بكر أَبو زيد ابنُ القَيِّم الثاني !!..
بكر أَبو زيد ابنُ القَيِّم الثاني
" عَيْبَة ُعلمه ، وَبنانُ حُجّتهِ "
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى .... أَما بعد فما كان للتاريخ أَنْ يُغْفل طوائِفَ العلم التي عمرت حِقَبه ، وملأَت أَرجاءَه ، وطوََّفَت بآفاقه .
ومن هذه الطوائف طائِفةٌ اجتباها الإِسلامُ اجتباءً خاصَّاً لنفسه ، وخصَّها بالكثير من فضله ، وأَولاها من فَيْضِ عنايته ، ما لم يأْذن لغير هذه الطائفة أن تناله ، وليس ذلك من ضنٍّ منه أَن يُنيلَ الذي أَناله هذه الطائِفة ، بل لما اختصها الله به من فضائِل نفْسيَّةٍ وصفاتٍ عقليةٍ ، ومواهبَ رقَيِتْ بها سُلَّم الخلود ، وأَخْرجَتْها من ظُلْمةِ التذبذب والتَّحيُّرِ ، إلى نور الاستقرار والثبات ، فَعُرِفَت في دنيا الناس بتلكم المواهب ، وأَجْرَتْ عليها من شَفيفِ بِرِّها وإِحسانها ، ما لم تبصر ولا ترى في غيرها .
وعرفت أُمَّةُ الإسلام في كلِّ قرن من قرونها واحداً وقف قوياً عزيزاً على رأْس هذه الطائِفة ، يمدُّ بصره إِلى آفاق الزَّمن ، يَجِدُّ في البحث عن واحدٍ يكون مثله ، لانت له المعرفة ، وأَلقت إِليه بزمامها ، وأَرادته أن يكون لها وحدها ، لا ينازعها فيه منازع ، ولا تجترح أَصابعه تدوين غيرها ، مما شغل سوادُ أهل العلم أَقلامَهم وقلوبَهم بها مما هو مقدور عليه ، وهو مستطاع للعامة قبل الخاصة منهم .
وقد يجد هذا الواحدُ من يظاهره فيما اختصه الله به من المواهب ، والفضائِل ، والصفات ، عطاءً غير مجذوذٍ ، واحداً أَو أكثر ، ممن أَخذوا العلم عنه ، أَو أَطافوا بِعلْمه من بعد موته ، فيما أَبقى للناس مسطوراً في قرطاس ، أَو مأْخوذاً عن سماع ، أو مُتَلقّىً من طول صحبة .
ولا نرغب في أَن ننحدر مع القرون لنشارِف رأسَ القرون المفضلة ، وإِمامها الأشمَّ ، وسقفها المتين العالي ، فلا علينا ، فذلك قرن مع صنويه بلغ من الرفعة وعلوِّ المنزلة ، وبعدِ الشَّأْوِ والمطَّلب ، ما ليس في وسع القرون العاقبةِ كلِّها مجتمعةً بجهدها وَطَوْلِها أَن تبلغ ـ إِلاَّ ما يكون بالتَّأسِّي والمصابرة ـ من جلال ذلك القرن ، وَروْنق بهائِه ، وعزِيزِ سلطانه ، في كل جانب من جوانب وجوده الحياتي .
لذا فإني واقفٌ بكم على مدرجة القرن السادس ، لنستشرف معاً قطعة من أَرض الشام الطيبة المباركة ، على بعدٍ أَو قربٍ منها ، فالزمن مطويٌّ بكلِّ ما هو في باطنه ، وبكلِّ ما هو من فوق ظاهره ، بِيَدِ سِجِلٍّ حافظٍ بارع ، ليس يغيب منه شيءٌ على الدهر ، لنبصر معاً برجل أَمَّ العالمَ كلَّه بعلمه ، وشَمَخَ على الحياة شموخَ الرَّواسي ، وأَسلمت له العلومُ والمعارف برَغَبِها ورَهَبِها زِمامَها ، يُصَرِّفها بالحقِّ ودقَّةِ النظر، وأَمانةِ القلم والحفظ ، كيف يشاء ، ويجعل الوارثين من بعده يسارعون في الاستباق إِليها ، ليذيعوا فيمن بعدهم من القرون فضلَها ، وبهاءَها ، وجلالَها ، ذلكم : هوالإِمامُ الحجَّة الباقية على الأُمة كلِّها ـ خلا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم والعروةَ المكينةَ التي وثَّقَتْها يدُه الشريفة من أَصحابه رضي الله عنهم ـ إبن تيمية رحمه الله ، وجزاه عن الأمة خيراً .
