روباش سمير
New Member
كرد فعل شبه غريزي إزاء ملابسات التاريخ التي همشت إضافاتنا الإبداعية المغربية وأصدرت في شأنها أحكاما قبلية ما تزال سارية، في بعض منها، إلى الآن. صرنا لا نملك بدا، حين التحدث عن أدبنا لإخواننا بالمشرق العربي، من الانتصار إلى "النبوغ المغربي"، وهو انتصار ينبغي تفهمه، على أية حال، شريطة ألا يتحول "نبوغنا" إلى وثن يحظَر علينا مساءلته، تحت طائلة خدش نقائنا الوطني ! لما في "الحب القاسي" أو الحب الوثني من تجن على الذات وعلى الحقيقة معا. فأدبنا قد لا يحتاج إلى حيازة ما له وما ليس له عبر النفخ في الأبواق والقرع على الطبول، وإنما هو في حاجة إلى شيء من الإنصاف يوطنه ضمن الخارطة الإبداعية العربية في المكانة التي يستحقها لا أقل ولا أكثر.
سنحاول هنا تقديم وجهة نظر شخصية –قابلة للنقض- تهم الرواية المغربية بين النشوء والارتقاء، بعيدا عن صرامة الطروح النقدية المتمركزة حول مصطلحاتها والمنشغلة عن مواضيعها بذواتها، معتمدين هذه المرة بلاغة المناوشة، عسى أن نحرك سكون واقع أو نخلخل اطمئنانا زائفا !
يقول الأستاذ أحمد اليبوري بصدد نشأة الفن الروائي بالمغرب : "تمثل "الزاوية" للتهامي الوزاني أول إنتاج شبه روائي بالمغرب، وهي و إن كانت لا تحمل على غلافها ما يشير إلى أية مقصدية، فإن استهلالها يحدد هويتها في حين يرى الدكتور سيد حامد النساج أن "ما يذكره بعض الكتاب المغاربة على أنه أعمال قصصية أو روائية ... لم تتوفر فيه أية إمكانيات أو مقومات تؤهله لأن يحتل موقع الريادة في مجال الفن الروائي" ويضيف أن "أول محاولة روائية في المغرب (في الطفولة) 1957 اتخذت شكل السيرة الذاتية"
ورغم أن سؤال البدايات قد لا يكون جوهريا بما يكفي، إلا أن أهميته، مع ذلك، تبقى أكيدة، لمن يريد مقاربة واقع المتن الروائي بالمغرب. ولربما قد يكشف هذا السؤال عن أسئلة أخرى يمكن، في ضوئها،رسم ملامح الكتابة الروائية المغربية وتوصيف مساراتها وتحولاتها على وجه التقريب.
وسواء تحدرت "الرواية المغربية" من الإرث الصوفي والتاريخي والقصصي كما يعتقد الأستاذ اليبوري –المتحمس للمنتوج الإبداعي المغربي، أم خرجت من معطف السيرة كما يريد لها سيد النساج من زاوية أخرى، فإن الانطلاقة الفعلية لما يطلق عليه الرواية المغربية –بنظرنا- لم تتواتر إلا بعيد الاستقلال (1955). فمعلوم أن بين "الزاوية" 1942 و "في الطفولة" 1957 (وهما معا لا تنتميان إلى الرواية، بما هي شكل أدبي له خوارزمياته المتميزة، إلا من باب الترخص الذي تبيحه هشاشة الحدود الأجناسية) مسافة زمنية لم يسجل فيها صدور نصوص مماثلة من شأنها أن تدعم افتراض كينونة روائية بالمغرب ،وبالتالي اطرادها خلال هذه الفترة، ما خلا مسرودات قصيرة معدودة كالجاسوسة السمراء وشقراء الريف والرومية الشقراء وغادة أصيلا لبعد العزيز بن عبد الله (ظهرت جميعها سنة 1949) ووزير غرناطة 1950 لعبد الهادي بوطالب، ومترجمات متفرقة كتلك التي نقلها عبد الكبير الفاسي وقاسم الزهيري.
إن مد الأرجل في الزمن لالتماس جذور نسب لشجرة الرواية بالمغرب بغرض منحها شهادة ترشيد قسري لن يضيف إلى عمرها إلا القليل قياسا إلى عمرها في أوربا أو بالمشرق العربي، مما يجعل من كتابة سيرتها، الآن، استباقا للأوان. سيما وأن الرواية، وبرغم الخطوات التي حققتها على امتداد تاريخها الكوني ما تزال جنسا أدبيا في طور التكوين وما يزال التكهن بجميع إمكانيات تشكلها مجرد مشروع مؤجل ضمن جدول أعمال طويل.
