( مدخل إلى الأدب الإسلامي ) دراسة منهجية هادفة (3) ..
مفهوم الأدب الإسلامي (2)
--------------------------------
نستكمل سوياً بعون الله استعراض هذا الفصل الهام ( مفهوم الأدب الإسلامي ) من كتاب ( مدخل إلى الأدب الإسلامي ) حيث يكمل الدكتور نجيب الكيلاني ( رحمه الله ) كلامه السابق فيقول :
إن الغموض والإبهام الذي ساد الآداب المعاصرة أمر مخيف بالنسبة للحاضر والمستقبل ، إنه ضرب من الشذوذ ، وقد أصبح قاعدة بل فلسفة يروج لها النقاد في مختلف الأنحاء ، ويعتبرونها معيار الحداثة والإبداع ، فإذا كانت الحياة المعقدة في الغرب والخواء الروحي والتخمة المادية والنمط الميكانيكي للحركة اليومية والتفكك الأسري وطغيان الفردية والفوضى الفكرية والسلوكية تحت شعار الحرية والأمراض النفسية الفتاكة ، إذا كان هذا كله قد أفرز في الغرب آداباً وفنوناً معتلة ، فما معنى أن نختط لحياتنا في الشرق تصوراً شبيهاً لما يجري في هذا الغرب ؟؟ أيمكن القول : أن السلطة القاهرة الجائرة قد خلقت جوًّا مناسباً شبيهاً لما يجري في الغرب !! لقد أشرنا فيما سبق إلى فئة من الأدباء نحت ذلك المنحى وتوفرت لديها مبررات كافية للإغراق في الغموض ، لكن البناء النفسي للشعوب الإسلامية وطبيعة تكوينها ومثلها العقائدية والإجتماعية يمكن أن تقيها شر هذا الفساد ، ولا بد أن نجهز على الفكرة القائلة بأن الإبداع هو الغموض والصور الفنية المبهمة التي تتدفق من تيار الوعي واللاوعي ، فمسؤولية الكلمة ( إن كنا نؤمن بها ) تقتضي الوضوح دون إهدار للقيم الفنية الجمالية ..
ولنتوقف عند هذه النقطة الجوهرية ، فالقرآن ( قمة البيان ) ، وصورة الأدب الخالدة واضح ميسر : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ( القمر :17 ) ، فالكلمة رمز يحمل رسالة ما ، هذا في المجال العام ، لكن هذه الرسالة ( في المجال العلمي ) محدودة ولا تحتمل التأويل ، ولا تحفل بقيم جمالية ، لكنها في مجال الأدب تتوقد حيوية وإثارة ، وتتسم بالجمال والمتعة ، فالكلمة وسيلة ، بل اللغة كلها وسيلة ، وبالإضافة إلى ذلك فهي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية ، يخضع مبدعها للحساب كالفعل تماماً ، وتتحدد المسؤولية بداهة فيما تحمله الكلمة من معنى ، وما تخلفه من انطباع أو تأثير ، فقد ربطت المسؤولية بين مبدع الكلمة ومتلقيها ، وبالتبعية الحركة ( أو الديناميكية ) التي تشعلها الكلمة أو تغرسها في نفس وروح وفكر الآخرين ، وقد يظن ظان أن المسؤولية هنا مع الغموض ، فالرسالة المبهمة عبث ، ولكن الواقع غير ذلك إذ أن ( الصورة الفنية ) الغامضة قد تنقل إلى ذهن المتلقي وروحه اضطراباً أو تحركاً أعمى أو انفعالاً طائشاً بلا فهم أو هدف ، ولا يتولد عنها إلا التمرد العشوائي أو الرفض الجنوني ، هذا الإنطباع المختل أو الأثر المشتت يعد خروجاً على النسق البديع الذي تشربناه مع قيم الإسلام ومبادئه ، وخلاصة الأمر أن المسؤولية تقتضي الوضوح ، ولكنها لا تتعارض مع القيم الجمالية ، وتقتضي الأثر الهادف البناء ، كما لا تهدر المتعة ، وإصرارنا على هذه النقطة بالذات مرتبط بأهمية اعتبار الأدب ضرورة حياتية تخص الناس جميعاً ، وحق المنفعة والمتعة ميراث مشاع لمختلف المستويات ، إن هناك معنى يريد أن يعبرعنه الأديب ، ولن تتوافر للتعبير عوامل النجاح ما لم يكن مفهوماً وقادراً على جلب المتعة والمنفعة ، وهذا التصور من ناحية أخرى يرتبط بقيم الصدق والأمانة ، فإذا كان بعضهم في جزء من هذا العالم أو آخر يعاني من التيه والتخبط والحيرة ، فلا معنى لأن نعالج أساه بمزيد من الآداب المضطربة المبهمة التي تزيد من أساه وتؤكد عذابه ، وتنقل إليه مزيداً من الحيرة ، وإلا كنا كما قال الشاعر : ( وداوني بالتي كانت هي الداءُ ) ..
لكن هل الغموض ضرورة عصرية ، تترجم عن عصر أوغل في البذاءة والضلالة ؟؟ ليكن .. إنها قد تقدم أعراضاً لمرض العصر ، لكن أين موقف الأديب القادر على المساهمة في صنع حياة أفضل وأجمل ؟؟ وإذا كان الأديب يعبر عن الحياة خلال نفسه وفكره ، ويبدع لها صورة مؤثرة أخّاذة ترتبط بذاته وخصوصياته فتبدو متفردة جديدة ، تضيف إلى عالم المتلقي كائنات وعلاقات وانفعالات مستحدثة جذابة ، فلا بد أن يكون الهدف من وراء ذلك تفجير طاقات بناءة في داخل الإنسان ، وإشعاره بالرضى والإمتاع ، وإثراء وجوده بحيوات أخرى قد لا تتيسر له في واقع الحياة التي يعيشها ، وهكذا لا يقعد به الخيال كسيراً كسيحاً بل ينهض به إلى آفاق أسمى وأروع ، وبذلك تتوقف الطاقات الإنسانية وتتحفز ، وتلعب دورها الفعال في صنع حياة أفضل ، ولا يتيسر ذلك إلا من خلال تصور صحيح للإنسان والكون والحياة والعلاقات التي تنسق مسيرة المخلوقات ، والقيم الأصلية التي ترسخ خطى السائرين في طريق الخير والنماء والحق والحرية والجمال ، الأدب الإسلامي أدب مسؤول ، والمسؤولية الإسلامية إلتزام نابع من قلب المؤمن وقناعاته ، إلتزام تمتد أواصره إلى كتاب الله الذي جاء ( بلسان عربي مبين ) ، ولا يصح أن ننخدع بالتزام الوجوديين وغيره ( فسارتر ) يقرر أن حريته تبدأ عندما يموت الإله ( والعياذ بالله ) لأن فلسفته تقوم أساساً على رفض الأديان والقيم والأعراف السابقة ، أي أن التزامه يبدأ بعدم الإلتزام بأي قيم سابقة ، وبالطبع فقد أصبح كل وجودي ( وليس سارتر وحده ) صاحب قيم جديدة يصنعها لنفسه وبنفسه ، وهكذا أصبح التفلت شعاراً ، ووجد في عالم الوجوديين أنبياء زائفون بعددهم ، واستهوت البدعة هذه الفارغين واليائسين ، واستمالت المتحللين من القيم والأخلاق والمبادئ ، ولم لا وقد فهموا أن معنى ذلك هو قمة الحرية ..
إن ارتباط الأدب الإسلامي بالمسؤولية النابعة من صميم الإسلام ، يقي أجيالنا المحاصرة من السقوط في براثن تيه الفلسفات التي تعد بالمئات .. إن الفلسفة الوجودية مثلاً لم تعد فلسفة واحدة بل عشرات ، وحتى مدرسة التحليل النفسى انقسمت إلى مدارس عدة ، والمادية الجدلية تفرعت وتنوعت وخاصة في مجال التطبيق والممارسة ، وما كان بالأمس يعد فتحاً جديداً بل ديناً حديثاً ، أصبح الإستمساك به كفراً بواحاً ، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم : ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) ( النجم : 28 ) ، وشتان بين الظن والحق ، وفي إطار هذا الحق ( لا الظن ) يتحرك الأدب الإسلامي ، وسلاحه الكلمة الطبية : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) ( إبراهيم 24 ـ 25 ) ..
يقول أحد النقاد المعاصرين : ( علاوة على الدور المدرك للفن ، هناك مغزاه التعليمي ، ولكن الفن يثقف المتفرج ( أو المتلقي ) بطرقه الخاصة إنه يؤثر أول ما يؤثر على إحساسنا ، ويستحوذ على انفعالاتنا ويطوقها ، فالفن الأصيل يكون دوماً أخلاقياً ما دام قد أملته قناعة الفنان الروحية الحية ، ليخدم الخير ويكافح الشر ) ..
ولنتوقف عند هذه النقطة الجوهرية ، فالقرآن ( قمة البيان ) ، وصورة الأدب الخالدة واضح ميسر : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ( القمر :17 ) ، فالكلمة رمز يحمل رسالة ما ، هذا في المجال العام ، لكن هذه الرسالة ( في المجال العلمي ) محدودة ولا تحتمل التأويل ، ولا تحفل بقيم جمالية ، لكنها في مجال الأدب تتوقد حيوية وإثارة ، وتتسم بالجمال والمتعة ، فالكلمة وسيلة ، بل اللغة كلها وسيلة ، وبالإضافة إلى ذلك فهي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية ، يخضع مبدعها للحساب كالفعل تماماً ، وتتحدد المسؤولية بداهة فيما تحمله الكلمة من معنى ، وما تخلفه من انطباع أو تأثير ، فقد ربطت المسؤولية بين مبدع الكلمة ومتلقيها ، وبالتبعية الحركة ( أو الديناميكية ) التي تشعلها الكلمة أو تغرسها في نفس وروح وفكر الآخرين ، وقد يظن ظان أن المسؤولية هنا مع الغموض ، فالرسالة المبهمة عبث ، ولكن الواقع غير ذلك إذ أن ( الصورة الفنية ) الغامضة قد تنقل إلى ذهن المتلقي وروحه اضطراباً أو تحركاً أعمى أو انفعالاً طائشاً بلا فهم أو هدف ، ولا يتولد عنها إلا التمرد العشوائي أو الرفض الجنوني ، هذا الإنطباع المختل أو الأثر المشتت يعد خروجاً على النسق البديع الذي تشربناه مع قيم الإسلام ومبادئه ، وخلاصة الأمر أن المسؤولية تقتضي الوضوح ، ولكنها لا تتعارض مع القيم الجمالية ، وتقتضي الأثر الهادف البناء ، كما لا تهدر المتعة ، وإصرارنا على هذه النقطة بالذات مرتبط بأهمية اعتبار الأدب ضرورة حياتية تخص الناس جميعاً ، وحق المنفعة والمتعة ميراث مشاع لمختلف المستويات ، إن هناك معنى يريد أن يعبرعنه الأديب ، ولن تتوافر للتعبير عوامل النجاح ما لم يكن مفهوماً وقادراً على جلب المتعة والمنفعة ، وهذا التصور من ناحية أخرى يرتبط بقيم الصدق والأمانة ، فإذا كان بعضهم في جزء من هذا العالم أو آخر يعاني من التيه والتخبط والحيرة ، فلا معنى لأن نعالج أساه بمزيد من الآداب المضطربة المبهمة التي تزيد من أساه وتؤكد عذابه ، وتنقل إليه مزيداً من الحيرة ، وإلا كنا كما قال الشاعر : ( وداوني بالتي كانت هي الداءُ ) ..
لكن هل الغموض ضرورة عصرية ، تترجم عن عصر أوغل في البذاءة والضلالة ؟؟ ليكن .. إنها قد تقدم أعراضاً لمرض العصر ، لكن أين موقف الأديب القادر على المساهمة في صنع حياة أفضل وأجمل ؟؟ وإذا كان الأديب يعبر عن الحياة خلال نفسه وفكره ، ويبدع لها صورة مؤثرة أخّاذة ترتبط بذاته وخصوصياته فتبدو متفردة جديدة ، تضيف إلى عالم المتلقي كائنات وعلاقات وانفعالات مستحدثة جذابة ، فلا بد أن يكون الهدف من وراء ذلك تفجير طاقات بناءة في داخل الإنسان ، وإشعاره بالرضى والإمتاع ، وإثراء وجوده بحيوات أخرى قد لا تتيسر له في واقع الحياة التي يعيشها ، وهكذا لا يقعد به الخيال كسيراً كسيحاً بل ينهض به إلى آفاق أسمى وأروع ، وبذلك تتوقف الطاقات الإنسانية وتتحفز ، وتلعب دورها الفعال في صنع حياة أفضل ، ولا يتيسر ذلك إلا من خلال تصور صحيح للإنسان والكون والحياة والعلاقات التي تنسق مسيرة المخلوقات ، والقيم الأصلية التي ترسخ خطى السائرين في طريق الخير والنماء والحق والحرية والجمال ، الأدب الإسلامي أدب مسؤول ، والمسؤولية الإسلامية إلتزام نابع من قلب المؤمن وقناعاته ، إلتزام تمتد أواصره إلى كتاب الله الذي جاء ( بلسان عربي مبين ) ، ولا يصح أن ننخدع بالتزام الوجوديين وغيره ( فسارتر ) يقرر أن حريته تبدأ عندما يموت الإله ( والعياذ بالله ) لأن فلسفته تقوم أساساً على رفض الأديان والقيم والأعراف السابقة ، أي أن التزامه يبدأ بعدم الإلتزام بأي قيم سابقة ، وبالطبع فقد أصبح كل وجودي ( وليس سارتر وحده ) صاحب قيم جديدة يصنعها لنفسه وبنفسه ، وهكذا أصبح التفلت شعاراً ، ووجد في عالم الوجوديين أنبياء زائفون بعددهم ، واستهوت البدعة هذه الفارغين واليائسين ، واستمالت المتحللين من القيم والأخلاق والمبادئ ، ولم لا وقد فهموا أن معنى ذلك هو قمة الحرية ..
إن ارتباط الأدب الإسلامي بالمسؤولية النابعة من صميم الإسلام ، يقي أجيالنا المحاصرة من السقوط في براثن تيه الفلسفات التي تعد بالمئات .. إن الفلسفة الوجودية مثلاً لم تعد فلسفة واحدة بل عشرات ، وحتى مدرسة التحليل النفسى انقسمت إلى مدارس عدة ، والمادية الجدلية تفرعت وتنوعت وخاصة في مجال التطبيق والممارسة ، وما كان بالأمس يعد فتحاً جديداً بل ديناً حديثاً ، أصبح الإستمساك به كفراً بواحاً ، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم : ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) ( النجم : 28 ) ، وشتان بين الظن والحق ، وفي إطار هذا الحق ( لا الظن ) يتحرك الأدب الإسلامي ، وسلاحه الكلمة الطبية : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) ( إبراهيم 24 ـ 25 ) ..
يقول أحد النقاد المعاصرين : ( علاوة على الدور المدرك للفن ، هناك مغزاه التعليمي ، ولكن الفن يثقف المتفرج ( أو المتلقي ) بطرقه الخاصة إنه يؤثر أول ما يؤثر على إحساسنا ، ويستحوذ على انفعالاتنا ويطوقها ، فالفن الأصيل يكون دوماً أخلاقياً ما دام قد أملته قناعة الفنان الروحية الحية ، ليخدم الخير ويكافح الشر ) ..
-------------------------------------------
المصدر كتاب ( مدخل إلى الأدب الإسلامي )
المصدر كتاب ( مدخل إلى الأدب الإسلامي )