العجينة".
ومنطق التطوُّر عَبْر "الطفرة (القفزة، الوثبة)" لا يتعارض مع ظاهرة "تحوُّل مقدار الماء كله إلى جليد شيئا فشيئا". إنَّ هذا المقدار من الماء يتحوَّل جزءاً جزءاً إلى جليد؛ ولكن "أصغر جزء متحوِّل" إنَّما هو ثمرة "طفرة". و"الطفرة"، على ضآلة "الزمن النسبي (أي نسبة إلى الزمن الذي يستغرقه التبدُّل الكمِّي)" الذي تستغرقه، تختلف في مقدارها الزمني باختلاف طبائع الأشياء.
النمو الأعظم للتناقض بين قوى التشتُّت والانفصال وقوى التجمُّع والاتِّحاد نراه في البخار وفي الجليد. أمَّا في الماء (السائل) فنرى توازنا نسبيا (أي نسبة إلى البخار والجليد) بين طرفي هذا التناقض الداخلي. في البخار، تسود قوى التشتُّت والانفصال (من غير أن تزول قوى التجمُّع والاتِّحاد). وفي الجليد تسود قوى التجمُّع والاتِّحاد (من غير أن تزول قوى التشتُّت والانفصال).
الشيء لا يتغيَّر في أي اتِّجاه.. لا يتحوَّل إلى أي شيء. إنَّه يتغيَّر في اتِّجاه معيَّن، ويتحوَّل إلى شيء معيَّن، فـ "هذا" الماء، وبكل ما لكلمة "هذا" من معانٍ ملموسة، يتحوَّل، مثلا، إلى "هذا" الجليد.
والشيء يمكنه، في الوقت نفسه، أن يتغيَّر، ويتطوَّر، في غير اتِّجاه، فباختلاف ما يتأثَّر به من مؤثِرات خارجية يختلف اتِّجاه تغيُّرِه، وتطوُّرِه. إذا تطوَّر "هذا" الشيء "الآن"، بكل ما لكلمة "الآن" من معانٍ ملموسة، في "هذا" الاتِّجاه، فهذا إنَّما يعني أنَّ تطوره في هذا الاتِّجاه يُعَدُّ أمراً "حتميا"؛ لأنَّه قد استوفى شروطه الداخلية والخارجية.
وعليه، لا بدَّ دائما من السؤال الآتي: "لماذا تطوَّر هذا الشيء الآن (وليس من قبل) في هذا الاتِّجاه (وليس في اتِّجاه آخر)؟".
كل تغيير هو ثمرة صراع يخوضه أحد الضدين (المتَّحِدين) ضد الآخر، فـ "العِلْم" هو صراع ضد "الجهل"، و"التمدُّد" هو صراع ضد "التقلُّص"، و"الحياة" هي صراع ضد "الموت"، و"الجذب" هو صراع ضد "الدفع".
هذا الجسم "تمدَّد" الآن، فما معنى، أو معاني، هذا "التغيير" الذي وَقَع؟ معناه أنَّ هذا الجسم قد خاض صراعا ضد "التقلُّص".. ضد "قوى التقلُّص" في داخله، وفي بيئته. ومعناه، أنَّ هذا الجسم قبل أنْ يتمدَّد، ومن أجل أن يتمدَّد تمدُّده الذي رأيْنا، خاض هذا الصراع الحتمي الذي لا مفرَّ منه. ومعناه أنَّ هذا الجسم لم يتمدَّد إلا عندما "تغلَّب على التقلُّص (وقواه)". ومعناه أنَّ هذا التقلُّص قد "هُزِمَ" في "هذه الجولة من الصراع"؛ ولكنَّه "لم يَمُت"؛ لأنْ لا وجود لـ "التمدُّد" إذا ما مات "التقلُّص"، أي إذا ما قُضيَ عليه قضاءً مُبْرما. ومعناه أنَّ هذا الجسم قد صارع "التقلُّص"، الذي في داخله، بوصفه شيئاً، أو جانبا، يُوْجَد وجودا فعليا واقعيا، فـ "التقلُّص" هو اجتماعٌ لـ "الوجود" و"القوَّة". ومعناه أنَّ "التمدُّد" لا يأتي إلا من صراعٍ مع هذا الذي يتحوَّل إليه، أي "التقلُّص".
ولو "تقلَّص" شيء، فهذا إنَّما يعني أنَّ تقلُّصه، نشوءاً ونموَّاً، هو ثمرة صراع (دائم) ضد "التمدُّد".. ضد كل ما يُسبِّب "التمدُّد"، ويؤدِّي إليه.
أُنْظُر إلى كرة تتحرَّك على سطح طاولة. إنَّها تنتقل من الموضع A إلى الموضع B إلى الموضع C..
هذه الكرة لا يمكنها الانتقال إلى الموضع B إلا بَعْد خوضها صراعاً ضد الموضع السابق، أي الموضع A. ولا يمكنها الانتقال إلى الموضع C إلا بَعْد خوضها صراعا ضد الموضع B.
عندما ينتهي هذا الصراع تتوقَّف الكرة عن الحركة. وفي المنطق، نقول إنَّكَ لا تستطيع تأكيد B إذا لم تُزِل (تنفي) نقيضها A.
وكلا الضدين يتحوَّل إلى الآخر، فيغدو "التمدُّد"، "تقلُّصاً"، ويغدو "التقلُّص"، "تمدُّداً". وهذا "التحوُّل المتبادل" إنَّما يَعْكِس، ويُظْهِر، ويؤكِّد، "وحدة الضدين". و"وحدة الضدين"، كما هي حال كل شيء، وكل ظاهرة، "تنشأ"، و"تستمر"، و"تزول".
ليس من "عِلْمٍ مُطْلَق"، وليس من "جهل مُطْلَق"، فكل "عِلْم" ينطوي على شيء من "الجهل"، وكل "جهل" ينطوي على شيء من "العِلْم (المعرفة)". لا "عِلْم" من دون "جهل"، ولا "جهل" من دون "عِلْم". لا "حياة" من دون "موت"، ولا "موت" من دون "حياة". لا "سعادة" من دون "شقاء"، ولا "شقاء" من دون "سعادة". لا "صعوبة" من دون "سهولة"، ولا "سهولة" من دون "صعوبة".
الشيء، في ثباته النسبي في هويته، إنَّما هو ثمرة توازن مؤقَّت في القوى بين قوَّة تشده في اتِّجاه وقوَّة أخرى (مضادة، متَّحِدة اتِّحادا لا انفصام فيه مع الأولى) تشده في الاتِّجاه المعاكس أو المضادة.
وكل تغيير يعتري الشيء يجب فهمه على أنَّه ثمرة، أو نتيجة، تغلُّب إحدى القوَّتين على الأخرى، فإذا زادت حركة جسم، على سبيل المثال، أقل زيادة ممكنة، فهذا إنَّما يعني أنَّ قوى الحركة (كل ما يؤدِّي إلى إنتاج ومضاعفة الحركة) في داخل، وفي خارج، الجسم قد تغلَّبت على قوى السكون التي في داخله، وفي خارجه.
والصراع بين الضدين اللذين ينطوي عليهما الشيء إنَّما يُتَرْجَم (في نتائجه) بزيادة في نموِّ أحدهما، وبنقص (مزامِن ومساوٍ) في نموِّ الآخر، وكأنَّ أحدهما "يُسْتَهْلَك" من أجل أن ينمو الآخر. وهذا "الاستهلاك" لا يؤدِّي إلى نموِّ الآخر فحسب، وإنَّما إلى إعداد العدَّة لإعادة إنتاج "المُسْتَهْلَك" ذاته.
حتى في جسيم الضوء (الفوتون) يبقى التناقض بين "الحركة" و"السكون"، فسرعة الضوء، والتي تبلغ في الفراغ 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، تقلُّ في وسط مادي كالزجاج أو الهواء. وكل تضاؤل، ولو كان طفيفا جدَّاً، في سرعة الضوء إنَّما هو زيادة في "سكون" جسيم الضوء، الذي لا يمكنه أن يتخطى الحد الأقصى لنمو الحركة أو السكون فيه، كمثل الماء (السائل) الذي لا يمكنه أن يظل محتفظا بهويته إذا ما تخطى الحد الأقصى لنمو الحرارة أو البرودة فيه.
"الخالِص" من الأشياء والصفات لا وجود له؛ لأنَّ "النقيض"، أي نقيض الشيء، أو الصفة، يظل موجودا، وإنْ أصبح، أو كان، من الضآلة بمكان. وكل ما يَنْتُج عن الشيء، أو عن تفاعله مع غيره، بدءا من نشوئه حتى زواله، إنَّما هو إعداد وتهيئة للأسباب (الداخلية الذاتية والخارجية) المؤدِّية حتما إلى تحوُّله إلى نقيضه.
إنَّ أسباب نشوء كل شيء (وكل ظاهرة) هي ذاتها "النتائج" المتمخِّضة عن وجود (وتفاعُل) نقيضه، فـ "سقوط" حجرٍ قذفناه في الهواء إنَّما هو ظاهرة تكمن "أسبابها" في "النتائج" المتمخِّضة عن "ارتفاع" الحجر، فهذا الحجر لا يمكنه أن يرتفع إلا بما يؤدِّي، في الوقت نفسه، إلى إنتاج وتنمية أسباب سقوطه.
إذا عَرَفْتَ كل صفات وخواص شيء فإنَّكَ تعرف الشيء ذاته، فليس ممكنا تمييز صفات وخواص الشيء من الشيء ذاته، وليس من حاجز ميتافيزيقي بين الشيء ذاته وبين صفاته وخواصه. بعض من صفات وخواص الشيء "تَظْهَر" بعد حين، أي بعد تغيُّرٍ يعتري الشيء، ومَصْدَرَهُ صراع، واشتداد صراع، الأضداد التي ينطوي عليها الشيء. ومثل هذا الاشتداد للصراع (أو نموِّ التناقض) نراه واضحا عند تجمُّد أو غليان الماء على سبيل المثال، فالماء (السائل) هو حال من التوازن المؤقَّت بين طرفي تناقضه الداخلي.
بـ "التغيير" تَظْهَر وتنجلي حقيقة الشيء الداخلية (تناقضه الداخلي). وهذا إنَّما يعني أنَّ انتظار نمو وتطوُّر الشيء ضروري لمعرفة حقيقته الداخلية، فالتناقض الداخلي للشيء لا نراه في وضوح وهو في "مرحلة الطفولة". يجب أن ينمو وينضج حتى نراه في وضوحٍ كافٍ.
الشيء، في "شيخوخته"، أي في ربع الساعة الأخير من حياته، هو الذي يُرينا تناقضه الداخلي في منتهى الوضوح، فنمو هذا التناقض من نمو الشيء ذاته. وعليه، لا تكتمل موضوعية وعلمية المعرفة إلا بعد أن ينمو الشيء نموا كافيا.
ما هي السباحة (في نهر أو بحر..)؟ إنَّها جهد تبذله في طريقة معيَّنة، فتتمكَّن، بالتالي، من التغلُّب على قوى الغرق، أي القوى التي تعمل في اتِّجاه جعلك تغرق. إنَّها، أي السباحة، أو العوم، ثمرة، أو نتيجة، صراعٍ تخوضه ضدَّ تلك القوى، وتُحْرِزُ فيه الغلبة.
وغني عن البيان أنَّ تغلُّبكَ على قوى الغرق لا يعني أبدا قضاءكَ عليها قضاءً مبرما، فلا سباحة من غير وجود تلك القوى، ومن غير صراعكَ، في طريقة معيَّنة، ضدها، ومن غير تغلُّبكَ عليها، مع المحافظة على وجودها في الوقت نفسه. السباحة (العوم) إنَّما هي حالة غرق قد غُلِبَت.
لو كنتَ تسبح في عُرْض البحر، أي في وسطه بعيدا عن الشاطئ، فإنَّ قوى الغرق ستتغلَّب، في آخر المطاف، عليك، وستجعلك تغرق بالتالي. لقد استنفدت جهدك وطاقتك فما عاد في مقدورك أن تستمر في السباحة. طاقة تلك القوى كانت تفوق طاقتك كثيرا. وقد اسْتُهْلِكَت ونَفَدَت طاقتك، ولم تَلْقَ ما يمدها بأسباب التجُّدد، فَغَلَبَتْكَ قوى الغرق، فَغَرِقْت.
وعلى هذا النحو يمكننا وينبغي لنا أن نفهم الطريقة التي يصارع فيها الشيء القوى التي تعمل في اتِّجاه نفيه وإلغائه، فهو يَسْتَهْلِك طاقته، فإذا كانت أقل من طاقة تلك القوى، ولم تَلْقَ ما يكفي من الدعم الخارجي، أو البيئي، فإنَّ هذا الشيء لن يبقى قادرا على المحافظة على وجوده زمنا أطول، فيتحوَّل، بالتالي، إلى نقيضه، أي إلى شيء آخر مضاد له في الصفات والخواص الجوهرية.
أُنْظُر إلى سفينة تمخر عباب البحر، فهل تراها في حالٍ من "الطفو المطلق الخالص"؟ لا شكَّ في أنَّها طافية فوق الماء، أي أنَّها تعلو فوق الماء، أو على سطحه، ولم ترسب. ولكن يكفي أن تُمْعِن النظر في حالها حتى تَجِد أن جزء (ضئيلا) منها، هو أسفلها، في حالٍ من "الرسوب"، فحال "الطفو" ليست مطلقة خالصة؛ لأنَّ شيئا من "الرسوب" يخالطها. هذا "الرسوب" هو "واقع عياني"، وإنْ كان في حجم ضئيل.
إنَّ الشيء ينطوي، أو يشتمل، دائما، على نقيضه في شكل "واقع عياني"، قد يكون ضئيلا، أو في منتهى الضآلة. وينطوي، أيضا، على نقيضه في شكل "قوى"، تعمل دائما في سبيل مزيد من النمو والغلبة والسيطرة.
وفي مثالنا ذاك، نرى أنَّ "نسبة من الرسوب"، قد تزيد، وقد تنقص، تَظْهَر وتتأكَّد في حال "الطفو"، ولو بلغت "نسبة الطفو" 99.999 في المئة، فـ "الطفو" بنسبة 100 في المئة إنَّما هو المستحيل بعينه. وهكذا كل شيء.
الجسم المُنْتَقل في الفضاء يظل، إلى الأبد، منتقلا في السرعة ذاتها، وفي الاتِّجاه ذاته، إذا لم تؤثِّر في حركته، وفي اتِّجاهها، قوَّة خارجية. على أنَّ هذا لا يعني أنَّ هذا الجسم في حالٍ من "الحركة (الميكانيكية) المطلقة الخالصة"، فثمة نسبة من السكون تنطوي عليها حركته. السكون فيه بدليل أنَّ حركته يمكن أن تزداد، وأن تنقص، فإنْ هي زادت فهذا إنَّما يدل على تحوِّل مزيد من سكونه إلى حركة، وإنْ هي نقصت فهذا إنَّما يدل على نموِّ سكونه، أي على تحوِّل مزيد من حركته إلى سكون، فالسكون يظل موجودا، على شكل "واقع عياني"، وعلى شكل "قوى"، ولو سار الجسم (على استحالة ذلك) في سرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة) التي هي السرعة القصوى في الكون والطبيعة.
الحركة التي لا تزيد ولا تنقص إنَّما هي حال من التوازن المؤقَّت (مهما طال) بين قوى الحركة وقوى السكون. وهذا التوازن يمكن أن نراه في جسم يستمر في السير بسرعة 200 ألف كيلومتر في الثانية، أو بسرعة 200 متر في الثانية.
في داخل الشيء، يمكننا وينبغي لنا أن نرى دائما أجزاء، أو مواطن، يتجسَّد (أو يتجسَّم) فيها نقيض الشيء، ففي كوننا المتمدِّد، على سبيل المثال، نرى أجزاء ومواطن يتجسَّد فيها "التقلُّص"، المتفاوت حجما وشدة. و"الثقب الأسود" هو من تلك الأجزاء والمواطن التي بلغ فيها "التقلُّص" منتهاه. وقد تنمو "قوى التقلُّص الكوني"، فتبلغ في نموِّها الدرجة العليا؛ وقد يتحوَّل الكون كله، عندئذٍ، إلى "ثقب أسود هائل".
إنَّ جوهر الدياليكتيك لا يكمن في القول بـ "وحدة الضدين التي لا انفصام فيها". لا يكمن في قولكَ إنَّ الشيء الخالص المُطْلق، أي الشيء الذي لا يخالطه دائما نقيضه، لا وجود له. جوهره إنَّما يكمن في القول بأنَّ الصراع الدائم والمطلق بين الضدين، وتغلُّب أحدهما (عَبْره) على الآخر، هما مَصْدَر كل تطوِّر وتغيير، فمتى رأيْنا تطوُّرا لم يكن ثمرة تغلُّب أحد طرفي تناقض ما على الآخر من خلال الصراع بينهما؟!
ليس من تطوُّرٍ يمكن أن يأتي به التوازن بين طرفي تناقض ما، وإنْ كانا متَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه، ومتصارعين تصارعا كامناً، مستتراً، وغير محسوس. التطوُّر إنَّما يأتي من نموِّ التناقض، أي من نمو الصراع بين طرفيه، ومن تغلُّب أحدهما، أخيراً، على الآخر.
الشيء، في تفاعله مع بيئته، يتطوَّر، حتما، في اتِّجاهٍ معيَّن. على أنَّ هذا التفاعل لا بدَّ له، في آخر المطاف، من أن يعطي نتائج مختلفة ومضادة، فهذا الشيء سيتطوَّر، من ثمَّ، في اتِّجاه معاكس ومضاد؛ ذلك لأنَّ تفاعله مع بيئته قد أنْتَج من القوى والأسباب والعوامل الذاتية والبيئية ما يؤدِّي، حتما، إلى تطوُّره في الاتِّجاه المعاكس والمضاد.
إنَّ السؤال الدياليكتيكي الأهم هو الآتي: "أين"، و"متى"، نشأت وتكوَّنت وتطوَّرت ونمت قوى وأسباب وعوامل نشوء شيء ما؟ لقد نشأت وتكوَّنت وتطوَّرت ونمت في "الداخل" من نقيض هذا الشيء، وفي غضون (أثناء) نمو وتطور نقيضه.
لقد كان هذا الشيء، قبل نشوئه وظهوره، "جنيناً في رحم نقيضه"، فنما هذا الجنين (مع نموِّ هذا النقيض) ثمَّ خَرَج من رحم هذا النقيض، ورغما عنه، فهذان "المكان" و"الزمان" إنَّما هما الظرف الذي فيه تنشأ وتتكوَّن وتتطوَّر وتنمو قوى وأسباب وعوامل نشوء هذا الشيء.
هذه الكرة تتحرَّك على سطح طاولة؛ ولا بدَّ لها، في آخر المطاف، من أن تتوقف وتسكن، فمن أين جاء سكونها؟ إنَّ تفاعل الكرة المتحرِّكة مع سطح الطاولة والهواء والجاذبية الأرضية هو الذي به، وفيه، تهيَّأت أسباب السكون، فالكرة ما كان لها أن تتحرَّك على سطح الطاولة، وأن تستمر في الحركة، وأن تتفاعل مع سطح الطاولة والهواء والجاذبية الأرضية من غير أن تُنْتِج وتنمِّي، في الوقت نفسه، كل القوى والأسباب والعوامل المؤدِّية، أخيرا، وحتما، إلى سكونها وتوقُّفها عن الحركة.
أُنْظُر إلى قارب يمخر عباب بحر كبير، قرَّر قائده أن يظل مُبْحِراً إلى الأبد. هذا القارب هو الآن، وإلى حين، يطفو فوق مياه البحر. ولكنه لا يمكن أن يستمر في هذه الحال، وفي التفاعل مع بيئته، من غير أنْ يُعِدَّ ويهيِّئ، في الوقت نفسه، أسباب غرق هذا القارب (مهما كان قويا). القارب سيغرق أخيرا، أي أنَّه سيصبح في حالٍ مضادة لحاله الأولى، أو السابقة. ولكنَّ هذه الحال المضادة الجديدة لن تستمر إلى الأبد، فهذا القارب لا يمكنه أن يغرق، وأن يستمر في الغرق، وفي التفاعل مع بيئته الجديدة تحت الماء، من غير أنْ يُعِدَّ ويهيِّئ، في الوقت نفسه، أسباب نفي هذه الحال، التي تسمَّى دياليكتيكيا "نفي النفي". هذا القارب الغارق سيتفسَّخ، وتشرع أجزاء منه تعوم وتطفو. لقد عاد القارب إلى حاله الأولى؛ ولكن باختلاف كبير، تسبَّب به "طور النفي"، أي حال الغرق التي ظلَّ فيها القارب زمنا طويلا. في هذه الحال الثالثة، أي "نفي النفي"، نرى مُرَكَّباً من بعضٍ من الحال الأولى، وبعضٍ من الحال الثانية.
"الحادث"، مهما كان، إنَّما هو ثمرة تغلُّب قوَّة على قوَّة مضادة، فهذا الذي حَدَثَ قد حَدَثَ إذ تغلَّب على كل ما يمنعه من الحدوث من قوى داخلية وخارجية. و"قوى المنع (الممانَعة، المقاوَمة)"، في الداخل، وفي الخارج، من الشيء إنَّما هي ذاتها "القوى المضادة"، أي القوى التي تَدْفَع الشيء إلى التطوُّر في اتِّجاه مضاد للاتِّجاه الذي تطوَّر، أو يتطوَّر، فيه، فـ "الممانَعة"، أو "المقاوَمة"، يجب فهمها على أنَّها وجه من أوجه عمل القوَّة المضادة، أي أنَّ القوة المضادة (في داخل الشيء، وفي خارجه) تُمانِع، وتُقاوِم، تطوُّر الشيء في اتِّجاه معيَّن في سياق سعيها وضغطها من أجل أن يتطوَّر الشيء في الاتِّجاه المضاد. إنَّ كل "فِعْل" هو ثمرة التغلُّب على كل مانعٍ له.
إذا تمدَّد جسم فهذا إنَّما يعني أنَّ قوى التمدُّد في داخله قد تغلَّبت على قوى التقلُّص في داخله، وعلى القوى الخارجية المساعِدة لقوى التقلُّص تلك. وقوى التمدُّد الداخلية تلقى هي أيضا مساعدة من قوى في خارج الجسم، فما يحيط بهذا الجسم من أشياء وعوامل لا بدَّ له من أن ينقسم في تأثيره بالجسم بما يوافِق انقسامه الداخلي، فكلا طرفي التناقض الذي ينطوي عليه الجسم يلقى تغذية ودعما ومساندة من الخارج. والجسم الذي يتمدَّد إنَّما هو الذي يمكنه، وينبغي له إذا ما تهيَّأت الظروف والعوامل والأسباب، أن يتقلَّص، فلا يتمدَّد إلا المتقلِّص، والقابل للتقلُّص.
الشيء في نشوئه إنَّما هو ثمرة نفي وإلغاء (في المعنى الدياليكتيكي) لنقيضه، ولكل العوامل والقوى المغذِّية والمساندة لنقيضه، فشرط نشوئه هو الوجود الفعلي لنقيضه، ولتلك العوامل والقوى، ونفي وإلغاء هذا الوجود من ثمَّ. والنفي والإلغاء في معناهما الدياليكتيكي يتضمَّنان "الاحتفاظ" و"الاستبقاء"، فما نفي وأُلْغي يُسْتبقى، ويُحْتَفَظ به، ولو في حجم في منتهى الضآلة، فلا وجود لأحد النقيضين من دون الآخر.
في مثال الكرة المتحرِّكة على سطح طاولة، نرى حركة الكرة مستمرة إلى حين، وإنْ في تباطؤ متزايد حتى التوقُّف التام عن الحركة. في أثناء الحركة المتباطئة لا بدَّ لقوى الحركة في داخل الكرة من أن تتغلَّب في استمرار على القوى المضادة في داخل الكرة، والتي تسعى دائما في شدِّها إلى السكون. وقوى السكون الداخلية تلك تلقى تغذية ودعما ومساندة من سطح الطاولة، أي من قوى الاحتكاك بين سطح الطاولة وسطح الكرة المتحرِّكة. وكل "نبضة" جديدة من حركة الكرة لا تَظْهَر إلا بعد، وبسبب، التغلُّب على قوى السكون في داخل الحركة، وعلى قوى الاحتكاك المساندة لها. ويستمر هذا الصراع مع ما يتخلله من انتصارات تُحْرِزها قوى الحركة في داخل الكرة حتى تُحْرِز قوى السكون الداخلية، ومعها قوى الاحتكاك، انتصارها الحاسم، فتتوقَّف الكرة عن الحركة.
وفي مثال التطوُّر المعرفي للإنسان، نرى أنَّ توسُّع وتعمُّق الإنسان في معرفة موضوع ما يفضيان إلى ولادة أسئلة وتساؤلات جديدة في رأسه، يتعذَّر عليه إجابة كثير منها، فينشأ، بالتالي، جهل من مستوى جديد، هو جهل العالِم، أو الإنسان الذي يملك شيئا يُعْتَدُّ به من المعرفة والعِلم في هذا الموضوع، فالمعرفة إنَّما هي التغلُّب على جهل قديم، لِيُوْلَد جهل جديد، فلا معرفة خالصة، ولا جهل خالص، فكلا النقيضين يخالط الآخر، تارةً ترجح كفَّة المعرفة على كفَّة الجهل، وطورا ترجح كفَّة الجهل على كفَّة المعرفة. وعلى هذا النحو تنمو المعرفة وتتطوَّر.. تمضي قُدُما في الطريق إلى الحقيقة المطلقة؛ ولكن من غير أن تبلغ تلك الحقيقة أبدا، فالحقيقة المطلقة يرتفع منسوبها، في معارف البشر، في استمرار؛ ولكنه لن يبلغ أبدا حدَّهُ النهائي والأخير؛ لأنْ لا حدَّ له يمكن أنْ يكون نهائيا وأخيرا.
ما معنى أنَّ الشيء A قد نشأ وظَهَر وَوُجِدَ الآن؟ معناه هو الآتي: ثمَّة شيء آخر كان موجودا وجودا فعليا حقيقيا، فزال (نُفي وأُلْغي) حتى ينشأ ويَظْهَر ويُوْجَد الشيء A. إنَّ موته هو الذي منه يمكن ويجب أن يُوْلَد الشيء A. وهذا الذي مات لا يمكنه إلا أن يكون نقيض الشيء A. فـ "جنين" الشيء A كان في رحم سلفه مُذْ نشأ، ثمَّ شرع ينمو في داخل رحمه، ثمَّ خرج منه، ورُغْماً عنه. وهذا الذي وُلِدَ لا بدَّ له من أن يحتوي في رحمه، مُذْ وُلِدَ، على "جنين" سلفه الذي مات. ما سبب نموِّ "الجنين"؟ سببه نمو "أُمِّه"، فالشيء لا يمكنه أن ينمو من غير أن يتسبب نموِّه بنمو نقيضه، أي "الجنين" الذي في رحمه.
في مجرى التطوُّر، "يُفْقَد" شيءٌ معيَّن، ثمَّ "يُسْتعاد"؛ ولكنَّه يُسْتعاد "مُعَدَّلاً"؛ أمَّا الذي "عدَّله" فهو "نقيضه". أُنْظُر إلى كل "مُسْتعاد"، في مجرى التطوُّر، ستَجِدَهُ مختلفا عن "نسخته الأصلية". وهذا الاختلاف الحتمي إنَّما هو من صُنْع نقيضه. وهذا الاختلاف ستراه في الناحيتين "الكمِّيَّة" و"الكيفية"، وكأنَّ "المُسْتعاد" هو "الشبيه" الذي، في المسار الصاعد للتطوُّر، يتضاءل في مشابهته لـ "أصله". وهذا "التشابه"، أو "التشابه المتضائل"، إنَّما يعني أنَّ بعضا من "جينات" النقيض قد انتقل إلى "المُسْتعاد"، فصار، بالتالي، يشبه، أيضا، النقيض. وفي هذا المعنى ينتقل النقيضان من "مُرَكَّب" إلى "مُرَكَّب أعلى"، أي من "وحدة" إلى "وحدة أعلى". ولكنَّ هذا الانتقال لا يلغي أبدا صراع النقيضين؛ لأنَّ إلغاءه إلغاء لسبب ومَصْدَر التطوُّر.
الشيء لا ينشأ إلا ومعه نقيضه.. وهذا إنَّما يعني أنَّ الدراسة الدياليكتيكية تبدأ بـ "تعيين" ما قد نشأ، فإذا كان "الناشئ" هو "اشتعال" شمعة، مثلاً، فإنَّ نقيض الاشتعال، وهو "الانطفاء"، يجب أن يكون قد نشأ مع "الاشتعال"، وحيث نشأ "الاشتعال"، أي في الداخل من الشمعة، التي لا يمكنها أن تظل مشتعلةً، أي في "اشتعال يعقبه اشتعال"، إلا إذا تغلَّبت "قوى الاشتعال"، من داخلية وخارجية، على "قوى الانطفاء"، من داخلية وخارجية، عَبْر الصراع الدائم معها، فاستمرار الشمعة مشتعلةً إنَّما يعني ويؤكِّد أنَّ "قوى الانطفاء" تُمنى بمزيدٍ من الهزائم؛ ولكن من غير أن تقضي عليها هزائمها قضاء مبرما. أمَّا "انطفاء الشمعة" فيجب فهمه على أنَّه "انحلال للتناقض" بين الطرفين، أي بين "قوى الاشتعال" و"قوى الانطفاء"، فعندما يُحْرِزُ نقيض الشيء الذي نشأ مع نشوئه الانتصار النهائي والحاسم على الشيء يصبح التناقض بينهما منحلاً.
التناقض بينهما نشأ إذ نشأ الشيء ("اشتعال" الشمعة في مثالنا) وينمو كمثل كل شيء ينشأ ويُوْلَد. ونموِّه إنَّما هو ذاته نمو (واشتداد) الصراع بينهما. وفي آخر المطاف، أي عندما يُحْرِز "النقيض" سيطرته الكاملة، ينحل هذا التناقض. ولحظة انحلاله إنَّما هي ذاتها لحظة نشوء وولادة شيء جديد.
نمو التناقض هو ذاته نمو الصراع بين طرفيه.. بين "طرفه المُسَيْطِر" و"طرفه المُسَيْطَر عليه". وفي مجرى هذا الصراع يقوى "المُسَيْطَر عليه" شيئا فشيئا. وفي آخر المطاف، يأخذ كلاهما مكان الآخر، فينحل التناقض.. ينتقل التطوُّر، عَبْر "طفرة"، من "طوره الكمِّي" إلى "طوره الكيفي". و"التطوُّر الكمِّي" ليس سوى التناقض في نموِّه.. في نمو الصراع بين طرفيه، وفي نموِّ قوَّة "الطرف المُسَيْطَر عليه".
هناك من يفهم "تحليق" أو "طيران" طائرة على أنَّه وَضْع، أو حال، ليس فيه من أثَرٍ لوضع، أو حال، "السقوط". وهذا الفهم خاطئ من وجهة النظر الدياليكتيكية، فـ "طيران" الطائرة إنَّما هو حال تنشأ، وتستمر، باعتبارها ثمرة، أو نتيجة، التغلُّب المستمر على قوى (في داخل الطائرة، وفي خارجها) تعمل، في استمرار، لجعل الطائرة تهوي وتسقط.
"طيرانها" ليس سوى "وَضْع السقوط" المقاوَم، والمُسَيْطَر عليه. "السقوط" مع "قواه" هو جزء لا يتجزَّأ من "الطيران" مع "قواه"، فـ "الطيران" لا ينشأ، ولا يستمر، إذا لم يتخلَّله، دائما، "السقوط"، "وجوداً"، و"قوى"، وإذا لم يُنْفَ، أي "السقوط"، في الوقت نفسه، "وجوداً"، و"قوى"؛ ولكن نفياً دياليكتيكياً، أي يتضمَّن معنى "الاستبقاء"؛ ذلك لأنْ لا وجود لأحد النقيضين إذا ما زال الآخر، زوالاً مُطْلَقاً.
أمَّا إذا هوت الطائرة وسقطت فإنَّ نقيض هذه الحال يجب أن يظل جزءاً لا يتجزَّأ منها، فسقوط الطائرة لا ينشأ، ولا يستمر، إلا باعتباره ثمرة، أو نتيجة، التغلُّب الدائم على قوى (في داخل الطائرة، وفي خارجها) تعمل، في استمرار، لمنع الطائرة من السقوط، وكأنَّ في الطائرة الساقطة، وفي خارجها، من القوى ما يشدها في الاتِّجاه المعاكِس والمضاد، وإنْ تعذَّر علينا أن نرى هذا التأثير واضحا جليا بسبب أنَّ حال السقوط تَظْهَر لنا في منتهى الوضوح والجلاء.
في أثناء طيران الطائرة، نرى "وحدة وصراع الضدين" في أمثلة أُخرى، فإلى جانب التناقض بين "الطيران (التحليق)" و"السقوط"، هناك تناقض بين "الحركة" و"السكون"، وتناقض بين "السرعة" و"البطء"، وتناقض بين "الاستقامة" و"الانحناء" في خطِّ سَيْر الطائرة، وتناقض بين "العلوِّ" و"الهبوط"، وتناقض بين "التقدُّم" و"التراجع"، وتناقض بين "الانعطاف يميناً" و"الانعطاف يساراً"، وتناقض بين "البقاء (بقاء الطائرة الطائرة) في الحال ذاتها" وبين "تخطِّي هذه الحال (في غير طريقة)".
إنَّ حال الطيران تنطوي على كثيرٍ من الميول، والاتِّجاهات، والقوى، المتضادة. لو أسرعت الطائرة، وتسارعت في استمرار، لتغيَّر مَيْلاها المتضادان (المَيْل إلى السرعة، والميل إلى البطء) على النحو الآتي: المَيْل إلى السرعة يزداد ضعفاً، والمَيْل إلى البطء، يزداد قوَّة، في الوقت ذاته، وفي المقدار ذاته، فالطائرة في سرعتها العظمى إنَّما هي الطائرة التي مَيْلها إلى البطء في قوَّته العظمى، وكأنَّ السرعة في نموِّها الفعلي، والمحسوس، والظاهر، والعياني، تَقْتَرِن بثلاثة أشياء هي "الاضمحلال الفعلي، والمحسوس، والظاهر، والعياني، للبطء"، و"النمو المتعاظِم للمَيْل إلى البطء"، "والتضاؤل المتزايد للمَيْل إلى السرعة".