لهذا، سيكون القطع في مغربية الرواية –الآن- جبرا لخواطر مكسورة ليس إلا. فنصف قرن أو يزيد قليلا، من المحددات المعرفية والجمالية، لا يساعد على بلورة رواية لها كيان متجذر في الوعي التاريخي والجغرافي. غير أن الخوض في نشأة الرواية المغربية وامتدادها لا ينبغي له أن يتغاضى عن مجموعة من العوامل التي كان لها تأثيرها في النشأة والامتداد، نذكر منها :
- الحركة الوطنية وأفكارها المناهضة للاستعمار.
- الصراع الاجتماعي بخلفياته وسياقاته.
- التيارات النقدية والإيديولوجية.
- التواصل مع المشرق والعربي.
- المثاقفة مع الغرب.
وإذا كانت الرواية في العواصم العربية التقليدية (مصر، سوريا، لبنان) ، بحكم التفاوت التاريخي ، قد نجحت في تجاوز "صدمة البدايات" وتأسيس متخيل نافذ وخصب، فإن رواية الأطراف –ومنها الرواية المغربية- لم تتخلص بعد من أزمة هوية مضاعفة : فلا هي شرقية ولا هي غربية ولا هي هي ... من دون أن يحمل هذا على الاعتقاد بأن الأزمة حالة سلبية بالضرورة، أو أن الرواية المغربية من المحتوم عليها حفر مسارها على خطى المسار الروائي العربي. وإن كان من اللازم عدم إغفال الوشائح الرحمية بين رواية المغرب ورواية المشرق؛ التي مهما ضعفت تظل قوية.
والرواية المغربية التي تبدو الآن وكأنها تختط قدرها الخاص، الذي يصعب إصدار أحكام قيمة بشأنه، هي ابنة شرعية للرواية العربية. فمن جبتها خرجت، وإليها في النهاية –مهما نأت عنها- تؤول.
ففي غياب خبرة روائية سابقة ذات بال ، ظهر، مع الستينات، نصوص عبد الرحمن المريني ومحمد عزيز الحبابي وعبد الهادي بوطالب وعبد السلام البقالي... كأصداء ورجعان أصوات لجورجي زيدان وأحمد أمين وطه حسين ونجيب محفوظ ...مما أفقد كتاباتهم –باعتبارها رمزا للطفولة المبكرة للرواية المغربية- أية أصالة و أي إبداع حقيقيين.
ونظرا لحساسية الأدب والفن عموما تجاه الحيثيات الاجتماعية وأسباب النزول، سرعان ما كان للخيبات والهزائم التي قادت إليها حكومات الاستقلال –وطنيا وقوميا- ردود أفعال ارتكاسية زرعت بذور الشك في القيم والانتماءات والأحلام، وعرت زيف الشعارات الكبرى لتشهد حقبة السبعينات –بما طبعها من غليان –"عقوق" الروائيين المغاربة لآبائهم الروحيين من المشارقة وهم لما يبلغوا بعد "سن الرشد" القانوني الذي يؤمن لهم الحد الأدنى من اشتداد الساعد الإبداعي في التقليد والمحاكاة. ونكاية في الشعور باليتم لم يجدوا غضاضة في استجداء أبوة جديدة، منخدعين ببريق الامتياز الذي ما انفكت الثقافة الاستعمارية تمنحه لسدنتها والمدافعين عن لغتها وهيمنتها ومصالحها. فكان احتذاء "الرواية الجديدة" في طبعنها الفرنسية المتقادمة (ألان روب غرييه، نتالي ساروت، ميشال بوتور) وسيلتهم الطيعة للعبور إلى ضفة أخرى بدون مشقة كبيرة. وطمعا في مجد سهل المنال سارع الروائيون (وفي مقدمتهم أصحاب المواهب المشكوك فيها) إلى احتلال موطئ قدم في أرض "اللارواية"، تماما كما وجد شعراء أرهقتهم موازين الخليل المعقدة خلاصهم في قصيدة النثر. ولما كان شعار المرحلة هو التمرد على ما يشكل الامتداد للذات المهزومة، ولو كان ثمن ذلك وقوعا في أسر نماذج جديدة سالبة للهوية، فقد أمعن كتاب الرواية بالمغرب في تخريب عروض الرواية المغربية، الذي لم يتقنوه يوما في مستواه الديداكتيكي المدرسي، والاستعاضة عنه بمصفوقات نثرية بلا لون ولا طعم ولا رائحة موجهين سهام التعريض والسخرية إلى من ظل يكتب وفقا لعمود الرواية القديم (نذكر هنا عبد الكريم غلاب على التحديد).