وذكرُ إبن تيمية رحمه الله تعالى ذكرٌ مستطابٌ ، محفوظٌ بهدي السُّنَّة ، وصريح الكتاب ، عَمَر أَرض المسلمين بهما ، واستاق إِلى القرون الآتية بعضاً من فضلها ، بلغ بها ـ من سَعِد وأَخلد بقلبه وعقله إِليه ـ الفرقدين ، وبوَّأَها معقد الخافقين ، وكان مما استاق من ذلك البعض من الفضل (تلميذُه ، وصاحبه ، وجامع فضله ، الرامي عن قوسه ، الوارثه وحده ، السَّاعي في خدْمته من بين يديه ومن خلفه ، الحامي ضَيْعتَه ، الحافظ سيرته ، القيِّم على قلمه ، الناشر في الناس من بعده عِلْمَه) إبن قيِّم الجوزية ، رحمه الله تعالى .
وابن القيِّم ، ليس بخافٍ على أحدٍ في دنيا البشر ، صاحبُ التصانيف الكثيرة الجليلة ، الباسطُ جناحي الرقائِق فوق الأَرض المباركة ، الآخذ بِعِنَان العربية إِلى رحابها الواسعة ، بأَحسنِ أَساليبها ، وأَجملِ وجوه البلاغة والبيان المودعة في تراكيبها ، وأَعلى مقاصدِ المعاني التي تَهدي إِليها بِشِعْرِها ونَثْرِها ، هذا إِلى غزارة الفقه والإحاطةِ بوجوه التأْويل والتفسير ، وتأْصيلِ قواعدِ الأَصول وإِحصاءِ فروعها ، وتقَصِّي الشوارد الخفيِّة بالقياسات المرضيِّة ، التي يُستَغْنى بها بالجمع والتأليف بينها عن النُّصوصِ الناطقةِ بأَحكامها وشرائِعها ، وتدفُّقِ الإِملاآت العقلية الحسان ، إِلى غيْر ذلك مما تعجز عن الإِنباءِ به ، والنطق به جماعاتُ الأَقلام ، ولعلَّ (إِعلام الموقعين) يهدي لذلك كلِّه وزيادة ، وقد مشت من وراءِ ابن القيم رحمه الله ـ في حياته ومن بعد ثوائِه في رمسه ـ أَفواجٌ من العلماءِ ، والأُدباءِ ، والكتاب ، والشعراء ، والصالحين الزاهدين ، كلما غاب منها فوجٌ ظهرت من بعده أَفواجٌ ، يأْخذ كل فوج منها لنفسه أَوفر ما يريد حظَّاً مما يقدر عليها قلمه ، يحتفظ منه لنفسه الكثير ليثوي معه ، ويدع لمن بعده ما يفضل عن حاجته ، وما يفضل منه أَكثر مما يحتفظ ، والْتقى فضل تلك الأَفواج كلها على صعيد واحد ، فتآلفت كلها ، وتراصَّت في كتبٍ ورسائِل ، حتى غدت ميراثاً آخر لابن القيِّم رحمه الله ، يُباهي بنفسه ما خفي وذهب من علمه معه حيث استقر به الثوَى من بعد شيخه ابن تيمية ، رحمهم الله جميعاً ً، وأَذهب عنهم الحزن يوم الجمع والتلاقي الأكبر .
وَلكأَنما أَراد الله لعلم ابن القيِّم رحمه الله أَن يظهر من جديد في الأَرض ، لينشِأَ مدرسة جديدة ، يتخرج فيها طلاَّبُ علمٍ على سَنَن السابقين المُجدِّين ، الذين تخرجوا في دمشق في حلقة ابن القيِّم رحمه الله ، وشهرت بهم في كل مكان وُجِدوا فيه ، وارتحلوا إِليه .
وليس غريباً أَن يحظى علم ابن القيِّم بجهابذة من طلاب العلمِ الأَغيار ، وأَن يترسَّمُوا خطاه ، وأَن يكون له في كل قطرٍ محبُّون وأَشياعٌ ، وأَن يُجلِي قَلَمُه حيثما حلَّ سائِر الأَقلام ، فيكون له الغلبةُ والظهور عليها ، من غير منازع .