وكل ذلك نرى معانيه كامنة في الظاهرة الآتية: كلَّما أسرعت الطائرة صَعُب تسارعها. و"المَيْل إلى.." يكفي أن يشتدَّ ويقوى حتى يغدو تحوُّله إلى "واقع"، أو إلى "حقيقة واقعة"، ممكناً بقدر أقل من تأثير "العامل الخارجي" الإيجابي، وكأنَّه الجنين الذي اكتمل نموَّا في رحم أمه فأصبح، ممكنا، بالتالي، أن يخرج منه بمساعَدة خارجية ضئيلة.
الشيء كلَّما نما (نموَّا فعليا) نما، في الوقت نفسه، وفي المقدار نفسه، "نقيضه الجنيني" في داخل رحمه، حتى يخرج منه، ورغما عنه. ولو لم يكن هذا النمو من ذاك لاستحال التطوُّر، وتحوُّل الشيء إلى نقيضه، فكيف للحجر الذي قذفته في الهواء أن يتحوَّل من حال الارتفاع إلى نقيضها، حال السقوط، إذا لم ينمُ جنين حال السقوط في داخل رحم حال الارتفاع مع كل نمو (زيادة) في ارتفاع الحجر؟!
الشيء يمكنه، وينبغي له، أن ينمو، بَعْد ولادته ونشوئه؛ ولكنه لا يقدر أبدا (وهنا تكمن "مأساته") أن ينمو من غير أن يُنمِّي، في الوقت نفسه، وفي المقدار نفسه، جنين نقيضه في داخل رحمه حتى إذا لفظ أنفاسه خرج هذا الجنين، المكتمل نموَّاً، من رحمه، ورغما عنه.
هذا هو "النمو المتناقض" للشيء، أي لكل الأشياء، فالشيء في نموِّه الفعلي والظاهر إنَّما يُنمِّي جنين نقيضه في داخل رحمه. في آخر المطاف، ينبغي للشيء أن يتحوَّل إلى نقيضه؛ ولكن مقدار الزمن الذي يستغرقه هذا التحوُّل يزيد، أو ينقص، بزيادة، أو بنقص، "خصوبة" الظروف البيئية التي فيها نشأ الشيء، وينمو. وزيادة مقدار الزمن ذاك معناه "الإبطاء والتصعيب (إبطاء وتصعيب تحوُّل الشيء إلى نقيضه)"، ونقصه، معناه، "الإسراع والتسهيل".
أُنْظُر إلى جسم يسير في سرعة لم يَسِرْ فيها من قبل لجهة عِظَمِها. لو قُلْتَ إنَّها "السرعة المُطْلَقة الخالصة" لاستحال أمران: أنْ تزيد، وأنْ تَنْقُص. إذا زادت فهذا إنَّما يعني أنَّ مزيداً من البطء الذي تنطوي عليه قد تحوَّل إلى سرعة، فَمِن أين تأتي الزيادة في مقدار الجليد، مثلا، إذا لم تأتِ من نقصٍ في مقدار الماء (السائل)؟!
وإذا نقصت فهذا إنَّما يعني أنَّ البطء الذي تنطوي عليه قد زاد مقداراً. حتى الضوء ينطوي على البطء، فسرعته في الفراغ 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة؛ ولكنَّها تقل في الماء مثلا، فكيف لها أن تقل إذا لم ينمُ البطء الذي يتخلَّلها؟!
والضوء، في خاصية جوهرية له، يكفي أن يخرج من الماء إلى الفراغ حتى يستأنف السير في سرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، وكأنَّ الفراغ هو ظرفه البيئي الذي فيه يستطيع التغلُّب على ما اعترى سَيْرِه في الماء من بطء.
هل من "سكون" لا تتخلًَّله وتُخالطه "حركة"؟ وهل من "حركة" لا يتخلَّلها ويخالطها "سكون"؟ كلا، ليس من وجود له ولها، فـ "السكون" و"الحركة" في وحدة لا انفصام فيها، وفي صراعٍ دائم ومُطْلَق. وهذا الصراع، نراه ظاهرا تارةً، ومستترا طوراً.
تَخَيَّل جسما يسير في الفضاء بسرعة 100 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة. تَخَيَّله وقد استمر يسير في هذه السرعة بلا زيادة ولا نقصان، وفي خطٍّ مستقيم. آينشتاين يرى في هذا "نوعا من السكون". وأنتَ، مع ذلك، لكَ الحق في أنْ تصرَّ على أنَّ هذا الجسم ليس في حال سكون، وإنَّما في حال حركة، فأنتَ "المراقِب الخارجي" ترى هذا الجسم ينتقل من موضع إلى موضع في الفضاء. أمَّا من وجهة النظر الدياليكتيكية فإنَّ هذا الجسم في حالٍ من التوازن بين "السكون" و"الحركة". والدليل على ذلك أنَّ سرعته لم تزدد، ولم تنقص. لو زادت لعنى ذلك أنَّ مقدارا من سكونه قد تحوَّل إلى حركة؛ ولو نقصت لعنى ذلك أنَّ مقدارا من حركته قد تحوَّل إلى سكون. وهذا التوازن المؤقَّت، مهما طال زمنه، إنَّما هو الحال التي لا ينتفي فيها الصراع بين "السكون (وجودا وقوى)" و"الحركة (وجودا وقوى)".
وحتى لا يُفَسَّر انتهاء أو كسر التوازن على أنَّه ثمرة فعل وتأثير "عامل خارجي" فحسب، أو في المقام الأوَّل، نقول إنَّ "التوازن" مثله مثل كل شيء وظاهرة، ينشأ (يُوْلَد) فينمو (يزداد). ولا بدَّ لنموِّه ذاته من أن ينمِّي، في الوقت نفسه، وفي المقدار نفسه، قوى وأسباب وعوامل نفيه، ففي العمق والباطن من حال التوازن يدور صراع بين "التوازن (وجودا وقوى)" و"نقيض التوازن (وجودا وقوى)".
في الداخل من هذا الجسم الذي يتوازن فيه "السكون" و"الحركة"، تنشط قوى في اتِّجاه جعل الجسم "يتسارع"، وتنشط قوى في اتِّجاه جعله "يتباطأ". تنشط قوى في اتِّجاه جعل الجسم يسير بالسرعة ذاتها، وتنشط قوى في اتَّجاه جعله يتخطَّاها، صعودا أو هبوطا.
"التوازن" هو الحال التي يبقى فيها الشيء محتفظا بهويته وماهيته، والتي، في الوقت نفسه، يختلف فيها الشيء، في استمرار، في جانبه الكمِّي. وهذا الاختلاف هو ثمرة وعاقبة صراع الأضداد التي ينطوي عليها الشيء.
ويكفي أن نفهم "التوازن" على هذا النحو حتى نستنتج أنَّ انتهاءه، من خلال انتصار أحد طرفي التناقض (الذي ينطوي عليه الشيء) على الآخر، وليس استمراره، هو مَصْدَر التطوُّر (النوعي أو الكيفي).
التفكير الدياليكتيكي إنَّما يبدأ بـ "التعيين" و"التحديد".. تعيين وتحديد الشيء موضع التفكير (والبحث). وينبغي للتعيين والتحديد أن يكونا في منتهى الدقَّة والوضوح. وبَعْد ذلك، نسعى في اكتشاف أوجه وجود، وقوى، النقيض الذي ينطوي عليه حتما هذا الشيء. ثمَّ نَنْظُر إليهما، أي إلى الشيء ونقيضه، في صراعهما الدائم والمُطْلَق، وفي استتاره وظهوره.
إذا سألْتَ، مثلا، "ما هو النقيض الداخلي للشمس؟"، فإنِّي أجيبكَ قائلاً: "إنَّه الشيء الذي يُوْلَد، أو ينشأ، من موت، أو زوال، الشمس". ولكن، ما هو موت، أو زوال، الشمس؟ هل هو فناء الشمس بوصفها "مادة"؟ كلا، ليس هذا هو معنى موت، أو زوال، الشمس. الشمس التي تموت، أو تزول، إنَّما هي هذا الشيء الذي يُوَلِّد، ذاتيا، الحرارة والضوء.
بعد هذا التعيين والتحديد، نقول إنَّ النقيض الداخلي للشمس، والذي سيَظْهَر، بَعْد وبسبب زوالها، هو شيء ليس في وسعه أن يُوَلِّد، ذاتيا، الحرارة والضوء. هو شيء بارد ومُعْتِم نسبيا، أي نسبة إلى الشمس، حرارةً وضياءً. هذا الذي سينبثق حتما من موت وزوال الشمس إنَّما هو المضاد لها في الصفات والخواص التي تجعل الشمس شمساً. وكل تلك الصفات والخواص لها أضدادها الآن في الشمس، فالشمس هي "الحرارة" المتغلِّبة على "البرودة (وجودا وقوى)"، وهي "النور" المتغلِّب على "الظلمة (وجودا وقوى)". هي اجتماع وصراع قوى الاندماج النووي في باطنها وقوى تعمل ضد هذا الاندماج.. تعمل في اتِّجاه الانفصال، ومزيد من الانفصال، النووي.
لـ "الشيء" من الخواص والصفات ما يجعل ممكنا تمييزه من غيره، فالشمس شيء، والقمر شيء، ومجرَّة "درب التبانة" شيء، والقط شيء، وجزيء الماء شيء، وذرَّة الأوكسجين شيء، والبروتون شيء، والإلكترون شيء.
وكل شيء من تلك الأشياء إنَّما يتألَّف من أشياء، فإنَّ للشيء "بنية شيئية" لا يمكن استنفادها. حتى جسيم مثل "الكوارك" يمكن ويجب أن تكون له "بنية شيئية لا يمكن استنفادها". ومكوِّنات الشيء، أو العناصر التي يتألَّف منها الشيء، هي، أيضا، أشياء.. هي بنيته الشيئية تلك، والتي بسبب وجودها في كل شيء نَنْظُر إلى الشيء، ونفهمه، مهما كان متناهيا في الصِغَر، على أنَّه "مُرَكَّب".
والشيء "متفاعِلٌ" دائما مع غيره.. منذ ولادته حتى موته، فالشيء الذي لا يؤثِّر، ولا يتأثَّر، بغيره، أي لا يتفاعل مع غيره، إنَّما هو شيء لا وجود له.
نظريا ليس إلا يمكن أن نَنْظُر إلى "الواقع المادي (الموضوعي)" على أنَّه مؤلَّفٌ من قسمين: "قسم الأشياء"، و"قسم منتجات التفاعل بين الأشياء".
ولتوضيح المعنى، ولو قليلا، دعونا نتأمَّل مثال "تحضير كوب من الشاي". لتحضيره لا بدَّ من وجود الأشياء الآتية: الشاي، والماء، والسكَّر، والحرارة التي نُدْخلها في الماء، والإناء الذي نضع فيه الماء من أجل غليه.
كل هذه الأشياء تتفاعل، تتبادل التأثير، في أثناء تحضير كوب من الشاي. وهذا الشاي الذي نَشْرَب هو مُنْتَج هذا التفاعل، أو التأثير المتبادل، بين تلك الأشياء. وكل تلك الأشياء يجب أن تختلف وتتغيَّر في أثناء تحضير كوب من الشاي، ومن أجل تحضيره، فالسُكَّر الذي هو الآن في كوب الشاي يختلف، في ناحية ما، عمَّا كان عليه قبل التفاعل. ولو لم تختلف تلك الأشياء وتتغيَّر لَمَا حَصَلْنا على هذا المُنْتَج الجديد، أي كوب الشاي. قبل التفاعل، كان السُكَّر موجودا في شكل، وبَعْدَهُ أصبح موجودا في شكل آخر، فـ "الشيء ذاته" يُوْجَد في غير شكل وحال وهيئة.
الشيء المتفاعِل دائما مع غيره (من الأشياء القريبة منه، أو البعيدة عنه) هو وحده الذي له مكان في "الواقع المادي (الموضوعي)". وعليه لا يكتمل الشيء تعييناً وتحديدا إلا إذا صَوَّرْتَهُ على النحو الذي يتضمَّنه المثال الآتي: "هذا الماء بصفته (بوصفه، باعتباره، لكونه).."، فـ "الماء العام"، أو "الماء في وجه عام"، لا وجود له في "الواقع المادي (الموضوعي)".
الشيء، كل شيء، يَدْخُل في تكوين شيء آخر، مختلِفٌ في خواصه عن خواص كل مكوِّنٍ من مكوِّناته. وحتى يَدْخُل في تكوين شيء آخر لا بدَّ له هو نفسه من أن يختلف أيضا. إنَّ لجزيء الماء من الخواص المختلفة عن خواص مكوِّنيه الأوكسجين والهيدروجين ما يجعله مختلفا نوعيا عن غازي الأوكسجين والهيدروجين. والأوكسجين الداخل في تكوين جزيء الماء لا بدَّ له من أن يختلف عن الأوكسجين في الغلاف الجوي، أو عن الأوكسجين في مُركَّبات كيميائية أخرى.
التفاعل بين الأشياء يأتي دائما بأشياء جديدة تختلف في خواصها عن الأشياء المتفاعلة، التي تختلف عمَّا كانت عليه قبل التفاعل. والتفاعل هو الذي به، وفيه، يُظْهِر لنا الشيء ما كان كامنا فيه من خواص وقوى، و"يُكَمِّن (أي يجعله كامنا)" ما كان ظاهرا فيه من خواص وقوى أخرى.
إنَّ القول بتحوُّل الشيء إلى نقيضه يَفْقِد أهميته في البحث والتحليل إذا لم نُعيِّن ونُحدِّد الشكل الذي يُوْجَد فيه هذا الشيء، أي إذا لم نَنْظُر إليه "بصفته، أو بوصفه، أو باعتباره،.."، فما هو، مثلا، النقيض الذي يتحوَّل إليه سلك النحاس؟ ليس من جواب عن هذا السؤال إذا لم نَعْرِف "النافِذة" التي من خلالها تَنْظُر إلى سلك النحاس.
سلك النحاس بصفته معدنا باردا تحوَّل إلى نقيضه إذ سَخَن. وبصفته معدنا صلبا تحوَّل إلى نقيضه إذ انصهر. وبصفته يتألَّف من ذرَّات عدد إلكتروناتها مساوٍ لعدد بروتوناتها تحوَّل إلى نقيضه إذ أصبح عدد إلكترونات ذرَّاته يزيد، أو يقل، عن عدد بروتوناتها. وبصفته يتألَّف من ذرَّات عدد إلكتروناتها أقل من عدد بروتوناتها تحوَّل إلى نقيضه إذ أصبح عدد إلكترونات ذرَّاته يفوق عدد بروتوناتها. وبصفته متَّصِلاً تحوَّل إلى نقيضه إذ تقطَّع وتجزَّأ. وبصفته جسما مؤلَّفاً من ذرَّات (نحاس) متَّحِدة تحوَّل إلى نقيضه إذ انفصلت ذرَّاته عن بعضها بعضا. وبصفته ذرَّة (نحاس) تحوَّل إلى نقيضه إذا انفصلت مكوِّنات ذرَّته عن بعضها بعضا.
وأنتَ لو عَبَّرْتَ عن "التغيير" الذي اعترى الشيء بالجملة الآتية "كان.. فأصبح.." لتأكَّدتَ أنَّ الشيء لا يتحوَّل إلا إلى نقيضه، فسلك النحاس "كان باردا، فأصبح ساخنا"، "كان صلبا، فأصبح سائلا"، فهل سَمِعْتَ، مثلا، أنَّ سلك النحاس "كان صلبا، فأصبح باردا"؟!
صلابته لم تُنْفَ لتأتي البرودة من نفيها، فالبرودة ليست بنقيض الصلابة حتى تتحوَّل إليها الصلابة. "الميوعة" هي التي نقيض الصلابة الكامن فيها، والذي إليه تتحوَّل، حتما، الصلابة. وأنتَ لا تستطيع أن تقول إنَّ سلك النحاس كان "منحنياً"، فأصبح "منصهراً"؛ لأنَّ "الانصهار" ليس بالنقيض الطبيعي الداخلي لـ "الانحناء" حتى يتحوَّل إليه "الانحناء". "الانحناء" لا يتحوَّل إلى "انصهار"، وإنَّما إلى "استقامة".
"الجليد" نقيض داخلي طبيعي لـ "الماء (السائل)"؛ لأنَّه يملك من الخواص والصفات الجوهرية ما يناقِض تلك التي يملكها الماء؛ ولأنَّه كان كامنا في الماء.. كان، في وجوده وقواه، جنينا في رحم الماء، فنما، فخرج منه رغما عن الماء.
قد ترى تضادا في الخواص والصفات بين "الجليد" وشيء آخر كـ "زيت الزيتون" مثلا؛ ولكنَّ هذا التضاد لا يجعل "زيت الزيتون" نقيضا طبيعيا لـ "الجليد"، لانتفاء شروط ومقوِّمات "الوحدة" بين تلك الأضداد من الخواص والصفات.
الخواص والصفات والجوانب والاتِّجاهات والميول والقوى المتضادة يجب أن تكون قي صراعٍ دائم؛ ولكنَّ هذا الصراع مشروط بـ "وحدتها"، فهو لا تقوم له قائمة إلا بين أضداد متَّحِدة، في داخل شيء، اتِّحادا لا انفصام فيه.
إنَّ الخواص والصفات والجوانب والاتِّجاهات والميول والقوى المتضادة يجب أن تكون في وحدة لا انفصام فيها، في داخل شيء، حتى تستوفي الشرط لـ "صراعها الدائم، المستتر أو الظاهر"، والذي هو مَصْدَر التطوُّر. أمَّا "التناقض الخارجي" بين الأشياء فهو ليس سوى "العامل الخارجي" الذي يؤثِّر في تطوُّر الشيء عَبْر التناقض الداخلي للشيء، أي عَبْر تعزيزه وتقويته لأحد طرفي التناقض الداخلي في صراعه مع الطرف الآخر.
كيف نفهم ظاهرة "تبخُّر جزء من الماء الموضوع في إناء عندما ألقينا فيه جسما معدنيا في منتهى السخونة"؟ بإلقائنا هذا الجسم في هذا الماء نشأ تناقض بين هذا الشيء وذاك (تناقض خارجي بالنسبة إلى الماء، وبالنسبة إلى الجسم المعدني).
التفاعل، أو التأثير المتبادل، بينهما انتهى إلى تغيير هنا، وتغيير هناك. الماء سخن، ثمَّ تبخَّر جزء منه، أمَّا هذا الجسم المعدني الذي كان في منتهى السخونة فَبَرَد.
وليس التغيير سوى "إزالة فإنشاء"، ففي الماء، وفي الجسم، ثمَّة ما نُفي، وثمَّة ما نشأ عَبْر هذا النفي.
الجسم بحرارته وقف إلى جانب قوى في داخل الماء تنشط في جعل جزيئاته تتفرَّق وتنفصل عن بعضها بعضا، أي أنَّه وقف ضد القوى المضادة لتلك القوى. أمَّا الماء ببرودته فوقف إلى جانب قوى في داخل الجسم المعدني تنشط في جعل جزيئاته تتجمَّع أكثر، أي وقف ضد القوى المضادة لتلك القوى.
الجسم بحرارته كان مضادا للماء ببرودته وتجمُّع جزيئاته واتِّحادها؛ والماء ببرودته كان مضادا للجسم المعدني بحرارته وتفرُّق جزيئاته.
لقد تأثَّر الماء (البارد) بالجسم المعدني (الحار) ولكن هل كان ممكنا أن يتأثَّر من غير أن يؤثِّر بهذا الجسم؟ والجسم تأثَّر بالماء ولكن هل كان ممكنا أن يتأثَّر من غير أن يؤثِّر بهذا الماء؟ كلا، ليس ممكنا، لا هذا ولا ذاك. وعلى هذا النحو تتفاعل الأشياء، وتؤثِّر "العوامل الخارجية" في تطوُّر الشيء.
قُلْنا إنَّ الأشياء تتفاعل فيَنْتُج عن تفاعلها شيء ما، أو ظاهرة ما. وهذا "المُنْتَج" له مكوِّناته كسائر الأشياء، فإذا فَقَدَها فَقَدَ وجوده. أُنْظُر إلى ظاهرة "تحرُّك كرة على سطح طاولة". إنَّ لهذه الظاهرة مكوِّناتها الأساسية الآتية: الكرة التي زوَّدْناها ما يؤدِّي إلى حركتها، وسطح الطاولة الذي بينه وبين سطح الكرة احتكاك، والجاذبية الأرضية.
والظاهرة هي "انتقال الكرة من حال السكون إلى حال الحركة، فاستمرارها في الحركة، فتباطؤ سرعتها، فتوقُّفها، أخيرا، عن الحركة".
لو أنَّ عنصر "الاحتكاك" انتفى لاختلفت الظاهرة. الكرة، في هذه الحال، لن تتوقَّف عن الحركة. ونرى هذا واضحا في مثال كرة زوَّدْناها ما يؤدِّي إلى حركتها في الفضاء الخارجي. هذه الكرة لن تتوقَّف عن الحركة، ولن تتباطأ سرعتها، ولن تتغيَّر في اتِّجاه حركتها. إنَّ لكل ظاهرة مكوِّناتها، وخواصها، وجوانبها المتضادة.
ما هو "التطوُّر الطبيعي" للشيء؟ إنَّه التطوُّر المستوفي لشروط "النفي"، فـ "نفي النفي". إنَّه التطوُّر المستوفي لشروط "استعادة ما نُفي من قبل" استعادة تَظْهَر فيها وتتأكَّد "حلزونية (أو لولبية)" مسار التطوُّر. وهذا التطوُّر يصبح "حتميا" إذا ما استوفى شروطه.
ولكن، ما معنى هذا؟ معناه أنَّ الشيء في تطوُّره الطبيعي يتفاعل مع بيئة، من خواصها أنَّ تفاعله معها يمكن ويجب أن يفضي، في آخر المطاف، إلى اجتيازه طَوْري "النفي"، و"نفي النفي"، وكأنَّ الشيء لا ينشأ إلا في بيئة ينبغي لتفاعله معها أن يُمَكِّنه، إذا ما تطوَّر تطوُّرا طبيعيا، من أن يجتاز طَوْري "النفي" و"نفي النفي".
إنَّ "قوى المصادفة" هي ما يمكن أن يَحُول بين الشيء وبين تطوُّره الطبيعي، أي بينه وبين الانتقال في تطوُّره إلى طَوْر "النفي (الذاتي الطبيعي)"، فطَوْر "نفي النفي"، الذي به، وفيه، يُسْتعاد ما نُفي من قبل استعادةً تَظْهَر فيها وتتأكَّد "حلزونية" مسار التطوُّر.
"الأصل" في التطوُّر هو أن يتطوَّر الشيء بما يتَّفِق مع قانون "نفي النفي"؛ على أنَّ "قوى المصادفة" يمكن أن تُخْرِج الشيء عن سِكَّة تطوُّره الطبيعي، فيُنفى الشيء بما لا يتَّفِق مع قانون "نفي النفي"، فليس كل نفي يمكن أن يُهيِّئ لـ "نفي النفي" في معناها الدياليكتيكي الهيجلي.
و"نفي النفي" في معناه هذا، وإذا ما أصبح حقيقة واقعة، هو خير دليل على أنَّ الشيء قد استوفى شروط تطوُّره الطبيعي، من داخلية وخارجية. والسؤال الذي لا بدَّ من السعي في إجابته في هذا الصدد هو: "كيف"، و"أين"، و"متى"، يمكن أن يتطوَّر الشيء تطوُّرا طبيعيا، فيجتاز طَوْري "النفي (الذاتي الطبيعي)"، و"نفي النفي"؟ هذا هو سؤال الدياليكتيك الأكثر أهمية.
لو جئتَ بشريط من المطَّاط، وأمسكتَ بطرفية، وشرعْتَ تشده بيديكَ، توصُّلا إلى قطعه، فما الذي يمكْنكَ اكتشافه في أثناء قيامكَ بهذا العمل؟ قبل أن تشرع تشده، لا ترى في الشريط إلا ما يشبه الجثَّة الهامدة. تراه ساكنا لا حركة فيه، ولا حياة.
ولكن ما أن تشرع تشده حتى ترى "الحياة" وقد دبَّت فيه، فالشريط المطَّاطي أخذَ يبدي "مقاوَمة"، أو "ممانعة". إنَّكَ لا تستطيع أبدا أن تشده.. أن تشرع، وأن تستمر، في شده، من غير أن يلقى جهدكَ هذا مقاوَمة، لا بدَّ لكَ من التغلُّب عليها، والاستمرار في التغلُّب عليها، إذا ما أردتَ مطِّه، ولو قليلا، وإذا ما أردتَ الاستمرار في مطِّه حتى قطعه.
وليس الجهد الذي تنفقه (تبذله، تستهلكه، تستنفده) في أثناء شدِّ الشريط المطَّاطي ومطِّه (جعله يتمدَّد، يستطيل) سوى الجهد الذي ينبغي لكَ إنفاقه من أجل التغلُّب على تلك المقاوَمة، التي بحسب حجمها وقوَّتها وشدَّتها يتحدَّد ويتقرَّر حجم وقوَّة وشدَّة جهدكَ هذا.
أنتَ تستهلك وتستنفد جهدك (طاقتكَ) في شدِّ ومطِّ الشريط توصُّلا إلى قطعه، ولا بدَّ لكَ، بالتالي، من أن تُعوِّضَ، في استمرار، ما خسرته من جهد، إذا ما أردتَ المضي قُدُما في عملكَ حتى نهايته، أي حتى قطع الشريط المطَّاطي. وقد تكتشف في أثناء قيامكَ بهذا العمل أنَّ "المقاوَمة" تنمو وتقوى وتشتد، فكلَّما شددتَ الشريط اشتدَّت صعوبة شدِّه.
ما الذي فعله جهدكَ عَبْر يديكَ الممسكتين بالشريط المطَّاطي من طرفيه، وتقومان بشدِّه؟ لم يفعل سوى "التغذية".. ففي الشريط (في داخله وباطنه) يستوطِن "التمدُّد"، ولو على هيئة "البذور" و"الأجنَّة".
وأنتَ بجهدكَ هذا إنَّما تمدُّ هذا "التمدُّد الجنيني"، و"قواه"، بأسباب النمو، أي أنَّك تقوم بـ "تغذيته" ليس إلا، فأنتَ لم تخلقه إذ شرعتَ تمط الشريط، وإنَّما غذَّيْتَهُ، ونمَّيْتَهُ.
وهذا الذي غذَّيْتَهُ ونمَّيْتَهُ إنَّما هو أحد طرفي تناقض ينطوي عليه الشريط؛ ولكن هل في مقدوركَ أن "تتحالف" مع هذا الطرف.. أنْ تغذِّيه وتنمِّيه، وتقوِّيه، من غير أن تستثير، في الوقت نفسه، الطرف الآخر الذي يُظْهِر ويؤكِّد وجوده بصفته "قوَّة مقاوَمة (ممانَعة)"؟ كلا، ليس في مقدوركَ أبدا، فأنتَ ما أن تشرع تشد الشريط المطَّاطي حتى تستثير (تُثير، تُهَيِّج، تَسْتَفِز، تُوْقِظ، تُحرِّك) هذا التناقض، الذي كان يبدو ساكنا، نائما، هادئا، خاملا، مَيْتا.
وكلَّما شددتَ الشريط ازداد هذا التناقض حيوية ونشاطا ودينامية، ففي "الحركة (التي هي هنا تنامي تمدُّد الشريط)"، وبها، يتكشَّف، ويَظْهَر، ويتأكَّد، وجود التناقض، فالحركة (أي كل تغيُّر) هي التناقض، والتناقض (أي الضدَّان في صراعهما المتنامي) هو الحركة.
أنتَ تشدُّ الشريط في اتِّجاه؛ ولكن ثمَّة قوَّى أُخرى في داخل الشريط تشدُّه في الاتِّجاه المعاكِس والمضادة. ويكفي أن تشرع تشده في اتَِجاه (هو اتِّجاه قطعه) حتى ترى قوَّة أُخرى (في داخل الشريط) تشده في الاتِّجاه المعاكِس والمضاد، أي في اتِّجاه "التقلُّص".
ولكنَّ هذه القوَّة المضادة، والتي تتَّحِد اتِّحادا لا انفصام فيه مع "قوة الشد (التمدُّد)"، لا تُريكَ من عملها الآن سوى "المقاوَمة"، أي سعيها لمنع الشريط من التمدُّد، فعندما يبدأ أحد طرفي التناقض "الهجوم" يُسْرِع الطرف الآخر إلى "الدفاع"، و"المقاوَمة". ويظلُّ يُدافِع ويُقاوِم حتى يصبح قادرا على شن "هجوم مضاد"، فـ "المقاوَمة"، في معنى من معانيها، مَظْهَر عجزٍ (مؤقَّت) عن "الهجوم (المضاد)". إنَّها الصراع في درجته الدنيا. وهذا الصراع المستمر بين الطرفين إنَّما يشبه "حرباً" تتألَّف من "جولات". وليس نمو التمدُّد في الشريط المطَّاطي، في أثناء، وبسبب، شدِّكَ له، سوى الحرب في "تعاقُب جولاتها"، فكل جولة تنتهي إلى "تمدُّد جديد".
قبل، ومن أجل، ظهور (نشوء، ولادة) تمدُّد جديد لا بدَّ من احتدام الصراع.. لا بدَّ من إبداء "المقاوَمة (للفعل المؤدِّي إلى التمدُّد)"، ومن التغلُّب عليها. والتغلُّب على "المقاوَمة" في إحدى جولات الصراع أو الحرب يؤدِّي إلى "تمدُّد جديد"؛ ولكنَّه لا يؤدِّي إلى القضاء المبرم على "المقاوَمة"، التي ستَظْهَر في الجولة التالية أشد قوَّة من ذي قبل، ولا بدَّ، بالتالي، من بذل جهد أكبر من ذي قبل من أجل التغلُّب عليها، فالنقيض المهزوم في جولة يُحْتَفَظُ به، فيَظْهَر في الجولة التالية.
وبين تمدُّد وتمدُّد نرى "توازُناً" في القوى بين طرفي التناقض؛ على أنَّ هذا التوازن (الذي يشبه "الهدنة") يتخلَّله ويخالطه "الصراع"، فالصراع بين الضدِّين لا يتوقَّف أبدا.
هذا التناقض، الذي لم تخلقه أنتَ إذ شرعت تشد الشريط المطَّاطي وإنَّما أيقظته وحرَّكته فحسب، شرع ينمو، فما معنى نموِّه؟ معناه أنَّ الصراع بين طرفيه يشتد ويحتدم (ينمو). ومعناه أنَّ تمدُّد الشريط يزداد (ينمو). ولكن ما هي العاقبة النهائية الحتمية لنموِّ تمدُّدِه؟ إنَّها "انقطاع الشريط بغتةً". كان لدينا شريط مطَّاطي واحد، فأصبح لدينا شريطين. ومع انقطاعه ينقطع العمل الذي كنتَ تقوم به (عمل الشد). ومع انقطاعه، نرى كلا شطري الشريط "يتقلَّص". وهذا التقلُّص إنَّما يكشف ويؤكِّد أنَّ أسبابه (الداخلية والخارجية) قد تهيَّأت. كلا الشطرين شدَّته قوَّة في اتِّجاه التقلُّص، فما كان عمله "المقاوَمة"، من قبل، أصبح عمله الآن "الهجوم (المضاد)"؛ وكلاهما أبدى "مقاوَمة" لهذا التقلُّص.
وهنا نرى "نفي النفي"، فالشريط (ولكن بعد انقطاعه) عاد إلى حال التقلُّص التي كان عليها قبل التمدُّد. وهذه الحال الجديدة من التقلُّص تختلف عن الحال القديمة (السابقة) من التقلُّص لجهة كونها متأثِّرة تأثُّرا عميقا بـ "مرحلة النفي"، أي "مرحلة التمدُّد". و"الانقطاع" هو جوهر هذا التأثُّر. خُذْ الآن أحد شطري الشريط المطَّاطي، وقُم بشدِّه. سترى أنَّ الشدِّ الآن أصعب من ذي قبل.
وينبغي لنا أن نرى كيف يقترن نمو تناقض ما بتحريك تناقض آخر، ففي أثناء الشد نما التناقض بين "التقلُّص" و"التمدُّد"، وتحرَّكَ، في الوقت نفسه؛ التناقض بين "الاتِّصال (الوحدة)" و"الانقطاع (الانفصال)" في الشريط. ومع الاستمرار في تجزئة هذا الشريط، نرى هذا التناقض ينمو.
"الصراع" إنَّما يدور بين "طرفين". و"طرفا الصراع" يجب أن يكونا "متضادين". و"تضادُّهما" إنَّما هو تضاد "طرفين متَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه". فهذا النمط من "الاتِّحاد"، مع "التضاد"، هو التفسير والتعليل لـ "الصراع"، الذي لا يعرف توقُّفا حتى عندما "يتوازن" الضدَّان في قواهما. و"الضدَّان" يُوْجَدان وجوداً عيانيَّاً، فثمَّة أشياء "تُمثِّلهما"، وكأنَّهما "الروح" إذ "تجسَّدَت".
الشيء ينشأ، فينمو (يتطوَّر). ولكن، ليس من شيء يمكنه أن ينمو من غير الصراع مع نقيضه، الذي ينشأ معه، ويعيش معه، وينمو معه، ويزول معه، فنمو الشيء هو النتيجة التي يأتي بها صراعه مع نقيضه، وتغلُّبه عليه.
وهذا إنَّما يشبه طريقا ينبغي لكَ اجتيازه حتى نهايته؛ ولكن عَبْر تخطِّيكَ لكثير من الحواجز والعقبات المنتشرة على طول الطريق. إنَّكَ لا تستطيع أن تقذف الكرة (في لعبة كرة القدم) في مرمى خصمكَ إلا بَعْدَ، وبفضل، تغلُّبِكَ على كثير من اللاعبين في الفريق الآخر (الخصم).
إنَّ هذا المعدن لا يَسْخُن، ويزداد سخونةً، إلا عَبْر الصراع مع "البرودة (وقواها)" التي ينطوي عليها، وتغلُّبه عليها، فـ "النقيض" في الطريق دائما، ولا بدَّ من مصارعته، والتغلُّب عليه، توصُّلا إلى التغيير.
الشيء يؤثِّر في غيره بما يؤدِّي إلى استثارة قوى في داخل "المتأثِّر"، تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد لتأثيره، فهي تُمثِّل "رد الفعل"، الذي قوَّته من قوَّة الفعل؛ ولكنَّه يعاكِس في اتِّجاهه الفعل.
وتأثير شيء في شيء إنَّما يعكس وجود التناقض بينهما؛ لأنَّ هذا التأثير يستثير "مقاوَمة" في الشيء "المتأثِّر". قبل أن تَشْرَع تؤثِّر في شيء تبدو لكَ الطريق سالكةً آمنةً، لا عقبات ولا حواجز فيها؛ ولكنَّكَ ما أن تبدأ بممارسة التأثير حتى ترى الطريق وقد امتلأت حواجز وعقبات.