وهكذا، وقبل أن تتعلم الرواية كيف تخطو نحو "سوسيولوجيا المضمون" نراها تتعثر في ما أطلق عليه عبد الله العروي "سوسيولوجيا الشكل" .ليتأكد بالملموس أن اختيارات الروائيين لم تكن أقل تخبطا من اختيارات القادة السياسيين. ففي أوج سيادة المضامين الواقعية التجأ المغاربة إلى الأشكال، متعالين في كتاباتهم الروائية عن واقع كانت أقدامهم على صفيحه الملتهب تحترق. وهل كان من المصادفة أيضا أن يحتفي نقاد الرواية –بدورهم- بالمناهج الشكلانية والبنيوية والمرحلة تقتضي الأخذ في الاعتبار بعنف المحتويات ؟!
ليس هذا وحسب، بل إن الانبهار ب "الرواية الجديدة" في فرنسا، عند هؤلاء وأولئك أتى من احتكاكهم بالدراسات النقدية التبشيرية وليس من تأثرهم بنصوص هذه الرواية التي من المستبعد أن يطلعوا، إلا فيما ندر، عليها في أصولها أو مترجمة.
وفي سياق محاولة تحديث الدرس الجامعي بكليات الآداب، وانخراط جيل جديد من الأساتذة المغاربة في صوغ أسئلة نظرية ومنهجية ترمي إلى تخصيب الخطاب النقدي المغربي ومواكبته للمستجدات التي تجاوزت بكفاياتها التفسيرية الحدود الإقليمية، تحركت الآلة الروائية المغربية لتنفيذ الإملاءات النقدية كما تحركت "المؤسسة النقدية" الجديدة لرسم نظام روائي مغربي جديد يوزع الخارطة الروائية إلى محميات ومناطق نفوذ والي غيتوهات محاصرة، لتلفي "الرواية المغربية" نفسها –على هدي هذه الفوضى وبإيعاز من النقاد حتى من دون أن تدري- تحرق المراحل الواحدة تلو الأخرى. ويكفي أن نشير إلى أن روايتنا قطعت، من وجهة نظر صورية، بين 1942 و 1980 خطوات افتراضية عديدة عبر الأشكال التالية "السيرة الذاتية- السيرواية، الرواية المجتمعية، الرواية السياسية، الرواية التاريخية، الرواية البوليسية، رواية الخيال العلمي..." وهذه الأشكال، في تواليها أو تزامنها، مهيأة لملء حاجات صنافية واردة على الدوام، كاندراجها –مثلا- ضمن روايات المصالحة أو روايات المخاصمة مع الواقع الاجتماعي. إلى جانب ترتيبات أخرى لا تحد : كرواية الرواد ورواية الشباب، رواية المؤسسة ، ورواية المبادرة الخاصة، الرواية المنشورة ورواية الأدراج، وهلم جرا... ومشكلة هذه "النمذجات"، على أهميتها المنهجية، تكمن في آثارها المضللة، ففي الوقت الذي تؤكد فيه حقيقة قد تحجب، دونما قصد، حقائق نقيضة. إذ أن خلف الثراء الكمي والكيفي الذي توهم به الخطاطات يثوي فقر نصي وبؤس إبداعي لا سبيل إلى تجاهلهما أو اشتطاط العينات وتمحل الأمثلة لنفيهما. فربيع الرواية لا يصنعه نص يتيم ولا نصان. ويخيل إلينا أن الرواية المغربية في بحثها عن ذاتها زادت من الفجوة بينها وبين هذه الذات أولا، وبينها وبين الواقع ثانيا، وبينها وبين مجالها العربي ثالثا. وقد حفز هذا الخلل، أواسط الثمانينات، الروائيين والنقاد على التفكير في الخروج بالرواية من المزالق الحرجة التي من المحتمل أن تكون قد تورطت فيها جراء ملابسات تاريخية ساد فيها التباس في الاختيارات والوظائف (التطويب الولائي، الإجازة الحزبية، المجاملة، الصمت والتجاهل...) ومن جديد طرحت إمكانية إعادة الاعتبار إلى القيمة الإبداعية المطلقة، قصد ترتيب البيت الروائي المغربي وهيكلة مقوماته على أساس أن يكون روائيا ومغربيا بحق. والواقع أن هذا الوعي الإبداعي والنقدي قد أتى حصادا لا بأس به جنيت فيه ثمار –على قلتها- طيبة. وشيئا فشيئا اجتذب التأليف الروائي أقلاما كان أصحابها محسوبين على مجالات أخرى، كالفلسفة (بنسالم حميش وموليم العروسي) والقانون (عبد الحي مودن وميلودي حمدوشي) والتاريخ (أحمد التوفيق) والشعر (محمد السرغيني، عبد الله زريقة،محمد الأشعري، حسن نجمي...) والمهن الحرة (علي أفيلال)... واستقطب، إلى جانب الأسماء المتداولة أسماء جديدة كمحمد صوف وياسين بهوش والحبيب الدائم ربي وعبد الكريم جويطي وعبد الرحيم بهير وأحمد طليمات وزهور كرام ونور الدين وحيد وحسن رياض وعبد الوهاب الرامي وأحمد جزولي وغيرهم..