غير أن قلم (بكر أَبو زيد) من بين هذه الأَقلام ، كان له تفرد في هذا الشأْن ماز به نفسه بنفسه ، أَوردَ به علم ابن القيِّم رحمه مورداً عذباً سائغاً ، لا عيب فيه يزري ، ولا ظلمه من فوقه تُغشِّيه ، ولا اضطراب من تحته يَنْقيه ، في نصاعة العبارة ورسوخها ، وقوة المعنى وجلائِه ، وتماسك الحروف والكلمات وتآلفها ، حتى لكأَنك وأَنت تقرأُ الذي كتب ـ لولا الخط الوهمي الحاجز بين ما كتبه ابن القيِّم وبين ما كتبه بكر ـ تقول في نفسك : لو كان ابن القيِّم حياً ، لكان عليك أَن ترجع إِليه ليهديك إِلى الكلمات والعبارات التي خطَّتها يمينه ، كيلا تقع في لبس ، يختلط به عليك الأَمر ، فيكون به الخلط ، ودليلاً جاهراً بأَن هذا هو ذاك ، وذاك هو هذا ، لكن الخط الوهميَّ الحاجزَ بينهما ، لا يعتسفك وأَنت تقرأُ كلام الرجلين معاً ً، أو وأنت تقرأ ُكلامَ كلٍّ منها منفرداً ، فقد تشابها ، فتشاكلا ، وباتا على تباعد الزمان بينهما على حرفٍ واحدٍ ، يأْخذ معنى كلٍّ منهما لفظه من لفظ الآخر ، ومعناه من معنى الآخر ، وهذه مزيةٌ خاصة لم تكن إِلا لعقل بكر وقلمه ، وهو يرتاد علم ابن القيِّم من أَطرافه ، يوغل فيه برفق ، وينساب في خباياه بَتُؤدة ، وينتاب أَطرافه في هونٍ ، وعلى مهل ، يجمع في إِيغاله كلَّ الشوارد ، ويمسك وثاقَها جميعاً في حذرٍ من أَن تطرف عينه عنها بغفل ، أو أَن يُناشَ سمعه بإغماضة ، أو أَن يُناب فكره بوهلة .
ومن يعرف (بكرأبو زيد) من قلمه ، يعرف العربية في دارها من أهلها ، ومن يعرفه من لسانه لا يأْذن لسمعه أَن تُصيبه معرَّة اللحن الفاحش ، ومن يعرفه من سلوكه في الناس يبصر برجل فيه أناة العزة ، وشموخ النَّقيبة ، ومضاءُ الشكيمة ، يُؤْويها كلَّها رداءٌ من الهيبة ، في تواضع غير متكلَّفٍ ، وترفُّعٍ غيرِ مستثقلٍ ، وإِحسان بمعروفٍ غير مستأْثَرٍ ، ثم لايجد الناظر فيه إِلا مصداق قول الشاعر :
ومن هذه الطوائف طائِفةٌ اجتباها الإِسلامُ اجتباءً خاصَّاً لنفسه ، وخصَّها بالكثير من فضله ، وأَولاها من فَيْضِ عنايته ، ما لم يأْذن لغير هذه الطائفة أن تناله ، وليس ذلك من ضنٍّ منه أَن يُنيلَ الذي أَناله هذه الطائِفة ، بل لما اختصها الله به من فضائِل نفْسيَّةٍ وصفاتٍ عقليةٍ ، ومواهبَ رقَيِتْ بها سُلَّم الخلود ، وأَخْرجَتْها من ظُلْمةِ التذبذب والتَّحيُّرِ ، إلى نور الاستقرار والثبات ، فَعُرِفَت في دنيا الناس بتلكم المواهب ، وأَجْرَتْ عليها من شَفيفِ بِرِّها وإِحسانها ، ما لم تبصر ولا ترى في غيرها .
وعرفت أُمَّةُ الإسلام في كلِّ قرن من قرونها واحداً وقف قوياً عزيزاً على رأْس هذه الطائِفة ، يمدُّ بصره إِلى آفاق الزَّمن ، يَجِدُّ في البحث عن واحدٍ يكون مثله ، لانت له المعرفة ، وأَلقت إِليه بزمامها ، وأَرادته أن يكون لها وحدها ، لا ينازعها فيه منازع ، ولا تجترح أَصابعه تدوين غيرها ، مما شغل سوادُ أهل العلم أَقلامَهم وقلوبَهم بها مما هو مقدور عليه ، وهو مستطاع للعامة قبل الخاصة منهم .