الحياة في معنى من معانيها، وفي مَظْهَر من مظاهرها، هي "التكاثر الخلوي" في جسم الكائن الحي. وهذا التكاثر يأتي من "انقسام الخلية (الحيَّة) الواحدة". وأنتَ عندما تدرس انقسام الخلية دراسة علمية ترى كيف تنقسم، وأسباب انقسامها. ترى عياناً كل ما يؤدِّي إلى انقسام الخلية. ولكن عوامل وأسباب (وقوى) الانقسام تلقى، ويجب أن تلقى، "مقاوَمة"، لا بدَّ لها من التغلُّب عليها توصُّلا إلى انقسام الخلية الواحدة. وهذا الذي يقاوِم إنَّما هو نقيض "الانقسام". إنَّه "وحدة" الخلية.. قوى الوحدة الخلوية، فما يؤثِّر في اتِّجاه "الانقسام" يَقْتَرِن دائما بما يؤثِّر في الاتِّجاه المعاكِس والمضاد، أي في اتِّجاه الحفاظ على الخلية واحدةً موحَّدةً. وعندما تنقسم الخلية تنشط قوى التوحيد الخلوي، فنرى الانقسام وقد أفضى إلى خليتين متَّحِدتين. وفي هذه الطريقة يَحْدُث التكاثر الخلوي، وتكوين الأعضاء ونموِّها.
في أي اتِّجاه يؤثِّر هذا في ذاك؟ في اتِّجاه "التمدُّد" أم "التقلُّص" أم "السخونة".. ؟ بعد إجابتكَ عن هذا السؤال، يَسْهُل عليكَ تفسير "المقاوَمة (الحتمية)" التي يلقاها هذا التأثير على أنَّها "النقيض" في الدرجة (أو الدرجات) الدنيا من صراعه.
كل شيء (كل ظاهرة، كل تغيير، كل فعل) إنَّما هو ثمرة، أو نتيجة، التغلُّب على "مقاوَمة" يبديها "النقيض"، والتي هي جزء من سعيه إلى دَفْع التطوُّر في الاتِّجاه الآخر، المعاكِس والمضاد.
والشيء في سكونه النسبي، أي في هويته الثابتة والمستقرة إلى حين، إنَّما يعكس نجاح الشيء في مقاوَمة ما يتعرَّض له من ضغوط للتغيير في هذا الاتِّجاه أو ذاك. والثبات النسبي في هوية الشيء يمكن فهمه أيضا على أنَّه ثمرة "توازن الأضداد" التي تنطوي عليها هويته.
"النقيض" يبدي "مقاوَمة"، حجمها من حجم "الهجوم" الذي يتعرَّض له؛ وهو يَخْرُجُ من كل هزيمة يُمنى بها (في جولات الصراع) أشد قوَّة وبأسا من ذي قبل.
والشيء في نموِّه إنَّما يَسْتَنْفِد "قدرته الذاتية" على النمو، فإذا بلغ الحد الأقصى من نموِّه نما جنين نقيضه بما يسمح له بالخروج من رحمه، فنموِّ الشيء، والمقتَرِن باستنفاد "قدرته الذاتية" على النمو، هو ما ينمِّي جنين نقيضه، ويَخْتَزِن فيه عند ولادته قدرة على النمو، يتناسب حجمها مع حجم القدرة التي استنفدها الشيء في نموِّه، فكلا الضدين لا تفنى "طاقته" وإنَّما تنتقل إلى الآخر.
إنَّ "قدرة" الشيء على النمو، وعلى التغلُّب على مقاوَمة نقيضه، تظلُّ محدودة مهما عَظُمَت حتى إذا استنفدها تحوَّل، حتما، إلى نقيضه.
قُلْنا إنَّ صراع الضدَّين، المتَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه، هو صراع دائم مُطْلَق لا يتوقَّف حتى عندما تتوازن (مؤقَّتا) قواهما. ولكن "تضادهما"، أي أوجه ومعالم التضاد بينهما، ليس بالشيء الثابت كمَّاً ونوعاً، فالتطوُّر، في مساره (الحلزوني) من الأسفل إلى الأعلى، ومن البسيط إلى المركَّب، يُمْعِن في تحويل "التطرُّف" في "التضاد" بين طرفي التناقض إلى "اعتدال"؛ ولكنَّ الصراع بينهما يبقى مستمرا مهما اعتدل تضادهما، ومهما ارتقت وحدتهما.
والأضداد متفاوتة في وجودها الزماني والمكاني، فبعضها يستمر زمنا طويلا، وفي أشياء متعاقبة، وفي أشياء كثيرة؛ ولكنها تظل دائما في "تعيينها" و"تحديدها" أضدادا لشيء بعينه، تتلوَّن بلونه.
"التمدُّد" و"التقلُّص"، على سبيل المثال، نراهما في غير شيء، في الزمن ذاته، ونراهما في أشياء متعاقبة؛ ولكنَّ وجودهما العياني والملموس من وجود الشيء الذي ينطوي عليهما. وكلاهما في وجوده إنَّما هو خير دليل على وجود الآخر، في المكان ذاته، وفي الزمان ذاته، فَلَمْ نرَ شيئا، في أي مكان، وفي أي زمان، عَرَف "التمدُّد الخالص"، أو "التقلُّص الخالص"، فالضدان ممتزجان متداخلان مندمجان امتزاجا وتداخلا واندماجا يَجْعَلُ فَصْل أحدهما عن الآخر ضربا من المستحيل.
و"التوازن" بين الضدين، أو بينهما في القوى، يظلُّ، مهما قوي وتعزَّز ورسخ، منطويا على "جنين الخلل"، فليس من توازن بين ضدَّين نسبته 100 في المئة. وهذا "الخلل الجنيني" هو "الثغرة" التي يمكن ويجب أن تتسع، فترجح كفَّة أحدهما على كفَّة الآخر في آخر المطاف. وهذا إنَّما يعني، بحسب المنطق الدياليكتيكي، أنَّ "التوازن" لا تقوم له قائمة إذا لم يكن منطويا على الـ "لا توازن".
"الكيْف"، أي هوية الشيء، لا يتَّسِع إلا لـ "كمٍّ محدَّد"، فهو يشبه بالونا ينفجر حتما عندما تُدْخِل فيه كمِّيَّة من الهواء تفوق قدرته على التمدُّد. عندما نُسخِّن مقدارا من الماء نرى أنَّ لهذا المقدار سعة حرارية محدودة، فإذا تجاوز مقدار الحرارة المُدْخَل في الماء حدَّاً معيَّنا تحوَّل الماء إلى بخار. وهذا "الكيْف الجديد" يمْكنه أن يَسْخُن أكثر مما سَخَن "الكيْف القديم"، أي الماء. ومع ذلك نرى أنَّ تسخين البخار أشد صعوبة من تسخين سلفه الماء، فكلَّما جاءنا النموِّ الحراري بـ "كيْف جديد" اشتدت صعوبة أن تنمو الحرارة في هذا الكيْف الجديد. حتى عند تسخين الماء، وقبل تحوُّله إلى بخار، نرى أنَّ الماء كلَّما سَخَن اشتدت صعوبة تسخينه. وهذا إنَّما يدلُّ على أنَّ مقاوَمة نقيض الحرارة، وهو البرودة، وجودا وقوى، تَعْظُم مع كل تغلُّب عليها.
إنَّ النموِّ المتعاظم لأحد طرفي التناقض يؤدِّي إلى تعاظُم المقاوَمة التي يبديها الطرف الآخر، وكأنَّ هذه المقاوَمة لا تُهْزَم في جولة من الصراع إلا لتَظْهَر في الجولة التالية أشد قوَّة وبأسا. و"النقيض" لا يُظْهِر من المقاوَمة إلا ما يتناسب حجمه مع حجم الهجوم الذي يتعرَّض له.
على أنَّ "التوازن" بين قوَّتي "الهجوم" و"المقاوَمة"، ومهما قوي وطال زمنه، يظلُّ منطويا على خلل، أو ثغرة، فينهار هذا "التوازن" أخيرا، أي يتغلَّب أحد طرفي التناقض على الآخر.
ولو كانت قوَّة ما لا تُوْجَد دائما إلا في حالٍ من "التوازن المُطْلَق" بينها وبين القوَّة المعاكِسة والمضادة لها لاستحال التطوُّر، فـ "التوازن" بينهما يجب أن تقل نسبته، ولو قليلا جدا، عن 100 في المئة حتى يصبح ممكنا تجاوزه وتخطِّيه عبر الصراع بينهما.
كلا طرفي التناقض يكفي أن يُشَدِّد من هجومه حتى يلقى من الآخر مقاوَمة أشد، أي تساوي في قوِّتها (تقريبا) قوَّة الهجوم، فما يُغذِّي "الطرف المهاجِم"، من عوامل خارجية، ينبغي له، في الوقت نفسه، أن يغذِّي، وبالمقدار نفسه تقريبا، "الطرف المقاوِم"، فأنتَ لا يمكنكَ أن تُسخِّن الماء أكثر من غير أن تُنمِّي، في الوقت نفسه، وبالمقدار نفسه تقريبا، قوَّة المقاوَمة التي تبديها البرودة.
"المقاوِم" إنَّما هو "القوَّة ذاتها التي تشدُّ الشيء في الاتِّجاه المعاكِس والمضاد لاتِّجاه التغيير الذي يتعرَّض له الشيء، والذي يلقى مقاوَمةً"، فالذي "يقاوِم" تَجَمُّع، واتِّحاد، الجزيئات في الماء، وهما يشتدان ويقويان، إنَّما هو ذاته الذي يَدْفَع تلك الجزيئات إلى التفرُّق والانفصال.
إنَّه يقاوِم، ويشتدُّ مقاوَمةً، مع كل زيادة في تَجَمُّع الجزيئات واتِّحادها. ويستمرُّ في مقاوَمته حتى يملك من القدرة الذاتية، ومن التغذية الخارجية، ما يمكِّنه من عكس اتِّجاه التطوُّر، وجَعْل التفرُّق والانفصال هما جوهر العلاقة بين الجزيئات.
كلا الضدين يخوض الصراع في درجاته ومستوياته كافة، فهو إنْ كان في وضع "المقاوَمة"، و"الدفاع"، يمكنه أنْ يصبح في وضع "الهجوم". وإنْ كان في وضع "الهجوم" يمكنه أنْ يصبح في وضع "المقاوَمة"، و"الدفاع". إنْ كان في وضع "التراجع" يمكنه أنْ يصبح في وضع "التقدُّم". وإنْ كان في وضع "التقدُّم" يمكنه أنْ يصبح في وضع "التراجع". إنْ كان "الطرف الثانوي" في التناقض يمكنه أنْ يصبح "الطرف الأساسي". وإنْ كان "الطرف الأساسي" يمكنه أنْ يصبح "الطرف الثانوي". إنْ كانا في وضع "التوازن" فإنَّ صراعهما لا يتوقَّف، وإنَّ "توازنهما" سينتهي، حتما، في آخر المطاف، وسترجح كفَّة أحدهما على كفَّة الآخر. وعندما ينهار "التوازن"، وترجح كفَّة أحد الطرفين على كفَّة الآخر، ينشأ "توازن جديد"، ينخره صراع جديد. أمَّا منشأ "التوازن الجديد" فهو القوَّة الموازِنة الجديدة التي يستمدها الطرف المهزوم من هزيمته. وعلينا أن نتذكَّر دائما أنَّ فَرْقاً في القوى، ولو في منتهى الضآلة، يبقى قائما في "التوازن" بين الطرفين المتضادين، ولو كان هذا التوازن في منتهى القوَّة. وهذا الفَرْق هو الجنين الذي ينمو.. هو الفَرْق الذي يكبر ويتَّسِع حتى ينتهي التوازن القائم، ليبدأ، في اللحظة عينها، توازن جديد.
لو قُمْنا بتغذية تناقض ما في داخل شيء ما فإننا نرى أنَّ سائر الأضداد التي ينطوي عليها هذا الشيء تتأثَّر بتغذيتنا لذاك التناقض. إذا رأيْنا زيادةً (بفضل التغذية) في أحد جوانب الشيء فلا بدَّ لنا من أن نرى، في الوقت عينه، الجوانب الأخرى تتأثَّر زيادةً أو نقصاناً.
وهذا هو معنى أنَّ المَصْدَر الأساسي لتطوُّر الشيء ليس في خارج الشيء، وإنَّما في داخله، وأنَّ "العامل الخارجي" لا يتعدَّى في أهميته التسهيل والإسراع، أو التصعيب والإبطاء.
هذا الذي أدَّى إلى هذا التغيير لم يؤدِّ إليه إلا بَعْدَ، وبسبب، تغلُّبه على مقاوَمة أبداها، نقيضه، أي ذاك الذي يَدْفَع، ويؤدِّي، إلى التغيير في اتِّجاه معاكِس ومضاد.
لقد رأيْنا تغييرا قوامه انفصال إلكترون عن ذرَّته. هذا التغيير لم يأتِ من لا شيء. كانت له أسبابه. ثمَّة أسباب وعوامل وقوى أنْتَجته وأدَّت إليه، ويمكننا تعدادها، وتعيينها. ولكن انفصال الإلكترون لم يتحقَّق بلا مقاوَمة، فثمَّة مقاوَمة لانفصاله (في داخله، وفي داخل الذرَّة، وفي خارج الذرَّة) ظَهَرَت إذ بدأ التغيير في اتِّجاه فصله عن الذرَّة. وثمَّة زمن اسْتُنْفِد في التغلُّب على هذه المقاوَمة، فهذا التغيير (انفصال الإلكترون عن ذرَّته) استلزم أوَّلا وجود وظهور (واشتداد) المقاوَمة له؛ ثمَّ استلزم التغلُّب عليها.
أمْعِن النظر في كل تلك الأسباب والعوامل والقوى التي في اجتماعها وتفاعلها تَظْهَر تلك المقاوَمة، فتكتَشَف أنَّ "النقيض الداخلي"، مع "حلفائه في الخارج"، هو الذي يلبس لبوس المقاوَمة، فهذا الإلكترون كان في الوقت نفسه عُرْضة لتأثير قوى (في داخله، وفي داخل الذرَّة، وفي خارج الذرَّة) هي في طبيعتها تعمل دائما في اتِّجاه معاكِس ومضاد لاتِّجاه الانفصال.
إنَّها قوى تشدُّ هذا الإلكترون دائما إلى داخل الذرَّة، وإلى نواتها. ولو تهيَّأت لها أسباب النموِّ الأقصى والأعظم لشدَّت هذا الإلكترون إلى داخل نواة الذرَّة.
الإلكترون الذي لم يغادِر ذرَّته بَعْد إنَّما هو، لجهة علاقته بذرَّته، "الجسيم المتِّحِد ـ المنفصل"، فهو دائما بين مطرقة قوى تشدُّه في اتِّجاه الاتِّحاد (مع ذرَّته، ونواتها) وسندان قوى تشدُّه في اتِّجاه الانفصال عن ذرَّته. إنَّه الوحدة الدياليكتيكية بين "الاتِّحاد (وجودا وقوى)" و"الانفصال (وجودا وقوى)".
قبل أن ينفصل، كان يدور حول نواة ذرَّته. وحاله هذه إنَّما تعكس توازنا (مؤقَّتا تعتريه ثُلْمَة) في القوى بين هذا "السندان" وتلك "المطرقة". ويكفي أن تُنَشِّطَ وتُغذِّي أحد طرفي التناقض هذا حتى تَظْهَر وتشتد مقاوَمة الطرف الآخر. و المقاوَمة لانفصال هذا الإلكترون تبلغ ذُرْوَة قوَّتها وعنفها وشدَّتها عندما يوشك الإلكترون أن ينفصل عن ذرَّته، وكأنَّ تلك المقاوَمة يجب أن تبلغ ذُرْوِتها قبل، ومن أجل، أن تُهْزَم.
الشيء إنَّما هو "خواصه الجوهرية المميِّزة له، في اجتماعها فيه، واتِّحادها اتِّحادا لا انفصام فيه". و"الخاصية"، في جانبها الكمِّي، يمكن أن تنمو صعودا، أو هبوطا؛ ولكن ضِمْنَ حدَّين: "حد أقصى"، و"حد أدنى". و"الحدَّان" إنَّما تُحدِّدهما وتُقرِّرهما طبيعة الشيء، فـ "الحرارة"، في الماء، يمكن أن تنمو صعودا، أو هبوطا؛ وحدُّها الأقصى هو 100 درجة مئوية، وحدُّها الأدنى هو درجة الصفر.
خاصية الشيء، في تزايد مقدارها، أو كمِّيَّتها، هي، في وجهها الآخر، "النقيض"، أي الخاصية المضادة، في تناقص مقدارها، أو كمِّيَّتها، فحرارة الماء في تزايدها هي البرودة في تناقصها؛ وحرارة الماء في تناقصها هي البرودة في تزايدها. وبرودة الماء في تزايدها هي الحرارة في تناقصها؛ وبرودة الماء في تناقصها هي الحرارة في تزايدها.
"الخاصية الخالصة المُطْلَقَة" لا وجود لها، فالماء الذي سخن حتى بلغت درجة حرارته 99 درجة مئوية لم تنتفِ منه البرودة، وجودا وقوى. والماء الذي برد حتى بلغت درجة حرارته درجة مئوية واحدة لم تنتفِ منه الحرارة، وجودا وقوى. وعلى هذا النحو ينبغي لنا فهم خواص الأشياء جميعا.
الشيء، كل شيء، هو "وحدة وصراع الأضداد" في كل ما ينطوي عليه، ويتألَّف منه، فإذا رأيْنا في داخله قوَّة تعمل (مثلا) في اتِّجاه جَعْل جزيئاته تتجمَّع وتَتَّحِد، وتزداد تجمُّعا واتِّحادا، فلا بد من أن ينطوي، في الوقت نفسه، على قوَّة أُخرى، متَّحِدة مع الأولى اتِّحادا لا انفصام فيه، وتعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد، أي في اتِّجاه جَعْل جزيئاته تتفرَّق وتنفصل، وتزداد تفرُّقا وانفصالا.
وإذا وَجَدْناه باردا فيجب أن نفهم برودته على أنَّها في اتِّحاد لا انفصام فيه مع حرارته، فهو بارد وحار في الوقت نفسه. برودته يمكن أن تزداد؛ لأنَّه حار، فزيادتها إنِّما تأتي من نقص حرارته. ثمَّ أنَّ برودته ليست متساوية تساويا مُطْلَقا في كل أجزائه؛ وهذا التفاوت في برودته إنِّما يعكس وجودا للحرارة فيه.
و"المقادير" في الشيء هي أيضا متناقضة، فهذا الذي يزيد فيه مقدارا يتِّحد اتِّحادا لا انفصام فيه مع ذاك الذي ينقص فيه مقدارا.
والتناقض نراه في "مكوِّنات" الشيء، فهذا المُكوِّن مضاد لذاك في الخواص، ويتَّحِدان اتِّحادا لا انفصام فيه في داخل الشيء، ففي داخل الذرَّة (في داخل نواتها) نرى "الموجب" من الجسيمات (البروتونات) ونرى "السالب" منها (الإلكترونات).
إنَّ "وحدة وصراع الأضداد" نراهما دائما في داخل الشيء، في داخل كل شيء؛ نراهما في خواصه، وسماته، وجوانبه، ونواحيه، وقواه، وميوله، ومكوِّناته. ونراهما، أيضا، في العلاقة بينه وبين غيره من الأشياء، أي في تفاعله، وتبادله التأثير، مع ما يجاوره، ويحيط به، من أشياء، فأنتَ لا تؤثِّر في أي شيء، ولا تستطيع أن تغيِّره في أي اتِّجاه، إلا بصفتكَ أحد طرفي التناقض الذي تنطوي عليه العلاقة بينكَ وبين الشيء الذي تؤثِّر فيه. وهذا الشيء لن يتأثَّر، ولن يتغيَّر، إلا بصفته الطرف الآخر من هذا التناقض، فهو النقيض الذي قبل أن يتأثَّر ويتغيَّر، ومن أجل أن يتأثَّر ويتغيَّر، لا بد له من أن يبدي "مقاوَمة"، ولا بدَّ لكَ من أن تتغلَّب عليها.
امْسِكْ بشريط مطَّاطي من طرفيه، وقُمْ بمطِّه حتى قطعه. هذا الشريط تمدَّد أوَّلا، وما كان له أن يتمدَّد لو لم يُظْهِر نقيض التمدُّد الذي في داخله، وهو التقلُّص، مقاوَمة (لجهدكَ) ولو لم تتغلَّب أنت عَبْر قوَّة الشد في يديكَ على تلك المقاوَمة. الطرف الأول في هذا التناقض كان التقلُّص، وجودا وقوى، في داخل الشريط المطَّاطي. وهذا الطرف خاض الصراع في شكل مقاوَمة. أمَّا الطرف الآخر فهو أنتَ، ويديكَ. وأنتَ، بالنسبة إلى الشريط المطَّاطي الذي يقاوِم مَطِّكَ له، لستَ سوى "النقيض الخارجي" للتقلُّص الذي ينطوي عليه. إنَّكَ تمثِّل "التمدُّد" في علاقتكَ بهذا الشريط. أنتَ، بالنسبة إليه في ظروف العلاقة القائمة بينكَ وبينه الآن، "التمدُّد"، أي "قوَّة التمدُّد (الخارجية)" التي بتغذيتها "قوَّة التمدُّد في داخله" هُزِمت مقاوَّمة "قوَّة التقلُّص في داخله"، في هذه الجولة من الصراع، فتمدَّد الشريط المطَّاطي (في مقدار معيَّن).
إنَّ العوامل والمؤثِّرات البيئية والخارجية تتحدَّد بحسب التناقض الداخلي (للشيء) الذي تؤثِّر فيه، فكل عامل أو مؤثِّر بيئي وخارجي يغذِّي تلك القوَّة (في داخل الماء) التي تعمل في اتِّجاه تفرُّق جزيئاته هو، بالنسبة إلى هذا الماء المتأثِّر، أي بالنسبة إلى تناقضه الداخلي هذا، قوَّة مضادة لقوَّته الداخلية الأخرى التي تعمل في اتِّجاه تجمُّع جزيئاته.
"الخارج" كله هو بالنسبة إلى هذا التناقض الداخلي للماء منقَسِمٌ انقسامه الداخلي ذاته، فبعض من هذا الخارج يمثِّل نقيضا لقوى التجمُّع الجزيئي في داخل الماء، وبعض منه يمثِّل نقيضا لقوى التفرُّق الجزيئي.
كل عامِل خارجي يغذِّي قوى التفرُّق الجزيئي في داخل الماء هو "النقيض الخارجي" لقوى التجمُّع الجزيئي؛ وكل عامِل خارجي يغذِّي قوى التجمُّع الجزيئي هو "النقيض الخارجي" لقوى التفرُّق الجزيئي.
في أثناء، وبسبب، شدِّكَ للشريط المطَّاطي لا بدَّ لعضلاتكَ من أن "تتوتَّر". عضلاتكَ هي الآن في حالٍ من "التوتُّر". وهذه الحال إنَّما هي نقيض حال" الارتخاء (العضلي)". بالنسبة إليكَ، أي بالنسبة إلى تناقضكَ الداخلي هذا، ماذا يعني شد وتمطُّط الشريط المطَّاطي؟ توتُّرك العضلي إنَّما هو ثمرة التغلُّب على مقاوَمة نقيضه الداخلي، وهو الارتخاء العضلي. لو لم يُشَد الشريط المطَّاطي ويُمَط (أو يتمدَّد) لَمَا هُزِمت تلك المقاوَمة، فالشريط في حال شدِّه ومطِّه هو بالنسبة إلى تناقضكَ الداخلي ذاك "النقيض الخارجي" لأحد طرفيه، وهو "الارتخاء العضلي". إنَّ جزءا مهما من مفهوم "نسبية الأضداد" يكمن في هذا الذي قُلْنا.
"زِدْ" شد ومط (الشريط المطَّاطي) ترى الارتخاء العضلي "ينقص". "زِدْ" الارتخاء العضلي ترى مط الشريط "ينقص". "زِدْ" تقلُّص الشريط ترى التوتُّر العضلي "ينقص". "زِدْ" التوتُّر العضلي ترى تقلُّص الشريط "ينقص". إذا "زاد" أحد طرفي التناقض "نقص" الآخر، حتما، في الوقت نفسه، وبالمقدار نفسه. وإذا "نقص" أحد طرفي التناقض "زاد" الآخر، حتما، في الوقت نفسه، وبالمقدار نفسه.
وتيسيرا للجهد الذي نَبْذُل من أجل الكشف عن تناقض ما، نقول إنَّ "زيادة" التوتُّر العضلي هي ما يسبِّب "زيادة" تمدُّد الشريط المطَّاطي. والآن نقول، في الكشف عن التناقض، إنَّ "زيادة" التوتُّر العضلي هي ما يسبِّب "نقص" التقلُّص في الشريط، وإنَّ "زيادة" هذا التقلُّص هي ما يسبِّب "نقص" ذاك التوتُّر، فالتناقض هنا هو بين "التوتُّر (العضلي)" و"التقلُّص (في الشريط)". توتُّرِكَ العضلي إنَّما يستهدف إلغاء ونفي التقلَّص في داخل الشريط؛ أمَّا هذا التقلُّص المهدَّد بالإلغاء والنفي فيصارع من أجل إلغاء ونفي توتُّرِكَ العضلي، أي من أجل تحويله إلى ارتخاء.
تخيَّل أنَّ الشريط المطَّاطي" الذي تشده من طرفيه كان سميكاً ومتيناً، فلا تَقْدِر بالتالي أن تقطعه، أو أن تشده (تمطه) كثيراً. أنتَ حين تبدأ "الشد" تشعر أنَّكَ تُنْفِق جهدا وطاقة. ومع استمرار "الشد"، ومطِّكَ الشريط أكثر، يزداد هذا الإنفاق. أنتَ الآن في "صراع" مع "الشريط".. في صراع مع قوَّة في داخله، إذا لم تتغلَّب عليها، في استمرار، فإنَّكَ لا تَقْدِر أن تمط "الشريط"، وأن تتوسَّع في مطِّه.
تلك القوَّة سعت، عند بدء "الشد"، في منع "الشريط" من التمدُّد. وعندما تمدَّد، وازداد تمدُّدا، سعت في جعله يتقلَّص. أنتَ تشعر الآن، حيث نَجَحْتَ في مطِّه، أنَّ تلك القوَّة تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد لقوَّتكَ.. في اتِّجاه تقليص الشريط الذي تمدَّد. أنتَ، بقوِّتكَ، تقف إلى جانب قوَّة التمدُّد التي ينطوي عليها "الشريط". إنَّكَ تغذِّيها، وتساندها، فَتُغْلَب قوَّة التقلُّص.
الصراع هنا جولات. كل جولة تنتهي بتمدُّد جديد، فالتمدُّد إنَّما يشبه سُلَّما تصعده درجة درجة. كل جولة تنتهي ما أن تتغلَّب على ذاك النقيض، الذي ما أن يُهْزَم في جولة حتى يَظْهَر لكَ في الجولة التالية أشد قوَّة وبأساً، ولا يمْكنكَ التغلُّب عليه، بالتالي، إلا إذا بذلتَ جهدا أكبر من ذي قبل، أي من الجهد الذي بذلته في الجولة (والجولات) السابقة.
من أين استمدَّ ذاك "النقيض" قوَّةً جديدة؟ استمدَّها من "المُنْفَق" من قوَّتكَ، أي من كل جهد تنفقه من أجل التغلُّب عليه، فالطاقة التي أنْفَقْتَ لم تفنَ، وإنَّما انتقلت إليه، وتحوَّلت فيه بما يتَّفِق مع طبيعته، أي أنَّها أصبحت فيه قوَّة تقلُّصٍ إضافية.
إنَّكَ لم تُنْفِق ما أنفقت من جهد، ولم تجعل "الشريط" يتمدَّد، وينمو تمدُّدا، من غير أن تقوِّي، في الوقت ذاته، ذاك "النقيض".
هذا "الشريط" المُتَخَيَّل كان سميكاً ومتيناً، فأنتَ ما أن تجعله ينمو تمدُّدا إلى حدٍّ معيَّن حتى تشعر أنَّكَ فقدتَ قدرتكَ على جعله يتمدَّد أكثر. هنا، تتوازن قوَّتكَ مع قوَّة ذاك "النقيض (الأقوى من ذي قبل والذي هُزِم غير مرَّة)".
هذا التوازن لن يستمر طويلا، فأنتَ ما عدَّتَ تملك من القدرة ما يكفي لتصارع أكثر من أجل الحفاظ على هذا التوازن. الآن، ينهار التوازن، فذاك "النقيض" أصبح ممتلكاً من القوَّة الذاتية ما يُمَكِّنه من أن يعكس اتِّجاه التغيير، أي ما يُمَكِّنه من تحويل التمدُّد، في "الشريط"، إلى تقلُّص.
إذا ظللتَ ممسكا بطرفي "الشريط" ستشعر أنَّ ذاك "النقيض" هو الذي يُرْغِم يديكَ على التقارب بعد تباعد. لقد تحوَّل توتُّرِكَ العضلي، الذي نشأ ونما في "الشد"، إلى ارتخاء، وكأنَّ ذاك "النقيض" غذَّى وساند ارتخاءكَ العضلي من خلال مصارعته وهَزْمِه توتُّرِكَ العضلي.
أنتَ سعيتَ لتحويل "التقلُّص" في "الشريط" إلى "تمدُّد"؛ وهذا "التقلُّص" سعى، في الوقت نفسه، إلى تحويل "التوتُّر" في عضلاتكَ إلى "ارتخاء". الذي يقاوِمكَ في "الشريط" إنَّما هو الذي تسعى من أجل نفيه، وهو الذي يسعى، في الوقت نفسه، من أجل نفيكَ بوصفكَ "قوَّة شدٍّ".
وما نَنْظُر إليه على أنَّه "مقاوَمة" إنَّما هو "الصراع" في وجه من وجوهه. ولكن، أين "الجبهة الكبرى والأولى" لهذا "الصراع". إنَّها "في داخل الشريط"، فأنتَ بشدِّك "الشريط" تشبه جيشا أرسل بعضا من جنوده إلى داخل جبهة العدو. وقد انضم هؤلاء الجنود إلى "جنود قوَّة التمدُّد" التي ينطوي عليها "الشريط".
وكل "عامِلٍ خارجي" يؤثِّر في شيء ما على هذا النحو، أي أنَّ تأثيره يجب أن يصبح جزءا من داخل الشيء. و"العامِل الخارجي" يؤثِّر في الشيء، في داخل الشيء، تأثيراً "كمِّيَّاً"، فهو "يزيد"، أو "ينقص" مقدارا (من شيء ما) يجب أن يكون جزءا لا يتجزأ من داخل الشيء المتأثِّر.
إنَّه، أي "العامِل الخارجي" لا يَخْلِق A في داخل الشيء الذي يؤثِّر فيه، وإنَّما "يزيد"، أو "ينقص" مقدار A ذلكَ لأنَّ A هي جزء لا يتجزأ من داخل هذا الشيء. إنَّ "عَدَد" A هو الذي "يزيد"، أو "ينقص"، بتأثير "العامِل الخارجي".
في داخل الشريط المطَّاطي كان تناقض بين M (قوَّة التمدُّد) و N (قوَّة التقلُّص). هذا التناقض، بطرفيه، كان "نائماً". أنتَ، حين بدأتَ شدِّ "الشريط"، "أيْقَظْتُه". أنتَ، في هذا المثال، "العامل الخارجي" الذي استوفى شروط تأثيره في "الشريط"، فأثَّر فيه "تأثيرا متناقضا": لقد غذَّيْتَ أحد طرفي ذاك التناقض، وهو "التمدُّد"، فاسْتَثَرْتَ وهيَّجْتَ وحرَّكْتَ الآخر.
تخيَّل شخصان ممسكان بحَبْلٍ، ويسعى كلاهما في شدِّ الآخر إليه، فجئتَ أنتَ لتسانِد أحدهما في الشدِّ. عملكَ هذا اضطَّر الآخر إلى أن يبذل مزيدا من الجهد المعاكِس والمضاد. أنتَ والشخص الذي ساندتَ تعملان في اتِّجاه؛ أمَّا الشخص الآخر فيعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد. أنتما قوَّة تعمل في اتِّجاه، وهو قوَّة تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد؛ ولا وجود لإحداهما إلا مع الأخرى، فهما تُوْلدان معا، تعيشان معا، وتموتان معا. قد تتوازنان؛ ولكنَّ توازنهما لا يمكن أن يكون مُطْلقا. يجب أن يعتريه "خلل" ولو في منتهى الضآلة، حتى يصبح ممكنا تغلُّب إحداهما على الأخرى من خلال كسر هذا التوازن. وهذا التغلُّب يشبه تلك "القشَّة" التي قصمت ظهر البعير. يشبه "شَعْرة"، مَنْ يجيء بها تَرْجَح كفَّته.
"الغالِب"، من طرفي التناقض، هو "قوَّة قَيْد النفاد"، و"المغلوب" هو "قوَّة قَيْد البناء". إنَّ عمرو لا يمْكنه أن يتقدَّم إلا إذا بذل من الجهد ما يكفي لتغلُّبه على زيد؛ ولكنَّه لا يستطيع أن يتغلَّب على زيد من غير أن يقوِّيه في الوقت نفسه.. من غير أن يُخَزِّن فيه ما أنْفَقَهُ من قوَّته.
تأمَّل ظاهرة "السقوط الحر للأجسام". إنَّ جسمين، كتلة أحدهما أكبر من كتلة الآخر، يسقطان من العلوِّ ذاته، فيصلان معا (أي في الوقت نفسه) إلى سطح الأرض. كلا الجسمين الساقطين سقوطا حرَّاً ينطوي على قوَّة تعمل في هذا الاتِّجاه، أي في اتِّجاه السقوط إلى حيث الجاذبية الأرضية في منتهى شدَّتها، أي إلى مَرْكَز الكرة الأرضية، وإنْ لم يصلا إليه. الجاذبية الأرضية تغذِّي وتساند هذه القوَّة الداخلية.
وكلاهما ينطوي، في الوقت نفسه، على قوَّة تعمل في الاتِّجاه المعاكِس والمضاد. الجاذبية الأرضية تصارع هذه القوَّة، وتسعى في التغلُّب عليها.
وهذا العمل الذي تقوم به الجاذبية الأرضية يُتَرْجَم بشدِّ متفاوِت القوَّة، فالجسم الأكبر كتلة تشدُّه الجاذبية الأرضية (نحو مَرْكز الأرض) بقوَّة أكبر. وهذا التفاوت في قوَّة الشد هو الذي يجعل الجسمين المتفاوتي الكتلة يصلان إلى سطح الأرض معاً.
