محمد شتيوى
مستشار سابق
مظاهر الغلو فى قصائد المديح النبوى
الكاتب / سليمان بن عبد العزيز الفريجي
(1)
منذ أن انتشر الإسلام أقبل الأدباء على مدح نبيه صلى الله عليه وسلم بمدائح كثيرة , حفظ لنا التاريخ شيئا منها , ومن أقدمها ما جاء عن أم معبد رضى الله عنها , من وصفها للنبى صلى الله عليه وسلم بعدما حل بخيمتها فى طيق هجرته إل المدينة , وكان من وصفها ( إن صمت فعليه الوقار , وإن تكلم سماه وعلاه البهاء , أجمل الناس وابهاه من بعيد , وأحسنه وأجمله من قريب , حلو المنطق , لا نزر ولا هزر ) (1)
كما كان لشعراء الرسول صلى الله عليه وسلم كحسان ابن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير وكعب ابن مالك والعباس بن مرداس .. وغيرهم قصائد عدة فى مدحه ورثائه , منها قصيدة حسان بن ثابت رضى الله عنه , التى مطلعها :
بَطَيبَةَ رَسمٌ لِلرَسولِ وَمَعهَدُ ... مُنيرٌ وَقَد تَعفو الرُسومُ وَتَهمَدِ
وَلا تَمتَحي الآياتُ مِن دارِ حُرمَةٍ ... بِها مِنبَرُ الهادي الَذي كانَ يَصعَدُ
ومنها قصيدة كعب بن زهير رضى الله عنه , التى قالها بعد إسلامه , واعتذر بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وألقاها بين يديه فى مسجده وسط صحابته , ومطلعها :
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ ... مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ
وفيها يقول :
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني ... وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ الـ ... قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ
لَذاكَ أَهَيبُ عِندي إِذ أُكَلِّمُهُ ... وَقيلَ إِنَّكَ مَسبورٌ وَمَسؤولُ
مِن ضَيغَمٍ مِن ضِراءَ الأُسدِ مُخدِرَةً ... بِبَطنِ عَثَّرَ غيلٌ دونَهُ غيلُ
إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
بل إن من شعراء الكفار من مدحه وأثنى عل أخلاقه الكريمة , كعمه ابى طالب فى قصيدته المشهورة , ومنها قوله :
وَأَبيَضَ يُستَسقى الغَمامُ بِوَجهِهِ ... ثِمالُ اليَتامى عِصمَةٌ لِلأَرامِلِ
وكالأعشى الكبير ميمون بن قيس الذى مدح النبى صلى الله عليه وسلم بقصيدة رائعة , وجاء بها ليُسلم بها عنده , ويلقيها بين يديه , ولكن قريشاً أفرته بالدنيا , فعاد ومات كافرا , ومن قصيدته قوله :
نَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ ... أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا
لَهُ صَدَقاتٌ ما تُغِبُّ وَنائِلٌ ... وَلَيسَ عَطاءُ اليَومِ مانِعَهُ غَدا
وهكذا اتصل مدح النبى صلى الله عليه وسلم فى حياته , ورثاؤه بعد مماته , وذكر اخلاقه واوصافه عند أصحابه والتابعين دون غلو أو تجاوز لحدود المشروع .
(2)
وبعد قيام دولة بنى أمية والحوادث التى جرت لآل بيت على بن ابى طالب رضى الله عنه , وتشيع من تشيع لهم , بدأت المبالغة فى مدحهم والثناء عليهم , حتى اشتهر شعراء بذلك , وأكثروا منه , كالكُمَيْت الاسدى , ودعبل الخزاعى , والشريف الرضى , ومهيار الديلمى , وهؤلاء جاءت مبالغتهم من غلوهم فى رجالات آل البيت , وتفضيلهم على من يرونهم أعداء لهم من الأمويين , فموقفهم فى الحقيقة سياسى أكثر من كونه معتمدا على اقتناعاتهم الشرعية , فلهذا جاء كلامهم على آل على بن ابى طالب رضى الله عنه دون غيرهم , حتى النبى صلى الله عليه وسلم و قلَّ مديحهم له فى مقابل مديحهم لآل بيت على بن ابى طالب رضى الله عنه .
ومن أشعارهم ( هاشميات الكُمَيْت ) واشهرها : البائيتان واللامية والميمية , يقول فى إحدى البائيتين :
إلى النَّفَرِ البيضِ الذِينَ بِحُبِّهم ... إلى الله فِيمَا نَابَنِي أتَقَرَّبُ
بَنِي هَاشِمٍ رَهطِ النَّبِيِّ فإنَّنِي ... بِهِم ولَهُم أَرضَى مِرَاراً وأغضَبُ
وما جاء عن هؤلاء من المدح الخاص بالنبى صلى الله عليه وسلم يكاد يكون مدحا معتادا , لا نجد فيه ما سنجده فى مدائح الصوفية فى القرن السابع , ومن ذلك قول الكميت :
وأنت أمينُ الله في الناسِ كلِّهم ... علينا وفيما احتازَ شرقٌ ومغرِبُ
وبُورِكتَ مَولُوداً وبُورِكتَ نَاشِئاً ... وبُورِكتَ عِندَ الشَّيبِ إِذ أنتَ أشيَبُ
وَبُورِكَ قَبرٌ أنتَ فِيهِ وبُورِكَت ... بِهِ وَلَهُ أهلٌ لِذَلِكَ يَثرِبُ
لَقَد غَيَّبُوا بِرَّاً وصِدقاً ونَائِلاً ... عَشِيّةَ وَارَاكَ الصَّفِيحُ المُنَصَّبُ
(3)
ومع ذلك كان مدح من مضى لآل البيت أكثره صادقا , لأنهم يمدحونهم والدنيا ليست بأيديهم , خلاف شعراء الدولة العبيدية المنتسبة – زورا - إلى فاطمة الزهراء رضى الله عنها التى كان الشعراء يتزلفون إلى حكامهم بمدحهم , ومدح آل البيت , ومنه مدح النبى صلى الله عليه وسلم , وهذا المدح غير داخل فى حقيقيته فى المدائح النبوية , لأنه مدح من أجل الدنيا , لا لحبهم أو التقرب إلي الله بمدحهم , وله1ا وصل الامر ببعضهم إلى الشرك كابن هانئ الاندلسى , حيث يقول فى مدح المعز لدين الله الفاطمى :
ما شِئتَ لا ما شاءَتِ الأقْدارُ ... فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
ويقول :
ولكَ الجواري المُنشَآتُ مواخِراً ... تَجري بأمركَ والرّياحُ رُخَاء
ولهذا كان مدح هؤلاء منصبَّاً على حكام الدولة العبيدية , ومن يزعُم من هؤلاء الحكام محبتهم من رجالات آل البيت , ويقل فيه مدح النبى صلى الله عليه وسلم .
