روباش سمير
New Member
الدارجة والفصحى بين القصة والمرجع
هل يمكن الدفع بسؤال "الكتابة بالدارجة "إلى أقصى ممكناته دونما وقوع في مطب التنافي؟ بمعنى هل هناك إمكانية للحديث عن "كتابة أدبية"، في القصة كما في الرواية، في حال اعتمادهما كليا على سند شفوي (أو لا كتابي)؟ أليس من المجازفة ، مثلا، كتابة قصة قصيرة بالدارجة ،وهل بالوسع ذلك،من غير انحراف تكويني قد ينزع عن القصة أجناسيتها بما هي شكل له خصائصه الجوهرية المرتبطة ،أساسا، بالمكتوب؟وإذا ما تجاوزنا فعل المجازفة، كفعل يستمد شرعيته من خروج الإبداع ذاته عن مقتضى المألوف، للوقوف على ما يتبقى من "قصصية "القصة حين تكتب باللغة الدارجة،فما الذي سنصادفه في هذه "القصة" غير"الحكاية"؟وما جدوى تجريب الكتابة بالدارجة في القصة القصيرة(والرواية) طالما أن هذا الطريق لن يقود،في نهاية المطاف، سوى لفن ما قبل كتابي ما عادت توجبه مشترطات، هو فن الحكاية الشعبية؟ ألا توقع كتابة القصة القصيرة بالدارجة ، أي دارجة، إلى هدم لا مقصود للحدود بين جنسين مختلفتين هما الحكاية الشعبية والقصة القصيرة؟بل وإلى المماهاة بين محفلين راسخين هما المشافهة والكتابة؟
بيد أنه ليس من الحصافة التسرع في انتزاع أحكام تقوم على مقدمات وحدود يعوزها غير قليل من التماسك والصلابة. فالكتابة والمشافهة ممارستان متمايزتان، لا لأن الأولى(أي الكتابة) أثر غرافي(خطي) ولا لأن الثانية(أي المشافهة) لفظ أكوستي(منطوق ومسموع) وحسب، وإنما لأنهما يختلفان في مستوى التعاطي مع اللغة. بمعنى في درجة المقام الذي تحظى به الصنعة اللغوية ضمن بلاغة التصريح أو التلميح. فكلما تخطت اللغة عتبة الحقيقة نحو المجاز،وتدرجت الصياغة من التقرير نحو الإيحاء، كنا أمام فعل كتابي ولو كان معبّرا عنه شفويا . ناهيك عن كون الحوامل الإيقونية ليست تعلات كافية كي يكون ما هو مكتوب "كتابة" بالضرورة. إن الكتابة الإبداعية لا تختلف عن المشافهة فقط في كونها مرتهنة لاقتضاءات السند الإيقوني وشرطيته التدوينية، بل تختلف عن الشفوي والكتابي (بالمعنى الواسع) معا في انحيازها الحاسم إلى إمكانية قصوى في اختيار الدوال وأشكال الصياغة. نتكلم هنا عن الكتابة كمصطلح أدبي ونقدي، أي بما هي ممارسة تستعمل اللغة والصياغة استعمالا مخصوصا خارج ما هو وظيفي. فتجربة "عبيد الشعر" من شعراء العرب القدامى كانت ،وفق هذا الطرح، تجربة في الكتابة ، والقرآن ذاته كان "كتابا" رغم نزوله ، على الرسول(ص)، شفويا ومنجما. بينما لم تكن، في تقديرنا، تجارب أخرى، مسطورة في كتب، إلا ممارسات شفاهية (مثل أعمال المنفلوطي وطه حسين مثلا).