إنَّ الجسم الأكبر كتلة يبدي مقاوَمة أعظم، فتتغلَّب عليها الجاذبية الأرضية من خلال شدِّها له بقوَّة أعظم.
ما معنى أن يتمدَّد الشريط المطَّاطي؟ معناه أنَّ "الشريط" استوفى شروط وأسباب تمدُّده الذاتية والخارجية فتمدَّد. ما معنى الزوال الحتمي لتمدُّده؟ معناه تحوُّل تمدُّده، حتما، إلى نقيضه الطبيعي وهو التقلُّص. ما معنى هذا التحوُّل؟ معناه أنَّ الشريط المطَّاطي المتمدِّد قد استوفى شروط وأسباب تقلُّصه الذاتية والخارجية فتقلَّص.
تحوُّل الشيء إلى نقيضه إنَّما يعني أنَّ الشيء، في نموِّه وتطوِّره، يهيئ من الشروط والأسباب الداخلية والخارجية والبيئية ما يكفي لتحوُّله إلى نقيضه الطبيعي. إنَّ تمدُّد الشريط المطاطي هو "الوضْع" الذي في "رحمه" يمكن ويجب أن ينمو "جنين التقلُّص".
كلا طرفي التناقض لا ينمو، ولا يمكنه أن ينمو، إلا بطريقة واحدة فحسب، هي اضمحلال الآخر.. اضمحلاله في الظاهِر. فـ "الزيادة" في هذا هي ذاتها "النقص" في ذاك. وكلاهما لا يضمحل (في الظاهِر) ولا يمكنه أن يضمحل إلا إذا ضاعف "قوَّته الكامنة"، وأصبح أقوى في مقاوَمته. كلاهما في اضمحلاله (في الظاهِر) يشبه "الصابونة" التي مهما غسلت يديكَ بها لا يمكن أبدا أن تفنى.. حجمها يتضاءل، ويصبح في منتهى التضاؤل؛ ولكنَّها لن تفنى فناءً مُطْلقا ما بقي نقيضها على قيد الحياة.
خُذْ هذا المُكَّعَب الجليدي، الذي هو قَيْد الانصهار، أي قَيْد التحوُّل إلى ماء، واقذفه بعيداً، فهل يظل ممكنا أن يزداد هذا الماء مقدارا؟!
إنَّ كل تمدُّدٍ جديد في الشريط المطَّاطي هو "تقلُّص متحوِّل".. هو مقدار من التقلُّص وقد تحوَّل إلى تمدُّد.
كل نموٍّ في "الديمقراطية" هو "دكتاتورية متحوِّلة". كل نموٍّ في "الفضيلة" هو "رذيلة متحوِّلة". كل نموٍّ في "الغلاء" هو "رخص متحوِّل". كل نموٍّ في "أنوثة المرأة" هو "ذكورة (فيها) متحوِّلة". كل نموٍّ في "العداء" هو "صداقة متحوِّلة". كل نموٍّ في "التديُّن" هو "كُفر متحوِّل".
كلا طرفي التناقض يصارع الآخر ليس من أجل أن يقضي عليه قضاءً مبرما، فكلاهما يموت إذا ما مات الآخر. إنَّه يصارعه من أجل التفوُّق والتغلُّب عليه. من أجل أن يصبح هو السائد المسيطر المهيمن. كلاهما يظل موجودا مهما أفرط الآخر في نموِّه وهيمنته. كلاهما يصارع الآخر توصُّلاً إلى أن يبلغ أقصى حدٍّ ممكن من النمو والتفوُّق والسيادة.
في "اللغة"، يمكن أن نستدل على "التناقض" من خلال العلاقة بين "الفاعِل" و"المفعول"، فـ "الفعل" يتألَّف من "فاعل" و"مفعول" يقع عليه فعل الفاعل.
أُنْظُر في الجُملة "رَفَعَ زيدٌ الحجرَ من مكانه". "الرَفْع" هو الفعل الذي قام به زيد، فوَقَعَ على الحجر. وغنيٌ عن البيان أنْ لا "رَفْع" من غير "طرفين"، هما: "الرافع (زيد)"، و"المرفوع (الحجر)".
وغنيٌ عن البيان، أيضا، أنْ لا "رافِع" من غير "مرفوع"، وأنْ لا "مرفوع" من غير "رافع"، فـ "الرافع" و"المرفوع" هما الضدَّان، في "وحدتهما (التي لا انفصام فيها)"، وفي "صراعهما".
"الرافع" و"المرفوع"، ينشآن معا، ويعيشان معا، ويزولان معا. قد تَعْتَرِض قائلا: إنَّ زيد والحجر ليسا في وحدة لا انفصام فيها، فزيد يزول ويبقى الحجر، الذي وُلِدَ قبل زيد.
في اعتراضكَ هذا انتفى "التعيين" لطرفي التناقض، فالتناقض ليس بين زيد وهذا الحجر، وإنَّما بين زيد بـ "وصفه الرافع" وهذا الحجر بـ "وصفه المرفوع". كلاهما الآن في "صفة" مضادة لـ "صفة" الآخر. كلاهما في "صفة (أو حال)" يستحيل وجودها من غير نقيضها في الآخر.
ولكن، بَيْن مَنْ ومَنْ الصراع؟ بَيْن زيد الذي يبذل جهدا عضليا من أجل رفع الحجر من مكانه وبين قوَّة في داخل الحجر (وفي خارجه) تقاوِم "الرفع"، ولا بدَّ، بالتالي، من التغلُّب عليها، وهزمها، حتى يُرْفَع الحجر من مكانه.
نظرياً، تشدُّ هذه القوَّة الحجر إلى مَرْكَز الكرة الأرضية، أي إلى حيث تتركَّز الجاذبية الأرضية. تلك القوَّة العاجزة عن شدِّ الحجر إلى مَرْكَز الكرة الأرضية، ليست بعاجزة عن مقاوَمة قوَّة زيد (الجهد العضلي الذي يبذله زيد) التي يُظْهِرها في سعيه إلى رَفْع الحجر.
إنَّها تقاوِم قوَّة زيد. إنَّها تسعى في إحباط سعيه لرفع الحجر. إنَّها تعمل في اتِّجاه إصابة زيد بالعجز عن رفع الحجر. إنَّها تسعى في التغلُّب على ما يسعى في التغلُّب عليها.
زيدٌ ما أن يشرع يحاول رَفْع الحجر حتى "تستيقظ" تلك القوة، وتشرع تعمل في الاتِّجاه المعاكِس والمضاد.
الحجر قبل أن يُرْفَع كان منطويا على تناقض، طرفاه في حالٍ من "التوازن". كان في حالٍ من التوازن بين قوة (في داخله) تعمل في اتِّجاه شدِّ الحجر إلى حيث تتركَّز الجاذبية الأرضية، وقوة أخرى (في داخله) تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد، أي في اتِّجاه شدِّ الحجر بعيدا عن مَرْكَز الجاذبية الأرضية.
زيدٌ تطاول واعتدى على هذا التوازن إذ سعى في تغذية ودعم القوة الثانية، أي القوة التي تعمل في اتِّجاه شدِّ الحجر بعيدا عن مَرْكَز الجاذبية الأرضية.
القوة الأولى، أي القوة التي تعمل في اتِّجاه شدِّ الحجر إلى حيث تتركَّز الجاذبية الأرضية، "اسْتُفِزَّت"، فشرعت تغذِّي وتدعم قوة في داخل زيد تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد لـ "فعل الرفع" الذي شرع فيه.
هذا الصراع جولات؛ ونجاح زيد فيه إنَّما يعني تغلُّبه في كل جولة على كل ما يقاوِم جهده لرفع الحجر من مكانه.
زيدٌ قد يفشل.. قد يفشل في رَفْع الحجر من حيث المبدأ. قد يرفعه؛ ولكن قد يفشل في رفعه أكثر، فيستمر هذا التوازن بضع ثوانٍ، أو بضع دقائق. وقد يفشل في المحافظة على هذا التوازن زمنا أطول، فيسقط الحجر عائدا إلى مكانه. في هذه الحال، يُحْرِزُ الطرف الآخر من التناقض نصرا نهائيا وحاسما.
"الرفع" درجات.. درجة درجة. كل درجة إنَّما هي ثمرة لنهاية جولة من جولات الصراع. وعند رفع الحجر فحسب، يَظْهَر "الرافع" و"المرفوع"، فزيد بصفته "الرافع"، والحجر بصفته "المرفوع" يُوْلدان معاً.
كان الحجر في حال "غير المرفوع"، أي ملتصقا بمكانه، فأصبح في حالٍ مضادة، أي في حال "المرفوع". وكان زيد في حال "غير الرافع"، فأصبح في حالٍ مضادة، أي في حال "الرافع".
في هذه الحال الجديدة، أي "حال الرفع"، يستمر التناقض ذاته، فزيد يسعى في رفع الحجر أكثر، والحجر يقاوِم.. ومقاومته هذه المرَّة أشد من ذي قبل.
الحجر في هذه الحال الجديدة ما زال منطويا على قوة تعمل في اتِّجاه إعادته إلى حيث كان، أي في اتِّجاه إعادة التصاقه بسطح الأرض. وهذه القوَّة إنَّما هي ذاتها التي تعمل في اتِّجاه شدَّ الحجر إلى حيث تتركَّز الجاذبية الأرضية. كلاهما (زيد والحجر) صارع نقيضه في الآخر؛ والحجر قاوَم الرفع قبل أن يُرْفَع.
كل شيء لا ينشأ، ولا يَظْهَر، إلا بوصفه قوة صارعت نقيضها (المقاوِم، والذي يعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد) ثمَّ تغلَّبت عليه، محتفظةً به في الوقت ذاته؛ لأنْ لا وجود له من دونه.
"النمو" هو "الزيادة والكثرة". الشيء ينشأ (يُوْلَد) أوَّلاً، ثمَّ ينمو، ثمَّ يزول. والشيء له ماضٍ، وله حاضر، وله مستقبل؛ وهو يختلف، حتما، باختلاف ظروفه الزمنية، فهذا الشيء الذي أراه "الآن"، أي في حاضره، اختلف عمَّا كان في ماضيه، ولسوف يختلف في مستقبله عمَّا هو "الآن". ولولا هذا الاختلاف لَمَا كان الشيء "تاريخاً"، أي لانتفت ظروفه الزمنية الثلاثة (الماضي، والحاضر، والمستقبل).
الشيء "يتغيَّر" حتما؛ ولكنَّ "لحظة نشوئه"، و"لحظة زواله"، ليستا جزءاً من تغيُّره (الحتمي). لحظتا "النشوء" و"الزوال" إنَّما هما "الكمُّ" إذ تحوَّل إلى "كيف". هما "الطفرة (القفزة، الوثبة) النوعية"، فلحظة نشوء الشيء M إنَّما هي ذاتها لحظة زوال الشيء A. إنَّها لحظة تحوُّل الشيء A إلى "نقيضه" الشيء M. "الطفرة النوعية" هي الحدث الذي فيه تجتمع "اللحظتان": "لحظة زوال" شيء، و"لحظة نشوء" نقيضه.
الشيء ينشأ؛ ثمَّ يشرع "ينمو". ونموِّه لا يُنْتِجُ أبدا فَرْقاً جوهريا في "نوعه (في "كيْفه")"، أي أنَّه نموٌّ ضِمْنَ "الكيفية ذاتها"، إلى أن تستوفي "الطفرة النوعية" شرطها الكمِّي.
إنَّ خاصيَّةً (صفةً، سمةً، جانباً، ناحيةً، بُعْداً) في الشيء هي التي "تنمو (تزداد وتكثر) فالخاصيَّة إنَّما هي اجتماع "الكيف" و"الكم"، أي أنَّ لكل خاصيَّة جانباً كمِّيَّا متغيِّراً (صعوداً أو هبوطاً) ونعَبِّر عن تغيُّره بـ "العدد". "الخاصيَّة" قد تكون "الحجم"، "الطول"، "الحرارة"، "الكثافة"، "الكتلة"، "الوزن"، .. إلخ.
أُنْظُر إلى جسم "يتمدَّد". هذا الجسم ينمو (يزداد، يكثر) تمدُّداً. إنَّه في ناحية، أو خاصيَّة، منه، هي "الحجم (أو الطول)"، ينمو. يظلُّ ينمو تمدُّداً من غير أن يتغيَّر، جوهرياً، في هويته، أو كيْفه.
هذا "التمدُّد" يتَّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع "نقيضه الطبيعي" في داخل هذا الجسم، وهو "التقلُّص"، فالتمدُّد في نموِّه إنَّما هو ذاته التقلُّص في اضمحلاله (في تناقصه وتضاؤله). كل زيادة في تمدُّده هي نقص (مساوٍ ومزامِن) في تقلُّصه. في هذا الجسم، "نرى" التمدُّد في نموِّه (تزايده) والتقلُّص في اضمحلاله (تناقصه). هذا التقلُّص يضمحل (يتلاشى، يتناقص، يقل) ولكنَّه لن يزول زوالا مُطْلقاً، وكأنَّ شرط اضمحلاله أن يبقى ما بقي نقيضه وهو التمدُّد. يجب أن يبقى ولو في منتهى الضآلة حجماً، فالتمدُّد الذي بلغ الحد الأقصى من نموِّه إنَّما هو ذاته التقلُّص وقد بلغ الحد الأقصى في ضآلة حجمه ووجوده.
التمدُّد، في نموِّه، إنَّما يشبه مصباحاً مضيئاً، يعمل بـ "بطاريَّة". يظلُّ يضيء حتى تنفد طاقة بطاريَّته، أي أنَّ التمدُّد في نموِّه (الظاهر) يَسْتَهْلِك ويَسْتَنْفِد "قدرته الذاتية (أو طاقته)"، فكلما نما، أو زاد، الجسم تمدُّدا تضاءلت قدرته الذاتية على النمو.
لقد رأيْنا حتى الآن الآتي: كلَّما نما التمدُّد اضمحل التقلُّص. وكلَّما نما التمدُّد تضاءلت قدرته الذاتية على النمو.
بقي أن نرى الآتي: كلَّما نما التمدُّد نمت المقاوَمة له. وكلَّما نما التمدُّد نما التقلُّص "قوَّةً"، أي أنَّ التقلُّص، في "قوَّته الكامنة"، ينمو مع نمو التمدُّد، وكأنَّه، أي التقلُّص، هو "الجنين الذي ينمو في رحم التمدُّد"، مع نموِّ التمدُّد.
وهذا إنَّما يعني أنَّه ينبغي لنا تمييز التقلًّص الذي يضمحل حجما ووجودا من التقلُّص الذي ينمو "مقاوَمةً"، و"قوَّة".
التمدُّد ما أن يبلغ الحد الأقصى من نموِّه الظاهر حتى يَسْتَنْفِد قدرته الذاتية على النمو. هنا، لا نرى مزيداً من التمدُّد، فالتمدُّد غدا عاجزاً عن أن ينمو أكثر ممَّا نما.
هنا، "لحظة التوازن"، فالتمدُّد، العاجز عن مزيدٍ من النمو، يصارع نقيضه (التقلُّص) من أجل الحفاظ على هذا التوازن في القوى معه. وفي سعيه (صراعه) من أجل الحفاظ على هذا التوازن، يَسْتَهْلِك آخر ما بقي لديه من "طاقة البطاريَّة"، فيشرع يتحوَّل إلى نقيضه الطبيعي، وهو التقلُّص.
إنَّها لحظة "زوال التمدُّد ـ نشوء التقلُّص". من رحم التمدُّد، ورغماً عنه، خرج التقلُّص، الذي كان جنيناً فنما، فاكتمل نموَّا، فخرج من رحم التمدُّد؛ وها وهو الآن يشبه، حجما ونموَّاً، "الطفل الرضيع".
وهذا "الطفل الرضيع"، أي التقلُّص الوليد، يملك قدرة ذاتية على النمو. لقد شرع ينمو، مُسْتَهْلِكاً قدرته الذاتية على النمو؛ أمَّا نقيضه (التمدُّد) فقد شرع يضمحل. عند نشوئه، كان حجمه يَعْدِل قطرة في بحر التمدُّد.
التطوُّر الطبيعي للشيء هو التطوُّر الذي به، وفيه، تتهيَّأ أسباب وشروط زواله، أي أسباب وشروط تحوُّله إلى نقيضه. وهذا التحوُّل (الطبيعي والحتمي) قد يتحقق سريعاً، أو بطيئاً، بسهولةٍ، أو بصعوبة. و"العامِل الخارجي" هو ما يؤثِّر على هذا النحو فحسب، أي أنَّ تأثيره لا يتعدى الإسراع أو الإبطاء، التسهيل، أو التصعيب. والشيء، في نموِّه وتطوُّره وتفاعله الداخلي والخارجي، إنَّما هو القوَّة التي بها ينمو ويتطوَّر نقيضه الداخلي، أي الشيء الذي سيتحوَّل إليه حتما.
في المشهد المرئي، نرى الشيء ينمو ويتطوَّر؛ أمَّا في المشهد غير المرئي، فإنَّ نقيضه الداخلي ينمو ويتطوَّر، فمبدأ التطوُّر هو أنَّ الشيء لا يمكنه أبدا أن ينمو ويتطوَّر من غير أن ينمِّي ويُطوِّر، في الوقت نفسه، وبما يتناسب مع نموِّه وتطوُّره، نقيضه الداخلي. يُنمِّيه ويُطوِّره جنيناً في رحمه حتى يخرج منه، ورغما عنه.
وفي هذا الاتِّجاه فحسب (اتِّجاه تحوُّل الشيء إلى نقيضه) تنمو وتتطوَّر تناقضاته الداخلية، فليس نمو وتطوُّر الشيء سوى الوجه الآخر لنموِّ وتطوُّر تناقضاته الداخلية.
و"نقيض الشيء" إنَّما هو شيء مضاد في الخواص والسمات والصفات الجوهرية. والخواص والسمات والصفات الجوهرية هي ما يميِّز شيئاً من شيء. هي ما يجعل الشيء على ما هو عليه. هي ما تؤلِّف هويته.
هل من شيء ينشأ إذا كان لا بيئة له؟ كلا، ليس من شيء ينشأ إلا بوصفه ابناً لبيئته. وعليه، نفهم "التطوُّر الذاتي" للشيء على أنَّه ثمرة تفاعله الحتمي مع بيئته. وهذا التفاعل هو الذي يفضي، في آخر المطاف، إلى تحوُّل الشيء إلى نقيضه. و"العامِل الخارجي" هو كل ما يؤثِّر في هذا التفاعل، وفي نتيجته النهائية، وهي تحوُّل الشيء إلى نقيضه، إسراعاً، أو إبطاءً، تسهيلاً، أو تصعيباً.
و"الشرط البيئي" لوجود الشيء، لنشوئه ونموِّه وتطوُّره حتى زواله، إنَّما هو الشرط الذي في غيابه يستحيل نشوء ووجود الشيء. الشيء هو على ما هو عليه؛ لكونه مستوفٍ للشروط البيئية لوجوده.
والتطوُّر الذاتي الطبيعي للشيء هو الذي يفضي أوَّلاً إلى نفيه؛ ثمَّ يفضي إلى نفي الذي نفاه. وإذا كانت B هي نفي A فإنَّ نفي B هو A جديدة، مختلفة (بفضل B) عن A القديمة، أي أنَّ A الجديدة هي "النقيضان A و B" في وحدتهما الدياليكتيكية الأعلى من ذي قبل.
التناقضات الداخلية للشيء تنشأ مع نشوئه، تنمو مع نموِّه، تبقى ما بقي، وتزول بزواله. على أنَّ هذا لا يتعارض مع وجود تناقضات عامة مشترَكة بين الشيء ونقيضه.
طرفا التناقض يتصارعان دائما، فيتغلَّب أحدهما على الآخر، فينشأ توازن جديد (مؤقَّت) في القوى بينهما. وهذا التغلُّب مع التوازن الجديد الذي يأتي به هو حلٌّ للتناقض.
وضِمْن هذا التوازن الجديد يتجدَّد الصراع بين طرفي التناقض الذي حُلَّ من قبل، فيتغلَّب أحدهما على الآخر، فيزول هذا التوازن لينشأ توازن جديد آخر، ففي نهاية كل جولة من الصراع بين طرفي التناقض يتغلَّب أحدهما على الآخر، فيزول التوازن القائم، فيُحَلُّ التناقض؛ ثمَّ ينشأ (التناقض) ثانيةً، ومعه توازن جديد، تبدأ ضِمْنه جولة ثانية من الصراع. وهكذا ينمو التناقض، وينمو الصراع بين طرفيه.
في التطوُّر، أوَّلاً يشبُّ "الصراع"، ويحتد، ويشتد، ويعنف. ثمَّ ينتهي هذا الصراع بين طرفي التناقض إلى تغلُّب أحدهما على الآخر؛ وهذا "التغلُّب" يُثمرُ "تغييراً"، فأنتَ لا تستطيع أن تقطع شَعْرَة إلا عَبْر صراعٍ، تُهْزَم فيه قوى تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد.. قوى تقاوِم قَطْع، أو انقطاع، الشَعْرَة. وهذه القوى لا تُظْهِر وجودها، وتؤكِّده، ولا تشرع تعمل، إلا عندما يبدأ فعل القَطْع.
لقد نشأ وَضْعٌ جديد إذ أمْسَكْتَ بطرفي الشَعْرة، مُبْتَدِءاً محاولة قَطْعِها. وهذا الوَضْع ينشأ كما ينشأ كل شيء، أي منطويا على تناقضاته. لقد نشأ وفيه صراع بين قوى تعمل في اتِّجاه قَطْع الشَعْرَة وقوى تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد، مقاوِمَةً قَطْعها حتى تُهْزَم مقاومتها.
إذا كان "اتِّجاه الفعل" هو "القَطْع" فإنَّ هذا القَطْع لن يتحقَّق إلا بَعْد، وبفضل، التغلُّب (عَبْر الصراع) على قوى تقاوِم، وتعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد. وإذا كان "اتِّجاه الفعل" هو رَفْع حجرٍ من مكانه فإنَّ هذا الرفع لن يتحقَّق إلا بَعْد، وبفضل، التغلُّب (عَبْر الصراع) على قوى تقاوِم، وتعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد. وإذا كان "اتِّجاه الفعل" هو "النَوْم" فإنَّك لن تنام إلا بَعْد، وبفضل، التغلُّب (عَبْر الصراع) على قوى (في داخلك وفي خارجك) تقاوِم، وتعمل في اتِّجاه اليقظة. وإذا كان "اتِّجاه الفعل" هو "تمدُّد الفضاء" فإنَّ هذا التمدُّد لن يتحقق (ولو في أقلِّ مقدار منه) إلا بَعْد، وبفضل، التغلُّب (عَبْر الصراع) على قوى (في داخل الفضاء ذاته وفي "جُزُرِهِ") تقاوِم، وتعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد، أي في اتِّجاه جَعْل الفضاء يتقلَّص، وينمو تقلُّصاً، حتى يبلغ الحد الأقصى من تقلُّصه.
إنَّ طرفي التناقض ينتقلان من توازن إلى توازن في القوى عَبْر الصراع، وعَبْر تغلُّب أحدهما على الآخر، مع الإبقاء عليه في الوقت ذاته.
ما الذي "يتمدَّد"؟ إنَّه الشيء، أو الجسم، الذي هو في "حال تقلُّص". وليس التمدُّد سوى التقلُّص إذ نُفي.. إذ تضاءل ونقص مقداراً وحجماً. وما الذي "يزداد تمدُّداً"؟ إنَّه الشيء، أو الجسم، الذي ازداد تقلُّصه تضاؤلاً. وما الذي "بلغ الحد الأقصى من تمدُّده؟ إنَّه الشيء، أو الجسم، الذي بلغ الحد الأقصى من تضاؤل تقلُّصه. وما الذي "جاوز الحد الأقصى من تمدُّده"؟ إنَّه الشيء، أو الجسم، الذي تحوَّل تمدُّده إلى تقلُّص، فشرع تقلُّصه ينمو.
ما أنْ تُباشِر شد الشريط المطَّاطي حتى يَظْهَر لك التناقض الذي ينطوي عليه، وهو التناقض بين قوَّة تعمل في اتِّجاه مطِّه وقوَّة أخرى تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد، أي في اتِّجاه تقلُّصه.
قبل فِعْل الشد (أو المط) الذي بَدَأْْت، كان توازنٌ في القوى بين طرفي هذا التناقض الداخلي. وأنتَ يكفي أن تباشِر هذا الفعل حتى تَخْرِق وتَنْتَهِك توازنهما. عندما كانا في حال التوازن بقي الصراع قائما بينهما؛ ولكنه كان صراعا "كامنا"، ولم يَغْدُ بَعْد "ظاهِرا".
إنَّك لا تستطيع أنْ تُباشِر فعل الشدِّ، أو المطِّ، من غير أن تستثير، في اللحظة عينها، مقاوَمة لفعلك هذا.. هي مقاوَمة النقيض، أي مقاوَمة قوَّة في داخل الشريط تعمل، على "الفطرة"، في اتِّجاه تقلُّص الشريط.
وهذا "النقيض الطبيعي الداخلي" قد تراه، مقاوِماً، أو مُدافِعاً، أو مهاجِماً، أو متقدِّماً، أو متراجعاً، أو منتصراً، أو مهزوماً.
وكلا طرفي التناقض في سعي "فطري" إلى التفوُّق والسيادة والهيمنة؛ أمَّا وسيلته الدائمة إلى ذلك فهي "الصراع".
والتوازن في القوى قد نراه بين طرفي تناقض متفاوتين في القوَّة تفاوتا كبيرا، فسيادة أحدهما لا تمنع قيام توازن في القوى بينهما.
وثمَّة ما يشبه علاقة التناسب العكسي بين "حجم" أحد الضدين و"قوَّته"، فكلَّما اتَّسَع (أحد الضدين) وجوداً تضاءل قوَّة، وكلَّما تضاءل وجودا زاد قوَّة، فالجسم الذي في منتهى البرودة إنَّما هو الجسم الذي وجود الحرارة فيه من الضآلة بمكان؛ ولكنَّ قوَّة الحرارة فيه في منتهى الشدَّة، وكأنَّ "الانفجار" هو عاقبة "ضَغْط" أحد طرفي التناقض حتى الحد الأقصى من الضغط.
في داخل الجسم البارد لا نرى البرودة (وجوداً وقوى) فحسب، وإنَّما نرى الحرارة (وجودا وقوى). وكلَّما اتَّسَع وجود البرودة ضاق وجود الحرارة، تضاءلت قوى البرودة، وتضاعفت قوى الحرارة.
ولو جئت بسلك معدني مستقيم الشكل وحوَّلْتَهُ إلى دوائر متفاوتة في طول المحيط لَظَهَرَ لكَ "المستقيم" في الدائرة الأصغر محيطاً على أنَّه الأشد مقاوّمة للانحناء، فكلَّما زاد "الانحناء" تضاءل نقيضه وهو "الاستقامة" وجوداً، وزاد قوَّةً.
قبل، ومن أجل، إحداث تغيير معيَّن، لا بدَّ من خوض صراعٍ، ينتهي بالتغلُّب على قوى تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد لاتِّجاه التغيير هذا. أمَّا المتغلِّب على تلك القوى فهو نقيضها من القوى.
لو أنَّكَ شرعْتَ تَرْكُض، وظللتَ تَرْكُض، فسوف تكتشف أنَّك لا تستطيع فعل ذلك من غير أنْ تُنْتِج وتنمِّي، في الوقت نفسه، الأسباب المؤدِّية، في آخر المطاف، إلى توقُّفِكَ التام عن الركض، ففي الركض، وبسببه، تَنْشَطُ قوى في داخلكَ تعمل في اتِّجاه التوقُّف عن الركض (التحوُّل من الحركة إلى السكون).
بمحاولتكَ رَفْع حجرٍ من مكانه إنَّما تؤسِّس لعلاقة تنطوي على تناقض بينكَ وبين الحجر، فأنتَ، في هذه العلاقة، "الرافع"، والحجر هو "المرفوع". لا "رافع" من غير "مرفوع"، ولا "مرفوع" من غير "رافع.
في "المرفوع"، وهو الحجر، تعمل قوَّة في اتِّجاه معاكِس ومضاد لفعل الرفع. إنَّها قوَّة تعمل لإسقاط الحجر، أي لإعادته إلى مكانه. وفي "الرافع"، تعمل قوَّة في اتِّجاه رَفْع الحجر، والمضي قُدُماً في رفعه. وينبغي لقوَّة الرفع أن تتغلَّب على نقيضها في الحجر، وفي خارجه، قبل، ومن أجل، رَفْع الحجر، وزيادة رَفْعِه. وينبغي لهذا النقيض أن يصارع من أجل منع قوَّة الرفع من رفع الحجر، ومن أجل إسقاطه عند رفعه.
الحتمية بعينها هي أنْ يزول الشيء، كل شيء، فكل ما ينشأ ويُوْلَد يجب أن يزول ويموت. ولكنَّ الحقيقة التي يجب كشفها وتأكيدها دائما هي أنَّ "زوال" الشيء ليس من معنى له سوى المعنى الآتي: تحوُّل الشيء إلى نقيضه.. إلى نقيضه في الخواص والسمات التي بها نُميِّز شيئاً من شيء. وهل من شيء زال من غير أن يأتي زواله بما يؤكِّد أنَّه قد زال إذ تحوَّل إلى نقيضه؟!
ولكن، لماذا.. لماذا ينبغي للشيء، في زواله، أن يتحوَّل إلى نقيضه وليس إلى ما يمكن وصفه بأنَّه "غير نقيضه"؟ لأنَّ الشيء، كل شيء، لا ينشأ ولا يُوْلَد إلا ومعه، وفي داخله، نقيضه.
وهذا النقيض (الداخلي) نراه "وجوداً"، ونراه "قوى"، فالجسم "الحار" هو ذاته الجسم الذي يمكن ويجب النظر إليه على أنَّه "البرودة"، وجوداً، فالحرارة فيه تنمو وجوداً؛ لأنَّ البرودة فيه تضمحل وجوداً.
إنَّ الجسم الحار هو ذاته الجسم البارد، وإنَّ الجسم الذي زادت، وتزيد، حرارته هو ذاته الجسم الذي نقصت، وتنقص، برودته.
نضيف إلى ذلك أنَّ "النقيض (الداخلي)" لا يتضاءل "وجوداً" إلا لينمو "قوَّة"، وكأنَّ "النقيض على هيئة قوَّة" هو الجنين الذي يتكوَّن في رحم الشيء، مع نشوء وولادة الشيء، فينمو مع نموِّه.
وهذا إنَّما يعني، في مثالنا، أنَّ "النقيض ـ البرودة" لا يتضاءل "وجودا"، مع نموِّ حرارة الجسم، إلا لينمو ويشتد "قوَّة"، ففي النموِّ نرى ما يمكن تسميته "خدعة التطوُّر".
في المشهد المرئي من التطوُّر، نرى الحرارة تنمو في الجسم؛ أمَّا في المشهد غير المرئي، فالبرودة، قوَّةً، وجنيناً، هي التي تنمو مع كل نموٍّ في حرارة الجسم، وكأنَّ الشيء لا ينمو، ولا يمكنه أن ينمو، من غير أن يُنمِّي، في الوقت نفسه، وبما يعدل نموِّه حجما ومقدارا، نقيضه الداخلي، الذي إليه يمكن ويجب أن يتحوَّل، في زواله.
مع نشوء الشيء تنشأ في داخله أسباب تحوُّله إلى نقيضه؛ ومع نموِّه تنمو تلك الأسباب. في النموِّ، وبالنموِّ، يَسْتَنْفِد الشيء ويَسْتَهْلِك قواه (طاقة بطاريته). يَسْتَنْفِدها ويَسْتَهْلِكها في صراعه الدائم والحتمي مع نقيضه الداخلي. ومن خلال استنفاده واستهلاكه لقواه في الصراع ينمو الشيء؛ أمَّا المُسْتَنْفَد والمُسْتَهْلَك من قواه وطاقته فيتحوَّل إلى نقيضه الداخلي، مضاعِفاً ومُنَمِّياً، بالتالي، قوَّته.
هذا التحوُّل.. تحوُّل الشيء إلى نقيضه يَسْتَغْرِق مقداراً من الزمن، قد ينقص إذا ما كان "العامِل الخارجي" إيجابياً بالنسبة إلى نموِّ الشيء، وقد يزيد إذا ما كان سلبياً، أي أنَّ "العامِل الخارجي" يُسَرِّع أو يبطِّئ استهلاك الشيء لـ "طاقة بطاريته الذاتية". وهذا هو معنى "التغذية الخارجية الإيجابية أو السلبية". إنَّ "التغذية الخارجية"، بوجهيها الإيجابي والسلبي، ليست سوى ما يُسَرِّع، أو يبطِّئ، "النمو الذاتي" للشيء.
"نمو الشيء" هو وحده القوَّة التي بها ينمو النقيض الداخلي للشيء؛ وإنَّ كل ما يجعل هذا النموِّ الذاتي سريعاً سهلاً، أو بطيئاً صعباً، هو "العامِل الخارجي"، وتأثيره في الشيء.
في رحم الشيء ليس من جنين ينمو (مع نموِّه، وبفضل نموِّه) سوى نقيضه، الذي ما أن يكتمل نموَّاً حتى يخرج من رحم الشيء، ورغما عنه. الشيء ينشأ مع نقيضه، أي مع "خليفته"، فينمو مُنمِّياً (رغما عنه) نقيضه، حتى إذا اكتمل الشيء نموَّاً مات، فَوُلِدَ نفيضه، في اللحظة عينها.
الشيء يُوْلَد بـ "قابليَّة متناقضة"، فإذا تمدَّد جسم ما فهذا إنَّما يؤكِّد "قابليته للتمدُّد"، التي تتَّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه، في داخل الجسم ذاته، بنقيضها، وهو "القابليَّة للتقلُّص".
الجسم الذي يتمدَّد إنَّما هو الجسم "القابل للتمدُّد". وهذا الجسم لا يمكنه أن يتمدَّد، وأنْ يكون "قابلاً للتمدُّد"، إلا إذا كان، في الوقت ذاته، "قابلاً للتقلُّص".
"التأثير" هو الأثر الذي يتركه شيء في شيء. وهو (التأثير) علاقة تقوم بين طرفين: "طرف مؤثِّر"، و"طرف مؤثَّرٌ فيه (أو متأثِّر)". وكل تأثيرٍ (في شيء ما) إنَّما هو تغيير؛ وكل تغيير إنَّما هو انتقال من حالٍ إلى حالٍ مضادة. والعلاقة تلك تنطوي على تناقض.. تناقض طرفه الأوَّل هو "المؤثِّر"، وطرفه الآخر هو ذلك الجانب من الشيء الذي "يقاوِم" التأثير (أو التغيير الذي قَيْد الصنع).
