محمد راقي
New Member
يا بني آدم، أنصفوا المرأة ولا تظلموها...
نعم نحن نظلم المرأة حين نحملها مواريث الماضي المظلم البعيد، فنؤاخذها بجرائم الساقطات، وننظر إليها نظرتنا إلى المخلوق الخبيث الشرير، والكائن الدنيء الحقير، ونظن أنها معجونة بماء الشر، فلا يصدر عنها الخير، ولا ينطوي صدرها على فضيلة أبدا.
ونحن نظلمها حين نفضل الذكور عليها في الحب والمعاملة والوصية وغير ذلك، فنبذر في نفسها من أول الطريق بذور الحقد والضغينة والعناد، ولا زال أكثرنا يشعر بشعور جاهلي تجاه المرأة، مما تصوره العبارة القرآنية الكريمة : (( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على وهن أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون )) .
ونحن نظلم المرأة حين نتركها جاهلة أمية، لا نعلمها ولا نثقفها، فلا يسهل عليها حينئذ أن تميز الخبيث من الطيب، ولا تعرف كيف تحسن التصرف في أمور الحياة، ولا كيف تحفظ نفسها وتصون كرامتها منفردة ومجتمعة، ولو تسلحت بالعلم الصحيح القويم لاعتدلت به وتقوت.
ونحن نظلم المرأة حين لا نطبعها على الفضائل النبيلة، والأخلاق الكريمة، والعقيدة السليمة من أول الطريق، حتى نعمر دنياها بالصلاح والصالحات فكم من تقيات عفيفات كان الدين لهن مشكاة هدتهن إلى سبل المكارم وقمم المآثر، وبعض النساء في هذا المجال أفضل من بعض الرجال.
ونحن نظلمها حين نحبسها في دارها، لا للصيانة والرعاية، بل لتكون كقطع الأثاث المقتنى، فكبت ثقيل مسرف، وحرمان شديد مشتط، واستغلال مادي عنيف، وقد كنا نستطيع حتى مع الحجاب المنظم أن نعطيها حقوقها، وأن نصون لها كرامتها، وأن نهيئ لها فرص الرياضة والانتقال والحركة، والتمتع الطاهر بطيبات الحياة والطبيعة، في أمن وسلام، وعفة واستتار، ولكن كيف السبيل إلى ذلك ومنا من لا يزال يقف من المرأة موقف الذئب من الشاة ؟.
ونحن نظلمها حين لا نستشيرها، ولا نقيم لها كيانا ولا اعتبارا في المنزل، فنقضي الأمور، ما تعلق بها، وما قرب منها، وما بعد عنها، ولا يفكر الرجل منا أن يقول لأمه أو زوجته أو ابنته أو أخته: ما رأيك؟. ولو على سبيل المجاملة و(( تطييب الخاطر)).
ونحن نظلمها حين نكبت عواطفها ونزعاتها وغرائزها، بصورة جاهلة حمقاء نكبتها كبت المستبدين الجهلاء، وقد كنا نستطيع أن نهذبها تهذيب المربين الحكماء وقد كنا نستطيع أن ننفس عن هذه الغرائز والعواطف بطرق مأمونة مشروعة، أو نصعدها ونتسامى بها عن طريق الفنون الجميلة، والآداب الراقية، والرياضة المناسبة، والعمل المثمر الشاغل المحبوب... ولو فعلنا لتجنبنا الكوارث، وقطفنا يانع الثمرات.
ونحن نظلمها حين يزين لنا الشيطان اللعين اللئيم أن نحبسها في البيت (( عانسا )) تضطرم في صدرها مشاعر، وتثور في نفسها عواطف، وتستمد بثباتها مزعزعات، ونحن نرضي (( مركب النقص )) فينا ونشبع رغبة الرجولية الكاذبة، والتفاخر الأعمى، والكبرياء الخداعة، والخاطبون يتوافدون على البيت خاطبا بعد خاطب، ونحن نشمخ بالأنوف إلى العلاء، بينما الإست في الماء، كما قال القدماء، ويرجع الخاطبون بالخيبة والفشل. هذا لأنه ليس ابن عمها. وما هو ابن عمها أيها الناس؟ وهذا لأنه ليس كفؤا لها، كأنها من طبقة فوق طبقة البشر، وهذا لأنه ليس غنيا مثل أهلها. وما فائدة الغنى والثراء، والقلوب والنفوس هواء؟. وهذا لأنه ليس مشهورا ذائع الصيت مرموق المكانة كإخوتها... وهذا، وهذا... إلى آخر المعاذير التافهة والأسباب الهزيلة التي لا تنهض على أساس...ألا لعنة الله على الحمقى السفهاء.
وتظل العانس في المنزل العامر، ويقبل ربيع الحياة ويمضي، ويقبل عليها الخريف بويلاته وبروده، فتنحرف نفسية المرأة وتحقد على الحياة والأحياء، وليس ببعد أن تزل وتهوى، أو تضل وتطغى، والمجرمون هناك طلقاء.
ونحن نظلمها حين ندخل عليها عامدين أو غافلين بأسباب الثورة والتمرد والانحراف، ونضع تحت عينها وفي متناول يدها وسائل التحرر الجاهل، ودوافع الانطلاق الأعمى، ونجعلها ترى ما يحدث في الحياة المدنية من تطورات وزلازل، عن طريق المذياع والصحيفة والمجلة والتصرفات الشخصية والأحاديث -المتناثرة وعلى الرغم من كل هذا التحريض السافر المستمر، نظل نقول لها أمرين متجبرين متعنتين: حذار، لا تتحركي ولا تنطلقي. هذه الثمرات حرام عليك. وهذا خلق لكل الناس إلا لك. وهذا الذي يفعله الناس، وترينه فينا أمامك، أو تسمعينه مما حولك، لا يليق بك أن تفعليه...
فما أشبهها حينئذ بهر جائع، نضع بين يديه أشهى أنواع اللحوم، ثم نقول له: حذار أيها السنور أن تمس شيئا من هذه اللحوم... ونحن نظلمها حين تزل وتقع.. وهنا تكون الطامة الكبرى، وهنا يكون التصرف الأحمق الأرعن... وهنا يكون إرضاء الكبرياء الكاذبة فحسب... لقد وقعت، فيجب أن تقطع رقبتها.
لم نسأل عن السبب، ولا عن الدافع، ولا عن الظروف، ولا عن المحرضات، ولا عن الشركاء، وربما ذبحت المرأة إرضاء للغرور الكاذب، أو الفخر الدعي، بينما يوجد المجرمون الأصليون في حرية يمرحون، بل لعل بعض الذين حزوا رقبة الشاة- لأنها طعمت من الحمى الحرام- كانوا أول من حرض الشاة على أن ترعى من ذلك الحمى الحرام، وما ظنك برجل يلجئ المرأة إلجاء إلى الوقوع في الجريمة، بغفلته أو حمقه أو تساهله، أو غير ذلك من تصرفاته، فإذا ما وقعت نسي هذا كله، وطالب برقبتها؟.
يا بني ادم، أنصفوا المرأة ولا تظلموها... أعطوها حقوقها وحظوظها من الرعاية، والعلم، الخلق، والدين، والكرامة، والاحترام، وتبادل الشعور، والصيانة، والتوجيه، والتنفيس، والتصعيد، ثم حاسبوها بعد ذلك. واذكروا على الدوام أن النساء شقائق الرجال.
الدكتور أحمد الشرباصي
الأستاذ بجامعة الأزهرالشريف
من كتاب يسألونك في الدين والحياة :مجلد : 3...صفحة : 96 ...99