إن هذا الطرح من شأنه أن يساعدنا على إخراج إمكانية كتابة قصة قصيرة باللهجة الدارجة من دائرة الاستحالة، وإن كان في الوقت ذاته قد يهدد بإدراج عديد من القصص المكتوبة بالفصحى ضمن ما ليس قصة.لكنه طرح يفتح آفاقا واسعة للحوار حول مدى أهمية حضور الشفوي- في شقه اللغوي واللهجي- ضمن كتابة القصة القصيرة. ولأن توظيف الدوارج(ج. دارجة) واللغات الأجنبية، في القصص القصيرة والطويلة، العربيةن ومنهاالمغربية، واقع لا داعي لنفيه فإنه من الأنسب تشخيص تمظهراته النصية بدل الاختلاف حول تحقق حدوثه.لاستخلاص بعض النتائج والأفكار حول الجدوى الأطروحي والجمالي من توظيف التعابير والصيغ الدارجة في القصص القصيرة المكتوبة باللغة العربية الفصحى.
علينا أن نعترف أولا أن أي افتراض لنقاء اللغة،أي لغة، يبقى مجرد مصادرة على مطلوب نوستالجي طوباوي.الدوارج تفريعات للفصحى والفصحى قاسم الدوارج المشترك. والفصحي ليست فصيحة بإطلاق حتى داخل القواميس نفسها . وهي بالتالي لا تخلو- كفصحى- من تهجين مقصود ولا مقصود. وعليه فما من قصة أو رواية ممكنة التحقق بلغة فصحى مقطّرة ودون شوائب غير فصيحة، معجما وأسلوبا وتراكيب وأفكارا. . بمعنى أن التفصيح أو التدريج قد لا يكونان على مستوى المفردات وحدها، وإنما قد يكونان على مستويات عديدة منها ، مثلا،اتخاذ الفصيح مظهرا نطقيا دارجا أو العكس ، أوإهمال الإعجام أو إثباته، أوإغفال الهمزة أو التنصيص عليها،أوإضافة المدود أو حذفها.و أولى تمفصلات التوليف بين العربية الفصحى والدارجة في المتن القصصي تبرز،أساسا، في كون الفصحى، بخصائصها المشوشة بالدارجة، تستحوذ على السرد بينما تجد الثانية(الدارجة) مكانا لها ضمن الحوار. إذ استعمل أغلب كتاب القصة (والرواية) العرب في ثنايا قصصهم (ورواياتهم)، جزئيا أو كليا، حوارات باللهجة (اللغة) العامية ؛ بمن فيهم أولئك المتحمسون لنقاوة الفصحى (نذكر هنا يوسف إدريس، نجيب محفوظ ، يحي حقي، يوسف الشاروني،الطيب صالح،عبد الكريم غلاب، محمد زفزاف...). ولئن كان توظيف الدوارج في الحوار يجد له بعض المسوغات الموضوعية ما يمنحه حجيته التي يمكن تقبلها بسهولة؛ مادام إجراء حوارات بين شخوص وشرائح بشرية غير متعلمة بلغة غير الدارجة هو الذي قد يحتاج إلى القوة الإقناعية. الدارجة من الناحية العملية هي الأقرب إلى تشخيص ومحاكاة الحوارات المباشرة في مجتمعات لا وجود فيها لشخص واحد يتكلم اللغة الفصحى كلغة وظيفية في معيشه اليومي.. وفضلا عن كون اللغة العربية ليست أداة تواصل يومي بين الناس ألا يعمل التحاور في القصة بهذه اللغة العالمة على الابتعاد عن أجواء الحياة العامة، أو على الأقل ألا يجعل من الحوار محادثة إنشائية مفتعلة؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى ألا يصبح كل المتخاطبين في القصة ، على تباين مستوياتهم وجغرافياتهم وأوعائهم،متحدثين للغة نمطية لا نتوءات فيها ولا تلوينات؟