إذا شددتَ شريطا مطَّاطيا، توصُّلاً إلى مطِّه، أي إلى جعله يتمدَّد، فأنتَ، في هذه الحال، إنَّما تمثِّل "القوَّة (الخارجية) المؤثِّرة" في "الشريط"، والتي يلقى تأثيرها وفعلها "مقاوَمةً" من جانب من "الشريط".
أنتَ، ببذلك جهد الشد، تسعى في التغلُّب على تلك المقاوَمة، التي تسعى، في الوقت نفسه، في إحباط سعيك لجعل الشريط يتمدَّد، فإمَّا أن ينتهي هذا الصراع إلى تغلُّبكَ عليها، وإمَّا أن ينتهي إلى تغلُّبها عليكَ.
التناقض، في تلك العلاقة، إنَّما هو بينكَ بوصفكَ قوَّة شدٍّ ومطٍّ للشريط وبين الشريط بوصفه قوَّةً مقاوِمَةً للشدِّ والمطِّ. وأنتَ، بوصفكَ قوَّة شدٍّ ومطٍّ للشريط، إنَّما تؤثِّر "في داخل الشريط" بما يقوِّي جانب "قابليته للتمدُّد"، التي لولا وجودها لَمَا استطعتَ جعل الشريط يتمدَّد ولو بَذَلْتَ من الطاقة ما يعدل طاقة الكون كله.
على أنَّ "الداخِل" و"الخارِج"، في التطوُّر، يجب أنْ يُفْهما فَهْماً نسبياً، فالشريط المطَّاطي تمدَّد؛ لأنَّه "مادة قابلة للتمدُّد"؛ ولكنَّ تمدُّده (على النحو الذي نرى) لن يحدث أبدا إذا لم تَقُم بشدِّه ومطِّه، فأنتَ، بعملك هذا، إنَّما تُعَدُّ مُكوِّناً أساسياً من مكوِّنات شيء آخر، هو "عملية مطِّ الشريط".
والتناقض الذي تنطوي عليه هذه العملية هو بين قوَّة تعمل في اتِّجاه مطِّ الشريط، ويُعَدُّ جهدكَ جزءاً من هذه القوَّة، وبين قوَّة تعمل في اتِّجاه معاكِس ومضاد، هي قوَّة التقلُّص، والتي تُظْهِر وتؤكِّد وجودها، في هذه الحال، بوصفها قوَّة تقاوِم تمدُّد الشريط.
و"العامِل الخارجي"، في هذه الحال، أي بالنسبة إلى "عملية مطِّ الشريط"، هو كل ما يمكن أن يُسَرِّع، أو يبطِّئ، تلك العملية.
و"العامِل الخارجي"، لجهة تأثيره في شيء ما، إنَّما هو "كمِّيَّة محدَّدة" من "مادة محدَّدة" يعطيها هذا العامِل للشيء، أو يأخذها منه. وهذه "الكمِّيَّة المحدَّدة" من "المادة المحدَّدة (كتلة أو طاقة)" لا تؤثِّر في الشيء، عند دخولها فيه، أو خروجها منه، إلا بما لا يتعدَّى "الإسراع"، أو "الإبطاء"، في تطوُّره في الاتِّجاه المحدَّد ذاتياً، أي في الاتِّجاه الذي تحدِّده وتقرِّره طبيعة الشيء.
وعندما نحدِّد الشيء الذي ندرس تطوُّره ينبغي لنا أن نحدِّد أوَّلاً "مكوِّناته"؛ و"المكوِّن" إنَّما هو العنصر الذي من دونه لن تقوم للشيء قائمة. وهذا الشيء قد يكون "جسماً"، أو "ظاهرةً"، أو "عمليةً"، أو "فعلاً".
أُنْظُر إلى جسم معدني صلب وهو يَسْخُن. إنَّكَ ترى "حرارته" تنمو وتزداد، فتَظُن أن لا نهاية عظمى لنموِّها فيه، أي أنَّ حرارة هذا الجسم المعدني الصلب يمكن أن تبلغ 1000 أو 2000 أو 10000 أو .. درجة مئوية، ويمكن أيضا أن يظلَّ، على الرغم من نموِّه الحراري الذي لا نهاية له، على ما هو عليه، أي أن يظلَّ جسماً معدنياً صلباً.
إنَّنا نرى "مرونة كمِّيَّة" في خاصِّيته تلك، أي في قابليته لأنْ يزداد سخونةً (أو برودةً). ولكنَّ هذه المرونة تظل نسبية، فـ "الصلابة" في هذا الجسم المعدني ترسم خطَّاً نهائياً لنموِّه الحراري، فإذا بلغه وتخطَّاه يَفْقِد الجسم المعدني صلابته، ويغدو سائلاً. وعندما ينصهر، يصبح ممكناً أن تنمو الحرارة أكثر؛ ولكنَّ لنموِّها فيه نهاية عظمى، إنْ بلغها وتخطَّاها تبخَّر الجسم المعدني. وعندما يتبخَّر، يصبح ممكناً أن تنمو الحرارة في بخار هذا المعدن أكثر.
وهذا النمو الحراري المتعاظِم، والذي أزال وأنشأ أشياء كثيرة، لا بدَّ من نهاية عظمى له، أي لا بدَّ له من أنْ يتحوَّل، في وضع فيزيائي ما، إلى نقيضه، وهو البرودة، وكأنَّ الحرارة لم تَعْظُم نموَّاً إلا لتنمِّي أسباب وعوامل وقوى تحوُّلها إلى برودة، فكلَّما زِدْتَّ حرارة الجسم زِدْتَّ مقاوَمته للحرارة .
إنَّ للنموِّ الحراري نهاية عظمى في كل شيء، وعلى المستوى الكوني أيضاً. والشيء الذي يُوْلَد بفضل تخطِّي النمو الحراري نهايته العظمى في سلفه إنَّما يُوْلَد بالحدِّ الأقصى من البرودة النسبية، أي نسبةً إليه، وكأنَّ نمو الحرارة، وليس نمو البرودة، هو النمو الممكن بالنسبة إلى هويته.
التطوُّر إنَّما هو "صراع الأضداد".. "ثمرة" صراعها، فليس من تغيير يَقَع إلا بوصفه ثمرة، أو نتيجة، تغلُّب أحد الضدَّين (المتصارعين) على الآخر، فإذا كان التغيير الذي وَقَع هو C فإنَّ تغلُّب A على B هو الذي جاء بهذا التغيير.
وفي هذا المثال، لا بدَّ لـ A و B من أن يكونا ضدَّين متَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه (في داخل الشيء الذي عَرَف التغيير C) ومتصارعين في استمرار. إنَّ A هي "القوَّة"، في داخل ذاك الشيء، التي تعمل دائما في اتِّجاه إحداث التغيير C. أمَّا B فهي "القوَّة"، في داخل الشيء ذاته، التي تعمل دائما في اتِّجاه معاكِس ومضاد، أي في اتِّجاه إحداث التغيير M مثلا.
لو كان التغيير الذي وَقَع هو رَسْم خطٍّ على ورقة بيضاء فما كان لِيَقَع لو لم يتم التغلُّب على قوَّة عَمِلَت في اتِّجاه مَنْع رَسْم ذاك الخط .. في اتِّجاه مَنْع الحِبْر من أن يسيل عَبْر الفتحة في رأس القلم، وفي اتِّجاه منع الورقة من امتصاص الحِبْر الذي سال، وفي اتِّجاه مَنْع العضلات في أصابعكَ الممسكة بالقلم من بَذْل ما ينبغي لها بَذْله من جهد من أجل جَعْل الحِبْر يسيل من القلم إلى الورقة. ولو قلَّلْتَ جهدكَ هذا كثيرا فإنَّكَ لن تتمكَّن من رَسْم خطٍّ على الورقة؛ ذلكَ لأنَّ هذا الجهد الذي بَذَلْتَ أقل كثيرا مما ينبغي لكَ بَذْله من أجل التغلُّب على تلك المقاوَمة التي يبديها "النقيض".
إنَّ القوَّة التي صَنَعَت هذا التغيير ما كان لها أن تصنعه لو أنَّ القوَّة المضادة لها كانت "غير موجودة" معها، أو لو لم تتمكَّن من التغلُّب عليها، فـ "وجود" القوة المضادة لها، مع "تغلُّبها عليها"، هو الشرط لنجاحها في صُنْع ذاك التغيير. وليس "التغيير" سوى "المقاوَمة له إذ هُزِمَت". وليست "المقاوَمة" تلك سوى "النقيض وهو يُقاوِم". إنَّني قبل، ومن أجل، أن أفعل شيئا ما، لا بدَّ لي من أن أُصارِع "نقيض هذا الفعل"، وأن أتغلَّب عليه.
النجم، في حياته وتطوُّره، يَعْرِف ظاهرة "التمدُّد"، فحجمه يزداد وينمو. كيف نفهم، دياليكتيكياً، هذا "التمدُّد"؟ أوَّلاً، النجم يتمدَّد شيئا فشيئا.. درجة درجة. كل "تمدُّدٍ (أي كل درجة من تمدُّده)" إنَّما هو "ثمرة صراعٍ ضدَّ التقلُّص"، فالنجم، قبل أن يتمدَّد، ومن أجل أن يتمدَّد، ينبغي له أن يخوض صراعا، في داخله أوَّلا، ضد التقلُّص، وأن يتمكَّن من التغلُّب على التقلُّص.
إنَّ في داخل النجم قوى تدفعه، في استمرار، إلى "التقلُّص"، فإذا ما تهيَّأت للنجم أسباب وعوامل "التمدُّد" أظْهَرَت تلك القوى "مقاوَمةً" لتمدُّده، الذي ينبغي له أن يتغلَّب على تلك المقاوَمة حتى يتحقَّق.
هذا الصراع بين الطرفين يظلُّ يشتد ويقوى ويعنف حتى يتمكَّن أحدهما من التغلُّب على الآخر، فإذا ما هُزِمَت المقاوَمة للتمدُّد تمدَّد النجم، أي صَعِدَ في "سُلَّم تمدُّده" درجة، فليس من "مقاوِمٍ" لتمدُّده غير التقلُّص.
ما يدفع النجم في اتِّجاه معاكِس ومضاد، أي في اتِّجاه التقلُّص، هو ذاته ما يقاوِم تمدُّده، وهو، بالتالي، ما ينبغي للنجم التغلُّب عليه قبل ومن أجل أن يتمدَّد.
ونحن نَعْلَم أنَّ الحرارة التي تتولَّد من اندماج نوى ذرَّات الهيدروجين في باطن النجم هي ما يَدْفَع إلى تمدُّد النجم، وأنَّ "الجاذبية"، في باطنه، هي ما يَدْفَع في الاتِّجاه المعاكِس والمضاد، أي في اتِّجاه تقلُّص النجم، وهي، بالتالي، ما يُقاوِم تمدُّده.
ما أن تتهيَّأ للنجم أسباب وعوامل التمدُّد حتى يَظْهَر قي وضوح وجلاء أنَّ ثمَّة ما يقاوِم تمدُّده، انطلاقا من داخله في المقام الأوَّل، وأنْ لا تمدُّد قبل أن ينتهي الصراع مع هذا "المقاوِم الداخلي" بالتغلُّب عليه.
هذا الفَهْم الدياليكتيكي لظاهرة تمدُّد النجم لَمْ يكتمل بَعْد، فالنجم لن يستمر في التمدُّد إلى "اللانهاية"، فثمَّة "حدُّ أقصى" لتمدُّده، أو لنموِّ تمدُّده. عند بلوغه (أو تخطِّيه) هذا الحد يتغيَّر النجم بما يؤدِّي إلى "تحوُّل تمدُّده إلى تقلُّص". لقد تقلَّص النجم؛ ولكن أي نجم؟ إنَّه النجم الذي بلغ تمدُّده منتهاه.
من قبل، رأيْنا كيف ينشأ التمدُّد وينمو. رأيْناه ثمرة صراعٍ خاضه النجم ضد التقلُّص، وتغلَّب فيه، وبه، على هذا "المقاوِم" لتمدُّد.
والآن، حيث بلغ تمدُّده منتهاه، رأيْنا هذا التمدُّد يتحوَّل إلى نقيضه، أي إلى تقلُّص، وكأنَّ النجم لا يتمدَّد، ولا ينمو في تمدُّده، إلا لِيُنْتِجَ نقيض التمدُّد، وهو التقلُّص، ففي التمدُّد، وبه، أي في نموِّه، وبه، يُنْتِج النجم، وينمِّي، أسباب وعوامل وقوى التقلُّص.
لقد نشأ التمدُّد، ونما، في الصراع، وبالصراع، مع التقلُّص؛ ثمَّ أنْتَجَهُ، وتحوَّل إليه. عندما بلغ النجم في تمدُّده منتهاه اكتمل نمو جنين التقلُّص في رحمه، فخرج منه، ورغما عنه، فالنجم "الأكثر تمدُّدا (الأقل تقلُّصا)" إنَّما هو الذي حان له أن يُحوِّل تمدُّده إلى تقلُّص.
إنَّ الشيء ينشأ وينمو في صراعٍ يخوضه ضد نقيضه، فإذا ما بلغ في نموِّه منتهاه تحوَّل، حتما، إلى نقيضه. في الصراع، وبالصراع، مع نقيضه ينشأ، وينمو، الشيء؛ وفي نموِّه، وبنموِّه، تتهيَّأ أسباب تحوُّله إلى نقيضه.
ولكنَّ هذا التحوُّل لا يعني أبدا أنَّ تطوُّر النجم قد عاد إلى النقطة التي منها انطلق تمدُّده، فـ "الحال الجديدة من التقلُّص" ليست بنسخة من "حاله القديمة". ثمَّة فَرْقٌ (حتمي) بين الحالين؛ وهذا الفَرْق إنَّما يَضْرِب جذوره عميقا في "حال التمدُّد" التي عَرَفها النجم.
ما معنى "التطوُّر الذاتي للشيء"؟ معناه، على وجه الخصوص، هو أنَّ الشيء، كل شيء، يشتمل، في داخله، على المَصْدَر الأوَّل والأهم لتطوُّره، فما يَدْفَع الشيء إلى التطوُّر في هذا الاتِّجاه، أو ذاك، إنَّما هو، أوَّلاً، الصراع الحتمي، والدائم، بين أضداده الداخلية، والمتَّحِدة اتِّحادا لا انفصام فيه.
في داخل الماء مثلا، نرى التناقض بين قوَّة تعمل دائما في اتِّجاه تجميع وتوحيد جزيئاته، وقوَّة أخرى تعمل دائما في اتِّجاه معاكِس ومضاد، أي في اتِّجاه تفريق (تشتيت) وفَصْل جزيئاته. كلتاهما تصارِع، دائما، الأخرى من أجل التفوُّق عليها؛ أمَّا السبب فهو "تضادِّهما" مع "عيشهما معاً" في داخل الشيء ذاته. إنْ هما "توازنتا" فلن يستمر توازنهما إلا إلى حين؛ لأنَّه، ومهما طال زمنه، يظلُّ "مؤقَّتاً".
ولا شكَّ في أنَّ قانون "وحدة وصراع الضدين" هو الذي يَحُول بين الضدين وبين توازنهما الدائم في القوى. وهذا "التوازن المؤقَّت" هو "الظرف المكاني ـ الزماني" الذي فيه يستمر (وينمو) الصراع بين طرفي التناقض، اللذين يظلُّ بينهما "فَرْق في القوى"، ولو في منتهى الضآلة، عندما يبدوان في "توازنٍ وطيد". وهذا الصراع، الذي لا يَعْرِف توقُّفاً، يُوسِّع ويُنمِّي هذا الفَرْق حتى إذا بلغ حجما معيَّناً رجَحَت كفَّة أحدهما على كفَّة الآخر، فانهار التوازن، وحلَّ مكانه توازن مؤقَّت جديد بين "الطرف الغالِب" و"الطرف المغلوب".
إنَّ الصراع المُطْلَق والدائم بين الطرفين هو الذي يَجْعَل توازنهما مؤقَّتاً، ويُرجِّح كفَّة أحدهما على كفَّة الآخر، وينقلهما، بالتالي، من توازن إلى توازن. وهذا إنَّما يعني استمرار "الطرف الغالِب" في "النموِّ"، الذي له "نهاية عظمى"، تُعَيِّنها طبيعة الشيء. وهذا "النمو" إنِّما هو ذاته "ظرف المكان ـ الزمان" الذي فيه تنمو أسباب وعوامل وقوى تحوُّل الشيء إلى نقيضه.
الشيء يمكن ويجب أن يتحوَّل إلى نقيضه؛ لأنَّ أسباب وعوامل وقوى تحوُّله تكمن فيه. على أنَّ هذا التحوُّل (الحتمي) قد يتحقَّق سريعاً، أو بطيئاً، في سهولة، أو في صعوبة. وفي هذا يكمن تأثير "العوامِل الخارجية". هذه العوامِل لا تَخْلِق في الشيء أسباب وعوامِل وقوى تحوُّله إلى نقيضه، وإنَّما تَخْتَصِر، أو تُطيل، الزمن الذي يستغرقه هذا التحوُّل (الحتمي).
"العامِل الخارجي"، ومهما عَظُمَ تأثيره السلبي بالنسبة إلى عملية تحوُّل الشيء إلى نقيضه فلن يقوى على منعها منعا مُطْلقا من أن تبلغ نهايتها، فكل ما يستطيعه لا يتعدَّى تأخير وإبطاء تلك العملية. إنَّه لا يستطيع، مثلا، أن يمنع منعا مُطْلَقا تحوَّل هذا المقدار من الماء (السائل) إلى بخار، أو جعله يتحوَّل، مثلا، إلى صوص. يستطيع فحسب أن يُسَرِّع، أو يبطِّئ، عملية تحوُّل هذا المقدار من الماء إلى بخار.
أشْعِل شمعة صغيرة في غرفة واسعة مُظْلِمة، وتأمَّل هذا التناقض بين "النور" و"الظلام". هل تبدَّد الظلام وتلاشى؟ هل بإشعالكَ تلك الشمعة قضيت على ظلام الغرفة قضاء مبرما؟ إنَّ "بعضاً" من ظلام الغرفة الحالك قد تبدَّد وتلاشى إذ أشْعَلْتَ تلك الشمعة الصغيرة. لقد بقي في الغرفة من الظلام ما يكفي لمزيدٍ من إنارتها.
أشْعِل شمعة ثانية، تُبَدِّدَ وتَسْتَنْفِدَ "بعضاً"، أو "مقداراً"، ثانياً من ظلام الغرفة. أشْعِل ثالثةً، رابعةً، خامسةً، عاشِرةً، تُبدِّدَ وتَسْتَنْفِدَ مزيداً من ظلام الغرفة. كلَّما نما "النور" في الغرفة تأكَّد لكَ واتَّضَح أنَّ "وقود" هذا "النور"، وهو "الظلام"، لم يُسْتَنْفَد، ولم يُسْتَهْلَك، "كله"، أي بنسبة 100 في المئة. كل زيادة في "النور" لا يمكن فهمها إلا على أنَّها نقص في "ظلام" الغرفة. و"نقص" الشيء إنَّما يؤكِّد "وجود" الشيء، ولا ينفيه، فالشيء في وجوده (وفي إظهاره وتأكيده لوجوده) يمكن أن يزيد، أو ينقص، مقداراً، وحجماً. لو أنَّ "الظلام" في الغرفة تلاشى تلاشياً "مُطْلَقاً" لاستحالت زيادة "النور" فيها.. لاستحال "وجود" النور ذاته.
مِنْ أين يأتي الشيء (تمدُّد جسم ما مثلاً)؟ إنَّه يأتي، أو ينشأ، من "الصراع" ضدَّ "نقيضه". إنَّه ينشأ من، وفي، وبـ "الصراع" ضدَّ نقيضه. إنَّه ينشأ عَبْرَ "التغلُّب (من خلال الصراع) على نقيضه".
كيف "ينمو" هذا الشيء الذي نشأ؟ إنَّه ينمو في الطريقة ذاتها، أي في طريقة نشوئه. ولكن، هل في مقدوره أن ينمو إلى "اللانهاية"؟ كلا، ليس في مقدوره أبدا. سينمو إلى حدِّ معيَّن، فالطبيعة تمنعه منعا مُطْلقاً من أن ينمو حتى "التهام" نقيضه تماماً، فقانون الطبيعة لا يسمح بوجود "الخالص (المُطْلَق)" من الأشياء. لا يسمح لجسم ما بأنْ يتحوَّل "تمدُّده" المتنامي، المتعاظِم، إلى "تمدُّد خالص مُطْلَق".. إلى تمدُّد لا أثر فيه لـ "التقلُّص".
الشيء ينمو إلى "حدٍّ معيَّن"، فإذا حاول تجاوزه وتخطِّيه تحوَّل إلى نقيضه. ذاك الجسم ما أن يحاول أن يتجاوز في تمدُّده حدَّاً معيَّنا (الحدِّ الأقصى، أو النهاية العظمى) حتى يتحوَّل، حتماً، إلى نقيضه.
كلا الضدين شرط لوجود الآخر، فالمستحيل بعينه أن يُوْجَد أحدهما من دون الآخر. كلاهما في وجوده (في نشوئه ونموِّه) خير دليل على وجود الآخر. كلاهما يحتاج في وجوده إلى الآخر، فهو لا ينشأ، ولا ينمو، إلا في صراعٍ ضدَّ الآخر، وعَبْرَ التغلُّب على الآخر، حتى إذا بلغ في نموِّه حدَّاً معيَّناً تحوَّل، حتماً، إلى الآخر. كلاهما إنْ نَقَصَ "وجوداً" فلا ينقص إلا ليزيد "قوَّةً"، فـ "التمدُّد الأقصى" لجسم ما إنَّما هو ذاته "التقلُّص في الحدِّ الأدنى من وجوده"، و"التقلُّص في الحدِّ الأقصى من قوَّته"، في الجسم ذاته.
كل ما ينشأ، كل ما ينمو، إنَّما هو ثمرة صراعٍ ضد نقيضه.. ثمرة تغلُّبٍ (عَبْر هذا الصراع) على نقيضه. أُنْظُر إلى سلعة ما تزداد "غلاءً". إنَّ فيها من "الرخص" ما سمح، ويسمح، لغلائها بأن يزداد وينمو. ولكن، هل في مقدورها أن تنمو "غلاءً" إلى "اللانهاية"؟ كلا، ليس في مقدورها أبدا، فبعد حين، وعندما تبلغ في نموِّ غلائها حدَّاً معيَّناً، تشرع "تَرْخُص". لقد "كاد" غلاؤها أن "يلتهم" ما بقي فيها من "رُخْص"، فتحوَّل، عندئذٍ، وحتما، إلى "رُخْص"، فنمو غلائها يؤدِّي حتما إلى نموِّ القوى (الاقتصادية) التي تدفع إلى "رخصها". يؤدِّي إلى زيادة إنتاجها وعَرْضها؛ ويؤدِّي، بالتالي، إلى رخصها. تلك السلعة ليس في مقدورها أبدا أن تنمو غلاءً من غير أن تنمِّي، في الوقت نفسه، الأسباب والعوامل والقوى (الاقتصادية) المؤدِّية، حتما، إلى رخصها.
الشيء، كل شيء، مُنْقَسِمٌ ومُنْشَقٌ، "وجوداً"، و"قوى"، فـ "الموت"، "وجوداً" و"قوى"، إنَّما هو جزء لا يتجزأ من الكائن الحي. و"التقلُّص"، "وجوداً" و"قوى"، إنَّما هو جزء لا يتجزأ من "كوننا المتمدِّد". و"التنافُر"، "وجوداً" و"قوى"، إنَّما هو جزء لا يتجزأ من "نواة الذرَّة المتماسِكة". و"الاستقامة"، "وجوداً" و"قوى"، إنَّما هي جزء لا يتجزأ من "كوكب الأرض في مساره الدائري حَوْل الشمس". و"السكون"، "وجوداً" و"قوى"، إنَّما هو جزء لا يتجزأ من "الفوتون الذي يسير في الفضاء بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة". و"الكفر"، "وجوداً" و"قوى"، هو جزء لا يتجزأ من "الإنسان في إيمانه الديني".
لا شيء ينشأ إذا لَمْ يلقَ نشوءه "مقاوَمة"، وإذا لَمْ يتغلَّب على تلك المقاوَمة. وليست المقاوَمة التي يلقاها الشيء، قبل أن ينشأ، ومن أجل أن ينشأ، سوى "النقيض"، نقيض هذا الذي يصارع من أجل أن ينشأ، وهو يلبس، في صراعه، لبوس المقاوَمة. إنَّه "يقاوِم" في سياق سعيه، وصراعه، لجَعْلِ التطوُّر يسير في اتِّجاه معاكِس ومضاد، فـ "التقلُّص"، "وجوداً" و"قوى"، في جسم ما، لا يقاوِم "تمدُّد" هذا الجسم إلا في سياق سعيه، وصراعه، لجَعْلِه، أي لجَعْل هذا الجسم، يزداد وينمو "تقلُّصاً".
إنَّ لـ "نشوء"، أو لـ "نموِّ"، الشيء "مضاداته"، التي لا بدَّ من التغلُّب عليها قبل، ومن أجل، "نشوئه"، أو "نموِّه".
الإلكترون في الذرَّة يدور حَوْل نواتها. إنَّه يدور "متغلِّباً على..". يدور متغلِّباً على قوى مضادة كثيرة. نواة الذرَّة تشدُّه إليها، توصُّلاً إلى إسقاطه فيها؛ ولكنه يقاوِم، متغلِّباً على تلك القوَّة. وثمَّة قوَّة تعمل في اتِّجاه فصله عن الذرَّة بأسرها؛ ولكنه يقاوِم، متغلِّباً عليها. وثمَّة قوَّة تعمل في اتِّجاه جَعْلِه يسير في خطٍّ مستقيم؛ ولكنه يقاوِم، متغلِّباً عليها، ويظلُّ، بالتالي، يسير في خطٍّ دائري. ثمَّة قوى تعمل في اتِّجاه جَعْلِه "يتسارع"، أو "يتباطأ"؛ ولكنه يقاوِم، متغلِّباً عليها، ويظلُّ، بالتالي، محافِظاً على سرعة دورانه حَوْل النواة. الإلكترون في الوضع الذي هو فيه الآن لا يمكن فهمه إلا على أنَّه ثمرة صراعٍ دائمٍ يخوضه ضدَّ كل تلك القوى المضادة، وثمرة نجاحه، حتى الآن، في مقاومتها والتغلُّب عليها بما يكفي للحفاظ على الوضع الذي هو فيه الآن. هذا الوضع إنَّما هو "وضع التوازن في القوى" بين قوى متضادة كثيرة. على أنَّ "التوازن" يخالطه دائما صراع بين أطرافه وقواه؛ لأنَّه ليس بـ "توازن خالص مُطْلَق".
تعيين "التناقض" إنَّما يبدأ بسؤالٍ هو الآتي: ما الذي "نشأ".. ما الذي "ينمو"؟ عند تعيين "الناشئ"، أو "النامي"، يتعيَّن "النقيض"؛ لأنْ لا وجود لأحد طرفي التناقض من دون وجود الآخر. أُنْظُر إلى كرة ساكنة على سطح طاولة. ادْفَعْها بيدكَ، فتشرع تتحرَّك على سطح الطاولة. الآن، "نشأ" شيء جديد. إنَّه "الكرة المتحرِّكة على سطح الطاولة". إنَّ "السكون"، "وجوداً" و"قوى"، هو جزء لا يتجزأ من "الكرة المتحرِّكة (على سطح الطاولة)".
"حركة" تلك الكرة نشأت في الصراع ضدَّ "السكون (وجودا، وقوى، وأسباب، وعوامل)". ويمكنها أن تنمو وتزداد في الصراع ضدَّ السكون. لقد نشأت ونمت عَبْرَ تغلُّبها على "السكون"، الذي في صراعه ضدَّ "الحركة" يمكنه أن يتغلَّب عليها، فتتوقَّف الكرة تماماً عن الحركة. هذا التناقض بين "الحركة" و"السكون"، في مثال "الكرة المتحرِّكة على سطح طاولة"، هو "تناقضٌ ظاهِر (مُسْتَيْقِظ)". كان "كامناً (نائماً)" قبل أنْ تشرع الكرة تتحرَّك، وعاد "كامناً (نائماً)" بَعْدَ توقُّفها تماماً عن الحركة.
أمَّا إذا سارت الكرة بسرعة ثابتة منتظَمة على سطح الطاولة فهذا إنَّما يعني أنَّ طرفي التناقض (الحركة والسكون) هما في وضع "التوازن". كل تناقض ينطوي على تناقض بين "الكمون" و"الظهور"، فهو في "كمونه" ينطوي على مَيْلٍ إلى "الظهور"، وهو في "ظهوره" ينطوي على مَيْلٍ إلى "الكمون". وثمَّة شروط ينبغي للتناقض أن يستوفيها حتى ينتقل من "الكمون" إلى "الظهور"، أو من "الظهور" إلى "الكمون". إنَّ الحركة (أي كل تغيُّرٍ) هي التي تَكْشِف، وتُظْهِر، "التناقض"، الذي من خلال "نموِّه" يَظْهَر في وضوح وجلاء.
"التوازن" في القوى بين طرفي تناقض إنَّما هو حال يخالطها صراع بين الطرفين ذاتهما. والتوازن في القوى يمكن أن يقوم بين طرفين أحدهما أقوى من الآخر. في حال التوازن، يصارع كلاهما الآخر من أجل التغلُّب عليه، وتجاوز هذا التوازن، بالتالي، بما يسمح له بالنمو. كلاهما يقاوِم سعي الآخر لتخطِّي هذا التوازن، ساعياً، في الوقت نفسه، إلى تخطِّيه.
ويكفي أن يعجز أحدهما عن الحفاظ على هذا التوازن حتى يتمكَّن الآخر من أن يتخطَّاه، ومن أن ينمو بالتالي، ففي التوازن صراع لا يتوقَّف من أجل الحفاظ على التوازن، ومن أجل تخطِّيه من ثمَّ. أحد الطرفين (المتصارعين) قد يعجز عن تخطِّي هذا التوازن (في سعيه إلى التفوُّق، أو إلى مزيدٍ من التفوُّق، على خصمه). وقد يعجز، من ثمَّ، عن الحفاظ عليه، فيتخطَّاه الطرف الآخر، مُحْرِزاً التفوُّق، أو مزيداً منه.
إنَّ وجود "النقيض"، مع التغلُّب عليه، في الصراع، وبالصراع، هو شرط أوَّلي لوجود الشيء، ولنموِّه. وإنَّ نموَّ الشيء هو شرط أوَّلي لتحوُّله إلى نقيضه. هذا هو المعنى الدياليكتيكي لـ "نشوء" الشيء، ولـ "نموِّه".
ما معنى أنْ يؤثِّر شيء في شيء؟ أنْ تؤثِّر في شيء ما فهذا إنَّما يعني أنْ تُحْدِثَ فيه "تغييراً". و"التغيير" إنَّما يقوم على "ثنائية الإزالة ـ الإنشاء"، فأنتَ بتأثيركَ في شيء ما "تنفي (أو تزيل)" جانباً منه، لِتُوْجِدَ جانباً آخر، فإذا أنتَ دَفَعْتَ كرة واقفة على سطح طاولة فهذا التأثير، أو التغيير، الذي أحْدَثْت ألغى (أو نفى، أو أزال) حال السكون التي كانت فيها الكرة، ليَجْعَلها في حال الحركة الميكانيكية.
هذا العمل الذي قمت به ينطوي على "صراع".. صراع بينكَ وبين الكرة التي كانت في حال السكون. وهذا الصراع إنَّما هو صراع بين طرفي تناقض. الطرف الأوَّل هو أنتَ بوصفكَ قوَّة دَفْع، أو تحريك، للكرة الساكنة. والطرف الثاني هو "الكرة التي في حال السكون"، أو "السكون" في الكرة. الصراع هو بين يدكَ وبين جانبٍ من الكرة هو الجانب الذي تحاوِل "نفيه". وهذا الجانب هو "السكون" الذي تنطوي عليه الكرة. إنَّ هذا الجانب (من الكرة) الذي يتعرَّض للنفي هو الذي "يقاوِم" سعيكَ لنفيه.
الكرة تنطوي على تناقض بين "السكون" و"الحركة". وأنتَ لا تستطيع أن تبذل جهدا لنفي وإلغاء "سكون" الكرة من غير أن يعود جهدك هذا بالنفع والفائدة على الطرف الآخر من هذا التناقض الداخلي، وهو "الحركة".
أنتَ، بجهدكَ هذا، وبالنسبة إلى "السكون" في الكرة"، لستَ سوى جزء من نقيضه الداخلي وهو "الحركة". إنَّكَ، بالنسبة إليه، نقيضه الداخلي هذا؛ ولكن في "وجهه الخارجي".. الخارجي بالنسبة إلى الكرة.
أنتَ لَمْ تتسبَّب، مباشَرةً، بـ "تحريك" الكرة، فعملكَ إنَّما أثمر نفياً وإلغاءً لحال السكون التي كانت فيها الكرة. وهذا النفي، أو الإلغاء، لا يمكنه إلا أنْ يُتَرْجَم بتقوية وتعزيز للطرف الآخر من هذا التناقض الداخلي وهو "الحركة".
أنتَ بوصفكَ قوَّة نفي وإلغاء للسكون في الكرة دَخَلْتَ في صراع مع هذا الذي تحاوِل نفيه وإلغائه وهو "سكون" الكرة. كلاكما يسعى في التغلُّب على الآخر. أنتَ تسعى في التغلُّب على مقاومته لكَ، ونفيه، بالتالي، وهو يسعى في إفقادِكَ القدرة على نفيه. وسعيه هذا يمْكنكَ أن تلمسه لو كان جسما ثقيلا هو الذي تحاوِل تحريكه من مكانه. إذا تغلَّب عليكَ لن يقع التغيير، وهو نقله من حال السكون إلى حال الحركة. وإذا تغلَّبتَ عليه وَقَع.
أنتَ، بجهدكَ هذا، وبالنسبة إلى "السكون" في الكرة، لستَ سوى نقيضه وهو "الحركة"؛ لأنْ لا شيء يصارع "السكون"، ويسعى في التغلُّب عليه، سوى "نقيضه الطبيعي الداخلي"، أي "الحركة".