(4)
وتستمر المدائح النبوية , دائرة حول أوصاف النبى صلى الله عليه وسلم الخُلُقية والخَلقية المعروفة , ولا نجد ذلك الغلو الذى يخرج بالمدائح النبوية إلى رفع النبى صلى الله عليه وسلم فوق مقامه البشرى , وإضفاء بعض الصفات الإلهية عليه إلا فى القرن السابع الذى يُعرف فى التاريخ الإسلامى بانتشار التصوف فيه غلى حد كبير مما اثر تاثيرا كبيرا على الشعراء الذين تسابقوا فى مضمار المدائح النبوية بنفس يخالف المدائح السابقة , ويوافق الفكر الفكر التصوفى .
وكانت البداية الفعلية لهذه المدائح بهذا النفس الصوفىّ المتميز على يد محمد بن سعيد البوصيرى , المتوفى فى الإسكندرية سنة 695هـ , فقد نظم عدة قصائد فى المدائح النبوية , واشهرها قصيدتان
الأولى ميمية : وهى على رواية الديوان ( 160 بيتا ) ومطلعها :
أمِنْ تَذَكُّرِ جِيران بِذِي سَلَمٍ ... مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
والأخرى الهمزية , ومطلعها :
كيف ترقَى رُقِيَّك الأَنبياءُ ... يا سماءً ما طاوَلَتْها سماءُ
والميمية أشهر وأذيع عند عامة المتصوفين ومقلديهم , وقد نُسجت حولها المنامات والاساطير ابتداء بناظمها الذى جاء عنه أنه بسبب استشفاعه بهذه القصيدة , مسح النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام عليه , فبرئ من فالج كان ابطل نصفه , وألقى عليه بُردا , فسميت القصيدة لذلك بالبردة , ونُسجت الاساطير لكل بيت من أبياتها , وشاع التبرك والاستشفاء بها , فصارت تُسمى ايضا ( البُرأة ) و ( البروة ) و ( قصيدة الشدائد ) , وغالى المتصوفة , واتباعهم فيها حتى عملوها تميمة تعلق على الرؤوس , وزعموا فيها مزاعم كثيرة من أنواع البركة , وهم على ذلك إلى يومنا هذا (2)
ويظهر أن كل هذه التسميات كانت بعد موت البوصيرى , أما هو فسماها : ( الكواكب الدرية فى مدح خير البرية ) , وقد أجمع معظم الباحثين على ان ميمية البوصيرى أفضل قصيدة فى المديح النبوى , من الناحية الفنية الأدبية – لا الشرعية – غذا استثنينا لامية كعب بن مالك ( البُردة الأم ) , حتى قيل : أنها أشهر قصيدة فى الشعر العربى بين العامة والخاصة .
ومهما يكن من أمر , فقد اثرت ميمية البوصيرى فى المدائح النبويةتأثيرا عميقا , حيث نقلتها مضمونا وقالبا .
أما من حيث المضمون فقد نُقلت المدائح النبوية من المدح المعتاد للنبى صلى الله عليه وسلم بأوصافه المشهورة المعروفة , إلى اوصاف غلو ومبالغة " على نحو إعجازى خارق بالغ المثالية , بالغ الكمال , وبالغ الجلال ,يرقى بالنبى إلى درجة ربانية " (3) , ويسمون هذه الأوصاف : (الحقيقة المحمدية ) الذى يدِّعى المتصوفة أن غيرهم لا يعرفونها , ولهذا فهم يحملون كل غلو فى ميمية البوصيرى وغيره ممن سار على دربه على أنه من الحقيقة المحمدية التى ينفردون بمعرفتها للنبى صلى الله عليه وسلم .
أما من حيث القالب فقد جعل المدائح النبوية تتكون من ثلاثة أجزاء :
الأول :يسمى النسيب النبوى , وهو تشوق إلى المدينة النبوية التى تضم قبر النبى صلى الله عليه وسلم و وفيها جرى أغلب أحداث سيرته , ويتلوا هذا النسيب بعض الحِكَم التى تحذر من الدنيا , وأهواء النفس , وهذا الجزء يمثل من ميمية البوصيرى الأبيات من (1 – 33 ) , ومن اجملها قوله :
والنَّفْسُ كالطِّفْلُ إنْ تُهْمِلُهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرِّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
وقوله :
وخالِفِ النُّفْسَ والشَّيْطَانَ واعْصِهِمِا ... وإنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فاتَّهِمِ
وَلا تُطِعْ منهما خَصْماً وَلا حَكَماً ... فأَنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الخَصْمِ والحَكَمِ
والجزء الثانى : مديح النبى صلى الله عليه وسلم وعرض سيرته وهذا الجزء هو غرض القصيدة , وفيه يذكر الشاعر سيرته من مولده إلى وفاته صلى الله عليه وسلم , ويتكلم على معجزاته وخصائصه ... ويمثل هذا الجزء من القصيدة الابيات ( 34- 139 ) , ويبدأه بقوله :
مُحَمَّدُ سَيِّدَ الكَوْنَيْنِ والثَّقَلَيْنِ ... والفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ
وفى هذا الجزء أغلب الغلو المشار إليه من قبل , وكأن بعض المتاخرين عن البوصيرى , أحس شدة هذا الغلو , فاراد أن يخففه فزاد فى القصيدة – وما اكثر ما زِيد عليها – بيتا ناشزا ألقاه فى مكان غير مناسب فى القصيدة , وهو قوله :
فمبْلَغُ العِلْمِ فيهِ أنهُ بَشَرٌ ... وأنهُ خَيرُ خَلْقِ اللهِ كلِّهِمِ
ولم يرض كثير من الصوفية هذا البيت بالنص فيه على بشريته , وأنها منتهى العلم فيه , فغيروه إلى :
مولاى صلِّ وسلم دائماً ابداً ... على حبيبك خيرِ الخلقِ كلِّهمِ
ونسبوا فيه مناما خاصا للبوصيرى , فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى ألقى بشطره الثانى على البوصيرى .
والجزء الثالث ك هو إقرار الشاعر بذنوبه وطلب العفو عنه , ويشمل هذا الجزء الابيات من ( 140 – 160 ) , ويبدأ إقراره بقوله :
خَدَمْتُهُ بِمَدِيحٍ أسْتَقِيلُ بِهِ ... ذُنُوبَ عُمْرٍ مَضَى في الشِّعْرِ والخِدَمِ
ثم يقول :
فيا خَسَارَةَ نَفْسٍ في تِجَارَتِها ... لَمْ تَشْتَرِ الدِّينَ بالدُّنيا ولَمْ تَسُمِ
ولكن طلبه للعفو كان موجها للنبى صلى الله عليه وسلم , وهذا من اكبر انحرافات البوصيرى , وقد كرر هذا فى عدة ابيات منها :
إنْ آتِ ذَنْباً فما عَهْدِي بِمُنْتَقِضٍ ... مِنَ النبيِّ وَلا حَبْلِي بِمُنْصَرِمِ
فإنَّ لِي ذِمَّةً منهُ بِتَسْمِيَتي ... مُحمداً وَهْوَ أَوْفَى الخَلْقِ بالذِّمَمِ
إنْ لَمْ يَكُنْ في مَعادِي آخِذاً بِيَدِي ... فَضْلاً وَإلاَّ فَقُلْ يا زَلَّةَ القَدَمِ
يا أكْرَمَ الرُّسْلِ مالِي مَنْ أَلوذُ به .. سِواكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العَمِمِ
وعندما ذكر العفو والرحمة من الله رجا أن تكون الحمة مقسومة حسب العصيان لا الإحسان , فقال :
لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّي حينَ يَقْسِمُها ... تأْتي عَلَى حَسَبِ العِصْيانِ في القِسَمِ
وفى آخر هذا الجزء يختم القصيدة بالصلاة والسلام الدائمين على النبى صلى الله عليه وسلم , وهذا الجزء يكثر فيه دعاء النبى صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به , وغضافة صفات ربانية إليه , وإن كان الجزءان السابقان لا يخلون من مثل ذلك , كقوله :
أقْسَمْتُ بالقَمَرِ المُنْشَقِّ إنَّ لَهُ ... مِنْ قَلْبِهِ نِسْبَةٌ مَبْرُورُةَ القَسَمِ
وقوله :
ما سامَنِي الدَّهْرُ ضَيْماً وَاسْتَجَرْتُ به ... إلاَّ اسْتَلَمتُ النَّدَى مِنْ خَيْرِ مُسْتَلَمِ
هذه هى ميمية البوصيرى التى كان لها أعظم الأثر فى المديح النبوى , وتحويها من مسارها السليم غلى مسار ملئ بالانحرافات الشرعية , وقد ساعد المتصوفة وأصحاب الطرق على نشرها , بغنائها وإنشادها وتلحينها فى كل مناسبة حتى الحروب , فضلا عن الأفراح والأحزان , والموالد المبتدعة , واحتفالات الحجيج .
(5)
ولم يقتصر اثرها على العامة بل تعداه إلى الخاصة , إذ تزاحم الشعراء العرب وغير العرب عل تقليدها , وتفننوا فى ذلك , حتى أنشأوا فيها فنونا أدبية , منها :
أ – البديعيات التى تسير على نهجها وزنا ورويَّا , ومضمونا وأجزاءً , ويكون كل بيت من اباتها خاصا بلون من ألوان على البديع فى البلاغة , كبديعية صفى الدين الحلى ( 750 هـ ) , ومطلعها :
إِن جِئتَ سَلعاً فَسَل عَن جَيرَةِ العَلَمِ ... وَاِقرَ السَلامَ عَلى عُربٍ بِذي سَلَمِ
وبديعية ( عز الدين الموصلى ) ومطلعها :
براعة تستهل الدمع فى العلم ... عبارة عن ندء المفرد العلم
ب ـ المدائح النبوية التى فيها التورية بكل سور القرآن , ومن اشهرها قصيدة ( ابن جابر الأندلسى ) 780 هـ , ومطلعها :
فى كل فاتحة للقول معتبرة ... حق الثناء على المبعوث بالبقرة
وقد عارض ابن جابر فى قصيدته هذه عدة شعراء , حتى أُلفَّ فيها كتاب مستقل , وهو كتاب ( المدائح النبوية المتضمنة لسور القرآن الكريم ) لهاشم الخطيب .
ج ـ معرضتها وتشطيرها وتخميسها وتسبيعها ... ومن اشهر من عارضها , من المحدَثين , محمود سامى البارودى , بمطوَّلة بلغت ( 474 بيتاً ) هى : ( كشف الغمة فى مدح سيد الأمة ) ! , ومطلعها :
يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمِ دارَةَ العَلَمِ ... وَاحدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
وأحمد شوقى و فى قصيدة فى ( 190 بيتاً ) سماها ( نهج البُردة ) , ومطلعها :
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ ... أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
وقد زاد الغلو فى المدائح النبوية منذ عهد البوصيرى , إلى بدايات العهد الحديث , ومن امثلة هذا الغلو , والمغالين ( محمد بن ابى بكر البغدادى ) الذى صنَّف ديوانا كاملا باسم ( القصائد الوترية , فى مدح فى البرية ) نظم فيه 29 قصيدة , وكل قصيدة منها ( 21 بيتا ) , بحيث تبدأ أبيات كل قصيدة بحرف , وتنتهى به نفسه , ومن مدحه الغالى , قوله :
أغثنى , اجرنى , ضاع عمرى إلى متى ... بأثقال أوزارى أرانى أرزأ
وقوله :
ذهابا ذهابا يا عصاة لأحمد ... ولوذوا به مما جرى وتعوذوا
ذنوبكم تمحى وتعطون جنة ... بها درر حصباؤها وذمرذ
ومن أشهر الغالين : ( عبد الرحيم البرعي اليمانى ) , فله ديوان شعر اكثره مدائح نبوية , ومن مدحه الغالى , قوله :
سيد السادات من مضر ... غوث أَهل البدر وَالحضر
وقوله :
يا سيدى يا رسول الله يا أملى ... يا موئلى يا ملاذى يوم تلقانى
هب لى بجاهاك ما قدمت من زلل ... جودا ورجح بفضل منك ميزانى
واسمع دعائى واكشف ما يساورنى ... من الخطوب ونفِّس كل أحزانى
وكذلك أكثر من عارض البردة قديما وحديثا – وما أكثرهم – تاثر بما فيها من غلو .
وقد تأثر كذلك المتأخرون , بهذا الغلو , فمستكثر ومقل , فهذا البارودى , يقول :
أَبكانِيَ الدَّهرُ حَتّى إِذ لَجِئتُ بِهِ ... حَنا عَلَيَّ وَأَبدى ثَغرَ مُبتَسِمِ
وهذا أحمد شوقى يقول :
فَاِلطُف لأجلِ رَسولِ العالَمينَ بِنا ... وَلا تَزِد قَومَهُ خَسفاً وَلا تُسِمِ
ويقول فى أحد المدائح الخديوية :
إِذا زُرتَ يا مَولايَ قَبرَ مُحَمَّدٍ ... وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطِراتِ
فَقُل لِرَسولِ اللَهِ يا خَيرَ مُرسَلٍ ... أَبُثُّكَ ما تَدري مِنَ الحَسَراتِ
وهذه شاعرة معاصرة ألَّفت كتابا كاملا من شعر التفعيلة , باسم : ( بردة رسول ) , من أجل أن تُشفى من مرض عانت منه طويلا , ملأته بالغلو , ومن مثل قولها :
يا سيدى اسمع دعائى ... كن معين
وأجب رجائى يا محمدنا الأمين
أما هذا الغلو , عند شعراء الصوفية , ومقلديهم , فأشهر من أن أشير إليه هنا .
ومما سبق نستخلص أن المدائح النبوية الغالية منذ البوصيرى , ومن قلَّده , لا علاقة لها بالمدائح النبوية قبلها , لأنه " شتان بين التصور الواقعى البشرى كما صوره شعراء المديح النبوى الأوائل من أمثال كعب بن زهير , وكعب بن مالك , وحسان بن ثابت , ومعاصريهم , وبين التصور المتأخر للرسول صلى الله عليه وسلم وعند شعراء المديح النبوى المتأخرين الذين احالوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم , إلى سلسلة طويلة من الخوارق والمعجزات والقدرات فوق الطبيعية , حتى بات النبى صلى الله عليه وسلم ذا طبيعة إلهية لا بشرية (4)
ومع هذا فقد بقى كثير من الشعراء قديما وحديثا بمعزل عن هذا الغلو ولكن الحديث الآن ليس عنهم , والله أعلم .
______________________________
(1) المستدرك على الصحيحين : 9/3 , وغريب الحديث لابن قتيبة : 1/ 463 , وانظر الإصابة فى ترجمة أم معبد
(2) دراسة محمد النجار لبردة البوصيرى , ص 62 عن كتاب المقفى للمقريزى
(3) دراسة محمد النجار للبردة , ص 11
(4) دراسة النجار , ص 26
* المصدر : كتاب ( حقوق النبى صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال ) – كتاب البيان , ص 175 – 186
ملحوظة : يمكنكم تحميل هذه المقالة من المرفقات
الكاتب / سليمان بن عبد العزيز الفريجي
(1)
منذ أن انتشر الإسلام أقبل الأدباء على مدح نبيه صلى الله عليه وسلم بمدائح كثيرة , حفظ لنا التاريخ شيئا منها , ومن أقدمها ما جاء عن أم معبد رضى الله عنها , من وصفها للنبى صلى الله عليه وسلم بعدما حل بخيمتها فى طيق هجرته إل المدينة , وكان من وصفها ( إن صمت فعليه الوقار , وإن تكلم سماه وعلاه البهاء , أجمل الناس وابهاه من بعيد , وأحسنه وأجمله من قريب , حلو المنطق , لا نزر ولا هزر ) (1)
كما كان لشعراء الرسول صلى الله عليه وسلم كحسان ابن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير وكعب ابن مالك والعباس بن مرداس .. وغيرهم قصائد عدة فى مدحه ورثائه , منها قصيدة حسان بن ثابت رضى الله عنه , التى مطلعها :
بَطَيبَةَ رَسمٌ لِلرَسولِ وَمَعهَدُ ... مُنيرٌ وَقَد تَعفو الرُسومُ وَتَهمَدِ
وَلا تَمتَحي الآياتُ مِن دارِ حُرمَةٍ ... بِها مِنبَرُ الهادي الَذي كانَ يَصعَدُ
ومنها قصيدة كعب بن زهير رضى الله عنه , التى قالها بعد إسلامه , واعتذر بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وألقاها بين يديه فى مسجده وسط صحابته , ومطلعها :
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ ... مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ
وفيها يقول :
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني ... وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ الـ ... قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ
لَذاكَ أَهَيبُ عِندي إِذ أُكَلِّمُهُ ... وَقيلَ إِنَّكَ مَسبورٌ وَمَسؤولُ
مِن ضَيغَمٍ مِن ضِراءَ الأُسدِ مُخدِرَةً ... بِبَطنِ عَثَّرَ غيلٌ دونَهُ غيلُ
إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
بل إن من شعراء الكفار من مدحه وأثنى عل أخلاقه الكريمة , كعمه ابى طالب فى قصيدته المشهورة , ومنها قوله :
وَأَبيَضَ يُستَسقى الغَمامُ بِوَجهِهِ ... ثِمالُ اليَتامى عِصمَةٌ لِلأَرامِلِ
وكالأعشى الكبير ميمون بن قيس الذى مدح النبى صلى الله عليه وسلم بقصيدة رائعة , وجاء بها ليُسلم بها عنده , ويلقيها بين يديه , ولكن قريشاً أفرته بالدنيا , فعاد ومات كافرا , ومن قصيدته قوله :
نَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ ... أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا
لَهُ صَدَقاتٌ ما تُغِبُّ وَنائِلٌ ... وَلَيسَ عَطاءُ اليَومِ مانِعَهُ غَدا
وهكذا اتصل مدح النبى صلى الله عليه وسلم فى حياته , ورثاؤه بعد مماته , وذكر اخلاقه واوصافه عند أصحابه والتابعين دون غلو أو تجاوز لحدود المشروع .
(2)
وبعد قيام دولة بنى أمية والحوادث التى جرت لآل بيت على بن ابى طالب رضى الله عنه , وتشيع من تشيع لهم , بدأت المبالغة فى مدحهم والثناء عليهم , حتى اشتهر شعراء بذلك , وأكثروا منه , كالكُمَيْت الاسدى , ودعبل الخزاعى , والشريف الرضى , ومهيار الديلمى , وهؤلاء جاءت مبالغتهم من غلوهم فى رجالات آل البيت , وتفضيلهم على من يرونهم أعداء لهم من الأمويين , فموقفهم فى الحقيقة سياسى أكثر من كونه معتمدا على اقتناعاتهم الشرعية , فلهذا جاء كلامهم على آل على بن ابى طالب رضى الله عنه دون غيرهم , حتى النبى صلى الله عليه وسلم و قلَّ مديحهم له فى مقابل مديحهم لآل بيت على بن ابى طالب رضى الله عنه .
ومن أشعارهم ( هاشميات الكُمَيْت ) واشهرها : البائيتان واللامية والميمية , يقول فى إحدى البائيتين :
إلى النَّفَرِ البيضِ الذِينَ بِحُبِّهم ... إلى الله فِيمَا نَابَنِي أتَقَرَّبُ
بَنِي هَاشِمٍ رَهطِ النَّبِيِّ فإنَّنِي ... بِهِم ولَهُم أَرضَى مِرَاراً وأغضَبُ
وما جاء عن هؤلاء من المدح الخاص بالنبى صلى الله عليه وسلم يكاد يكون مدحا معتادا , لا نجد فيه ما سنجده فى مدائح الصوفية فى القرن السابع , ومن ذلك قول الكميت :
وأنت أمينُ الله في الناسِ كلِّهم ... علينا وفيما احتازَ شرقٌ ومغرِبُ
وبُورِكتَ مَولُوداً وبُورِكتَ نَاشِئاً ... وبُورِكتَ عِندَ الشَّيبِ إِذ أنتَ أشيَبُ
وَبُورِكَ قَبرٌ أنتَ فِيهِ وبُورِكَت ... بِهِ وَلَهُ أهلٌ لِذَلِكَ يَثرِبُ
لَقَد غَيَّبُوا بِرَّاً وصِدقاً ونَائِلاً ... عَشِيّةَ وَارَاكَ الصَّفِيحُ المُنَصَّبُ
(3)
ومع ذلك كان مدح من مضى لآل البيت أكثره صادقا , لأنهم يمدحونهم والدنيا ليست بأيديهم , خلاف شعراء الدولة العبيدية المنتسبة – زورا - إلى فاطمة الزهراء رضى الله عنها التى كان الشعراء يتزلفون إلى حكامهم بمدحهم , ومدح آل البيت , ومنه مدح النبى صلى الله عليه وسلم , وهذا المدح غير داخل فى حقيقيته فى المدائح النبوية , لأنه مدح من أجل الدنيا , لا لحبهم أو التقرب إلي الله بمدحهم , وله1ا وصل الامر ببعضهم إلى الشرك كابن هانئ الاندلسى , حيث يقول فى مدح المعز لدين الله الفاطمى :
ما شِئتَ لا ما شاءَتِ الأقْدارُ ... فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
ويقول :
ولكَ الجواري المُنشَآتُ مواخِراً ... تَجري بأمركَ والرّياحُ رُخَاء
ولهذا كان مدح هؤلاء منصبَّاً على حكام الدولة العبيدية , ومن يزعُم من هؤلاء الحكام محبتهم من رجالات آل البيت , ويقل فيه مدح النبى صلى الله عليه وسلم .
(4)
وتستمر المدائح النبوية , دائرة حول أوصاف النبى صلى الله عليه وسلم الخُلُقية والخَلقية المعروفة , ولا نجد ذلك الغلو الذى يخرج بالمدائح النبوية إلى رفع النبى صلى الله عليه وسلم فوق مقامه البشرى , وإضفاء بعض الصفات الإلهية عليه إلا فى القرن السابع الذى يُعرف فى التاريخ الإسلامى بانتشار التصوف فيه غلى حد كبير مما اثر تاثيرا كبيرا على الشعراء الذين تسابقوا فى مضمار المدائح النبوية بنفس يخالف المدائح السابقة , ويوافق الفكر الفكر التصوفى .
وكانت البداية الفعلية لهذه المدائح بهذا النفس الصوفىّ المتميز على يد محمد بن سعيد البوصيرى , المتوفى فى الإسكندرية سنة 695هـ , فقد نظم عدة قصائد فى المدائح النبوية , واشهرها قصيدتان
الأولى ميمية : وهى على رواية الديوان ( 160 بيتا ) ومطلعها :
أمِنْ تَذَكُّرِ جِيران بِذِي سَلَمٍ ... مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
والأخرى الهمزية , ومطلعها :
كيف ترقَى رُقِيَّك الأَنبياءُ ... يا سماءً ما طاوَلَتْها سماءُ
والميمية أشهر وأذيع عند عامة المتصوفين ومقلديهم , وقد نُسجت حولها المنامات والاساطير ابتداء بناظمها الذى جاء عنه أنه بسبب استشفاعه بهذه القصيدة , مسح النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام عليه , فبرئ من فالج كان ابطل نصفه , وألقى عليه بُردا , فسميت القصيدة لذلك بالبردة , ونُسجت الاساطير لكل بيت من أبياتها , وشاع التبرك والاستشفاء بها , فصارت تُسمى ايضا ( البُرأة ) و ( البروة ) و ( قصيدة الشدائد ) , وغالى المتصوفة , واتباعهم فيها حتى عملوها تميمة تعلق على الرؤوس , وزعموا فيها مزاعم كثيرة من أنواع البركة , وهم على ذلك إلى يومنا هذا (2)
ويظهر أن كل هذه التسميات كانت بعد موت البوصيرى , أما هو فسماها : ( الكواكب الدرية فى مدح خير البرية ) , وقد أجمع معظم الباحثين على ان ميمية البوصيرى أفضل قصيدة فى المديح النبوى , من الناحية الفنية الأدبية – لا الشرعية – غذا استثنينا لامية كعب بن مالك ( البُردة الأم ) , حتى قيل : أنها أشهر قصيدة فى الشعر العربى بين العامة والخاصة .
ومهما يكن من أمر , فقد اثرت ميمية البوصيرى فى المدائح النبويةتأثيرا عميقا , حيث نقلتها مضمونا وقالبا .
أما من حيث المضمون فقد نُقلت المدائح النبوية من المدح المعتاد للنبى صلى الله عليه وسلم بأوصافه المشهورة المعروفة , إلى اوصاف غلو ومبالغة " على نحو إعجازى خارق بالغ المثالية , بالغ الكمال , وبالغ الجلال ,يرقى بالنبى إلى درجة ربانية " (3) , ويسمون هذه الأوصاف : (الحقيقة المحمدية ) الذى يدِّعى المتصوفة أن غيرهم لا يعرفونها , ولهذا فهم يحملون كل غلو فى ميمية البوصيرى وغيره ممن سار على دربه على أنه من الحقيقة المحمدية التى ينفردون بمعرفتها للنبى صلى الله عليه وسلم .
أما من حيث القالب فقد جعل المدائح النبوية تتكون من ثلاثة أجزاء :
الأول :يسمى النسيب النبوى , وهو تشوق إلى المدينة النبوية التى تضم قبر النبى صلى الله عليه وسلم و وفيها جرى أغلب أحداث سيرته , ويتلوا هذا النسيب بعض الحِكَم التى تحذر من الدنيا , وأهواء النفس , وهذا الجزء يمثل من ميمية البوصيرى الأبيات من (1 – 33 ) , ومن اجملها قوله :
والنَّفْسُ كالطِّفْلُ إنْ تُهْمِلُهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرِّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
وقوله :
وخالِفِ النُّفْسَ والشَّيْطَانَ واعْصِهِمِا ... وإنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فاتَّهِمِ
وَلا تُطِعْ منهما خَصْماً وَلا حَكَماً ... فأَنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الخَصْمِ والحَكَمِ
والجزء الثانى : مديح النبى صلى الله عليه وسلم وعرض سيرته وهذا الجزء هو غرض القصيدة , وفيه يذكر الشاعر سيرته من مولده إلى وفاته صلى الله عليه وسلم , ويتكلم على معجزاته وخصائصه ... ويمثل هذا الجزء من القصيدة الابيات ( 34- 139 ) , ويبدأه بقوله :
مُحَمَّدُ سَيِّدَ الكَوْنَيْنِ والثَّقَلَيْنِ ... والفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ
وفى هذا الجزء أغلب الغلو المشار إليه من قبل , وكأن بعض المتاخرين عن البوصيرى , أحس شدة هذا الغلو , فاراد أن يخففه فزاد فى القصيدة – وما اكثر ما زِيد عليها – بيتا ناشزا ألقاه فى مكان غير مناسب فى القصيدة , وهو قوله :
فمبْلَغُ العِلْمِ فيهِ أنهُ بَشَرٌ ... وأنهُ خَيرُ خَلْقِ اللهِ كلِّهِمِ
ولم يرض كثير من الصوفية هذا البيت بالنص فيه على بشريته , وأنها منتهى العلم فيه , فغيروه إلى :
مولاى صلِّ وسلم دائماً ابداً ... على حبيبك خيرِ الخلقِ كلِّهمِ
ونسبوا فيه مناما خاصا للبوصيرى , فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى ألقى بشطره الثانى على البوصيرى .
والجزء الثالث ك هو إقرار الشاعر بذنوبه وطلب العفو عنه , ويشمل هذا الجزء الابيات من ( 140 – 160 ) , ويبدأ إقراره بقوله :
خَدَمْتُهُ بِمَدِيحٍ أسْتَقِيلُ بِهِ ... ذُنُوبَ عُمْرٍ مَضَى في الشِّعْرِ والخِدَمِ
ثم يقول :
فيا خَسَارَةَ نَفْسٍ في تِجَارَتِها ... لَمْ تَشْتَرِ الدِّينَ بالدُّنيا ولَمْ تَسُمِ
ولكن طلبه للعفو كان موجها للنبى صلى الله عليه وسلم , وهذا من اكبر انحرافات البوصيرى , وقد كرر هذا فى عدة ابيات منها :
إنْ آتِ ذَنْباً فما عَهْدِي بِمُنْتَقِضٍ ... مِنَ النبيِّ وَلا حَبْلِي بِمُنْصَرِمِ
فإنَّ لِي ذِمَّةً منهُ بِتَسْمِيَتي ... مُحمداً وَهْوَ أَوْفَى الخَلْقِ بالذِّمَمِ
إنْ لَمْ يَكُنْ في مَعادِي آخِذاً بِيَدِي ... فَضْلاً وَإلاَّ فَقُلْ يا زَلَّةَ القَدَمِ
يا أكْرَمَ الرُّسْلِ مالِي مَنْ أَلوذُ به .. سِواكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العَمِمِ
وعندما ذكر العفو والرحمة من الله رجا أن تكون الحمة مقسومة حسب العصيان لا الإحسان , فقال :
لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّي حينَ يَقْسِمُها ... تأْتي عَلَى حَسَبِ العِصْيانِ في القِسَمِ
وفى آخر هذا الجزء يختم القصيدة بالصلاة والسلام الدائمين على النبى صلى الله عليه وسلم , وهذا الجزء يكثر فيه دعاء النبى صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به , وغضافة صفات ربانية إليه , وإن كان الجزءان السابقان لا يخلون من مثل ذلك , كقوله :
أقْسَمْتُ بالقَمَرِ المُنْشَقِّ إنَّ لَهُ ... مِنْ قَلْبِهِ نِسْبَةٌ مَبْرُورُةَ القَسَمِ
وقوله :
ما سامَنِي الدَّهْرُ ضَيْماً وَاسْتَجَرْتُ به ... إلاَّ اسْتَلَمتُ النَّدَى مِنْ خَيْرِ مُسْتَلَمِ
هذه هى ميمية البوصيرى التى كان لها أعظم الأثر فى المديح النبوى , وتحويها من مسارها السليم غلى مسار ملئ بالانحرافات الشرعية , وقد ساعد المتصوفة وأصحاب الطرق على نشرها , بغنائها وإنشادها وتلحينها فى كل مناسبة حتى الحروب , فضلا عن الأفراح والأحزان , والموالد المبتدعة , واحتفالات الحجيج .
(5)
ولم يقتصر اثرها على العامة بل تعداه إلى الخاصة , إذ تزاحم الشعراء العرب وغير العرب عل تقليدها , وتفننوا فى ذلك , حتى أنشأوا فيها فنونا أدبية , منها :
أ – البديعيات التى تسير على نهجها وزنا ورويَّا , ومضمونا وأجزاءً , ويكون كل بيت من اباتها خاصا بلون من ألوان على البديع فى البلاغة , كبديعية صفى الدين الحلى ( 750 هـ ) , ومطلعها :
إِن جِئتَ سَلعاً فَسَل عَن جَيرَةِ العَلَمِ ... وَاِقرَ السَلامَ عَلى عُربٍ بِذي سَلَمِ
وبديعية ( عز الدين الموصلى ) ومطلعها :
براعة تستهل الدمع فى العلم ... عبارة عن ندء المفرد العلم
ب ـ المدائح النبوية التى فيها التورية بكل سور القرآن , ومن اشهرها قصيدة ( ابن جابر الأندلسى ) 780 هـ , ومطلعها :
فى كل فاتحة للقول معتبرة ... حق الثناء على المبعوث بالبقرة
وقد عارض ابن جابر فى قصيدته هذه عدة شعراء , حتى أُلفَّ فيها كتاب مستقل , وهو كتاب ( المدائح النبوية المتضمنة لسور القرآن الكريم ) لهاشم الخطيب .
ج ـ معرضتها وتشطيرها وتخميسها وتسبيعها ... ومن اشهر من عارضها , من المحدَثين , محمود سامى البارودى , بمطوَّلة بلغت ( 474 بيتاً ) هى : ( كشف الغمة فى مدح سيد الأمة ) ! , ومطلعها :
يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمِ دارَةَ العَلَمِ ... وَاحدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
وأحمد شوقى و فى قصيدة فى ( 190 بيتاً ) سماها ( نهج البُردة ) , ومطلعها :
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ ... أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
وقد زاد الغلو فى المدائح النبوية منذ عهد البوصيرى , إلى بدايات العهد الحديث , ومن امثلة هذا الغلو , والمغالين ( محمد بن ابى بكر البغدادى ) الذى صنَّف ديوانا كاملا باسم ( القصائد الوترية , فى مدح فى البرية ) نظم فيه 29 قصيدة , وكل قصيدة منها ( 21 بيتا ) , بحيث تبدأ أبيات كل قصيدة بحرف , وتنتهى به نفسه , ومن مدحه الغالى , قوله :
أغثنى , اجرنى , ضاع عمرى إلى متى ... بأثقال أوزارى أرانى أرزأ
وقوله :
ذهابا ذهابا يا عصاة لأحمد ... ولوذوا به مما جرى وتعوذوا
ذنوبكم تمحى وتعطون جنة ... بها درر حصباؤها وذمرذ
ومن أشهر الغالين : ( عبد الرحيم البرعي اليمانى ) , فله ديوان شعر اكثره مدائح نبوية , ومن مدحه الغالى , قوله :
سيد السادات من مضر ... غوث أَهل البدر وَالحضر
وقوله :
يا سيدى يا رسول الله يا أملى ... يا موئلى يا ملاذى يوم تلقانى
هب لى بجاهاك ما قدمت من زلل ... جودا ورجح بفضل منك ميزانى
واسمع دعائى واكشف ما يساورنى ... من الخطوب ونفِّس كل أحزانى
وكذلك أكثر من عارض البردة قديما وحديثا – وما أكثرهم – تاثر بما فيها من غلو .
وقد تأثر كذلك المتأخرون , بهذا الغلو , فمستكثر ومقل , فهذا البارودى , يقول :
أَبكانِيَ الدَّهرُ حَتّى إِذ لَجِئتُ بِهِ ... حَنا عَلَيَّ وَأَبدى ثَغرَ مُبتَسِمِ
وهذا أحمد شوقى يقول :
فَاِلطُف لأجلِ رَسولِ العالَمينَ بِنا ... وَلا تَزِد قَومَهُ خَسفاً وَلا تُسِمِ
ويقول فى أحد المدائح الخديوية :
إِذا زُرتَ يا مَولايَ قَبرَ مُحَمَّدٍ ... وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطِراتِ
فَقُل لِرَسولِ اللَهِ يا خَيرَ مُرسَلٍ ... أَبُثُّكَ ما تَدري مِنَ الحَسَراتِ
وهذه شاعرة معاصرة ألَّفت كتابا كاملا من شعر التفعيلة , باسم : ( بردة رسول ) , من أجل أن تُشفى من مرض عانت منه طويلا , ملأته بالغلو , ومن مثل قولها :
يا سيدى اسمع دعائى ... كن معين
وأجب رجائى يا محمدنا الأمين
أما هذا الغلو , عند شعراء الصوفية , ومقلديهم , فأشهر من أن أشير إليه هنا .
ومما سبق نستخلص أن المدائح النبوية الغالية منذ البوصيرى , ومن قلَّده , لا علاقة لها بالمدائح النبوية قبلها , لأنه " شتان بين التصور الواقعى البشرى كما صوره شعراء المديح النبوى الأوائل من أمثال كعب بن زهير , وكعب بن مالك , وحسان بن ثابت , ومعاصريهم , وبين التصور المتأخر للرسول صلى الله عليه وسلم وعند شعراء المديح النبوى المتأخرين الذين احالوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم , إلى سلسلة طويلة من الخوارق والمعجزات والقدرات فوق الطبيعية , حتى بات النبى صلى الله عليه وسلم ذا طبيعة إلهية لا بشرية (4)
ومع هذا فقد بقى كثير من الشعراء قديما وحديثا بمعزل عن هذا الغلو ولكن الحديث الآن ليس عنهم , والله أعلم .
______________________________
(1) المستدرك على الصحيحين : 9/3 , وغريب الحديث لابن قتيبة : 1/ 463 , وانظر الإصابة فى ترجمة أم معبد
(2) دراسة محمد النجار لبردة البوصيرى , ص 62 عن كتاب المقفى للمقريزى
(3) دراسة محمد النجار للبردة , ص 11
(4) دراسة النجار , ص 26
* المصدر : كتاب ( حقوق النبى صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال ) – كتاب البيان , ص 175 – 186
ملحوظة : يمكنكم تحميل هذه المقالة من المرفقات