سيكون من سوء التقدير جعل شخوص القصة ، على تفاوت لهجاتهم، يتكلمون بلغة واحدة هي لغة الكاتب.ومن ثم فاللهجة المحلية قد تكون هي ذلك البهار الذي لن تأخذ طبخة الكتابة القصصية نكهتها المائزة من دونه. ليس في الحوار وحسب ، بل وفي السرد والوصف أيضا. وليس في المحكي القصصي والروائي العربي وحده ، وإنما في كل الأداب العالمية. إن لغة القواميس، رغم تضمنها لكثير من الألفاظ العامية،ليست هي لغة التداول ولا لغة جزء غير يسير من القصص والروايات. ومع ذلك فإن المزاوجة بين الفصحى والعامية في الكتابة القصصية ، كواقع نصي ، قد يحتاج إلى ما يبرره على المستوى النظري. فليس كافيا الادعاء بكون الفصحي غير متداولة في الحياة العامة لكي يتم الانتصار اللامشروط للدارجة. ففي كل لغة فرص كبيرة للمناورات الخاصة بالتشخيص والأسلبة والمحاكاة وتمثل الأوعاء واللغات واللهجات المختلفة. هذا على فرض أن الدارجة بما هي أداة وظيفية للتواصل بين الجماعات السوسيولهجية تتوفر على مقومات القبض على موضوعها بدرجة خطإ أقل. إن من شأن الانتصار إلى توظيف الدارجة، في كتابة القصة القصيرة، على أساس اقترابها من نبض الحياة قد يدفع باستحالة الترجمة – ونعني هنا ترجمة السرود- إلى لغات أخرى. وهذا غير صحيح وتفنده الهجرة الموفقة لما لا حصر له من النصوص بين الضفاف اللغوية بكامل وهجها وحرارتها. هذا فضلا عن كون استيحاء نص قصصي أو روائي من واقع ما لايضع قيد اللغة أو اللهجة المتداولة في هذا الواقع قيدا ملزما أمام الكاتب. ففرانز كافكا كتب نصا جميلا عن أمريكا بلغته هو لا بلغة أمريكا ومن غير أن يزورها حتى، وبول بولز وخوان غويتسولو وكانيتي، وجوانا غليو وسواهم كتبوا قصصا وروايات عن بلادنا بلغاتهم وخارج ثنائيتي الفصحى والعامية أو السرد الفصيح والحوار المدرّج.
إن المسألة ، فيما نظن ، أعقد من تنازع بين فصحى ودارجة. إنه صراع مفتوح بين لغات ورؤى مختلفة داخل رقعة الكتابة بتنوع محاتدها ، ومظهر لقصور اللغة، أي لغة، عن استيعاب حالات معينة أو لعدم تملك للغة من قبل متكلميها بمن فيهم الأدباء والكتاب أو لكلتي الحالتين.فهناك كتاب قادرون على التجول داخل لغتهم بحرية للبحث عن الأعمق والأصدق من المفردات والصيغ وحين لا يظفرون ببغيتهم يقترضون من لغات أخرى أو لهجات. وهناك آخرون يتكئون على الدوارج واللغات الأخرى لأنهم يفتقرون إلى سبر أغوار أي لغة. لقد كان شارل بودلير مكرها للبحث ، خارج القاموس الفرنسي، عن لفظة تدل على شجن الروح فما وجد غير Spleen الإنجليزية. ولم يعثر سميح القاسم للتعبير عن تغريبة الفلسطيبي الذي تتقاذفه المنافي إلا على عبارة Persona non grattaكذلك الحال ، ربما، كان بالنسبة لياسين عدنان لما حسم أمر عنوان ديوانه في Mannequin. هذا عن الشعر الذي تظل فصاحته، قياسا إلى القصة والرواية، غير مشوشة كثيرا بعكارة الدوارج واللغات. ولا غرو أن تطفو إلى سطح النصوص السردية الفصيحة مظاهر لغوية "غير فصيحة" من خلل العناوين والموازيات النصية، بدءا "بالمعلم علي"- وربما قبلها مرورا بـ"الغابر الظاهر" و"هنا طاح الريال"و"الدنيا هانية" و"زريعة البلاد" وهلم تدريجا... هذا غير"كازابلانكا"و"سلستينا"و"ترانت سيس".وغيرها من العناوين غير العربية لنصوص سردية عربية. ولا خلاف في أن اللغة ، مهما طاوعت، لن تقوى على أن تنوب عن الواقع، فكلمة كلب لا تعض كما قال هنري جميس ، ونحن لاننام في كلمة سرير كما قال جان ريكاردو، وليس لكلمة سكين،الاعتباطية، مضاء لقطع تفاحة. لكن هذه البداهة لا ينبغي أن تكون تعلة لركوب مطية للإغارة على اللهجات من طرف العاجزين من كتاب القصة والرواية بدعوى محدودية الفصحى في التعبير عن الجواني والخبيئ واللامقبوض. فالدارجة أيضا قاصرة عن تمثل عديد من جوانب الفكر والحياة. الدارجة ما لم تكن ملاذا حين لاملاذ هي ، باعتقادنا ، مجرد حذلقة تخفي ضحالة في امتلاك الموضوع واللغة على السواء. الدارجة واللغات الأجنبية والعناوين المفتعلة لا مسوغ لها خارج مسوغات الذهاب أبعد من الفصحى، بعد استنفاد إسقاط محور الاختيار على محور التوزيع. من ثمة فالدارجة ليست قطعة غيار مزيفة في ماكينة الفصحى وإنما نافذة احتياطية فتحها لا يتم إلا لضرورة فنية لازبة.لأن الفصحى بوسعها ، ما لم يمنع مانع، ترجمة كلام السوقة وباعة السمك ، المثقفين والأميين، المحافظين والحداثين وسواهم. هؤلاء وأولئك ، شريطة أن يمتلك نواصيها الأديب ، حينها قد يصبح استعمال الدوارج واللغات الأخرى فائض قيمة لا عجزا في موازنة الكتابة القصصية والروائية كما يتجلى في عديد من نصوصنا.
هل يمكن الدفع بسؤال "الكتابة بالدارجة "إلى أقصى ممكناته دونما وقوع في مطب التنافي؟ بمعنى هل هناك إمكانية للحديث عن "كتابة أدبية"، في القصة كما في الرواية، في حال اعتمادهما كليا على سند شفوي (أو لا كتابي)؟ أليس من المجازفة ، مثلا، كتابة قصة قصيرة بالدارجة ،وهل بالوسع ذلك،من غير انحراف تكويني قد ينزع عن القصة أجناسيتها بما هي شكل له خصائصه الجوهرية المرتبطة ،أساسا، بالمكتوب؟وإذا ما تجاوزنا فعل المجازفة، كفعل يستمد شرعيته من خروج الإبداع ذاته عن مقتضى المألوف، للوقوف على ما يتبقى من "قصصية "القصة حين تكتب باللغة الدارجة،فما الذي سنصادفه في هذه "القصة" غير"الحكاية"؟وما جدوى تجريب الكتابة بالدارجة في القصة القصيرة(والرواية) طالما أن هذا الطريق لن يقود،في نهاية المطاف، سوى لفن ما قبل كتابي ما عادت توجبه مشترطات، هو فن الحكاية الشعبية؟ ألا توقع كتابة القصة القصيرة بالدارجة ، أي دارجة، إلى هدم لا مقصود للحدود بين جنسين مختلفتين هما الحكاية الشعبية والقصة القصيرة؟بل وإلى المماهاة بين محفلين راسخين هما المشافهة والكتابة؟
بيد أنه ليس من الحصافة التسرع في انتزاع أحكام تقوم على مقدمات وحدود يعوزها غير قليل من التماسك والصلابة. فالكتابة والمشافهة ممارستان متمايزتان، لا لأن الأولى(أي الكتابة) أثر غرافي(خطي) ولا لأن الثانية(أي المشافهة) لفظ أكوستي(منطوق ومسموع) وحسب، وإنما لأنهما يختلفان في مستوى التعاطي مع اللغة. بمعنى في درجة المقام الذي تحظى به الصنعة اللغوية ضمن بلاغة التصريح أو التلميح. فكلما تخطت اللغة عتبة الحقيقة نحو المجاز،وتدرجت الصياغة من التقرير نحو الإيحاء، كنا أمام فعل كتابي ولو كان معبّرا عنه شفويا . ناهيك عن كون الحوامل الإيقونية ليست تعلات كافية كي يكون ما هو مكتوب "كتابة" بالضرورة. إن الكتابة الإبداعية لا تختلف عن المشافهة فقط في كونها مرتهنة لاقتضاءات السند الإيقوني وشرطيته التدوينية، بل تختلف عن الشفوي والكتابي (بالمعنى الواسع) معا في انحيازها الحاسم إلى إمكانية قصوى في اختيار الدوال وأشكال الصياغة. نتكلم هنا عن الكتابة كمصطلح أدبي ونقدي، أي بما هي ممارسة تستعمل اللغة والصياغة استعمالا مخصوصا خارج ما هو وظيفي. فتجربة "عبيد الشعر" من شعراء العرب القدامى كانت ،وفق هذا الطرح، تجربة في الكتابة ، والقرآن ذاته كان "كتابا" رغم نزوله ، على الرسول(ص)، شفويا ومنجما. بينما لم تكن، في تقديرنا، تجارب أخرى، مسطورة في كتب، إلا ممارسات شفاهية (مثل أعمال المنفلوطي وطه حسين مثلا).
إن هذا الطرح من شأنه أن يساعدنا على إخراج إمكانية كتابة قصة قصيرة باللهجة الدارجة من دائرة الاستحالة، وإن كان في الوقت ذاته قد يهدد بإدراج عديد من القصص المكتوبة بالفصحى ضمن ما ليس قصة.لكنه طرح يفتح آفاقا واسعة للحوار حول مدى أهمية حضور الشفوي- في شقه اللغوي واللهجي- ضمن كتابة القصة القصيرة. ولأن توظيف الدوارج(ج. دارجة) واللغات الأجنبية، في القصص القصيرة والطويلة، العربيةن ومنهاالمغربية، واقع لا داعي لنفيه فإنه من الأنسب تشخيص تمظهراته النصية بدل الاختلاف حول تحقق حدوثه.لاستخلاص بعض النتائج والأفكار حول الجدوى الأطروحي والجمالي من توظيف التعابير والصيغ الدارجة في القصص القصيرة المكتوبة باللغة العربية الفصحى.
علينا أن نعترف أولا أن أي افتراض لنقاء اللغة،أي لغة، يبقى مجرد مصادرة على مطلوب نوستالجي طوباوي.الدوارج تفريعات للفصحى والفصحى قاسم الدوارج المشترك. والفصحي ليست فصيحة بإطلاق حتى داخل القواميس نفسها . وهي بالتالي لا تخلو- كفصحى- من تهجين مقصود ولا مقصود. وعليه فما من قصة أو رواية ممكنة التحقق بلغة فصحى مقطّرة ودون شوائب غير فصيحة، معجما وأسلوبا وتراكيب وأفكارا. . بمعنى أن التفصيح أو التدريج قد لا يكونان على مستوى المفردات وحدها، وإنما قد يكونان على مستويات عديدة منها ، مثلا،اتخاذ الفصيح مظهرا نطقيا دارجا أو العكس ، أوإهمال الإعجام أو إثباته، أوإغفال الهمزة أو التنصيص عليها،أوإضافة المدود أو حذفها.و أولى تمفصلات التوليف بين العربية الفصحى والدارجة في المتن القصصي تبرز،أساسا، في كون الفصحى، بخصائصها المشوشة بالدارجة، تستحوذ على السرد بينما تجد الثانية(الدارجة) مكانا لها ضمن الحوار. إذ استعمل أغلب كتاب القصة (والرواية) العرب في ثنايا قصصهم (ورواياتهم)، جزئيا أو كليا، حوارات باللهجة (اللغة) العامية ؛ بمن فيهم أولئك المتحمسون لنقاوة الفصحى (نذكر هنا يوسف إدريس، نجيب محفوظ ، يحي حقي، يوسف الشاروني،الطيب صالح،عبد الكريم غلاب، محمد زفزاف...). ولئن كان توظيف الدوارج في الحوار يجد له بعض المسوغات الموضوعية ما يمنحه حجيته التي يمكن تقبلها بسهولة؛ مادام إجراء حوارات بين شخوص وشرائح بشرية غير متعلمة بلغة غير الدارجة هو الذي قد يحتاج إلى القوة الإقناعية. الدارجة من الناحية العملية هي الأقرب إلى تشخيص ومحاكاة الحوارات المباشرة في مجتمعات لا وجود فيها لشخص واحد يتكلم اللغة الفصحى كلغة وظيفية في معيشه اليومي.. وفضلا عن كون اللغة العربية ليست أداة تواصل يومي بين الناس ألا يعمل التحاور في القصة بهذه اللغة العالمة على الابتعاد عن أجواء الحياة العامة، أو على الأقل ألا يجعل من الحوار محادثة إنشائية مفتعلة؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى ألا يصبح كل المتخاطبين في القصة ، على تباين مستوياتهم وجغرافياتهم وأوعائهم،متحدثين للغة نمطية لا نتوءات فيها ولا تلوينات؟سيكون من سوء التقدير جعل شخوص القصة ، على تفاوت لهجاتهم، يتكلمون بلغة واحدة هي لغة الكاتب.ومن ثم فاللهجة المحلية قد تكون هي ذلك البهار الذي لن تأخذ طبخة الكتابة القصصية نكهتها المائزة من دونه. ليس في الحوار وحسب ، بل وفي السرد والوصف أيضا. وليس في المحكي القصصي والروائي العربي وحده ، وإنما في كل الأداب العالمية. إن لغة القواميس، رغم تضمنها لكثير من الألفاظ العامية،ليست هي لغة التداول ولا لغة جزء غير يسير من القصص والروايات. ومع ذلك فإن المزاوجة بين الفصحى والعامية في الكتابة القصصية ، كواقع نصي ، قد يحتاج إلى ما يبرره على المستوى النظري. فليس كافيا الادعاء بكون الفصحي غير متداولة في الحياة العامة لكي يتم الانتصار اللامشروط للدارجة. ففي كل لغة فرص كبيرة للمناورات الخاصة بالتشخيص والأسلبة والمحاكاة وتمثل الأوعاء واللغات واللهجات المختلفة. هذا على فرض أن الدارجة بما هي أداة وظيفية للتواصل بين الجماعات السوسيولهجية تتوفر على مقومات القبض على موضوعها بدرجة خطإ أقل. إن من شأن الانتصار إلى توظيف الدارجة، في كتابة القصة القصيرة، على أساس اقترابها من نبض الحياة قد يدفع باستحالة الترجمة – ونعني هنا ترجمة السرود- إلى لغات أخرى. وهذا غير صحيح وتفنده الهجرة الموفقة لما لا حصر له من النصوص بين الضفاف اللغوية بكامل وهجها وحرارتها. هذا فضلا عن كون استيحاء نص قصصي أو روائي من واقع ما لايضع قيد اللغة أو اللهجة المتداولة في هذا الواقع قيدا ملزما أمام الكاتب. ففرانز كافكا كتب نصا جميلا عن أمريكا بلغته هو لا بلغة أمريكا ومن غير أن يزورها حتى، وبول بولز وخوان غويتسولو وكانيتي، وجوانا غليو وسواهم كتبوا قصصا وروايات عن بلادنا بلغاتهم وخارج ثنائيتي الفصحى والعامية أو السرد الفصيح والحوار المدرّج.
إن المسألة ، فيما نظن ، أعقد من تنازع بين فصحى ودارجة. إنه صراع مفتوح بين لغات ورؤى مختلفة داخل رقعة الكتابة بتنوع محاتدها ، ومظهر لقصور اللغة، أي لغة، عن استيعاب حالات معينة أو لعدم تملك للغة من قبل متكلميها بمن فيهم الأدباء والكتاب أو لكلتي الحالتين.فهناك كتاب قادرون على التجول داخل لغتهم بحرية للبحث عن الأعمق والأصدق من المفردات والصيغ وحين لا يظفرون ببغيتهم يقترضون من لغات أخرى أو لهجات. وهناك آخرون يتكئون على الدوارج واللغات الأخرى لأنهم يفتقرون إلى سبر أغوار أي لغة. لقد كان شارل بودلير مكرها للبحث ، خارج القاموس الفرنسي، عن لفظة تدل على شجن الروح فما وجد غير Spleen الإنجليزية. ولم يعثر سميح القاسم للتعبير عن تغريبة الفلسطيبي الذي تتقاذفه المنافي إلا على عبارة Persona non grattaكذلك الحال ، ربما، كان بالنسبة لياسين عدنان لما حسم أمر عنوان ديوانه في Mannequin. هذا عن الشعر الذي تظل فصاحته، قياسا إلى القصة والرواية، غير مشوشة كثيرا بعكارة الدوارج واللغات. ولا غرو أن تطفو إلى سطح النصوص السردية الفصيحة مظاهر لغوية "غير فصيحة" من خلل العناوين والموازيات النصية، بدءا "بالمعلم علي"- وربما قبلها مرورا بـ"الغابر الظاهر" و"هنا طاح الريال"و"الدنيا هانية" و"زريعة البلاد" وهلم تدريجا... هذا غير"كازابلانكا"و"سلستينا"و"ترانت سيس".وغيرها من العناوين غير العربية لنصوص سردية عربية. ولا خلاف في أن اللغة ، مهما طاوعت، لن تقوى على أن تنوب عن الواقع، فكلمة كلب لا تعض كما قال هنري جميس ، ونحن لاننام في كلمة سرير كما قال جان ريكاردو، وليس لكلمة سكين،الاعتباطية، مضاء لقطع تفاحة. لكن هذه البداهة لا ينبغي أن تكون تعلة لركوب مطية للإغارة على اللهجات من طرف العاجزين من كتاب القصة والرواية بدعوى محدودية الفصحى في التعبير عن الجواني والخبيئ واللامقبوض. فالدارجة أيضا قاصرة عن تمثل عديد من جوانب الفكر والحياة. الدارجة ما لم تكن ملاذا حين لاملاذ هي ، باعتقادنا ، مجرد حذلقة تخفي ضحالة في امتلاك الموضوع واللغة على السواء. الدارجة واللغات الأجنبية والعناوين المفتعلة لا مسوغ لها خارج مسوغات الذهاب أبعد من الفصحى، بعد استنفاد إسقاط محور الاختيار على محور التوزيع. من ثمة فالدارجة ليست قطعة غيار مزيفة في ماكينة الفصحى وإنما نافذة احتياطية فتحها لا يتم إلا لضرورة فنية لازبة.لأن الفصحى بوسعها ، ما لم يمنع مانع، ترجمة كلام السوقة وباعة السمك ، المثقفين والأميين، المحافظين والحداثين وسواهم. هؤلاء وأولئك ، شريطة أن يمتلك نواصيها الأديب ، حينها قد يصبح استعمال الدوارج واللغات الأخرى فائض قيمة لا عجزا في موازنة الكتابة القصصية والروائية كما يتجلى في عديد من نصوصنا.