خُذْ قطعة من السُكَّر وضَعْها في كوب ماء، تراها تشرع تذوب في الماء، فمِن خواص هذا السائل أنَّه يملك القدرة على إذابة السكَّر فيه. الماء (السائل) ينبغي له، قبل ومن أجل إظهار وتأكيد قدرته تلك، أن يستوفي بعض الشروط، كأنْ يكون "متَّحِداً" مع "قطعة السُكَّر"، أي أنْ تُوْضَع قطعة السُكَّر في مقدار منه.. وأنْ يكون نقياً، خالياً من الشوائب. وكل "مؤثِّر" في شيء ما ينبغي له أن يستوفي الشروط التي باستيفائه لها، فحسب، يصبح في مقدوره أن يكون مؤثِّرا تأثيراً معيَّناً في شيء ما.
هذا الماء الذي استوفى شروط تأثيره في قطعة السُكَّر، شرع الآن يؤثِّر فيها، أي شرع يُحْدِثُ فيها تغييرا معيَّنا. إنَّه "يُفتِّتها"، يَفْصِل جزيئاتها عن بعضها بعضا، فتَنْتَشِر جزيئات السُكَّر المنفصلة في الفراغ بين جزيئات الماء، فيصبح الماء حلو المذاق. لقد شنَّ هذا الماء حرباً على الوحدة الجزيئية لقطعة السُكَّر، ساعياً في تحطيمها.. في نفيها وإلغائها. على أنَّ هذه الوحدة الجزيئية (أو تلك القوَّة في داخل قطعة السُكَّر والتي تعمل في اتِّجاه تجميع وتكتيل وتوحيد جزيئات السُكَّر) لم تقف مكتوفة اليدين. لقد قاومت وصارعت ما أن تعرَّضت لهجوم الماء، بوصفه قوَّة تفكيك للوحدة الجزيئية لقطعة السُكَّر. ولكن، في أي اتِّجاه قاومت وصارعت؟ في اتِّجاه إفقاد الماء قدرته على الإذابة. هل نجحت، أو تنجح، في ذلك؟ أجل، نجحت، وتنجح، فكلَّما أذاب هذا الماء جزءا من قطعة السُكَّر تضاءلت قدرته على إذابة مزيدٍ منها. وهذا التأثير المضاد للسُكَّر نراه واضحا جليا لو قلَّلْنا كمية الماء، أو زِدْنا كمية السُكَّر فيه. عندئذٍ، نرى جزءا من كمية السُكَّر قد ذاب في الماء، ونرى أجزاءه الأخرى لم تَذُب، وإنَّما رسبت في قعر الكوب، فقدرة هذا الماء على الإذابة تلاشت. طرفا التناقض في هذه العلاقة هما: الماء بوصفه قوَّة إذابة لقطعة السُكَّر، وقوَّة التماسك والاتِّحاد بين جزيئات السُكَّر في داخل قطعة السُكَّر. كلاهما، وفي الوقت عينه، يصارع الآخر، ويسعى في التغلُّب عليه، فهما "ضدان"، استوفيا شروط الوحدة بينهما، فاشتعل فتيل الصراع بينهما.
هذا الصراع هو مَصْدَر التطوُّر.. هو الذي يؤدِّي إلى إذابة السُكَّر، أي إلى جَعْل الماء حلو المذاق. ولكن، في داخل قطعة السُكَّر تعمل قوَّة أخرى هي القوَّة التي تدفع جزيئات السُكَّر إلى التفرُّق والتشتُّت والانفصال عن بعضها بعضا. وهذه القوَّة تَسْتَمِدُّ قوَّة من ضعف قوَّة الوحدة الجزيئية في داخل قطعة السُكَّر، فالنقص هنا، زيادة هناك، والخسارة هنا، ربح هناك، والضعف هنا، قوَّة هناك. الماء يُضْعِف قوَّة الوحدة الجزيئية في داخل قطعة السُكَّر، فتَرْجَح كفَّة قوَّة الانفصال الجزيئي (في داخل قطعة السُكَّر) فيقع التغيير، وهو ذوبان السُكَّر في الماء.
العلاقة بين الماء، بوصفه قوَّة إذابة، وبين السُكَّر، بوصفه منطويا على قوَّة مضادة، إنَّما هي علاقة تفاعل، فكلاهما يؤثِّر في الآخر. إنَّ كل فِعْلٍ يَسْتَثير فعلاً مضادا. "الفعل" و"الفعل المضاد (ردِّ الفعل)"، متناسبان في "القوَّة"، متعاكسان (متضادان) في الاتِّجاه.
الإنسان الحي، يُدْخِل الهواء (الأوكسجين) عَبْر أنفه وفمه إلى رئتيه (عملية الشهيق) ثمَّ يُخْرِج الهواء (ثاني أوكسيد الكربون) عَبْر فمه وأنفه من رئتيه (عملية الزفير). إدخال الهواء، كما إخراجه، ليس بعملية بلا مقاوَمة.. بلا صراع مع قوى مضادة. والإدخال، كما الإخراج، إنَّما هو ثمرة صراع ضد تلك القوى، وثمرة تغلُّب عليها. وكلتا العمليتين (الشهيق والزفير) لا يمكنها أن تبدأ، وتستمر، وتكتمل، من غير أن تهيئ الأسباب لبدء العملية الأخرى المضادة، فـ "الزفير" ولَّدته أسباب صنعها "الشهيق"، الذي تولِّده أسباب يصنعها "الزفير"، فالشيء في وجوده، في نشوئه، واستمراره، ونموِّه، إنَّما يهيئ أسباب وعوامل وقوى تحوُّله إلى نقيضه.
"البناء"، في تعاليه، ما الذي يفعله؟ إنَّه يقوِّي نقيضه. يقوِّي أسباب وعوامل وقوى "سقوطه"، فأنتَ يكفي أن تزيد، وأن تستمر في زيادة، عدد طوابق البناء (وهذا هو نمو البناء حجما وارتفاعا) حتى تقوي نقيض "العلو" وهو "السقوط"، فالبناء الأكثر علوا هو الذي ينطوي على قوَّة سقوط وانهيار أكبر.
قانون "وحدة وصراع الأضداد" هو جوهر الدياليكتيك. ولأهمية هذا القانون لا بدَّ أوَّلا من فَهْمٍ مُحْكَم لكلماته الثلاث: "الأضداد"، "وحدتها"، "صراعها". "الضدان" هما "المختلفان"، على أن تَجْمعهما علاقة قوامها "الوحدة" و"الصراع". إنَّهما أوَّلا جزء لا يتجزأ من وجود "شيء"، فليس من وجود في الوجود إلا لـ "الأشياء". إنَّ انطواء "شيء" على "ضدَّين" هو المعنى الأوَّل لـ "وحدتهما"، فهما "متَّحدان"؛ لأنَّهما موجودان في داخل "شيء". و"الضدان"، في داخل "شيء"، يستحيل أن يُوْجَد كلاهما من دون الآخر، فوجود كلاهما يمكن ويجب أن يكون أقوى دليل على وجود الآخر (في داخل الشيء ذاته). هذا هو المعنى الثاني لـ "وحدتهما".
أمَّا المعنى الثالث فهو "تحوُّل كلاهما إلى الآخر" إذا ما استوفى شروط التحوُّل. وهذا المعنى الثالث لا يتعارض مع المعنى الثاني، فالتطوُّر يُرينا أنَّ استحالة أن يُوْجَد كلا الضدَّين من دون الآخر لا تنتفي إذا ما رَأيْنا تحوُّل كلاهما إلى الآخر.
ولكن، ما هي العاقبة الحتمية لـ "وحدة" الضدَّين؟ إنَّها "الصراع".. الصراع الدائم والمطلق، والذي، في شدَّته وعنفه وقوَّته، بين مدٍّ وجَزْر. "الضدَّان" يكفي أن "يتَّحِدا"، وهما لا يمكنهما إلا أن يكونا متَّحِدين، حتى "يتصارعا" دائما. وصراعهما، مهما "توازنا" في قوَّتِهما، لا بدَّ له من أن يفضي (في آخر المطاف) إلى ترجيح كفَّة أحدهما على كفَّة الآخر.
"الضدان"، لجهة استحالة أن يُوْجَد أحدهما في غياب الآخر، إنَّما يشبهان قطبي المغناطيس، فأنتَ مهما جزَّأتَ المغناطيس لن تحصل أبدا على جزء منه يشتمل على القطب الشمالي فحسب، أو على القطب الجنوبي فحسب، فالقطبان يظلان معا ولو في أصغر جزء من المغناطيس.
أُنْظُروا إلى جزيئات الماء في "تجمُّعها (تقاربها)" و"تشتتها (تباعدها)". إنَّها "تتجمَّع"؛ لأنَّها "متشتتة"، وإنَّها "تتشتت"؛ لأنَّها "متجمِّعة". إذا "تجمَّعت" أكثر فهذا إنَّما يعنى أنَّ "تشتتها" قلَّ؛ وإذا "تشتت" أكثر فهذا إنَّما يعني أنَّ "تجمعها" قلَّ. إذا كانت "متجمعة"، وأمعنتَ النظر في "تجمعها"، تَجِد أنَّها متفاوتة في قوَّة تجمعها، فبعض جزيئات الماء (في هذا الإناء) أقوى، في تجمعها، أو أضعف، من سائر الجزيئات. كلما تجمَّعت أكثر قلَّ تشتتها، وكلما تشتت أكثر قلَّ تجمعها.
لقد قُلْتُ إنَّ تجمعاً أكثر يعني أنَّ التشتت قد قلَّ، فهل من معنى آخر لهذا التطوُّر، أي لهذا التزايد في تجمع جزيئات الماء؟ أجل. وهذا المعنى إنَّما هو "تحوُّل كلا الضدين (التشتت والتجمع) إلى الآخر"، فكل زيادة في تجمُّع جزيئات الماء إنَّما تعني أنَّ جزيئات هذا الماء كانت في "حال تشتت"، فتحوَّلت هذه الحال إلى نقيضها، وهي "حال التجمع". جزيئات الماء، ومهما تجمعت، لن تصل أبدا إلى "حال التجمع المُطْلَق"، أي الحال التي لا يبقى فيها من وجود لـ "التشتت".
في هذا المشهد، مشهد جزيئات الماء وهي تتجمع، أو تتشتت، تكمن "قوى" و"ميول" متضادة، ففي هذا الماء يجتمع دائما ميلان متضادان: ميل جزيئاته إلى التجمع، وإلى مزيد من التجمع، وميلها إلى التشتت، وإلى مزيد من التشتت. تجتمع فيه دائما قوَّتان متضادتان: قوَّة تدفع جزيئاته إلى التجمع، وإلى مزيد من التجمع، وقوة تدفعها إلى التشتت، وإلى مزيد من التشتت.
هذا الماء الموجود في هذا الإناء إنَّما يتفاعل في استمرار مع بيئته بكل ما تشتمل عليه.. يؤثِّر فيها ويتأثَّر. إنَّه ينطوي على قوَّة تدفع جزيئاته إلى التجمع، وإلى مزيد من التجمع. هذه القوَّة، التي هي إحدى القوَّتين المتضادتين المتلازمتين اللتين ينطوي عليها، ليست بـ "القوَّة السلبية"، لجهة علاقتها بهذا الشيء الذي ينطوي عليها، وهو الماء، ولجهة علاقتها بالبيئة، فهي تجتذب إليها دائما كل ما يمكنه أن يغذِّيها وينمِّيها، ويمكِّنها، بالتالي، من أن تدفع جزيئات الماء إلى التجمع، وإلى مزيد من التجمع، وكأنها مغناطيس يجتذب إليه برادة من الحديد.
كلما نمت هذه القوَّة، ورجحت كفَّتها على كفَّة القوَّة المضادة لها، وهي القوَّة التي تدفع جزيئات الماء إلى التشتت، وإلى مزيد من التشتت، تجمعت جزيئات الماء أكثر. ولكنَّ نموِّها المقتَرِن بزيادة تجمع جزيئات الماء لا يمكنه إلا أن يؤدي، في الوقت نفسه، إلى الإعداد والتهيئة لـ "الحال المضادة"، والتي فيها تشرع تنمو القوة التي تدفع جزيئات الماء إلى التشتت، وإلى مزيد من التشتت، وتزداد جزيئات الماء تشتتا.
"البيئة"، في هذا المثال، لا يمكنها إلا أن تكون متناقضة لجهة تأثيرها بهذا الماء، فهي، وعلى وجه العموم، تمدُّ إحدى القوَّتين المتضادتين (في داخل الماء) بالمقدار الأعظم من "الغذاء"، أي أنها إمَّا أن "تُسرِّع" وإمَّا أن "تُبطِّئ" تجمع جزيئات الماء، أو تشتتها. على أنَّ "البيئة" لا تستطيع أبدا أن تؤثِّر في تطوُّر الشيء (إيجابا أو سلبا) إلا بما يتَّفِق مع طبيعته، وقواه الذاتية المتناقضة.
"البيئة" يمكنها فحسب أن "تُسرِّع"، أو "تُبطِّئ"، تطوره في هذا الاتجاه أو ذاك. إنَّها تعطيه ما يلبَّي حاجته إلى التطوُّر من "الوجهة الكمية" فحسب. أمَّا تطوره من "الوجهة النوعية (أو الكيفية)" فهو أمرٌ يُقرِّره هو فحسب.
الماء قد يتحوَّل إلى جليد، فهل "البيئة" هي التي جعلته جليدا؟ كلا، ليست هي. إنَّها أعطته (أو هو أخذ منها) فحسب ما يلبِّي حاجته إلى التطوُّر من "الوجهة الكمية"، أي ما يُفْقِده بعضاً من طاقته الحرارية، أي ما يجعله يزداد برودة. الماء تحوَّل إلى جليد، بعد استيفائه هذا "الشرط الكمي"؛ لأنَّ طبيعته تسمح له بالتحوُّل إلى جليد. وكلما ازدادت "البيئة" برودةً أسرع الماء في تحوُّله إلى جليد، وكلما تناقصت برودةً أبطأ الماء في تحوُّله إلى جليد. إنَّ الشيء لا يتطوَّر من "الوجهة النوعية (أو الكيفية)" إلا في المعنى الآتي: "إظهار" ما كان "كامنا" فيه من هذا التطوُّر.
كيف نُحدِّد ونُعيِّن "القوى المتناقضة" التي ينطوي عليها الشيء؟ إذا رأيْنا جزيئات "هذا" الماء تزداد تشتتا، مثلا، فيمكننا وينبغي لنا أن نسعى في إجابة السؤال الآتي: ما الذي، في داخل الماء، يؤدِّي، أو يمكنه أن يؤدِّي، إلى جعل جزيئاته تتشتت (تتباعد) وتزداد تشتتا؟ هذا سؤال فيزيائي، يستلزم إجابة فيزيائية. إنَّ كل العوامل والأسباب الداخلية، أي التي في داخل الماء، التي تؤدِّي، أو يمكنها أن تؤدِّي، إلى جعل جزيئات الماء تتشتت، وتزداد تشتتا، هي ما يؤلِّف "القوَّة" التي تدفع جزيئات الماء إلى التشتت، وإلى مزيد من التشتت.
على أنَّ تشتت جزيئات الماء هو ظاهرة يُثْمِرها "التفاعل (أو تبادل التأثير)" بين الماء وبيئته بكل ما تشتمل عليه. جزئيا ليس إلا، يمكنكَ أن تفهم تشتت جزيئات الماء على أنه ثمرة عوامل خارجية وبيئية. إنَّ كل هذه العوامل الخارجية والبيئية ليست سوى "المَصْدَر الخارجي للتغذية الكمية"، الذي يمكنه أن "يُسرِّع"، أو "يُبطِّئ"، تشتت جزيئات الماء. إنَّها ما يمد تلك القوَّة الداخلية بما تحتاج إليه من "غذاء".
إذا كان طرفا التناقض هما A و B فإنَّ عليكَ إذا ما أردتَ تحويل A إلى B أنْ تصارِع A بكل القوى والعوامل المضادة لها، فإذا تغلَّبْتَ عليها تنشأ B تلقائياً.
الصراع، أو التطاحُن، بين طرفي تناقض ما يَصْعَدُ بهما، دائما، في سُلَّم "الوحدة الدياليكتيكية"، فيصبح كلاهما، في الدرجات العليا من تلك السُلَّم، "ضاربا (مائلا) إلى الآخر"، كما "الحرارة" و"البرودة" في الماء الفاتر. في هذا الماء، نرى "البرودة" فيه ضاربةً إلى الحرارة، ونرى "الحرارة" ضاربةً إلى البرودة.
كل تطوُّر (واقعي موضوعي) لا بدَّ له من أن ينطوي على ثلاثة عناصر هي: "الاستبقاء"، و"النفي"، "والإضافة". كل شيء إنَّما هو "القضية" في البحث الدياليكتيكي. وهذه "القضية" لا بد لها من أن تُنفى؛ وهذا "النفي" لا بد له هو أيضا من أن يُنفى، وأن يَظْهَر، بالتالي، على أنه "نفي النفي"، أو "المركَّب". وهذا "المركَّب" هو ما يجعل للتطور شكلا "حلزونيا".. هو ما يُظْهِر لنا التطور على أنه "المستقبل وقد لبس شيئا من لبوس الماضي". سأشرح ذلك من خلال بعض الأمثلة، فأنا أؤمِن بأنَّ العجز عن الإتيان بأمثلة يعكس عجزا عن هضم العقل للفكرة.
الإنسان يجتاز في تطوُّره ثلاث مراحل: "الطفولة"، و"الشباب"، و"الشيخوخة". "الطفولة" هي "القضية"، أو "الموضوع"، في المنهج الدياليكتيكي. و"الشباب" هي "النقيض"، أو "النفي". و"الشيخوخة" هي "نفي النفي"، أو "المُرَكَّب".
لمرحلة "الطفولة" خواصها الجوهرية، أي التي تميِّزها من غيرها.. من مرحلتي "الشباب"، و"الشيخوخة". هذه المرحلة، أي "الطفولة"، لا بدَّ لها من أن تُنفى في سياق التطوُّر الطبيعي للإنسان. ونفيها إنَّما هو "الشباب". مرحلة "الشباب" هي نفيٌ لمرحلة "الطفولة"؛ لأنَّ بعضاً من الخواص الجوهرية لمرحلة "الطفولة" لا يبقى، ولا يَظْهَر، في مرحلة "الشباب". ولكنَّ مرحلة "الشباب" ليست "نفياً" فحسب؛ ذلك لأنَّ بعضاً من خواص مرحلة "الطفولة" يبقى، حتماً، في مرحلة "الشباب"، فليس من شاب لم يبقَ فيه من أثر للطفل؛ ولأنَّ مرحلة "الشباب" تشتمل على "خواص جديدة" لم نرها من قبل في مرحلة "الطفولة". مرحلة "الشباب"، ولجهة علاقتها بمرحلة "الطفولة"، إنَّما هي "الامتداد" و"التخطي" في آن. هي "امتداد"؛ لأنها تشتمل على بعضٍ من مرحلة "الطفولة". وهي "تتخطاها"، أو "تتجاوزها"؛ لأنَّها تنفي بعضاً من مرحلة "الطفولة"، وتشتمل، في الوقت نفسه، على خواص وسمات جديدة لم يكن لها من وجود في مرحلة "الطفولة".
كل تطوُّرٍ هو "نفيٌ"، وهو "مُركَّب" في هذا المعنى لـ "المُركَّب". هو "مُركَّب"؛ لأنَّه موضع يجتمع فيه، ويندمج، بعد "النفي"، وبفضله، "الجديد" و"القديم"، فمرحلة "الشباب" لا تنفي بعضاً من مرحلة "الطفولة" إلا لتَجْمَع فيها، وتَدْمِج، شيئان: خواص لمرحلة "الطفولة" لم يشملها "النفي"، وخواص جديدة هي من إنتاج مرحلة "الشباب" فحسب.
كل شيء، في نشوئه، لا ينفي "الماضي" إلا ليبقي على بعض منه، وليَجْعَل هذا الماضي المستبقى جزءا لا يتجزأ من كيانه وهويته وماهيته. وهو لا يبقي على هذا الجزء من الماضي إلا ليُضيف إليه خواصا وعناصر جديدة. وعليه، كل شيء يُمْكِنَكَ أن تَنْظُر إليه على أنَّه "قضية"، و"نفي"، و"نفيٌ للنفي (أو "مُرَكَّب")"، في آن.
هذا هو "المركَّب" في معناه الأول، والذي كثيرا ما يُضْرَب عنه صفحا. أمَّا في معناه الذي اشْتُهِر به، فنراه (في مثالنا) في مرحلة "الشيخوخة"، فهذه المرحلة هي مرحلة "نفي النفي"؛ لأنَّها نفت النفي الأوَّل وهو مرحلة "الشباب". في "الشيخوخة" نرى ما يشبه "العودة إلى الماضي"، أي إلى مرحلة "الطفولة". إنَّها ليست بعودة فعلية تامة إلى الماضي؛ لأنَّ التطوُّر يسير في مسار صاعدٍ. جزئياً وشكلياً ليس إلا يمكن أن نرى فيها عودة إلى الماضي، فـ "الشيخوخة" بنفيها مرحلة "الشباب" إنَّما تُعيد الإنسان، جزئياً، وفي الشكل، إلى مرحلة "الطفولة". في "الشيخوخة"، نرى شيئاً من سيكولوجيا الطفل، ومن طباعه وسلوكه. وهذا التشابه هو ما يجعل للتطور شكلا حلزونيا. إنَّ "الحلزونية" هي شكل التطوُّر الذي فيه نرى "الصعود المنطوي على ما يشبه الهبوط".
في "الشيخوخة"، نرى اجتماعا لـ "النقيضين": "الطفل" و"الشاب". لقد نفت "الشيخوخة" مرحلة "الشباب"، مستبقية على بعض من تلك المرحلة، ومستعيدة، في الوقت نفسه، بعضاً من مرحلة "الطفولة". كان لدينا طفلا "متطرفاً" في طفولته، وشاباً "متطرفاً" في شبابه. أمَّا في "الشيخوخة" فقد "اعتدل" هذا التطرف وذاك، فاجتمعا. لقد اجتمع، في الشيخوخة" الطفل الأقل طفولة"، و"الشاب الأقل شبابا". اجتمع "النقيضان" إذ اعتدلا بعد تطرف.
في روما القديمة، سادت العبودية؛ وكان العبد يوصف بأنه "آلة ناطقة". هذه الحال الاجتماعية ـ التاريخية، نُفيت، إذ انتهت العبودية مع "آلاتها الناطقة"، فهل تأتي مرحلة "نفي النفي"، أو "المُرَكَّب" بما يشبه العودة إلى العبودية، وإلى عصر "الآلات الناطقة"؟ إننا نرى الآن شيئا من ذلك، فـ "البشر الآليون" هم عبيد المستقبل، وهم "الآلات الناطقة"، والذين بفضلهم يتحرَّر البشر من العمل اليدوي.
"النقيضان"، في تطورهما التاريخي، إنَّما يرتقيان ويتعاليان في وحدتهما؛ ولكن صراعهما لا ينتهي. وإنني أفهم "المُرَكَّب" على أنه مرحلة حتمية من التطوُّر، لا بدَّ لها من أن تشتمل على ما يشبه "العودة إلى الماضي"، فما نُفي من قبل يُبْعَثُ حيَّاً؛ ولكن من غير أن يكون نسخة منه، ففي "المُرَكَّب" نرى بعضاً من "القضية" وبعضاً من "النقيض".
أُنْظُر إلى المياه السطحية، كمياه البحار والأنهر. إنَّها (أي بعضها) تُنفى بـ "التبخُّر"، أي تتحوَّل، بالحرارة الشمسية، إلى "بخار الماء"، الذي هو غازٌ غير مرئي. وهذا الغاز يُنفى (مرحلة "نفي النفي"، أو "المركَّب"). ونفيه إنَّما هو "الماء في الهواء"، كمثل الماء الذي تشتمل عليه السُحُب والغيوم. لقد نٌفي الماء في البحر والنهر ليَظْهر في السماء (في الغلاف الجوي). ولكنَّ هذا الماء الجديد يختلف عن القديم، فهو مُقطَّر، نقيٌّ، ويتألَّف من "نُقَطٍ (مائية) متناهية في الصِغَر"، وهو أصبح جزءا من الغلاف الجوي، ويتجمَّع في "بحيرات جوية (متحرِّكة)" هي الغيوم. ولولا مرحلة "النفي"، أي "التبخُّر"، لما غدا في حاله الجديدة تلك، ففي هذا "المُرَكَّب" نرى اجتماعا للمرحلتين السابقتين.
قال أرسطو: "خير الأمور الوسط، فلا إفراط ولا تفريط". هذا القول يُتَرْجمه التطوُّر الدياليكتيكي بظاهرة "المُركَّب"، التي كثيرا ما أسيء فهمها الدياليكتيكي، فثمَّة من يرى "المُركَّب" على أنَّه بلوغ الضدين، أو النقيضين، في صراعهما، مرحلة عليا من الوحدة، يُظْهران فيها، وبفضلها، من "التصالح"، و"التوافق"، و"التعايش السلمي"، ما يحمل على الاعتقاد بأنَّ "صراعهما" قد انتهى وتلاشى إلى الأبد.
هذان الضدان، وفي ماضيهما، عرفا الصراع المرير، الذي كان يتمخَّض عن "ظواهر متطرفة"، فإمَّا أسود وإمَّا أبيض. وكلما استنفد الضدان مرحلة من الصراع جنحا إلى "مزيد من الاعتدال"، أي إلى "التقليل من تطرفهما (في التضاد والعداء)"، وكأنَّ النتيجة النهائية والحتمية لصراعهما هي الوحدة التي لا يخالطها صراع.
ولكن، دَعُونا أوَّلا شرح وتوضيح قانون "نفي النفي" عبر مثاله الشهير.. مثال "حبَّة الشعير". ما هو "التطوُّر الطبيعي" لحبَّة الشعير، وكيف يَحْدُث ويتحقَّق؟ تطوُّرها الطبيعي إنَّما يبدأ بـ "زَرْعِها". إنَّ "المبتدأ" في التطوُّر الطبيعي لحبَّة الشعير هو "حبَّة الشعير إذ زُرِعت، وتهيَّأت لها الأسباب والعوامل والشروط الطبيعية للنمو". هذه الحبَّة (المزروعة) تشرع تتفاعل مع العوامل الخارجية (البيئية). هذا التفاعل يستغرق مقدارا من الزمن، وينتهي إلى "نفي" تلك الحبَّة، أي إلى زوالها. وهذا النفي أو الزوال إنَّما هو "النَّتَش"، أي أوَّل ما يَظْهَر من النبات. لقد نُفِيَت حبَّة الشعير تلك (نفيا طبيعيا) إذ تحوَّلت إلى "نبتة". هذه النبتة تستمر في التفاعل مع العوامل الخارجية (البيئية). تستمر في النمو، وتتبدَّل أحوالها. ولكنَّ هذا الطور (النبتة) يُنفى هو أيضا بعد استنفاده مقدارا من الزمن. وهذا "النفي (الطبيعي) الثاني" يسمَّى "نفي النفي". لقد نُفِيَت النبتة (نفيا طبيعيا) إذ تحوَّلت إلى حَبٍّ، أو حبوب، الشعير.
"المبتدأ" كان حبَّة واحدة من الشعير؛ أمَّا "المنتهى" فكان مقدار من حَبِّ الشعير. هذا الحَبُّ ما أن يَنْضُج حتى تموت "الساق"، أي النبتة. في المقارنة بين "المبتدأ" و"المنتهى" نرى "التماثُل" أوَّلا، فالتطوُّر، في هذا المثال، بدأ بحبَّة الشعير، لينتهي بحَبِّ الشعير. ثمَّ نرى "الاختلاف"، الذي بعضه "كمِّي"، وبعضه "كيفي"، أو "نوعي". كان لدينا حبَّة واحدة فأصبح لدينا حَبَّا أو حبوبا. والحبَّة "الجديدة" من الشعير تختلف، أيضا، ولو اختلافا ضئيلا، في جانبها "الكيفي"، أو "النوعي".
وكلما كرَّرْنا العملية ذاتها نما هذا الاختلاف (الكيفي أو النوعي). إنَّ مزيدا من "التقدُّم" و"الارتقاء" في "نوع" حبَّة الشعير يتحقَّق مع هذا التكرار. أمَّا التعليل، أو التفسير، فنراه في "النفي".
إنَّ "النفي (الطبيعي)" عملٌ يتألَّف، دائما، وحتما، من ثلاثة عناصر: "الإلغاء"، "الاحتفاظ (التوريث)"، "الإضافة". بـ "النفي"، وفيه، يُلْغى "القديم"، أي الذي ما عاد لوجوده وبقائه من "مبرِّر طبيعي"، أي الذي ما عاد ممكنا أن يحظى بـ "الشرعية الطبيعية" لبقائه.
وبـ "النفي"، وفيه، يُحْتَفَظ بكل ما هو "إيجابي"، و"ضروري"، و"مفيد"، بحسب معيار "التطوُّر الطبيعي" للشيء. وبـ "النفي"، وفيه، تُضاف عناصر وسمات جديدة. في "نفي النفي"، نرى "عودة إلى الماضي".. إلى "نقطة الانطلاق أو البدء". نرى "التكرار". ولكن هذا "الماضي" الذي عاد، أو أُعيد، أو اسْتُعيد، ليس نسخة من أصله، فقد تغيَّر في "الجوهر" و"المحتوى"، وما عاد ممكنا النظر إليه إلا على أنه نسخة من الأصل، تشبهه في "الشكل"، وفي نواحٍ ليست بالجوهرية.
إنَّ بعضاً من " طور النفي" حَضَر حضورا قويا في "طور نفي النفي"، فجاءت "العودة إلى الماضي" أقرب إلى "الشكل" منها إلى "المحتوى"، وكأنَّ هذا "الطور الثالث"، أي "نفي النفي"، هو الطور الذي "يتركَّب"، و"يتألَّف، من "الطورين السابقين"، أي من "النقيضين". وهو لا يمكنه أن "يتركَّب" منهما إلا إذا "تَعَدَّلا" و"اعْتَدلا". وبما يتَّفِق مع هذا الفهم الجوهري لـ "نفي النفي" نَفْهَم "المُرَكَّب"، و"الوحدة الهيجلية العليا (بين النقيضين)".
في التطوُّر الاجتماعي ـ التاريخي للبشر، رَأيْنا، في الماضي، ظاهرة "العامل المتَّحِد (عبر علاقة التملُّك) بأداة عمله"، فالعامل كان يملك أداة العمل التي يَسْتَخْدِم. كان يملك ما يَسْتَخْدِم، ويَسْتَخْدِم ما يملك، فـ "حقه في التملك"، و"حقه في الاستعمال"، كانا متَّحِدين مندمجين غير منفصلين. هذه "الملكية الفردية" نُفِيَت إذ جُعِل العامل مُسْتَخْدِما لأداة عملٍ لا يملكها هو وإنَّما غيره. هذه الحال تطوَّرت، فأصبح عشرات، ومئات، وآلاف، العمال يعملون مُسْتَخْدمين أدوات عمل يملكها شخص. وهذا "النفي" لا بدَّ له، بحسب ماركس، من أن يُنْفى، فتعود أدوات العمل، في ملكيتها، إلى العمال؛ ولكن على نحو مختلف. في "نفي النفي" الاجتماعي ـ التاريخي هذا، يتملَّك العمال تَمَلُّكا جماعيا (اجتماعيا) أدوات عملهم. والمجتمع الذي يأتي به "نفي النفي" هذا إنَّما هو المجتمع الذي تحوَّل فيه، وبه، "النقيضان" من "التطرُّف" إلى "الاعتدال"، فالنمطان المتضادان من المِلْكِيَّة (المِلْكِيَّة الفردية والمِلْكِيَّة الجماعية أو الاجتماعية) يتَّحِدان اتِّحادا هو الأعلى، فبعض من الأشياء يملكها الناس مِلْكِيَّة شخصية فردية، وبعضها يملكونه ملكية جماعية أو اجتماعية. هذا المجتمع ليس "متطرِّفاً" في "المِلْكِيَّة الفردية"، أو في المِلْكِيَّة الجماعية أو الاجتماعية. في هذا المجتمع "يُقَوَّم" التناقض بين "التملُّك الفردي" و"التملُّك الاجتماعي". و"تقويم" التناقض إنَّما هو "التغلُّب عليه" و"الإبقاء عليه" في الوقت نفسه. و"الوحدة العليا" لـ "التناقض" إنَّما هي الوحدة العليا للتناقض "المُقَوَّم"، أي الذي "قُوِّم".
إنَّ الشيء يَخْلِقُ تلقائيا، أي من تلقاء نفسه، شروط وأسباب زواله، أي تحوُّله إلى نقيضه. وليس من شيء إلا ويبلغ في تطوُّره "الطبيعي" مرحلة أو طور "نفي النفي". وهذا إنَّما يعني أنَّ الشيء يمكنه، وينبغي له، أن يبلغ مرحلة "نفي النفي" إذا ما نُفي نفيا طبيعيا، فالنفي غير الطبيعي لا يمكنه أن يؤدي أبدا إلى التأسيس لمرحلة "نفي النفي".
خُذْ حبَّة الشعير تلك واطْحَنها. هذا العمل (الطحن) الذي قُمْتَ به هو نفي أيضا لحبَّة الشعير؛ لأنَّه أنهى وجودها. ولكنَّ هذا النفي ليس بـ "الطبيعي"، ولا يمكنه، بالتالي، أن يؤسس لمرحلة "نفي النفي"، التي فيها تُسْتعاد الحبَّة. إنَّ "العودة (الدياليكتيكية) إلى الماضي"، أي "معاوَدة ظُهور ما نُفي من قبل (في الطبيعة والمجتمع والتاريخ)"، هي في حدِّ ذاتها خير دليل على أنَّ الشيء قد تطوَّر تطوُّرا طبيعيا، أي نُفي نفيا طبيعيا، فكل ما يُفْسِد ويمنع تطوره في اتِّجاه "نفي النفي" إنَّما هو "النفي غير الطبيعي". "النفي الطبيعي" هو النفي الذي يؤسس لمرحلة "نفي النفي"، ويجعلها ممكنة.
ولـ "نفي النفي" من الخواص والسمات ما يجعل التطوُّر يشبه "سُلَّماً حَلَزونيَّاً يرتقيه الشيء في تطوُّره". التطوُّر ليس بـ "الدائرة"، وليس بـ "المستقيم". ليس سَيْراً في خطٍّ دائري، لا يأتي السير فيه بأي جديد؛ كما أنَّه ليس سَيْراً في خطِّ مستقيم، لا يؤدِّي السير فيه إلى العودة (الدياليكتيكية) إلى الماضي، أو نقطة الانطلاق.
إنَّه "مسار صاعد"؛ ولكن حلزوني (لولبي) الشكل. إنَّه انتقال دائم من "البسيط" إلى "المُرَكَّب"، من "الأسفل" إلى "الأعلى". ولقد أوضح هيجل أنَّ التطوُّر لا يسير في دائرة مغلقة، وكأن لا جديد تحت الشمس.