وقد يجد هذا الواحدُ من يظاهره فيما اختصه الله به من المواهب ، والفضائِل ، والصفات ، عطاءً غير مجذوذٍ ، واحداً أَو أكثر ، ممن أَخذوا العلم عنه ، أَو أَطافوا بِعلْمه من بعد موته ، فيما أَبقى للناس مسطوراً في قرطاس ، أَو مأْخوذاً عن سماع ، أو مُتَلقّىً من طول صحبة .
ولا نرغب في أَن ننحدر مع القرون لنشارِف رأسَ القرون المفضلة ، وإِمامها الأشمَّ ، وسقفها المتين العالي ، فلا علينا ، فذلك قرن مع صنويه بلغ من الرفعة وعلوِّ المنزلة ، وبعدِ الشَّأْوِ والمطَّلب ، ما ليس في وسع القرون العاقبةِ كلِّها مجتمعةً بجهدها وَطَوْلِها أَن تبلغ ـ إِلاَّ ما يكون بالتَّأسِّي والمصابرة ـ من جلال ذلك القرن ، وَروْنق بهائِه ، وعزِيزِ سلطانه ، في كل جانب من جوانب وجوده الحياتي .
لذا فإني واقفٌ بكم على مدرجة القرن السادس ، لنستشرف معاً قطعة من أَرض الشام الطيبة المباركة ، على بعدٍ أَو قربٍ منها ، فالزمن مطويٌّ بكلِّ ما هو في باطنه ، وبكلِّ ما هو من فوق ظاهره ، بِيَدِ سِجِلٍّ حافظٍ بارع ، ليس يغيب منه شيءٌ على الدهر ، لنبصر معاً برجل أَمَّ العالمَ كلَّه بعلمه ، وشَمَخَ على الحياة شموخَ الرَّواسي ، وأَسلمت له العلومُ والمعارف برَغَبِها ورَهَبِها زِمامَها ، يُصَرِّفها بالحقِّ ودقَّةِ النظر، وأَمانةِ القلم والحفظ ، كيف يشاء ، ويجعل الوارثين من بعده يسارعون في الاستباق إِليها ، ليذيعوا فيمن بعدهم من القرون فضلَها ، وبهاءَها ، وجلالَها ، ذلكم : هوالإِمامُ الحجَّة الباقية على الأُمة كلِّها ـ خلا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم والعروةَ المكينةَ التي وثَّقَتْها يدُه الشريفة من أَصحابه رضي الله عنهم ـ إبن تيمية رحمه الله ، وجزاه عن الأمة خيراً .
وذكرُ إبن تيمية رحمه الله تعالى ذكرٌ مستطابٌ ، محفوظٌ بهدي السُّنَّة ، وصريح الكتاب ، عَمَر أَرض المسلمين بهما ، واستاق إِلى القرون الآتية بعضاً من فضلها ، بلغ بها ـ من سَعِد وأَخلد بقلبه وعقله إِليه ـ الفرقدين ، وبوَّأَها معقد الخافقين ، وكان مما استاق من ذلك البعض من الفضل (تلميذُه ، وصاحبه ، وجامع فضله ، الرامي عن قوسه ، الوارثه وحده ، السَّاعي في خدْمته من بين يديه ومن خلفه ، الحامي ضَيْعتَه ، الحافظ سيرته ، القيِّم على قلمه ، الناشر في الناس من بعده عِلْمَه) إبن قيِّم الجوزية ، رحمه الله تعالى .
وابن القيِّم ، ليس بخافٍ على أحدٍ في دنيا البشر ، صاحبُ التصانيف الكثيرة الجليلة ، الباسطُ جناحي الرقائِق فوق الأَرض المباركة ، الآخذ بِعِنَان العربية إِلى رحابها الواسعة ، بأَحسنِ أَساليبها ، وأَجملِ وجوه البلاغة والبيان المودعة في تراكيبها ، وأَعلى مقاصدِ المعاني التي تَهدي إِليها بِشِعْرِها ونَثْرِها ، هذا إِلى غزارة الفقه والإحاطةِ بوجوه التأْويل والتفسير ، وتأْصيلِ قواعدِ الأَصول وإِحصاءِ فروعها ، وتقَصِّي الشوارد الخفيِّة بالقياسات المرضيِّة ، التي يُستَغْنى بها بالجمع والتأليف بينها عن النُّصوصِ الناطقةِ بأَحكامها وشرائِعها ، وتدفُّقِ الإِملاآت العقلية الحسان ، إِلى غيْر ذلك مما تعجز عن الإِنباءِ به ، والنطق به جماعاتُ الأَقلام ، ولعلَّ (إِعلام الموقعين) يهدي لذلك كلِّه وزيادة ، وقد مشت من وراءِ ابن القيم رحمه الله ـ في حياته ومن بعد ثوائِه في رمسه ـ أَفواجٌ من العلماءِ ، والأُدباءِ ، والكتاب ، والشعراء ، والصالحين الزاهدين ، كلما غاب منها فوجٌ ظهرت من بعده أَفواجٌ ، يأْخذ كل فوج منها لنفسه أَوفر ما يريد حظَّاً مما يقدر عليها قلمه ، يحتفظ منه لنفسه الكثير ليثوي معه ، ويدع لمن بعده ما يفضل عن حاجته ، وما يفضل منه أَكثر مما يحتفظ ، والْتقى فضل تلك الأَفواج كلها على صعيد واحد ، فتآلفت كلها ، وتراصَّت في كتبٍ ورسائِل ، حتى غدت ميراثاً آخر لابن القيِّم رحمه الله ، يُباهي بنفسه ما خفي وذهب من علمه معه حيث استقر به الثوَى من بعد شيخه ابن تيمية ، رحمهم الله جميعاً ً، وأَذهب عنهم الحزن يوم الجمع والتلاقي الأكبر .
وَلكأَنما أَراد الله لعلم ابن القيِّم رحمه الله أَن يظهر من جديد في الأَرض ، لينشِأَ مدرسة جديدة ، يتخرج فيها طلاَّبُ علمٍ على سَنَن السابقين المُجدِّين ، الذين تخرجوا في دمشق في حلقة ابن القيِّم رحمه الله ، وشهرت بهم في كل مكان وُجِدوا فيه ، وارتحلوا إِليه .
وليس غريباً أَن يحظى علم ابن القيِّم بجهابذة من طلاب العلمِ الأَغيار ، وأَن يترسَّمُوا خطاه ، وأَن يكون له في كل قطرٍ محبُّون وأَشياعٌ ، وأَن يُجلِي قَلَمُه حيثما حلَّ سائِر الأَقلام ، فيكون له الغلبةُ والظهور عليها ، من غير منازع .
غير أن قلم (بكر أَبو زيد) من بين هذه الأَقلام ، كان له تفرد في هذا الشأْن ماز به نفسه بنفسه ، أَوردَ به علم ابن القيِّم رحمه مورداً عذباً سائغاً ، لا عيب فيه يزري ، ولا ظلمه من فوقه تُغشِّيه ، ولا اضطراب من تحته يَنْقيه ، في نصاعة العبارة ورسوخها ، وقوة المعنى وجلائِه ، وتماسك الحروف والكلمات وتآلفها ، حتى لكأَنك وأَنت تقرأُ الذي كتب ـ لولا الخط الوهمي الحاجز بين ما كتبه ابن القيِّم وبين ما كتبه بكر ـ تقول في نفسك : لو كان ابن القيِّم حياً ، لكان عليك أَن ترجع إِليه ليهديك إِلى الكلمات والعبارات التي خطَّتها يمينه ، كيلا تقع في لبس ، يختلط به عليك الأَمر ، فيكون به الخلط ، ودليلاً جاهراً بأَن هذا هو ذاك ، وذاك هو هذا ، لكن الخط الوهميَّ الحاجزَ بينهما ، لا يعتسفك وأَنت تقرأُ كلام الرجلين معاً ً، أو وأنت تقرأ ُكلامَ كلٍّ منها منفرداً ، فقد تشابها ، فتشاكلا ، وباتا على تباعد الزمان بينهما على حرفٍ واحدٍ ، يأْخذ معنى كلٍّ منهما لفظه من لفظ الآخر ، ومعناه من معنى الآخر ، وهذه مزيةٌ خاصة لم تكن إِلا لعقل بكر وقلمه ، وهو يرتاد علم ابن القيِّم من أَطرافه ، يوغل فيه برفق ، وينساب في خباياه بَتُؤدة ، وينتاب أَطرافه في هونٍ ، وعلى مهل ، يجمع في إِيغاله كلَّ الشوارد ، ويمسك وثاقَها جميعاً في حذرٍ من أَن تطرف عينه عنها بغفل ، أو أَن يُناشَ سمعه بإغماضة ، أو أَن يُناب فكره بوهلة .
