العقل الآلة و العقل القلبي

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على أشرف خلق الله .


" أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها . فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور "


هذا محور نقف من خلاله على محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي و سيطرة الهوى .

هناك فرق جوهري بين من يستقي من حوض اللائيكية و ينظر بمنظار مستعار و تجري في دمائه الثقافية تيارات فلسفية متطورة متدرعة بالحجة العلومية . و بين من يستهدي بالوحي من ضلالات العقل المعاشي الأصم الأعمى الذي يصطدم خفاشه بنور الوحي فلا يزداد إلا ضلالا .


بين يدي المؤمنين و المؤمنات كتاب الله تعالى خالق الإنسان و مركب مداركه و هادي من يشاء إلى صراط مستقيم .
من هنا تبدأ خصوصية العقل المؤمن و اختلافه الجوهري عن العقل المشترك بين البشر عقل النظر القائم بذاته المستقل المتأله عقل المعاش المدبر لشؤون الحياة الدنيا المحجوب عن حقائق الغيب ما دام لا يسمع من الوحي و لا يبصر نور الوحي .
ليست المسألة اصطلاحا يفرز العقل المؤمن الآخذ عن الله على حدة و العقل المعاشي على حدة .بل هو تميز جوهري . ليس الأمر ترتيبا في درجات يكون العقل المعاشي الفلسفي أكثر أو أقل حكمة و ذكاء من العقل المؤمن . بل هو اختلاف نوعي .
للعقل المعاشي العلومي مجال واسع للتفكير و التدبير المنطقي في نطاق الكونيات . متى حاول هذا العقل أن يقتحم ما فوق طوره هام في بحور الفلسفة و الأطروحات و التقديرات . إلا أن تتداركه رحمة من الله فتسوقه من آفاقه التائهة رجوعا الى عتبة الفطرة .
عتبة الفطرة هي بكل بساطة حاجة كل مصنوع لصانع . بديهية من بديهيات العقل البشري الساذج تتلفها الفلسفة و تدكها دكا و تردمها في ركام التقديرات . فإذا العقل البشري المعاشي المصاب بداء العمى عن البديهيات يقبل ببلادة أن يكون هو مصنوعا لنفسه .

مثال : داروين الفيلسوف " الكبير" تبلور مذهبه و ترسخت لديه عقيدته لما زار جزر الجلاباجوس و تتلمذ هناك على طبيعة انعزلت عن القارة ملايين السنين فطورت لنفسها نمطا للحياة . طورت في زعمه و عماه .
سحلاة برية طورت لنفسها على مدى حقب رئتين واسعتين لتتمكن من الغوص في البحر و تلتقم من أعشاب البحر لما شحت عنها أعشاب البر .
على مدى حقب طويلة طورت السلحفاة العملاقة أميرة الجلاباجوس أسلوبا للحياة و مقومات للحياة تتماشى مع المحيط الطبييعي . و سميت الجزر باسم السلحفاة . جلاباجو بالاسبانية تعني سلحفاة .
ماذا فعلت لنفسها هذه الماكرة ؟ إنها صنعت لنفسها على مدى أحقاب عنقا طويلة لتبلغ أغصان الشجيرات البعيدة عادة عن متناول السلاحف .
و صعد داروين على ظهر السلحفاة الأستاذة فانجلى له المذهب التطوري الذي خرج به على الناس . و استقرأ ما في القارات سهلها و جبالها قاحلها و عامرها فوجد أن قانون التطور عام في الطبيعة التي تصنع نفسها بنفسها . و تطور لأفرادها أعضاء تتلاءم مع البيئة المتطورة .
هكذا سحلاة الجلاباجوس و سلحفاتها . و هكذا حشرات الصحراء و حيتان البحر . و هكذا القرد الذي طور نفسه زمانا بعد زمان حتى استوى قائما . و استعمل الآلات الحجرية فنمى عقله . و وسع جمجمته . و أثقل وزن مخه . و تعاظم ذكاؤه . و نثر على بشرته الزغب . و قوم أنفه . و سوى خلقه . و نطق بالكلام همهمة بعد إشارة . ثم لغة فلغات . ثم علوما و فلسفة .
و هكذا يدور العقل المعاشي الفيلسوف في منطق مغلق لما انسدت مسالكه و انحبست قنواته و عميت عينه و صمت أذنه عن السماع من الوحي .


العقل في القرءان فعل حاسة باطنة في الانسان تسمى القلب . العقل تلق لحقائق الوحي بواسطة القلب . ( و ليس ما نسميه عقلا لغة و اصطلاحا من ملكة مشتركة بين البشر بالعقل المقصود في القرآن ) .
و الفقه في القرآن علم ينشأ في باطن الانسان . في قلبه .
و التفكر حركة قلبية تتدبر الكون استدلالا على الله .