ولو كان التطوُّر عودة إلى الماضي، أي اسْتِنْساخا له، لفقد التطوُّر معناه وقوامه ومنطقه. ولو كان التطوُّر نفيا مُطْلقا للشيء، أي مُنْتِجا لـ "جديد خالص" لا يُخالِطه أي عنصر من القديم، أو من "المنفي"، لفقد، أيضا، معناه وقوامه ومنطقه؛ لأنَّه، في هذه الحال، لا يبقى فيه من أثرٍ للقديم والماضي، وكأنَّ المستقبل يمكن أن ينبثق من حاضرٍ لا أثر للماضي فيه.
إنَّ "النفي (الدياليكتيكي)" لا تقوم له قائمة إذا لم ينطوِ على "التوريث"، أي على نقل بعضٍ من "المنفي" إلى "النافي". إنَّ "التراكم" في الإيجابي، والمفيد، والضروري، من العناصر والخواص والصفات (التي اشتمل عليها الشيء في ماضيه) هو جزء لا يتجزأ من منطق التطوُّر؛ ولكنَّ هذا "الموروث" من "القديم" لا يَظْهَر في "الجديد" إلا كظهور الغذاء في جسم الكائن الحي، أي أنَّ "الجديد" يتمثَّله كما يتمثَّل جسم الكائن الحي الغذاء.
ومع الانتقال من "النفي" إلى "نفي النفي"، يتأكَّد حضور الماضي في المستقبل، فيَظْهَر التطوُّر على أنه الوحدة الدياليكتيكية بين "الدائرة" و"المستقيم". وهذه الوحدة إنَّما هي الخط أو الشكل الحلزوني (اللولبي). وفي هذا المسار الحلزوني، نرى الانتقال المستمر من "البسيط" إلى "المُرَكَّب"، ومن "الأسفل" إلى "الأعلى". نرى "الحركة"، ونرى معها "التقدُّم". نرى التطوُّر "دورات"، ونرى كل دورة جديدة أكثر تطوُّرا من الدورة القديمة.
إذا كان "الضدان" هما A و B فإنَّ "نفي" A مثلا يعني ظهور B. ونفي B أي "نفي النفي" إنَّما هو العودة إلى A. ولكن A الجديدة ليست، في جوهرها ومحتواها، A القديمة، فإنَّها تنطوي على بعضٍ من B. وفي "الوحدة العليا" بين A و B يُقَوَّم هذا التناقض، أي يتم "التغلُّب عليه" و"الإبقاء عليه" في الوقت نفسه. قبل، ومن أجل، بلوغ التناقض وحدته (الهيجلية) العليا، يتطوَّر الشيء تطوُّرا "متطرفاً" في تناقضه، فهو إمَّا أن يكون "البياض كله (تقريبا)" وإمَّا أن يكون "السواد كله (تقريبا)".
أُنْظُروا، مثلا، إلى هذا الجانب من التطور الاجتماعي ـ التاريخي للمرأة. لقد عَرَفْنا المرأة في "أُنوثتها شبه المُطْلَقة"، وعرفناها في "النقيض المتطرف" لهذه الأُنوثة، وهو "الاسترجال". المرأة التي عَرَفْناها إنَّما هي المرأة المتطرفة في تناقضها هذا.. تناقض "الأُنوثة" و"الذكورة". وفي مجرى الصراع التاريخي بين هذين الميلين المتضادين، لا بدَّ لهذا التناقض من أن "يُقَوَّم"، فنعرف، عندئذٍ، "المرأة غير المتطرفة في أُنوثتها، وغير المتطرفة في تشبهها بالرجل". نعرف "المرأة الوسط"، أي التي تم في شخصيتها "التغلُّب على هذا التناقض" و"الاحتفاظ به" في الوقت عينه.
التطوُّر يظل انتقالا من تطرف إلى تطرف حتى يبلغ التناقض وحدته العليا. ولا شكَّ في أنَّ الصراع بين النقيضين هو ما يؤدِّي، في آخر المطاف، إلى "تقويم" التناقض، وجعله في وحدة أعلى.
كيف يبدأ الضدان، أو النقيضان، حياتهما؟ يبدآنها كشيئين متطرفين في تناقضهما، وتضادهما، وصراعهما. إنَّهما متَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه، فالاستحالة بعينها أن يُوْجَد أحدهما من دون الآخر، فهما يُوْجَدان معا (في داخل الشيء) من البداية حتى النهاية.
صراعهما لا يتوقَّف أبدا، وإنْ بدا متوقِّفا بسبب "توازن مؤقَّت" في القوَّة بينهما، فهذا التوازن إنَّما هو الحال التي فيها يستتر صراعهما. فإذا رأيتَ جسما يتمدَّد في استمرار، ثمَّ توقَّف عن التمدُّد (الذي ما زال ممكنا) وطال (نسبيا) زمن توقُّفه هذا، فهذا إنَّما يعني أنَّ الضدين (التمدُّد والتقلُّص أو قواهما) في حالٍ (مؤقَّتة) من توازن القوى، فلا مزيد من التمدُّد، ولا عودة إلى التقلُّص. وهذا التوازن، شأنه شأن كل شيء وكل ظاهرة، لا يمكنه أن يَظْهَر، وأن ينمو ويستمر، من غير أن يُنْتِج ويُنمِّي، في الوقت عينه، أسباب وشروط زواله، أي تحوُّله إلى "لا توازن".
الضدان يبدآن حياتهما متباعدين تباعدا هو الأقصى، فأحدهما يقف على الدرجة العليا من "السلَّم"، والآخر على الدرجة السفلى منه؛ وبين الدرجتين مسافة شاسعة. كلاهما يصارع الآخر، ساعيا إلى التغلُّب عليه، فإذا ساد جاءت سيادته في منتهى التطرف، وكأن الآخر لا وجود، ولا تأثير، له. هما دائما معا؛ تارةً يسود هذا، وطوراً يسود ذاك.
ومع كل دورة جديدة، يأتي بها صراعهما، أي مع كل مُركَّب جديد، يتضاءل فَرْق المسافة بينهما، ويستمر في التضاؤل حتى يبلغ الضدان (عبر صراعهما) وحدتهما العليا. الصراع بين الضدين في داخل الشيء الجديد الذي تتجسَّد فيه وحدتهما العليا لا يتوَّقف؛ ولكنَّه لا يُنْتِجُ فَرْقا جليا وواضحا وكبيرا كالفروق السابقة (أي في الدورات السابقة).
إذا كانت الوحدة العليا (بين النقيضين) هي بين "التمدُّد" و"التقلُّص"، مثلا، فإنَّ الشيء، الذي تتجسد فيه تلك الوحدة، لا يزيد تمدُّده، أو تقلُّصه، إلا بصعوبة، وبعد استنفاده زمنا أطول من ذي قبل. وإذا بلغ أحدهما في نموِّه الحد الأقصى (النسبي) محرِزا السيادة فإنه في هذه الحال يشبه مرشَّحا للانتخابات فاز على منافسه بنسبة 51 في المئة من الأصوات، وليس بنسبة 99 في المئة منها. هذا الفوز، أو التفوُّق، إنَّما هو "الوسط"، أي الحال التي لا إفراط فيها، ولا تفريط في نقيضها. إنَّ مجتمعا يتضاءل فيه الفَرْق، أو التناقض، أو التضاد، في البرامج بين حزبين كبيرين، يعدل كلاهما (تقريبا) الآخر في حجم جمهوره الانتخابي، لا يمكنه أن يُنْتِج فَرْقا كبيرا في خواصه وسماته إذا ما انتقل الحُكْم فيه من يد هذا الحزب إلى يد ذاك. وهذا المجتمع نرى فيه دائما من السمات والخواص ما يؤكِّد أن الضدين اللذين ينطوي عليهما يعيشان ويتصارعان في وحدة عليا. على أنَّ هذه الوحدة، ومهما دامت، ليست بـ "السرمدية"؛ ذلك لأنَّها، كمثل سائر الأشياء والظواهر، لا يمكنها أن تبقى، وأن تنمو، من غير أن تُنْتِج، وتُنمِّي، في الوقت عينه، أسباب وشروط زوالها.
إنَّ أوجه التضاد بين شيئين، أي بين طرفي تناقض، أي بين ضدين أو نقيضين، يمكن ويجب فهمها فهما دياليكتيكيا، فـ "التضاد"، مع كل دورة جديدة يأتي بها الصراع بين الضدين، يتراجع ويضعف ويقل منسوبه، وكأنَّ صراع الضدين هو "الممحاة" التي بها ينمحي، شيئا فشيئا، تضادهما؛ ولكن هذا الانمحاء لن يكون مُطْلَقاً. هذا المحو المتزايد (والذي لن يكون أبدا محوا مُطْلَقاً) لا يؤدَّي إلى انتهاء الصراع انتهاءً مُطلقا، فانتهاء الصراع (على هذا النحو) إنَّما يعني انتهاء كل وحدة بين النقيضين. إنَّه ينهي فحسب "التطرُّف" في هذا الصراع، وفي النتائج المتمخِّضة عنه.
لو درسنا دراسة تاريخية سعر بضاعة ما فسوف نجد أن سعرها كان تارةً في حدِّه الأقصى ارتفاعا، وطوراً في حدِّه الأقصى هبوطا. كان الفَرْق بين سعرها في الغلاء وسعرها في الرخص في منتهى الاتِّساع. وعَبْر الصراع بين الضدين (الغلاء والرخص) أخذ هذا الفَرْق في التضاؤل. وهذا التضاؤل كان يَعْظُم مع كل دورة جديدة، أي مع كل مُركَّب جديد. وعندما يبلغ الضدان (الغلاء والرخص) وحدتهما العليا لن تعرف تلك البضاعة من الغلاء والرخص إلا ما ينطوي على فَرْق لا يُعْتَدُّ به، فإذا كان سعرها العادي 50 دولاراً فإنَّ الوحدة العليا بين الغلاء والرخص لا تسمح لسعرها (في حال الغلاء في حدِّه الأقصى) بأن يزيد عن 51 دولارا، كما لا تسمح لسعرها (في حال الرخص في حدِّه الأقصى) بأن يقل عن 49 دولارا.
النهاية الطبيعية الحتمية للشيء هي التحوُّل إلى نقيضه (أي الزوال). وهذا التحوُّل إنَّما هو "الوسيلة" التي "يلجأ" إليها الشيء لكي يعود إلى الحياة والوجود، وكأنَّه ما أن استنفد قدرته على البقاء حتى تحوَّل إلى نقيضه؛ لأنَّ هذا التحوُّل الحتمي هو وحده الطريق إلى عودته إلى الحياة والوجود. على أنَّ هذا الشيء العائد بعد غياب (بعد "النفي" وبفضله) يختلف عمَّا كان عليه من قبل، أي قبل أن يُنفى. وهذا الاختلاف الضروري والحتمي إنَّما هو ثمرة العمل الذي قام به نقيضه في طور أو مرحلة "النفي". إنَّ "المنفي" يُسْتعاد؛ ولكن بشيء من الاختلاف، الذي تكمن أسبابه في "طور النفي".
بَخِّر الماء، ثم دَعْهُ يتكاثف. لقد نُفي (ألْغي، زال) الماء إذ تحوَّل إلى نقيضه (في هذا المثال) وهو البخار (بخار الماء). وهذا البخار هو في خاصية من خواصه الجوهرية غاز غير مرئي. وله من الخواص الجوهرية الأخرى ما يجعله نقيضا للماء. بخار الماء يفقد من طاقته الحرارية ما يجعله يتكاثف، متحوِّلا، بالتالي، إلى ماء "جديد". لقد عاد الماء بعد نفي وغياب؛ ولكنه مختَلِفٌ عن سلفه الماء المنفي. وأوجه هذا الاختلاف كثيرة؛ ولكن ما كان لها أن تُنْتَج لولا طور أو مرحلة النفي (البخار).
الماء "الجديد" يماثَل الماء "القديم"، ويختلف عنه في بعض الأوجه، وكأنَّه مُنْتَج تضافَر النقيضان على إنتاجه. كأنَّه ثمرة زواج النقيضين (المتصارعين). كأنَّه ابنهما، فبعض صفاته أخذها عن "أمِّه"، الماء "القديم"، وبعضها عن "أبيه"، بخار الماء. إنَّ هذا الماء "الجديد" هو النقيضين (المتَّحِدين والمتصارعين دائما) في درجة أعلى من الوحدة (بينهما).
إنَّ أقوالا من قبيل "ما أشبه اليوم بالبارحة"، و"التاريخ يعيد نفسه"، و"لا جديد تحت الشمس"، إنَّما تفيد (ولو جزئيا) في التعبير عن تطوُّر، يُسْتعاد في مجراه، ما نُفي من قبل؛ ولكن يكفي أن تُقارِن بين الحالين، أي بين "الشيء المُسْتعاد" و"الشيء ذاته قبل أن يُنفى"، حتى ترى كثيرا من أوجه الاختلاف، التي يمكن ويجب تفسيرها على أنَّها ثمرة طور أو مرحلة "النفي".
قد تُفْرِط في التفاؤل، ثم تُفْرِط في التشاؤم، ثم تتحوَّل إلى "الاعتدال"، في تفاؤلكَ، أو تشاؤمِكَ. قد تظل زمنا طويلا تَفْهَم الأمور بما يجعلكَ مُفْرِطا في التفاؤل (أي مُفَرِّطا في التشاؤم) أو (ثم) مُفْرِطا في التشاؤم (أي مُفَرِّطا في التفاؤل). في الحالين، اجتمع فيكَ واتَّحَدَ (وتصارع) المَيْلان: الميل إلى التفاؤل ونقيضه وهو الميل إلى التشاؤم. ولكنَّ اجتماعهما واتِّحادهما كان متَّسِما بـ "التطرُّف"، فأحدهما كان مهيمنا على الآخر هيمنة شبه مُطْلَقة. وكان صراعهما ينتهي إلى سيادة أحدهما سيادة شبه مُطْلَقة. ولكن، في مجرى التطوُّر، وفي مجرى الصراع، لا بدَّ لـ "التضاد" من أن "يعتدل"، فنرى "اعتدالا" في التفاؤل، أو في التشاؤم.
و"المعتدِل" من كل شيء وأمر ليس سوى "الوحدة العليا بين نقيضين"، فأنتَ عندما "تعتدل" في تفاؤلكَ، تؤكِّد، ضمنا، أنَّ لديكَ من التشاؤم ما يقلُّ قليلا عمَّا لديكَ من التفاؤل. وعندما "تعتدل" في تشاؤمكَ، تؤكِّد، ضمنا، أنَّ لديكَ من التفاؤل ما يقلُّ قليلا عمَّا لديكَ من التشاؤم.
وهذا "الاعتدال" إنَّما هو المُنْتَج الحتمي لصراع ضدين، أو نقيضين، متَّحِدين اتِّحادا لا انفصام فيه. ومع بلوغ ميلكَ إلى التفاؤل، وميلكَ إلى التشاؤم، وحدتهما (الدياليكتيكية) العليا، يغدو الفَرْق بين تفاؤلكَ وتشاؤمكَ فَرْقا ضئيلا لا يُعْتَدُّ به، وكأنكَ تنتقل من حالٍ إلى حال بينهما من أوجه التماثل والشبه ما يجعلهما "حال واحدة"؛ ولكن ليس بالمعنى الميتافيزيقي.
إنَّ "نفي النفي" هو عمل أو طور يتكرَّر في حياة النقيضين، ويَصْعَد بهما، بالتالي، "سُلَّم الوحدة (الهيجلية)" درجة درجة، وصولا إلى "الدرجة العليا"، أي "المُرَكَّب (الدياليكتيكي) الأعلى".
ماذا تتوقًّع عندما ترى هذا الجسم وقد "تطرَّف" في تقلُّصه، أي بلغ "النهاية العظمى (المُطْلَقة)" من التقلُّص؟ يمكنكَ وينبغي لكَ أن تتوقَّع "تَطَرُّف" هذا الجسم في تمدُّده، فهذا التمدُّد من ذاك التقلُّص، أي أنَّ النقيضين (التقلُّص والتمدُّد) يجب أن يتماثلا في "تطرُّف" نموِّهما. إنَّ الجسم لا يمكنه أن "يتطرَّف" في تقلُّصه من غير أن يَشْحَن نقيضه، وهو التمدُّد، بـ "طاقة تمدُّد" تَعْدِلُ "طاقة التقلُّص" التي استنفدها إذ بلغ النهاية العظمى من التقلُّص. أمَّا إذا "اعتدل" في تقلُّصه فلا بد له من أن "يعتدل"، أيضا، في تمدُّده اللاحق. وكلَّما زاد تقلُّصه "اعتدالا" زاد تمدُّده اللاحق "اعتدالا"، فإذا كانت المسافة (الهوة، الفجوة) بينهما تُقاس، من قبل، بالأميال فإنَّها (بعد وبفضل اعتدالهما في التضاد) تُقاس بالسنتيمترات.
صراعهما (حتى في وحدتهما العليا) يستمر؛ لأنَّه مُطْلَق، لا يمكن أن يتوقَّف أبدا. و"التطوُّر" الذي يُنْتِجه هذا الصراع يستمر هو أيضا؛ ولكنَّ "الفَرْق" الذي يُظْهِره هذا التطوُّر يتضاءل، وضوحا وحجما.
لقد خضع الإنسان زمنا طويلا لـ "الطبيعة"، فكان تطوُّره يخضع خضوعا مُطْلَقا لقوى الطبيعة؛ ثمَّ انفصل عنها واستقل، فشرع يخضع في تطوُّره خضوعا مُطْلَقا لـ "المجتمع"، أي لـ "الطبيعة الاصطناعية". هذا وذاك إنَّما هما النقيضان في تطرُّفهما. الإنسان سيعود إلى الطبيعة؛ ولكن في وحدة عليا بين النقيضين، فتطوُّره يمكن ويجب أن يفضي إلى حال "يعتدل" فيها "خضوعه للطبيعة" و"خضوعه للمجتمع"، فلا إفراط ولا تفريط في تأثُّره بقوى "الطبيعة"، وبقوى "الطبيعة الاصطناعية". وإننا نرى بيوت المستقبل تشبه لجهة تأثُّرِها الضروري والمفيد بعوامل الطبيعة مساكن البشر قبل الحضارة؛ ولكنَّها تشتمل على موروث حضاري.
قديما، رأيْنا المرأة المُفْرِطة في أُنوثتها، والرجل المُفْرِط في ذكورته ورجولته. هذا التطرُّف وذاك لا بدَّ لهما من أن يتحوَّلا إلى "اعتدال"، فنرى المرأة في أُنوثة معتدلة، والرجل في ذكورة أو رجولة معتدلة.
وفي تطوُّر العِلْم والمعرفة، طالما رأيْنا التطرُّف في التضاد بين نظريتين تسعى كلتاهما في تفسير الظاهرة ذاتها؛ وطالما رأيْنا هذا التطرُّف يتحوَّل إلى اعتدال، فتنشأ نظرية جديدة هي الوحدة العليا بين النظريتين المتضادتين. ولولا هذا التطرُّف في التضاد والصراع بين النظريتين القديمتين (المتناقضتين) لما ظَهَر هذا "المُرَكَّب الجديد"، أي النظرية الجديدة.
"الأقصى" يُنْتِجُ "الأقصى"، فينمو "اعتدال" النقيضين حتى يبلغا وحدتهما العليا؛ ولكنَّهما لن يبلغاها إلا بالصراع وفي الصراع، الذي يظل قائما بين النقيضين مهما صعدا في سُلَّم الوحدة الهيجلية الدياليكتيكية.
إنَّ طاقة نموِّ الأضداد لا تفنى؛ فالنقص في الطاقة الذي نراه في نموِّ الضدين وهما يرتقيان في وحدتهما إنَّما تحوَّل إلى مزيد من الوحدة الهيجلية بينهما، فبعض (متزايد) من طاقة "التضاد" و"الصراع" يتحوَّل، في المُركَّب الأعلى، إلى مزيد من "الوحدة". إنَّ "التطرُّف" في الوحدة بين الضدين هو العاقبة الحتمية لـ "الاعتدال" في تضادهما وصراعهما (في المُركَّب الأعلى).
في مجرى التطوُّر، الذي هو "مسارٌ حلزوني صاعِد"، يرتقي (يرتفع ويصعد) الضدان في وحدتهما، وصولاً إلى "وحدتهما العليا"، أو "الدرجة العليا من وحدتهما". في "وحدتهما العليا"، أو في "تركيبهما الأعلى"، يَظْهَر الضدان ذاتهما على أنَّهما في حال من المصالحة، أو التصالح، أو التوافق، فكلاهما متعايشٌ مع الآخر، يَعْدِله (تقريبا) في قوته، ويشبهه لجهة قوَّة حضوره، فإذا تفوَّق كلاهما على الآخر فلا يتفوَّق إلا تفوُّقا ضئيلا، لا يُعْتَدُّ به.
صراعهما، مع ذلك، لا ينتهي، وإنْ استتر أكثر مما ظَهَر، وضعفت حدَّته. كلَّما صعدا في سُلَّم وحدتهما، أي كلما قويت وتعزَّزت وزادت وحدتهما، قلَّ (من غير أن يزول) تضادهما وصراعهما.
في "الدرجة السفلى" من وحدتهما، "يتطرَّف" الضدان في تضادهما وصراعهما، فترى أحدهما عملاقا، وترى الآخر قزما. وترى العملاق يغدو قزما، والقزم يغدو عملاقا. أمَّا في "الدرجة العليا من وحدتهما"، والتي لا يبلغانها إلا بالصراع، وفي الصراع، فـ "يعتدل" كلاهما.
إنَّهما يعتدلان في تضادهما وصراعهما، فإذا تفوَّق أحدهما على الآخر، فلا ينتهي هذا التفوُّق إلى ظهور عملاق وقزم. إنَّه ينتهي إلى أن يتعادلا (تقريبا) في الحجم، أو إلى أن يظلا متعادلين (تقريبا) فيه.
"الإفراط" في أحدهما، و"التفريط" في الآخر، لن ينتهيا إلى قيام الوحدة العليا بينهما، أي بين الضدين، إلا عَبْر صراع طويل ومرير. وفي وحدتهما هذه نرى "الاعتدال" و"الوسطية".. نرى علاقة بين ضدين قوامها "لا إفراط ولا تفريط".
إنَّ "إيجابية" التطوُّر الاجتماعي، مثلا، لا نراها في مجتمعٍ، العملاق فيه هو "الفرد"، والقزم فيه هو "الجماعة"، ولا في مجتمعٍ، العملاق فيه هو "الجماعة"، والقزم فيه هو "الفرد". لا نراها في مجتمعٍ، تخضع فيه الجماعة خضوعا شبه مطلق للفرد، أو يخضع فيه الفرد خضوعا شبه مطلق للجماعة. إننا نراها، فحسب، في مجتمعٍ "اعتدلت" نزعتاه الفردية والجماعية، الفرد فيه من أجل الجماعة، والجماعة من أجل الفرد.
النقيضان، أو الضدان، هما، دائما، في وحدة.. في وحدة يعتريها صراع دائم (بين طرفيها، أي بين النقيضين). والتطوُّر، في مساره الصاعد، الحلزوني الشكل، يَنْقُلُ، دائما، تلك الوحدة (التي لا انفصام فيها) من درجة إلى درجة أعلى. في الدرجة السفلى من وحدة الضدين، نرى الوحدة بين "ضدين متطرِّفين في تضادهما"؛ أمَّا في الدرجة العليا من وحدة الضدين فنرى الوحدة بين "ضدين معتدلين في تضادهما". نرى كلاهما في حجم معتدل، فلا هو بـ "العملاق"، ولا هو بـ "القزم". نرى الفجوة، أو المسافة، بينهما قد ضاقت. ونرى الفَرْق بينهما قد تضاءل. الصراع بينهما لا يتوقَّف، ولن يتوقَّف؛ ولكن تغلُّب أحدهما على الآخر (عَبْرَ الصراع) لا يُنْتِجُ فَرْقاً كبيرا، أو يُعْتَدُّ به. كان صراعهما صراع أعداء الدَّاء، فأصبح يشبه الصراع العائلي. كلما انتقلا من درجة إلى درجة أعلى في وحدتهما، نرى منسوب تضادهما يهبط في استمرار، فنرى "النور"، مثلاً كأنَّه "عتمة"، و"العتمة" كأنَّها "نور". "التجاذُب" كأنَّه "تنافُر"، و"التنافُر" كأنَّه "تجاذُب". "الحركة" كأنَّها "سكون"، و"السكون" كأنَّه "حركة". "الوحدة" كأنَّها "انقسام"، و"الانقسام" كأنَّه "وحدة". "الفردي (أو الشخصي)" من المِلْكِيَّة، كأنَّه "عام (أو جماعي، أو اجتماعي)"، و"العام" من المِلْكِيَّة كأنَّه "فردي".
"المُرَكَّب ("التركيب"، أو "التأليف")" Synthesis ليس بـ "نهاية المطاف" بالنسبة إلى "الحركة الدياليكتيكية"، فهذه المرحلة (الثالثة) أي "المُرَكَّب" تغدو "المرحلة الأولى"، أي مرحلة "الأطروحة" Thesis. وتبدأ، بالتالي، عملية دياليكتيكية أُخرى، في مستوى أعلى.
إنَّ "المرحلة الأولى"، أي "الأطروحة"، تُنفى، فتَظْهَر "المرحلة الثانية"، أي مرحلة "النقيضة (النقيض)" Antithesis. وفي "المرحلة الثالثة" Synthesis يُنْفى التضاد Opposition بين "الأطروحة" و"نقيضها". ويمكن وصف هذه المرحلة بأنَّها "نفي النفي" Negation Of Negation. ويمكن فهمها على أنَّها "نتيجة الجمع بين الأطروحة والنقيضة".
على أنَّ كل مرحلة من المراحل الثلاث للعملية الدياليكتيكية يجب فهمها فهما "نسبياً"، أي بحسب وجهة، أو اتِّجاه، النظر، فـ "الأطروحة" يمكن النظر إليها على أنها "نقيضة"؛ كما يمكن النظر إليها على أنَّها "مُرَكَّب". و"النقيضة" يمكن النظر إليها على أنَّها "أطروحة"؛ كما يمكن النظر إليها على أنَّها "مُرَكَّب". و"المُركَّب" يمكن النظر إليه على أنَّه "أطروحة"؛ كما يمكن النظر إليه على أنَّه "نقيضة".
"الجمع" بين "الأطروحة" و"النقيضة" في "المرحلة الثالثة"، أي في "المُرَكَّب"، قد يَحْمِل على الاعتقاد، عن خطأ، بانتفاء "الوحدة" بين النقيضين في مرحلتي "الأطروحة" و"النقيضة". وعليه، لا بدَّ من فهم "الجمع" بين "الأطروحة" و"النقيضة" على أنَّه استمرارٌ للوحدة الحتمية بين النقيضين؛ ولكن ليس في "تطرُّفهما"، وإنَّما في "اعتدالهما"، ففي "المُرَكَّب" لا يُنفى "التضاد" نفيا مُطْلقاً، وإنَّما يتراجع منسوبه.
النقيضان، المتَّحِدان دائما اتِّحادا لا انفصام فيه، يتصارعان دائما، فيّغْلِب أحدهما الآخر، فينشأ، بسبب ذلك، شيء جديد، يَظْهَرُ، في خواصه وسماته، على أنَّه ثمرة "السيادة شبه المُطْلقة" لهذا الطرف الغالِب من طرفي التناقض. في "الأطروحة" يسود أحد النقيضين سيادة شبه مُطْلقة، ثمَّ يسود الآخر سيادة شبه مُطْلَقة في المرحلة الثانية من هذه العملية الدياليكتيكية، أي في مرحلة "النقيضة (النفي)". أمَّا في المرحلة الثالثة، أي مرحلة "المُرَكَّب (نفي النفي)"، فيَخْضُر النقيضان حضورا متساوياً، تقريباً، لجهة قوَّته. وعليه، نرى في المرحلة الثالثة عودة إلى المرحلة الأولى؛ ولكن عودة شُحِنَت بكثير من محتوى المرحلة الثانية.
في الخلاصة نقول إنَّ الشيء ما أن ينشأ ويُوْلَد حتى يشرع "ينمو"، مُنَمِّياً، حتما، وفي الوقت نفسه، أسباب وعوامل زواله وموته. "النشوء" و"الزوال" ليسا بجزء من "التغيُّر" الذي يعترى، حتما، الشيء؛ و"زوال" الشيء إنَّما هو ذاته "تحوُّله إلى نقيضه (الطبيعي)"، أي تحوُّله إلى ما يناقضه في الخواص والصفات والسمات "الجوهرية"، أي تلك التي من خلالها نُميِّز شيئا من شيء.
"نمو" الشيء إنَّما هو نموِّه نموَّاً ملموساً، محسوساً، في جانبٍ (أو خاصِّيَّة، أو بُعْد، أو ناحية) ما، كأنْ ينمو "تمدُّداً". هذا النمو (في تمدُّده مثلا) يجب فهمه على النحو الآتي: كلَّما نما الشيء (نموَّاً ملموساً محسوساً) ضَعُفَ مَيْله إلى "هذا" النمو، وقوي، في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه، مَيْله إلى "النموِّ المضاد والمعاكِس"، فـ "القوَّة" التي تدفعه إلى "هذا" النمو تسير في مسارٍ هابط، أمَّا القوَّة التي تدفع إلى "النموِّ المضاد والمعاكِس" فتسير، في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه، في مسارٍ صاعِد.
تأمَّل نجمٍ "يتمدَّد". هذا النجم ينطوي في الوقت نفسه على مَيْلين متضادين متعاكسين: مَيْلٌ إلى التمدُّد (إلى المضي قُدُماً في التمدُّد) ومَيْل إلى التقلُّص (إلى معاودة التقلُّص). إنَّه ينطوي على قوَّة تدفعه إلى التمدُّد (إلى المضي قُدُماً في التمدُّد) وقوَّة مضادة معاكِسة تدفع إلى التقلُّص (إلى معاودته التقلُّص).
كلَّما تمدَّد النجم (تمدُّدا ملموساً محسوساً) ضَعُفَت قوَّته الأولى (قوَّة التمدُّد) واشتدت قوَّته الثانية (قوَّة التقلُّص). هَبَطَت "الأولى" درجة، وعَلَت "الثانية"، في الوقت نفسه، درجة.
وسَيْر النجم في مسارٍ هابطٍ بالنسبة إلى قوَّته الأولى، وفي مسارٍ صاعدٍ بالنسبة إلى قوَّته الثانية، هو ما يعلِّل ويُفَسِّر الظاهرة الآتية: كلَّما تمدَّد النجم اشتدت صعوبة تمدُّده.
إنَّ النموِّ الملموس والمحسوس للتمدُّد (في النجم) هو "المَصْدَر الداخلي الذاتي (والأساسي)" لتراجُع "قوَّة التمدُّد (أو المَيْل إلى التمدُّد)" ولتقدُّم "قوَّة التقلُّص (أو المَيْل إلى التقلُّص)". و"العامِل الخارجي" بالنسبة إلى هذا التطوُّر إنَّما هو العامِل الذي "يُسَرِّع"، أو "يُبطِّئ"، هذا "التقدُّم"، وذاك "التراجع".
وهذا الذي قُلْنا لا يتعارض، وإنَّما يتوافق، مع الآتي: النجم "المتمدِّد" إنَّما هو ذاته النجم الذي يشتمل على "التقلُّص"، وجوداً وقوَّةً، فكلَّما زاد النجم تمدُّدا نقص، في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه، تقلُّصاً، فالتمدُّد، وجوداً، يزداد؛ والتقلُّص، وجوداً، ينقص. والنجم المتمدِّد إنَّما هو ذاته النجم الذي ينطوي على "قوَّتين متضادتين، متصارعتين دائماً، ومتَّحِدتين اتِّحادا لا انفصام فيه"، هما "القوَّة التي تدفعه إلى التمدُّد"، و"القوَّة التي تصارع من أجل جعله يتقلَّص". والنجم، قبل، ومن أجل، أن يتمدَّد أقل تمدُّد ملموس ومحسوس لا بدَّ له من أن يتغلَّب على كل ما يُقاوِم ويمنع تمدُّده من أسباب وعوامل وقوى في داخله، وفي خارجه. وهذا التغلُّبَ، في كل جولة من جولات الصراع، إنَّما يَجْعَل "قوَّة التقلُّص"، التي غُلِبَت وقُهِرَت، أشد قوَّة وبأساً في الجولة التالية.
"التمدُّد" و"التقلُّص"، كمثل كل ضدَّين، متداخلان تداخلاً لا يسمح أبدا لأيٍّ منهما بأن يُوْجَد وجودا "خالصا (مُطْلَقا)". في "التمدُّد المتنامي"، نرى "تقلُّصا متضائلا"؛ وفي "التقلُّص المتنامي"، نرى "تمدُّدا متضائلا".
الشيء، وفي كل جزء، وفي أصغر جزء، من زمنه المُمْتَد من لحظة نشوئه إلى لحظة زواله، هو "ذاته" و"غير ذاته"، هو "العينية" و"الغَيْريَّة". إنَّه دائما في "مَيْلٍ ذاتي" إلى "تخطِّي ذاته".. إلى أن يصبح "مختلِفا عن ذاته".
إنَّكَ ترى "الآن" هذا الكوكب في موضع معيَّن في الفضاء. تراه "ثابتا" في هذا الموضع؛ ولكنه لا يمكنه أن يكون كذلك إلا وهو يُظْهِر "ميْلاً ذاتيا" إلى أن يكون (أن يصبح) في موضع آخر.
إنَّه ميْلٌ دائم إلى "الغيْريَّة"، التي لا يمكنها إلا أن تكون "النقيض"، أي نقيض الشيء. وهذا "الميْل الذاتي" إلى "الغيْريَّة"، أي تخطِّي أو نفي "العينية (الهوية، الذات)"، يُظْهِره الشيء، ويؤكِّده، بـ "حركة ذاتية لا تتوقَّف أبدا"، هي تبدُّله الدائم والمستمر والمتدرِّج في "الكمِّيَّة"، فضِمْن هويته تتغيَّر، صعودا أو هبوطا، جوانبه وأبعاده الكمِّيَّة. ولـ "الكمِّيَّة"، في صعودها أو هبوطها، "حدُّ أقصى"، لا يمكن أن يتخطَّاه الشيء من غير أن يتحوَّل إلى نقيضه.
الكرة في حركتها على سطح الطاولة إنَّما تُظْهِر وتؤكِّد الآتي: وجود نقيضها وهو "السكون"، فلا حركة من غير سكون تتَّحِد معه اتِّحادا لا انفصام فيه، وضرورة التغلَّب عليه في الصراع، وضرورة الاحتفاظ به، من ثمَّ.