وبالانتعاش النسبي لحركية النشر في بلادنا، مع مطلع التسعينات، أمكن للرواية توسيع دائرة تداولها وتلقيها أكثر من ذي قبل (كما أن المشاركة في اللقاءات والمسابقات خارج الحدود الوطنية لفتت الأنظار إلى ممكنات الحكي على الطريقة المغربية !).
إلا أن مؤشرات أخرى دالة ما تزال تعوق الفعل الروائي ببلادنا : فحصيلة المتن الروائي المغربي منذ كان إلى الآن حوالي200 نص بالكاد، أغلبها ينتمي إلى التاريخ والمنقبة والحكاية والخبر والترجمة والسيرة ... أكثر من انتمائه الفعلي إلى الرواية، وما تبقى يغلب عليه، هو أيضا المكون السيري والتجريب المفارق للتجربة... والفاعلون الروائيون لا يتجاوز عددهم الثلاثين نفرا –بمن فيهم الأموات والمتوقفون عن الكتابة. والسواد منهم لم يبرح حاجز الإصدار الأول (لا يتداول القراء من النساء سوى اسم خناثة بنونة). والنقاد (الذين هم في جلهم كتاب رواية) لا يملكون بدا في الاختلاف في تقويم النصوص (فيم يختلفون والنصوص المركزية لاستشهاداتهم هي إلى أصابع اليد الواحدة أقرب ؟!). أما السوق فهي لا تقوى على امتصاص وتصريف أكثر من ألف نسخة من الإصدار الأدبي في مغرب يناهز الثلاثين مليون نسمة ولغته الرسمية اللغة العربية. هذا إلى جانب "انتشار الأمية، وغياب ناشرين متحمسين للرواية المحلية. والأدب ككل، وارتفاع تكاليف الطبع ونفقات التوزيع، وسلطات الرقابات على اختلافها" وعدم وضوح خطة ثقافية تنهض بها الوزارات المعنية بشؤون الثقافة والإبداع. كل هذا وسواه لا يسمح بوجود شرط روائي سليم، وبالتالي رواية مغربية لها بصماتها الذاتية المميزة، أما ادعاء مؤسسة أدبية مغربية تشغل الرواية أحد ركائزها –في الوقت الراهن- فمحض عربة أحلام أمام حصان أوهام. فهل يستقيم ظل الرواية المغربية وعودها أعوج ؟!
ما من شك في أن هذه الملاحظات المفتقرة إلى كثير من الحرص، قد تثير حفيظة بعض كتاب الرواية بالمغرب "الذين يلجأون، ودونما مناسبة إلى استظهار نرجسية محزنة في الادعاء" مع أن نيتنا –كجزء من الجسد الروائي- تتغيا إشاعة فضيلة النقد الذاتي، وتقويم إبداعنا وفق رؤى خارج النمط. ومعلوم أن أسماء وازنة كعبد الكريم غلاب، عبد الله العروي، محمد زفزاف، محمد برادة، محمد شكري،مبارك ربيع، خناثة بنونة، محمد عز الدين التازي، الميلودي شغموم، بنسالم حميش...مثلا، عدا الكتاب بغير العربية كالطاهر بنجلون،وإدريس الشرايبي، وعبد الكبير الخطيبي، إلخ... غذت مشهدنا الروائي المغربي والعربي بنصوص معتبرة، بيد أن هذه الإبدالات النصية وما تفتحه من آفاق قد لا تجعلنا نطمئن على مسيرة الرواية وعلى تلقيها. إذ ما يزال الروائيون المغاربة عموما بحاجة إلى التكوين المعرفي، بما هو تعمق في الانتماء إلى الأرض والتاريخ والمخيال المشترك، وتمكن من أدوات التعبير عن هذا الانتماء، وإلى التمرس على طرح الأسئلة الإشكالية –المحرجة- حول الغائب في المشروع الروائي المغربي ، دونما أنانية أو نفوج، حتى يتسنى للمنجز الروائي المغربي الاقتراب أكبر من تفاصيل المعيش والمتخيل، واستيحاء المقومات البانية للشخصية المغربية، في مماثلتها واختلافها، في وحدتها وتنوعها، مع الأخذ بعين الاعتبار كل التقاطعات المرجعية الممكنة التي تموقع المغرب، كفضاء حضاري وأفق تخييلي، بين المحلية والكونية، بالقدر الذي تغدو فيه المحلية مظهرا إبداعيا كونيا، والكونية انتصارا للعبقريات المحلية.