هذا العقل المعاشي المشترك إما أن يكون آلة للقلب يخدم تطلعاته إلى خالقه . و إما أن يكون آلة للهوى المتأله أو للنفس و الشهوات أو للفلسفة و التأملات . أو للفعل في المكونات . أو لجمع المعلومات و استنتاج حصيلة الماجريات .

و كمال العقل الآلة أن يخدم القلب و تطلعاته خدمة متزامنة متساوقة مترابطة هنا و هناك . هنا في الكون حيث يشترك مع كافة البشر في طرق تحصيل علوم الكون . و هناك وراء سجف الغيب حيث لا تتأتى له معرفة إلا باستماعه للوحي .

ذكرت مادة " قلب " في القرآن أكثر من 130 مرة . ما منها لفظة تنصرف للعضلة الصنوبرية اللحمية .

و ذكرت في القرآن مادة " عقل " 50 مرة . ما منها لفظة تدل على الآلة المشتركة .

و ذكرت مادة " فقه " 20 مرة . و مادة " فكر " 18 مرة كل ذلك دلالة على الوظيفة القلبية الإيمانية .

يأخذ العقل الآلة علومه عن الكون بواسطة الحواس الظاهرة و بواسطة البديهيات الفطرية ثم بواسطة المنطق الناشئ لديه من استقراء الثابتات و المترابطات و المستلزمات .

و يأخذ العقل الكامل عن الوحي ما هو من عالم الغيب . و عن المدارك المشتركة ما هو من عالم الشهادة .


يحدث للعقل المؤمن بالله المصدق للوحي عور إذا أغمض عين المدارك المشتركة و عجز عن التعلم من الكون و ترك آلته للإهمال و الصدإ . فيفوته ركب الحياة الدنيا و يقعد مع القاعدين العاجزين .

و ذلك نقص في حقه و قصور عن فهم رسالة الوحي الذي أنبأ بأن الله سخر لنا الكون و أمرنا أن نسير في الأرض و نستعمرها و نجاهد .

و يصيب العقل المشترك الآلة عاهة العمى الكلي لا يبصر معها البصر المعتبر على أفق الأبدية و هو البصر بالله و بأمر الله و بالدار الآخرة و ما يسعد الإنسان هنا و هناك .

يصيب الشلل و العجز في الدنيا العقل المؤمن إن أغمض إحدى عينيه و أعرض عن الاكتساب في حلبة النظر العلومي الصناعي التدافعي الجهادي جنبا إلى جنب مع العقل الآلة المشترك .

و يضل العقل الأعمى المعرض عن الوحي فلا يهتدي سبيلا إلى الغاية الوحيدة المعتبرة على سلم الأبدية و الخلود في الجنة أو النار . و إن كان بصيرا بسبل رخائه المادي في الدنيا .

ذكرت مادة " عمى " في القرآن 33 مرة منها 3 ألفاظ تدل على عمى الحاسة في الرأس . و 30 لفظة للدلالة على عمى القلب .

هذه الحواس المشتركة تنغلق مسالكها و تنحبس و تتعطل وظائفها فيسمع السامع و هو غير سامع و ينظر و هو لا يهتدي .

ذلك حين يحول كفر الكافر بينه وبين ضوئيات الوحي و يقطع الشك مواصلاته مع مصادر السمع .

قال تعالى : " و منهم من يستمعون إليك . أفأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون . و منهم من ينظر إليك . أفأنت تهدي العمي و لو كانوا لا يبصرون .".
فهؤلاء يسمعون الكونيات و يبصرونها . لكنهم كما وصفهم القرآن الكريم : " صم بكم عمي فهم لا يعقلون ".

في ميزان الحق و على سلم الأبدية ينحط العقل المعرض عن الوحي المنازع ربه على السيادة المتأله المتجبر المستكبر إلى درجة الحيوان .
سبحان الله الذي أهانه حتى أصبح يفتخر بحيوانيته و يعتز بقرديته .

قال تعالى : " و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس . لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها . أولئك كالأنعام بل هم أضل . أولئك هم الغافلون ." .

لهم قلوب العضل الصنوبري التي تمرض من ترف الحضارة و مآكل الشره و ضغوط هموم المدنية الصاخبة السريعة الدائرة بالإنسان الفردي في دوامة الهوس المعاشي . لكن ما لهم قلوب الفقه عن الوحي و لا آذان الاستماع من الوحي و لا أعين الاستنارة بالوحي . " أولئك كالأنعام بل هم أضل . أولئك هم الغافلون " .
" أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ".

قلوب مطبوع عليها مختوم عليها موضوعة عليها الأقفال . أقفال هي صنعتها بعنادها و كبريائها و تفاهتها القردية .

أعاذنا الله . حمانا الله . رحمنا الله .
 


جزاك الله خيرا على هذه المعلومات القيمة والمفيدة
تحياتي
 
عودة
أعلى