إنَّها (أي الكرة) تتحرَّك على سطح الطاولة لسببين: وجود قوَّة مضادة لتحرُّكها، وتغلُّبها (من ثمَّ) عليها، أي على تلك القوة. إذا انتفى هذا السبب أو ذاك لا يمكن أبدا أن تتحرَّك الكرة، فإن هي تحرَّكت، واستمرت في التحرُّك، فلا بدَّ لعملها هذا (التحرُّك والاستمرار فيه) من أن ينتهي إلى عاقبته الطبيعية الحتمية وهي إنتاج وتنمية أسباب وعوامل توقُّفها عن الحركة، أي سكونها. كل "الأسباب" المؤدِّية إلى توقُّف وسكون تلك الكرة إنَّما هي "نتائج" لـ "سبب"، هو حركتها. إذا سألْتَ عن الأسباب التي أدَّت، أو يمكن أن تؤدِّي، إلى شيء ما فسوف تتأكَّد، بعد تعيينها وتحديدها، أنَّ نقيض هذا الشيء هو الذي أنتجها.
لو سألْتَ، مثلا، عن الأسباب التي أدَّت إلى غلاء بضاعة معيَّنة فسوف تكتشف أنَّ رخصها إذ نما هو المُسَبِّب لتلك الأسباب. هذا الغلاء لا يصح فهمه إذا لم يأتِ جوابا عن السؤال "كيف أدَّى ذاك الرخص إلى هذا الغلاء؟". كلا النقيضين يؤدِّي حتما (في نموِّه وتطوُّره) إلى الآخر؛ وليس العِلْم سوى البحث في "كيفية" حدوث ذلك.
التطوُّر في جانبه النوعي أو الكيفي إنَّما هو أن يتحوَّل الشيء إلى نقيضه؛ وهذا التحول لا يتحقَّق إلا من خلال طفرة (وثبة، قفزة). و"الطفرة" إنَّما هي انقطاع في التدرُّج الكمِّي، فالشيء، قبل، ومن أجل، أن يتحوَّل إلى نقيضه عَبْرَ طفرة لا بدَّ له من اجتياز واستنفاد مرحلة من التبدُّل الكمِّي.
على أنَّ كل تبدُّل كمِّي، ومهما كان صغيرا أو ضئيلا، هو، في الوقت عينه، تبدُّل نوعي تحقَّق عَبْرَ طفرة، فالماء، قبل، ومن أجل، تحوُّله إلى جليد لا بدَّ لبرودته من أن تنمو شيئا فشيئا، درجة درجة. ونحن لو أمْعنَّا النظر في هذا التدرُّج لوجدنا أنَّ كل درجة من البرودة هي، أيضا، "طفرة".
"الوحدة بين الضدين (أو النقيضين)" إنَّما هي علاقة تتبدَّل، في جانبها الكمِّي، صعودا أو هبوطا، أي أنَّها تزيد أو تنقص، تقوى أو تضعف. وحدة الضدين، ومهما ضعفت، لا تزول؛ لأن لا وجود لـ "ضدين غير متَّحدين". وصراع الضدين، ومهما قويت وحدتهما، لا يزول؛ لأن لا تطوُّر من غير صراع الأضداد؛ ولأنَّ اتِّحاد شيئين متضادين (أي اتِّحاد ضدين) اتِّحادا لا انفصام فيه هو شرط وسبب ومنبع صراعهما.
لِنَتَأمَّل هذا المكعَّب من الجليد. هذا الجليد إنَّما هو الماء في معناه الكيميائي، أي أنَّه جزيء يتألَّف من ذرَّتي هيدروجين وذرَّة أوكسجين. الماء يمكن أن يكون صلبا (جليد) أو سائلا (كالذي نشربه) أو غازا غير مرئي (بخار الماء). وكل مقدار، أو جزء، من الماء إنَّما يتألَّف من مقدار من جزئياته. وثمَّة فراغ بين الجزئيات مهما تقاربت. كل جزيء ينطوي على مَيْلين متضادين: مَيْلٌ إلى الاتِّحاد (من غير القضاء قضاءً مبرما ومطلقا على الفراغ البيْني) مع الجزيئات المجاورة له، ومَيْلٌ إلى الانفصال عنها. تارةً يشتدُّ لديه هذا المَيْل، وطورا يشتدُّ ذاك. وحركة الجزيء، أي انتقاله من موضع إلى موضع، إمَّا أن تكون في اتِّجاه الاتِّحاد (التقارب) مع غيره من الجزيئات، وإمَّا في اتِّجاه الانفصال (التباعد) عنها. وحرارة الماء ليست سوى حركة جزيئاته، فكلما زادت تلك الحركة، تعاظمت حرارة الماء، وكلما نقصت تضاءلت حرارته. وقياس درجة حرارة الماء إنَّما هو قياسٌ لمتوسِّط، أو معدَّل، حركة جزيئاته. وتسخين الماء إنَّما هو العمل الذي به نُدْخِل في الماء ما يؤدِّي إلى زيادة حركة جزيئاته. والماء في مقدوره دائما فِعْل شيئين متضادين: أن يكتسب (يمتَّص) حرارة مِمَّا حوله من أشياء وأجسام ومواد، وأن يَفْقِد (يُطْلِق) حرارة من مخزونه الحراري. و"الاكتساب الحراري" ليس سوى الفعل الذي به يزيد الماء من حركة جزيئاته. وتزايد هذه الحركة هو ما يُسبِّب لنا الاحساس بسخونة الماء. و"الفَقْد الحراري" ليس سوى الفعل الذي به يُقلِّل الماء من حركة جزيئاته. وهذا التناقص في حركة جزيئاته هو ما يُسبِّب لنا الاحساس ببرودة الماء. والأثر الحراري (من سخونة وبرودة) لحركة جزيئات الماء إنَّما هو ثمرة حركة جزيئات الماء ضِمْن حيِّز الماء، فجزيئات الماء المحصورة في حيِّزه هي التي بتزايد حركتها تُنْتِج الإحساس بالحرارة (السخونة).
بتسخيننا مكعَّب الجليد، نُدْخِل فيه ما يؤدِّي إلى زيادة حركة جزيئاته المحصورة في هذا المكعَّب. هذا التزايد نقيسه بميزان الحرارة، فنراه ارتفاعا متزايدا في درجة حرارة مكعَّب الجليد. الجليد يظلُّ جليدا ما لم يبلغ الارتفاع في درجة حرارته نقطة حرارية معيَّنة، فإذا بلغها، محاوِلاً تجاوزها، يتحوَّل، بغتةً، إلى ماء (سائل). لقد بلغ الجليد في نموِّه (تزايده) الحراري "الحد الأقصى". إنَّه الآن الجليد الذي في منتهى السخونة. أمَّا الماء (السائل) الوليد فهو الآن في منتهى برودته، ويمكنه، بالتالي، أن يَسْخُن أكثر من الجليد، فإذا بلغ (أو تخطَّى) الحد الأقصى من سخونته (حرارته) تحوَّل، بغتةً، أي بطفرةٍ، إلى غاز غير مرئي هو بخار الماء، الذي يُوْلَد في منتهى برودته.
لقد رأيْنا كيف أنَّ الجليد يظلُّ جليدا في اثناء نموِّ حرارته؛ وكيف أنَّ بلوغ هذا النموِّ نقطة معيَّنة يؤدِّي، بغتةً، إلى نفي (إلغاء) الجليد، أي تحوُّله إلى ماء (سائل). وهذا التحوُّل إنَّما هو في معنى من معانيه تحوُّلٌ لـ "الحرارة" إلى نقيضها، وهو "البرودة". وينبغي لنا أن نفهم هذا التحوُّل (تحوُّل الحرارة إلى برودة) فهما نسبيا. الماء الوليد حرارته أعظم من الجليد الأشدُّ سخونة؛ ولكنَّها "برودة" بالنسبة إلى هذا الشيء الجديد الذي هو الماء (السائل). وبخار الماء الوليد حرارته أعظم من الماء (السائل) الأشدُّ سخونة؛ ولكنَّها "برودة" بالنسبة إلى هذا البخار. إنَّكَ لا تُميِّز الشيء من نقيضه إلا تمييزا نسبيا، فـ "الحرارة (السخونة)" إنَّما هي حرارة بالنسبة إلى شيء، و"برودة" بالنسبة إلى غيره، فالأضداد نسبية.
حرارة الجليد، وببلوغها حدُّها الأقصى في الجليد، تحوَّلت إلى نقيضها، وهو البرودة؛ ولكن أين؟ في الماء (السائل) الذي يُوْلَد بالحد الأقصى من برودته، أي بالحد الأدنى من حرارته (سخونته). "الأقصى من الحرارة" في الجليد تحوَّل إلى "الأقصى من البرودة" في الماء، أي "الأدنى من الحرارة" في الماء. وضِمْنَ الماء، يمكن أن تتحوَّل البرودة في حدِّها الأقصى إلى حرارة في حدِّها الأقصى. مِنَ "البرودة القصوى" في الجليد، إلى "الحرارة القصوى" في الجليد، إلى "البرودة القصوى" في الماء، إلى "الحرارة القصوى" في الماء، إلى "البرودة القصوى" في البخار، إلى "الحرارة القصوى" في البخار. في هذا المسار، نرى أحد الضدين، وهو البرودة، ينمو اعتدالا، فالطور الأعلى من "البرودة القصوى"، أي تلك التي بلغها البخار، أكثر اعتدالا في برودته من الطور الأسفل من "البرودة القصوى"، أي التي بلغها الجليد. ويكفي أن تقارن بين "البرودة القصوى" في الجليد و"البرودة القصوى" في البخار حتى يتأكَّد لكَ ذلك. وفي المسار المعاكِس، أي مسار الانتقال من "الحرارة القصوى" في البخار إلى "الحرارة القصوى" في الجليد، ترى هذا الضد، أي الحرارة، تنمو اعتدالا.
وقياساً على ذلك نقول أيضا إنَّ "الأقصى من الحركة (حركة الجزيئات)" في الجليد تحوَّل إلى "الأقصى من السكون (سكون الجزيئات)" في الماء. قد تعترض قائلاً إنَّ جزيئات الماء ليست ساكنة، فكل من ينظر إليها عَبْر مجهر قوي يراها تتحرَّك. إنَّها تتحرَّك بالفعل؛ ولكنَّ حركتها هذه إنَّما هي "السكون الأقصى" بالنسبة إلى الماء الذي انبثق توَّاً من الجليد، فالأضداد لا يمكن فهمها إلا فهما نسبياً. ولولا النسبية في فهم الأضداد لَمَا أمكن النظر إلى الحد الأقصى من فقر الأثرياء على أنَّه الحد الأقصى من غنى الفقراء. ولو كانت "الديمقراطية" و"الدكتاتورية" تُفْهمان فَهْماً مُطْلَقاً لَمَا أمكن القول بتحوُّل الولايات المتحدة، في عهد إدارة الرئيس جورج بوش، من "الديمقراطية" إلى "الدكتاتورية". الدياليكتيك، في معنى من معانيه، إنَّما هو النسبية في فهم الأضداد.
إنَّ خواص الشيء (وليس من خاصية إلا ولها جانب كمِّي نُعَبِّر عنه بالعدد) هي الأضداد في فهمها النسبي. فهذا الشيء في منتهى البرودة (أو السكون أو التماسك..) بالنسبة إلى ذاته فحسب؛ ولكنَّه بالنسبة إلى غيره (إلى سلفه على وجه الخصوص) في منتهى السخونة.
على أنَّ "القياس النسبي" لا ينفي "القياس المطلق"، وإنَّما يتضمنه، فثمَّة مطلق في النسبي، فـ "الحرارة" نراها في مسار صاعِدٍ عند تحوُّل الجليد إلى ماء، وتحوَّل الماء إلى بخار. وبـ "القياس المطلق" يمكنكَ أن تقول إنَّ الماء الوليد أشد سخونة من الجليد، وإنَّ البخار الوليد أشد سخونة من الماء.
إذا سُئِلْتَ "ما هو نقيض التمدُّد؟" فإنَّكَ تجيب، على البديهة، قائلا "إنَّه التقلُّص"، الذي لو سُئِلْتَ "ما هو نقيضه؟"، لأجبتَ، على البديهة، قائلا "التمدُّد". ولكنَّ الأمر ليس بهذه السهولة على مستوى "الأشياء"، فما هو نقيض الماء مثلاً؟ إذا تحوَّل الماء إلى جليد فإنَّك تقول إنَّ الجليد هو نقيض الماء. أمَّا إذا تحوَّل الماء إلى بخار، فسوف تقول إنَّ البخار هو نقيض الماء، فأيُّهما النقيض الطبيعي للماء؟ ليس من إجابة عن هذا السؤال إلا من خلال المقارنة بين الخواص، فالجليد والماء نقيضان في خواص معيَّنة، والبخار والماء نقيضان في خواص أُخرى. إنَّ "الشيء" نقيض لـ "الشيء الذي ينشأ عن زواله" في خواص وسمات وجوانب معيَّنة، فهما نقيضان لكونهما نقيضان في خواص معيَّنة. إذا رأيْتَ شيئا ينشأ من زوال شيء فاعلم أنَّ الشيئين نقيضان في بعضٍ من خواصهما، فـ "القديم" بلغ، مثلا، الحد الأقصى من حرارته، فزال، ونشأ عن زواله "الجديد"، الذي كان في الحد الأقصى من برودته عند لحظة نشوئه.
وخواص الشيء إنَّما تَظْهَر من خلال تفاعله مع غيره، فلو لم يتفاعل الماء (السائل) مع قطعة سُكَّر وَضَعْناها فيه لَمَا ظهرت لنا خاصية "القدرة على إذابة السُكَّر"، فالماء وبخاره نقيضان؛ لأنَّ الماء يملك خاصية إذابة السُكَّر (الموضوع فيه) بينما البخار لا يملكها.
التطوُّر (التغيُّر) ليس سوى تحوُّل الشيء إلى نقيضه.. ليس سوى ثمرة صراع أضداد، فما معنى أنَّ هذا الماء قد سَخَن؟ سخونته إنَّما هي "تطوُّر"، أو "تغيُّر". ومعناها إنَّما هو أنَّ الماء كان باردا فأصبح ساخنا، فالذي يَسْخُن إنَّما هو الشيء البارد. وإنَّكَ تستطيع أن تقول إنَّ الماء سَخَن؛ لأنَّه كان باردا (ولو كانت برودته 90 درجة مئوية). قبل أن يَسْخُن الماء، ومن أجل أن يَسْخُن، لا بدَّ أولا من وجود "البرودة" في الماء؛ ثمَّ لا بدَّ من نفي والغاء وجودها؛ ثمَّ لا بدَّ من الاحتفاظ بوجودها، فسخونة الماء ليست سوى برودته الموجودة، فالمَنْفِيَّة، فالمُحْتَفَظ بها. الماء لا يَسْخُن إلا من خلال الصراع بين قوَّتين متضادتين (متَّحِدتين اتِّحادا لا انفصام فيه) ينطوي عليهما. إحداهما هي قوَّة البرودة التي تتضمَّن كل ما يؤدِّي، أو يمكنه أن يؤدِّي، إلى الحفاظ على برودة الماء، وإلى جعله ينمو برودةً. وتلقى هذه القوة دعما وتأييدا من الخارج. وثانيتهما هي قوة السخونة التي تتضمَّن كل ما يؤدِّي، أو يمكنه أن يؤدِّي، إلى الحفاظ على سخونة الماء، وإلى جعله ينمو سخونة. وتلقى هذه القوة دعما وتأييدا من الخارج. قوة البرودة يجب أن تكون موجودة (وعاملة) بالفعل. ويجب أن تكون في صراع دائم مع قوة السخونة. وتوصُّلا إلى السخونة لا بدَّ لقوة السخونة من أن تتغلَّب على قوة البرودة عَبْرَ الصراع. وهذا التغلُّب (الذي يقترن بالإبقاء على قوة البرودة فلا وجود لإحداهما من دون الأخرى) هو الذي يأتي بالسخونة في الماء.
في مثال النمو الحراري للماء رأيْنا كيف يُنْتِج هذا النمو، الذي اتَّخذنا الجليد نقطة انطلاق له، ومن خلال الطفرة، أشياء جديدة، كالماء السائل، وبخار الماء. ورأيْنا "الحرارة القصوى" في الجليد تتحوَّل إلى "البرودة القصوى" في الماء السائل عند لحظة نشوئه. ولكن، هل من حدٍّ أقصى للنمو الحراري ذاته؟ أجل، إنَّ له، كمثل سائر الأضداد، في نموِّها الكمِّي، نهاية عظمى، أو حدٌّ أقصى، فالشيء الذي لا نهاية لنموِّه، أو تزايده، لا وجود له البتة.
أُنْظُروا إلى كوننا الذي ما زال في تمدُّد مستمر، فتمدُّده هذا لن يستمر ينمو إلى الأبد، وكأنْ لا نهاية عظمى، أو حدٌّ أقصى، له. تمدُّده (المتنامي والمستمر) لا بدَّ له من أن يُنْتِج، في آخر المطاف، أسباب وعوامل تحوُّله إلى نقيضه الطبيعي وهو التقلُّص. وهذا التقلُّص لن يَظْهَر، عندما يَظْهَر، في نهايته العظمى، أو حده الأقصى. سيَظْهَر، لجهة حجمه، كطفلٍ رضيع، لينمو من ثمَّ حتى يبلغ النهاية العظمى، أو الحد الأقصى، من نموِّه. هذا التقلُّص الكوني، وعند أوَّل نشوئه، لا بدَّ له من أن يكون مُخْتَزِناً من طاقة للنمو حجمها من حجم الطاقه التي أظهرها واستنفدها التمدد في نموِّه. على أنَّ الدورة الكونية الجديدة (تقلُّص ـ تمدُّد ـ تقلُّص) لن تكون نسخة من "القديمة"، فمع كل دورة كونية يرتقي النقيضان (التقلُّص ـ التمدُّد) في وحدتهما، فنرى الكون في طوره الجديد معتدلا في تقلُّصه عندما يتقلَّص، ومعتدلا في تمدُّده عندما يتمدَّد، وكأنَّ الفَرْق بين تقلُّصه الأقصى وتمدُّده الأقصى يزداد تضاؤلاً.
عندما يبلغ كوننا الحد الأقصى من تمدُّده يتوقَّف عن التمدُّد توقُّفا هو لجهة الزمن الذي يستغرق يشبه توقُف حجرٍ (قذفناه في الهواء) عند بلوغه الحد الأقصى من الارتفاع، وقبل أن يشرع يسقط. توقُّف هذا الحجر عن الارتفاع لن يستمر إلى الأبد، فهذا التوازن بين الضدين (الارتفاع والسقوط) ليس بالأبدي مثله مثل كل توزان بين نقيضين. ببلوغه الحد الأقصى من تمدُّده يُظْهِر كوننا عجزا مزدوجا، فهو لن يقدر أن يتمدَّد أكثر مما تمدَّد لاستنفاده طاقة التمدُّد، ولن يقدر أن يظل إلى الأبد متوقِّفاً عند الحد (الأقصى) الذي بلغه في تمدُّده. ليس من خيار له إلا أن يشرع يتقلَّص، فتمدُّده، في نموِّه، أنجز المهمة.. مهمة الاعداد والتهيئة لولادة التقلُّص الجديد، الذي ما أن يُوْلَد حتى يشرع ينمو وصولا إلى الحد الأقصى من نموه، أي إلى أن يستنفد طاقة التقلُّص التي نقلها له التمدُّد.
الشيء في نموِّه؛ وليس من شيء لا ينمو قبل أن يزول ومن أجل أن يزول، إنَّما هو "مُسْتَهِلِك" و"مُنْتِج" في آن. "يَسْتَهْلِك" أسباب وجوده، "مُنْتِجاً"، في الوقت ذاته، وبالقدْر ذاته، أسباب نقيضه، أي أسباب تحوُّله إلى نقيضه. الكرة المتحرِّكة على سطح طاولة لا بدَّ لها من أن تتوقَّف عن الحركة بعد حين. بتحرُّكها، وفي أثناء تحرُّكها، "تَسْتَهْلِك" سبب حركتها، "مُنْتِجَةً"، في الوقت نفسه، وبالقدْر نفسه، سبب سكونها، أو توقُّفِها عن الحركة. إنَّ سبب حركتها، وبـ "لغة الكم"، "يتناقص"، فـ "يتزايد"، في الوقت نفسه، وبالقدْر نفسه، سبب سكونها. ذاك التناقص إنَّما يتزامن ويتساوى مع هذا التزايد. وإذا كان الذي يتناقص هو الجانب A فإنَّ نقيضه الجانب B هو الذي يتزايد، في الوقت نفسه، وبالقدْر نفسه، فالتناقص في "الحرارة"، مثلا، هو ذاته التزايد في "البرودة". وهذا التزايد وذاك التناقص لا بدَّ لهما من أن يتزامنا ويتساويا.
الكائن الحي، مثلا، لا يمكنه أن يبقى على قيد الحياة، وأن ينمو، إلا في طريقة واحدة لا غير هي التي فيها يُنْتِج ويَسْتَجْمِع وينمِّي أسباب وعوامل وشروط موته. الإنسان يَغْلبه النعاس فينام. النوم إنَّما هو تطوُّر ما كان له أن يَحْدُث لو لم يَسْتَجْمِع ويستوفي أسباب حدوثه. في النوم، وبه، "يَسْتَهِلِك" النائم تلك الأسباب، "مُنْتِجاً"، في الوقت نفسه، وبالقدْر نفسه، أسباب اليقظة، التي هي تطوُّر مضاد لن يَحْدُث ما لم يَسْتَجْمِع ويستوفي أسباب حدوثه. إنَّ الإنسان لا يمكنه أن يبدأ النوم، وأن يستغرِق فيه، إلا بما يؤدَّي إلى إنتاج وتنمية أسباب اليقظة، التي ما أن تَرْجَح كفَّتها، ولو قليلا، على كفَّة أسباب النوم حتى يستيقظ النائم. وبين "النوم" و"اليقظة" ليس من وجود لـ "شيء ثالث" لا هو بالنوم ولا هو باليقظة، فالإنسان إمَّا أن يكون في نوم وإمَّا أن يكون في يقظة. النوم إنَّما يَحْدُث بغتةً، أي بطفرة، وكذلك اليقظة. الطفل يتطرَّف في نومه؛ أمَّا الشاب فيتطرَّف في يقظته. وكلَّما تقدَّمت به السن مال الإنسان إلى الاعتدال في نومه ويقظته، فنومه ليس كنوم طفل، ويقظته ليست كيقظة شاب.
ما الذي يَحْدُث في أثناء ارتفاع حجر قذفته في الهواء إلى أعلى؟ قد يبدو لك أنَّ سَيْر الحجر في مسار صاعد لا تتخلله محطات توقُّف؛ ولكنَّ هذا ليس بالصحيح، ولو أنَّكَ لا تَقْدِر أن ترى محطات التوقُّف تلك، والكثيرة جدا. إنَّ الحجر، في حقيقة الأمر، يصعد، أو يرتفع، درجة درجة، متوقِّفا دائما، وإلى حين، عند كل درجة يبلغها في صعوده، فـ "التوازن" بين طرفي التناقض الذي ينطوي عليه الحجر في صعوده يستمر زمنا متناهيا في الصِغَر والضآلة. وعندما يُكْسَر هذا التوازن، أي عندما ترجح كفة القوة التي تدفع الحجر إلى أعلى على كفة القوة المضادة التي تشدُّه (أو تسعى في شدِّه) إلى أسفل، ينتقل الحجر، في صعوده، إلى درجة أعلى. كلَّما توقَّف الحجر نشب واحتدم الصراع بين هاتين القوتين، فإذا تغلَّبت القوة التي تدفعه إلى أعلى على القوة المضادة لها، أي التي تعمل في الاتِّجاه المعاكس، انتقل الحجر إلى درجة أعلى.
إنَّ التطوُّر، في مساره الكمِّي، الصاعد أو الهابط، هو الوحدة الدياليكتيكية بين "الاستمرار" و"الانقطاع"، فـ "التزايد"، كما "التناقص"، يُشبه "خطَّا من نُقَط"، أي أنَّه يتحقق درجة درجة، طورا طورا، مرحلة مرحلة، دفعة دفعة. وكل درجة (أو طور، أو مرحلة، أو دفعة) هي "توازن مؤقت" بين طرفي تناقض؛ وهذا التوازن يستر صراعا بين طرفيه. وكل درجة هي تطوُّرٌ يتحقَّق بـ "طفرة"، فـ "الكمِّيَّة"، في مسارها الصاعد أو الهابط، إنَّما هي عدد من الطفرات. وقد تأكَّد ذلك، فيزيائيا، في ظاهرة انتشار الضوء، فشعاع الضوء إنَّما هو مقدار كبير من "الرزم (جمع رزمة)"، ويمكن تشبيه إطلاق، أو انطلاق، تلك "الرزم" بـ "طلقات" تُطلقها بندقية طلقة طلقة.
من أجل تحقيق تغيير معيَّن، لا بدَّ لكَ من تهيئة الأسباب. وهذا الذي تقوم به ليس سوى جهد (مسلَّح بوسائل وطرائق معيَّنة) تبذله للتغلُّب على قوة مضادة (في داخل الشيء وتلقى في الوقت نفسه دعما خارجيا). هذا التغيير لن يتحقق قبل تغلُّبِكَ على تلك القوة التي تعمل ضده، ولمنع حدوثه. وعليه، يمكنكَ أن تفهم تبخُّر الماء مثلا على أنَّه ثمرة التغلُّب على قوة (في داخل الماء وتلقى في الوقت نفسه دعما خارجيا) تسعى في منع التبخُّر، وفي دفع جزيئات الماء إلى مزيد من التماسك والتجمُّع، أي تسعى في دفع الماء (السائل) إلى الصلابة والتجمُّد. في بحثكَ عن إجابة سؤال "كيف يتبخَّر الماء؟" ستكتشف أنَّ في الماء يجتمع دائما كل ما يؤدِّي (أو يمكن أن يؤدِّي) إلى تبخُّرِه مع كل ما يؤدِّي (أو يمكن أن يؤدِّي) إلى تجمُّدِه، فلا انفصال بين هذا وذاك.
الخلية (في الكائن الحي) تنقسم متغلِّبةً على عوامل اتِّحادها، أي على عوامل بقائها متَّحِدة. وتَتَّحِد الخلايا متغلِّبةً على عوامل انقسامها. الخلية، في اتِّحادها، وبسبب اتِّحادها، تخلق وتُطوِّر عوامل انقسامها حتى إذا رجحت كفة هذه العوامل على كفة عوامل الاتحاد أو الوحدة، انقسمت الخلية. وفي انقسامها، وبسبب انقسامها، تخلق وتُطوِّر عوامل الاتحاد، فتّتَّحِد الخلايا، مؤلِّفَةً مادة حيَّة متعددة الخلية. الكون يتمدَّد (أو الفضاء يتمدَّد) متغلِّباً على عوامل تقلُّصه؛ ولسوف يتقلَّص متغلِّباً على عوامل تمدُّده. الإنسان ينام متغلِّباً على عوامل اليقظة، ويستيقظ متغلِّبا على عوامل النوم.
"التغيُّر"، كل تغيُّر، يجتاز دائما طورين: "طور الكمون" و"طور الظهور". عندما يَظْهَر (يتحقَّق) لا يَظْهَر إلا بغتةً، وعلى حين غرة، أي بـ "طفرة". ولكنَّه قبل أن يَظْهَر، ومن أجل أن يَظْهَر، لا بدَّ له من اجتياز واستنفاد "طور الكمون"، الذي فيه تتصارع قوى تعمل في اتِّجاه إظهار وتحقيق هذا التغيُّر، أي تحويله من "ممكن واقعيا" إلى "حقية واقعة"، وقوى تعمل في الاتِّجاه المضاد أو المعاكس، أي في اتِّجاه منع هذا التغيُّر، وتحقيق التغيُّر المضاد. وهذا يشبه لعبة شدِّ الحَبْل، فأنتَ تشده من طرف وغيركَ يشده من طرف. كلاكما يصارع الآخر، ويبذل جهدا للتغلُّب على الآخر، أي على الجهد المضاد لجهده. قد تستمران في هذه الحال من "توازن القوى" زمنا طويلا أو قصيرا، فإذا نجحتَ في التحرُّك خطوة إلى الوراء، أي إذا نجحت في جعل خصمكَ يتحرَّك خطوة إلى الأمام.. خطوة نحوكَ، فهذا إنَّما يعني أنَّ التوازن قد كُسِر لمصلحتكَ، وأنَّكَ قد تغلَّبْتَ على خصمكَ. إنَّكما متَّحِدان (بالحَبْل). وإنَّكما، في الوقت عينه، مختلفان، متضادان، في الجهد، والعمل، والاتِّجاه، والغاية. ولهذا وذاك، أي لاتِّحادكما وتضادكما، فأنتما في صراعٍ دائمٍ، وفي مَيْلٍ وسعيٍ دائمين إلى أن يغلب كلاكما الآخر. لو تخليتما عن "الحَبْل"، أو لو انفطع، لَمَا عُدْتُّما في حالٍ من صراع ضدَّين، فلا صراع من غير وحدة بين ضدين، ولا وحدة بين ضدين من غير صراعٍ.
الشيء المحدَّد الملموس إنَّما يشبه إنسانا له وجوه كثيرة. وكل وجه من وجوهه هو كناية عن حالٍ من أحواله. هذا الشيء لا يتغيَّر إلا عَبْرَ تفاعله الدائم (والحتمي) مع بيئته.. مع العوامل الخارجية، فليس من شيء، مهما صغر أو كبر، يمكن أن ينشأ ويتطوَّر من غير بيئة، أي من غير أن يكون محاطا بغيره من الأشياء. والشيء بتغيُّره إنَّما يتغيَّر في حالٍ من أحواله الكثيرة، أي ينتقل منها إلى الحال المضادة. أمَّا زوال الشيء ذاته فليس سوى زوال حال (من أحوال كثيرة) كان يَظْهَر فيها غيره من الأشياء، فزوال نواة ذرَّة الأوكسجين، مثلا، إنَّما هو زوال الحال التي كانت تَظْهر فيها وحدة أشياء أخرى، هي البروتونات والنيوترنات. على أنَّ نواة ذرَّة الأوكسجين ذاتها تَظْهَر في غير حال، ويمكن أن تنتقل، وهي على قيد الحياة، من حالٍ إلى نقيضها.
وعندما ننظر إلى الشيء بعيون الدياليكتيك، ينبغي لنا أن نُحدِّد، أوَّلا، ماهية التغيُّر الذي حَدَث من خلال إجابة السؤال الآتي: هل الشيء ذاته هو الذي زال أم حال من أحواله هي التي زالت؟ هل، على سبيل المثال، ذرَّة الأوكسجين ذاتها هي التي زالت أم حال من أحوالها هي التي زالت؟ ذرَّة الأوكسجين قد تكون في حالٍ من التعادُل الكهربائي، فتغدو في حال المشحونة كهربائيا. قد تكون موجبة في شحنتها الكهربائية فتغدو سالبة، أو قد تكون سالبة في شحنتها الكهربائية فتغدو موجبة. قد تكون سالبة قليلا فتغدو سالبة كثيرا. إنَّ تغيُّرِها في أي اتِّجاه من تلك الاتِّجاهات هو تغيُّر أصاب حال من أحوالها، فتحوَّلت (الذرَّة) من هذه الحال إلى نقيضها، محتفظة بوجودها ذاته.
وتحديد ماهية التغيُّر الذي حَدَث إنَّما يستلزم تحديد "الشيء"، ثمَّ تحديد "الحال"، فأنتَ تقول، مثلا، إنَّ "الماء (وهذا هو "الشيء")" هذا قد "تجمَّد (وهذه هي "الحال")". هذا "الشيء"، أي "الماء" هذا، ما زال على قيد الحياة؛ ولكنَّه انتقل من حالٍ إلى نقيضها. كان "غير صلب (أي كان سائلا)" فأصبح "صلبا". كانت جزيئاته متباعِدة فتقاربت. كانت في حركة فأصبحت في سكون (نسبي).
بقي أن نقول إنَّ فَهْم الشيء فَهْماً علمياً يستلزم، أوَّلا، أن ننظر إليه، وأن نفهمه، على أنَّه "تاريخ"، أي على أنَّه شيء مختلِفٌ في ماضيه ومستقبله عمَّا هو عليه في حاضره. أُنْظُر إلى هذه الثمرة من ثمار هذه الشجرة. إذا نظرتَ إليها، ضاربا صفحا عن "التاريخ"، فقد تفهمها على أنَّها شيء كان في ماضيه مثلما هو في حاضره، ولن يكون في مستقبله إلا مثلما هو في حاضره.
هذه الثمرة التي تراها لم تصبح على ما هي عليه الآن إلا بَعْد، وبسبب، اجتيازها مراحل من التطوُّر. أُنْظُر إلى ماضيها. أُنْظُر إلى الموضع (في الغصن) الذي جاءت منه. أُنْظُر إلى هذا الموضع كيف كان قبل أن تَخْرُج منه الثمرة في الهيئة التي هي عليها الآن. أُنْظُر إلى ما خَرَجَ من هذا الموضع بدايةً، وإلى المراحل التي اجتازها في تطوُّره قبل، ومن أجل، أن يصبح الثمرة التي تراها الآن. وانْظُر إلى الحال التي ستصبح عليها هذه الثمرة مستقبلا.
يكفي أن تَنْظُر إلى الشيء في مجراه الزمني، أي في ماضيه وحاضره ومستقبله، حتى تكفي نفسكَ شرَّ الأسئلة والتساؤلات الميتافيزيقية. إنَّ الأشياء لا تُخْلَق خَلْقاً.. لا تُخْلَق بحسب طريقة الخَلْق التوراتية. لا تسأل عن خَلْق الشمس والقمر والأرض والنجوم والحيوان والنبات والبشر..
إنَّ الشمس التي تراها الآن (وتسأل بالتالي عن خَلْقها) ليست الشمس التي كانت قبل خمسة مليارات سنة، مثلا. والشمس التي تراها الآن إنَّما كانت في ماضيها "سحابة من غاز الهيدروجين". والشمس التي تراها لن تظل على ما هي عليه مستقبلا، فهذا النجم سينطفئ حتما، ولن يظل في الحجم الذي هو عليه الآن، ولا في الخواص والصفات التي يملكها الآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي العزيز DEDODA
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا على هذا المجهود الطيب الممتاز
اخي الكريم لو تفضلت وقمت برفع كتاب اجهزة القياس لان الرابط منتهي الصلاحية واننى في حاجة ماسة لهذا الكتاب لانه في مجال تخصصي ومحتاجه جدا
فارجوا المساعدة في الحصول عليه واسال الله لك التوفيق والنجاح
وبارك الله فيك
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته