العقل المؤمن و العقل المعاشي ( 1 ) .

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على أشرف خلق الله .


" أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها . فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور "

هذه سلسلة حلقات نتتبع فيها ( بالموازاة مع سلسلة " النفس " ) محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي و سيطرة الهوى .

هناك فرق جوهري بين من يستقي من حوض اللائيكية و ينظر بمنظار مستعار و تجري في دمائه الثقافية تيارات فلسفية متطورة متدرعة بالحجة العلومية . و بين من يستهدي بالوحي من ضلالات العقل المعاشي الأصم الأعمى الذي يصطدم خفاشه بنور الوحي فلا يزداد إلا ضلالا .
بين يدي المؤمنين و المؤمنات كتاب الله تعالى خالق الإنسان و مركب مداركه و هادي من يشاء إلى صراط مستقيم .
من هنا تبدأ خصوصية العقل المؤمن و اختلافه الجوهري عن العقل المشترك بين البشر عقل النظر القائم بذاته المستقل المتأله عقل المعاش المدبر لشؤون الحياة الدنيا المحجوب عن حقائق الغيب ما دام لا يسمع من الوحي و لا يبصر نور الوحي .
ليست المسألة اصطلاحا يفرز العقل المؤمن الآخذ عن الله على حدة و العقل المعاشي على حدة .بل هو تميز جوهري . ليس الأمر ترتيبا في درجات يكون العقل المعاشي الفلسفي أكثر أو أقل حكمة و ذكاء من العقل المؤمن . بل هو اختلاف نوعي .
للعقل المعاشي العلومي مجال واسع للتفكير و التدبير المنطقي في نطاق الكونيات . متى حاول هذا العقل أن يقتحم ما فوق طوره هام في بحور الفلسفة و الأطروحات و التقديرات . إلا أن تتداركه رحمة من الله فتسوقه من آفاقه التائهة رجوعا الى عتبة الفطرة .
عتبة الفطرة هي بكل بساطة حاجة كل مصنوع لصانع . بديهية من بديهيات العقل البشري الساذج تتلفها الفلسفة و تدكها دكا و تردمها في ركام التقديرات . فإذا العقل البشري المعاشي المصاب بداء العمى عن البديهيات يقبل ببلادة أن يكون هو مصنوعا لنفسه .( انظر المثال أسفله ) .


السلام عليكم .

مثال : داروين الفيلسوف الكبير تبلور مذهبه و ترسخت لديه عقيدته لما زار جزر الجلاباجوس و تتلمذ هناك على طبيعة انعزلت عن القارة ملايين السنين فطورت لنفسها نمطا للحياة . طورت في زعمه و عماه .
سحلاة برية طورت لنفسها على مدى حقب رئتين واسعتين لتتمكن من الغوص في البحر و تلتقم من أعشاب البحر لما شحت عنها أعشاب البر .
على مدى حقب طويلة طورت السلحفاة العملاقة أميرة الجلاباجوس أسلوبا للحياة و مقومات للحياة تتماشى مع المحيط الطبييعي . و سميت الجزر باسم السلحفاة . جلاباجو بالاسبانية تعني سلحفاة .
ماذا فعلت لنفسها هذه الماكرة ؟ إنها صنعت لنفسها على مدى أحقاب عنقا طويلة لتبلغ أغصان الشجيرات البعيدة عادة عن متناول السلاحف .
و صعد داروين على ظهر السلحفاة الأستاذة فانجلى له المذهب التطوري الذي خرج به على الناس . و استقرأ ما في القارات سهلها و جبالها قاحلها و عامرها فوجد أن قانون التطور عام في الطبيعة التي تصنع نفسها بنفسها . و تطور لأفرادها أعضاء تتلاءم مع البيئة المتطورة .
هكذا سحلاة الجلاباجوس و سلحفاتها . و هكذا حشرات الصحراء و حيتان البحر . و هكذا القرد الذي طور نفسه زمانا بعد زمان حتى استوى قائما . و استعمل الآلات الحجرية فنمى عقله . و وسع جمجمته . و أثقل وزن مخه . و تعاظم ذكاؤه . و نثر على بشرته الزغب . و قوم أنفه . و سوى خلقه . و نطق بالكلام همهمة بعد إشارة . ثم لغة فلغات . ثم علوما و فلسفة .
و هكذا يدور العقل المعاشي الفيلسوف في منطق مغلق لما انسدت مسالكه و انحبست قنواته و عميت عينه و صمت أذنه عن السماع من الوحي .
 
عودة
أعلى