وعليه فما دامت حصيلتنا الروائية بهذا التواضع الكمي والكيفي، وما دمنا –كروائيين- لم نبدع نصوصا في مستوى تراثنا التاريخي والجغرافي والحضاري، وما دامت مراجعنا في الكتابة نابعة من النصوص وليس من الحياة والتجربة، فالأجدر بنا أن نقسو على ذواتنا في ما لم ننجزه بعد، وأن ينصب رهاننا، كما يرى الأستاذ محمد برادة، على الزمن الآتي الذي من الأمس ابتدأ
سنحاول هنا تقديم وجهة نظر شخصية –قابلة للنقض- تهم الرواية المغربية بين النشوء والارتقاء، بعيدا عن صرامة الطروح النقدية المتمركزة حول مصطلحاتها والمنشغلة عن مواضيعها بذواتها، معتمدين هذه المرة بلاغة المناوشة، عسى أن نحرك سكون واقع أو نخلخل اطمئنانا زائفا !
يقول الأستاذ أحمد اليبوري بصدد نشأة الفن الروائي بالمغرب : "تمثل "الزاوية" للتهامي الوزاني أول إنتاج شبه روائي بالمغرب، وهي و إن كانت لا تحمل على غلافها ما يشير إلى أية مقصدية، فإن استهلالها يحدد هويتها في حين يرى الدكتور سيد حامد النساج أن "ما يذكره بعض الكتاب المغاربة على أنه أعمال قصصية أو روائية ... لم تتوفر فيه أية إمكانيات أو مقومات تؤهله لأن يحتل موقع الريادة في مجال الفن الروائي" ويضيف أن "أول محاولة روائية في المغرب (في الطفولة) 1957 اتخذت شكل السيرة الذاتية"
ورغم أن سؤال البدايات قد لا يكون جوهريا بما يكفي، إلا أن أهميته، مع ذلك، تبقى أكيدة، لمن يريد مقاربة واقع المتن الروائي بالمغرب. ولربما قد يكشف هذا السؤال عن أسئلة أخرى يمكن، في ضوئها،رسم ملامح الكتابة الروائية المغربية وتوصيف مساراتها وتحولاتها على وجه التقريب.
وسواء تحدرت "الرواية المغربية" من الإرث الصوفي والتاريخي والقصصي كما يعتقد الأستاذ اليبوري –المتحمس للمنتوج الإبداعي المغربي، أم خرجت من معطف السيرة كما يريد لها سيد النساج من زاوية أخرى، فإن الانطلاقة الفعلية لما يطلق عليه الرواية المغربية –بنظرنا- لم تتواتر إلا بعيد الاستقلال (1955). فمعلوم أن بين "الزاوية" 1942 و "في الطفولة" 1957 (وهما معا لا تنتميان إلى الرواية، بما هي شكل أدبي له خوارزمياته المتميزة، إلا من باب الترخص الذي تبيحه هشاشة الحدود الأجناسية) مسافة زمنية لم يسجل فيها صدور نصوص مماثلة من شأنها أن تدعم افتراض كينونة روائية بالمغرب ،وبالتالي اطرادها خلال هذه الفترة، ما خلا مسرودات قصيرة معدودة كالجاسوسة السمراء وشقراء الريف والرومية الشقراء وغادة أصيلا لبعد العزيز بن عبد الله (ظهرت جميعها سنة 1949) ووزير غرناطة 1950 لعبد الهادي بوطالب، ومترجمات متفرقة كتلك التي نقلها عبد الكبير الفاسي وقاسم الزهيري.
إن مد الأرجل في الزمن لالتماس جذور نسب لشجرة الرواية بالمغرب بغرض منحها شهادة ترشيد قسري لن يضيف إلى عمرها إلا القليل قياسا إلى عمرها في أوربا أو بالمشرق العربي، مما يجعل من كتابة سيرتها، الآن، استباقا للأوان. سيما وأن الرواية، وبرغم الخطوات التي حققتها على امتداد تاريخها الكوني ما تزال جنسا أدبيا في طور التكوين وما يزال التكهن بجميع إمكانيات تشكلها مجرد مشروع مؤجل ضمن جدول أعمال طويل.
لهذا، سيكون القطع في مغربية الرواية –الآن- جبرا لخواطر مكسورة ليس إلا. فنصف قرن أو يزيد قليلا، من المحددات المعرفية والجمالية، لا يساعد على بلورة رواية لها كيان متجذر في الوعي التاريخي والجغرافي. غير أن الخوض في نشأة الرواية المغربية وامتدادها لا ينبغي له أن يتغاضى عن مجموعة من العوامل التي كان لها تأثيرها في النشأة والامتداد، نذكر منها :
- الحركة الوطنية وأفكارها المناهضة للاستعمار.
- الصراع الاجتماعي بخلفياته وسياقاته.
- التيارات النقدية والإيديولوجية.
- التواصل مع المشرق والعربي.
- المثاقفة مع الغرب.
وإذا كانت الرواية في العواصم العربية التقليدية (مصر، سوريا، لبنان) ، بحكم التفاوت التاريخي ، قد نجحت في تجاوز "صدمة البدايات" وتأسيس متخيل نافذ وخصب، فإن رواية الأطراف –ومنها الرواية المغربية- لم تتخلص بعد من أزمة هوية مضاعفة : فلا هي شرقية ولا هي غربية ولا هي هي ... من دون أن يحمل هذا على الاعتقاد بأن الأزمة حالة سلبية بالضرورة، أو أن الرواية المغربية من المحتوم عليها حفر مسارها على خطى المسار الروائي العربي. وإن كان من اللازم عدم إغفال الوشائح الرحمية بين رواية المغرب ورواية المشرق؛ التي مهما ضعفت تظل قوية.
والرواية المغربية التي تبدو الآن وكأنها تختط قدرها الخاص، الذي يصعب إصدار أحكام قيمة بشأنه، هي ابنة شرعية للرواية العربية. فمن جبتها خرجت، وإليها في النهاية –مهما نأت عنها- تؤول.
ففي غياب خبرة روائية سابقة ذات بال ، ظهر، مع الستينات، نصوص عبد الرحمن المريني ومحمد عزيز الحبابي وعبد الهادي بوطالب وعبد السلام البقالي... كأصداء ورجعان أصوات لجورجي زيدان وأحمد أمين وطه حسين ونجيب محفوظ ...مما أفقد كتاباتهم –باعتبارها رمزا للطفولة المبكرة للرواية المغربية- أية أصالة و أي إبداع حقيقيين.
ونظرا لحساسية الأدب والفن عموما تجاه الحيثيات الاجتماعية وأسباب النزول، سرعان ما كان للخيبات والهزائم التي قادت إليها حكومات الاستقلال –وطنيا وقوميا- ردود أفعال ارتكاسية زرعت بذور الشك في القيم والانتماءات والأحلام، وعرت زيف الشعارات الكبرى لتشهد حقبة السبعينات –بما طبعها من غليان –"عقوق" الروائيين المغاربة لآبائهم الروحيين من المشارقة وهم لما يبلغوا بعد "سن الرشد" القانوني الذي يؤمن لهم الحد الأدنى من اشتداد الساعد الإبداعي في التقليد والمحاكاة. ونكاية في الشعور باليتم لم يجدوا غضاضة في استجداء أبوة جديدة، منخدعين ببريق الامتياز الذي ما انفكت الثقافة الاستعمارية تمنحه لسدنتها والمدافعين عن لغتها وهيمنتها ومصالحها. فكان احتذاء "الرواية الجديدة" في طبعنها الفرنسية المتقادمة (ألان روب غرييه، نتالي ساروت، ميشال بوتور) وسيلتهم الطيعة للعبور إلى ضفة أخرى بدون مشقة كبيرة. وطمعا في مجد سهل المنال سارع الروائيون (وفي مقدمتهم أصحاب المواهب المشكوك فيها) إلى احتلال موطئ قدم في أرض "اللارواية"، تماما كما وجد شعراء أرهقتهم موازين الخليل المعقدة خلاصهم في قصيدة النثر. ولما كان شعار المرحلة هو التمرد على ما يشكل الامتداد للذات المهزومة، ولو كان ثمن ذلك وقوعا في أسر نماذج جديدة سالبة للهوية، فقد أمعن كتاب الرواية بالمغرب في تخريب عروض الرواية المغربية، الذي لم يتقنوه يوما في مستواه الديداكتيكي المدرسي، والاستعاضة عنه بمصفوقات نثرية بلا لون ولا طعم ولا رائحة موجهين سهام التعريض والسخرية إلى من ظل يكتب وفقا لعمود الرواية القديم (نذكر هنا عبد الكريم غلاب على التحديد).
وهكذا، وقبل أن تتعلم الرواية كيف تخطو نحو "سوسيولوجيا المضمون" نراها تتعثر في ما أطلق عليه عبد الله العروي "سوسيولوجيا الشكل" .ليتأكد بالملموس أن اختيارات الروائيين لم تكن أقل تخبطا من اختيارات القادة السياسيين. ففي أوج سيادة المضامين الواقعية التجأ المغاربة إلى الأشكال، متعالين في كتاباتهم الروائية عن واقع كانت أقدامهم على صفيحه الملتهب تحترق. وهل كان من المصادفة أيضا أن يحتفي نقاد الرواية –بدورهم- بالمناهج الشكلانية والبنيوية والمرحلة تقتضي الأخذ في الاعتبار بعنف المحتويات ؟!
ليس هذا وحسب، بل إن الانبهار ب "الرواية الجديدة" في فرنسا، عند هؤلاء وأولئك أتى من احتكاكهم بالدراسات النقدية التبشيرية وليس من تأثرهم بنصوص هذه الرواية التي من المستبعد أن يطلعوا، إلا فيما ندر، عليها في أصولها أو مترجمة.
وفي سياق محاولة تحديث الدرس الجامعي بكليات الآداب، وانخراط جيل جديد من الأساتذة المغاربة في صوغ أسئلة نظرية ومنهجية ترمي إلى تخصيب الخطاب النقدي المغربي ومواكبته للمستجدات التي تجاوزت بكفاياتها التفسيرية الحدود الإقليمية، تحركت الآلة الروائية المغربية لتنفيذ الإملاءات النقدية كما تحركت "المؤسسة النقدية" الجديدة لرسم نظام روائي مغربي جديد يوزع الخارطة الروائية إلى محميات ومناطق نفوذ والي غيتوهات محاصرة، لتلفي "الرواية المغربية" نفسها –على هدي هذه الفوضى وبإيعاز من النقاد حتى من دون أن تدري- تحرق المراحل الواحدة تلو الأخرى. ويكفي أن نشير إلى أن روايتنا قطعت، من وجهة نظر صورية، بين 1942 و 1980 خطوات افتراضية عديدة عبر الأشكال التالية "السيرة الذاتية- السيرواية، الرواية المجتمعية، الرواية السياسية، الرواية التاريخية، الرواية البوليسية، رواية الخيال العلمي..." وهذه الأشكال، في تواليها أو تزامنها، مهيأة لملء حاجات صنافية واردة على الدوام، كاندراجها –مثلا- ضمن روايات المصالحة أو روايات المخاصمة مع الواقع الاجتماعي. إلى جانب ترتيبات أخرى لا تحد : كرواية الرواد ورواية الشباب، رواية المؤسسة ، ورواية المبادرة الخاصة، الرواية المنشورة ورواية الأدراج، وهلم جرا... ومشكلة هذه "النمذجات"، على أهميتها المنهجية، تكمن في آثارها المضللة، ففي الوقت الذي تؤكد فيه حقيقة قد تحجب، دونما قصد، حقائق نقيضة. إذ أن خلف الثراء الكمي والكيفي الذي توهم به الخطاطات يثوي فقر نصي وبؤس إبداعي لا سبيل إلى تجاهلهما أو اشتطاط العينات وتمحل الأمثلة لنفيهما. فربيع الرواية لا يصنعه نص يتيم ولا نصان. ويخيل إلينا أن الرواية المغربية في بحثها عن ذاتها زادت من الفجوة بينها وبين هذه الذات أولا، وبينها وبين الواقع ثانيا، وبينها وبين مجالها العربي ثالثا. وقد حفز هذا الخلل، أواسط الثمانينات، الروائيين والنقاد على التفكير في الخروج بالرواية من المزالق الحرجة التي من المحتمل أن تكون قد تورطت فيها جراء ملابسات تاريخية ساد فيها التباس في الاختيارات والوظائف (التطويب الولائي، الإجازة الحزبية، المجاملة، الصمت والتجاهل...) ومن جديد طرحت إمكانية إعادة الاعتبار إلى القيمة الإبداعية المطلقة، قصد ترتيب البيت الروائي المغربي وهيكلة مقوماته على أساس أن يكون روائيا ومغربيا بحق. والواقع أن هذا الوعي الإبداعي والنقدي قد أتى حصادا لا بأس به جنيت فيه ثمار –على قلتها- طيبة. وشيئا فشيئا اجتذب التأليف الروائي أقلاما كان أصحابها محسوبين على مجالات أخرى، كالفلسفة (بنسالم حميش وموليم العروسي) والقانون (عبد الحي مودن وميلودي حمدوشي) والتاريخ (أحمد التوفيق) والشعر (محمد السرغيني، عبد الله زريقة،محمد الأشعري، حسن نجمي...) والمهن الحرة (علي أفيلال)... واستقطب، إلى جانب الأسماء المتداولة أسماء جديدة كمحمد صوف وياسين بهوش والحبيب الدائم ربي وعبد الكريم جويطي وعبد الرحيم بهير وأحمد طليمات وزهور كرام ونور الدين وحيد وحسن رياض وعبد الوهاب الرامي وأحمد جزولي وغيرهم..
وبالانتعاش النسبي لحركية النشر في بلادنا، مع مطلع التسعينات، أمكن للرواية توسيع دائرة تداولها وتلقيها أكثر من ذي قبل (كما أن المشاركة في اللقاءات والمسابقات خارج الحدود الوطنية لفتت الأنظار إلى ممكنات الحكي على الطريقة المغربية !).
إلا أن مؤشرات أخرى دالة ما تزال تعوق الفعل الروائي ببلادنا : فحصيلة المتن الروائي المغربي منذ كان إلى الآن حوالي200 نص بالكاد، أغلبها ينتمي إلى التاريخ والمنقبة والحكاية والخبر والترجمة والسيرة ... أكثر من انتمائه الفعلي إلى الرواية، وما تبقى يغلب عليه، هو أيضا المكون السيري والتجريب المفارق للتجربة... والفاعلون الروائيون لا يتجاوز عددهم الثلاثين نفرا –بمن فيهم الأموات والمتوقفون عن الكتابة. والسواد منهم لم يبرح حاجز الإصدار الأول (لا يتداول القراء من النساء سوى اسم خناثة بنونة). والنقاد (الذين هم في جلهم كتاب رواية) لا يملكون بدا في الاختلاف في تقويم النصوص (فيم يختلفون والنصوص المركزية لاستشهاداتهم هي إلى أصابع اليد الواحدة أقرب ؟!). أما السوق فهي لا تقوى على امتصاص وتصريف أكثر من ألف نسخة من الإصدار الأدبي في مغرب يناهز الثلاثين مليون نسمة ولغته الرسمية اللغة العربية. هذا إلى جانب "انتشار الأمية، وغياب ناشرين متحمسين للرواية المحلية. والأدب ككل، وارتفاع تكاليف الطبع ونفقات التوزيع، وسلطات الرقابات على اختلافها" وعدم وضوح خطة ثقافية تنهض بها الوزارات المعنية بشؤون الثقافة والإبداع. كل هذا وسواه لا يسمح بوجود شرط روائي سليم، وبالتالي رواية مغربية لها بصماتها الذاتية المميزة، أما ادعاء مؤسسة أدبية مغربية تشغل الرواية أحد ركائزها –في الوقت الراهن- فمحض عربة أحلام أمام حصان أوهام. فهل يستقيم ظل الرواية المغربية وعودها أعوج ؟!
ما من شك في أن هذه الملاحظات المفتقرة إلى كثير من الحرص، قد تثير حفيظة بعض كتاب الرواية بالمغرب "الذين يلجأون، ودونما مناسبة إلى استظهار نرجسية محزنة في الادعاء" مع أن نيتنا –كجزء من الجسد الروائي- تتغيا إشاعة فضيلة النقد الذاتي، وتقويم إبداعنا وفق رؤى خارج النمط. ومعلوم أن أسماء وازنة كعبد الكريم غلاب، عبد الله العروي، محمد زفزاف، محمد برادة، محمد شكري،مبارك ربيع، خناثة بنونة، محمد عز الدين التازي، الميلودي شغموم، بنسالم حميش...مثلا، عدا الكتاب بغير العربية كالطاهر بنجلون،وإدريس الشرايبي، وعبد الكبير الخطيبي، إلخ... غذت مشهدنا الروائي المغربي والعربي بنصوص معتبرة، بيد أن هذه الإبدالات النصية وما تفتحه من آفاق قد لا تجعلنا نطمئن على مسيرة الرواية وعلى تلقيها. إذ ما يزال الروائيون المغاربة عموما بحاجة إلى التكوين المعرفي، بما هو تعمق في الانتماء إلى الأرض والتاريخ والمخيال المشترك، وتمكن من أدوات التعبير عن هذا الانتماء، وإلى التمرس على طرح الأسئلة الإشكالية –المحرجة- حول الغائب في المشروع الروائي المغربي ، دونما أنانية أو نفوج، حتى يتسنى للمنجز الروائي المغربي الاقتراب أكبر من تفاصيل المعيش والمتخيل، واستيحاء المقومات البانية للشخصية المغربية، في مماثلتها واختلافها، في وحدتها وتنوعها، مع الأخذ بعين الاعتبار كل التقاطعات المرجعية الممكنة التي تموقع المغرب، كفضاء حضاري وأفق تخييلي، بين المحلية والكونية، بالقدر الذي تغدو فيه المحلية مظهرا إبداعيا كونيا، والكونية انتصارا للعبقريات المحلية.
وعليه فما دامت حصيلتنا الروائية بهذا التواضع الكمي والكيفي، وما دمنا –كروائيين- لم نبدع نصوصا في مستوى تراثنا التاريخي والجغرافي والحضاري، وما دامت مراجعنا في الكتابة نابعة من النصوص وليس من الحياة والتجربة، فالأجدر بنا أن نقسو على ذواتنا في ما لم ننجزه بعد، وأن ينصب رهاننا، كما يرى الأستاذ محمد برادة، على الزمن الآتي الذي من الأمس ابتدأ