ومن يعرف (بكرأبو زيد) من قلمه ، يعرف العربية في دارها من أهلها ، ومن يعرفه من لسانه لا يأْذن لسمعه أَن تُصيبه معرَّة اللحن الفاحش ، ومن يعرفه من سلوكه في الناس يبصر برجل فيه أناة العزة ، وشموخ النَّقيبة ، ومضاءُ الشكيمة ، يُؤْويها كلَّها رداءٌ من الهيبة ، في تواضع غير متكلَّفٍ ، وترفُّعٍ غيرِ مستثقلٍ ، وإِحسان بمعروفٍ غير مستأْثَرٍ ، ثم لايجد الناظر فيه إِلا مصداق قول الشاعر :
يقولون فيك انقباض وإنما رأَوا رجلاً عن موقف الذُّلِّ أَحجما
عرفت بكراً أّوَّل ما عرفته في قدمَةٍ له إِلى (عمَّان) في حاجةٍ له ، زار فيها الشيخ ناصر رحمه الله تعالى ، وكان يحبُّ الشيخ حبَّاً جمَّاً ، ويعظِّمه لعلمه ، ولا يقدِّم عليه أَحداً من أَضرابه ونظرائِه ، ويثني عليه الثناءَ الجميل ، ويعود إِليه في المسائِل العلمية التي تبهم أَو تشكل عليه في السُّنَّة ، وكان سيفاً يحامي عن الشيخ رحمه الله من ورائِه ، ويحضُّ الناس في المملكة ـ علماءَ ، وطلاَّب علم ـ على توقيره ، والإِفادة من علمه ، ولا يدع مجالاً ًيذكر فيه الشيخ إِلا والثناءُ عليه يكاد يسبق ذكرَه ، لكن الشيخ رحمه الله ، لم يلبث أن أَلمَّ به بقلمه ، واشتدَّ عليه الشدَّة المعهودة منه رحمه الله ، ووطأَه بأُسلوبه المعروف ، وما كان ينبغي أَن يفعل ذلك معه ، إِذ الخلاف العلمي أَمرٌ تعاهدته أقلام أَهل العلم من قديم ، وراحت به وغدت على روَّاده من قديم ، لكن هكذا فعل الشيخ .
وكأَن التلاميذ الأَدعياءِ ، تلاميذ النَّوم والموائَد ، سنحت لهم سانحة بِصَنيع الشيخ رحمه الله ببكر في كتابه النافع : (تمام المِنَّة) ، فحوَّلوا رحالهم ، وفوَّقوا سهامهم إِلى بكر ، ظانِّين أَنهم بذلك يسكتون صوته ، ويكسِرون قلمه ، الذي وشَّح فتوى لجنة الإفتاء الصادرة في حق أربعتهم ، ومن تبعهم بغير إحسان .
وصحبته في زيارته هذه إِلى الشيخ ، فرأَيت منه ـ على علمه ـ ما يُرى من طالب العلم ، الحريص على الإِفادة من شيِخه ، أَن تَندَّ عنه نادَّة ، أَو تشرد منه مسأَلة ، سأل الشِيخَ سُؤالاتٍ عدَّة ، وكان منه إِيراداتٌ على جوابات الشيِخ ، كمَّل بعضها بعضاً ، ظهر فيها الخلق العلمي ، الذي أَطاح به طلابُ العلم في زماننا ، بالإِغلاظ ، وسوءِ الأَدب ، والتعالم ، الذي وضع فيه بكرٌ كتاباً مستقلاً ، أَبان فيه عوارالمتعالمين الساجحين ، وحدَّد معالم الطلب خير تحديد ، ودعا طلاب العلم أَن يتركوا البُنَيَّات للجادَّة ، وأَن يستقيموا على الأَمر كما أمر الله ، وبيَّن رسوله .
ولا زالت حروف كتابه (حراسة الفضيلة) تقطع آفاق الدنيا ، تدعو الأُمة إِلى أَن يتواضعوا على قواعد واضحة ثابتة ، تنبو عنها كلُّ رذيلةٍ تسعى في الأمة بسُمِّها ، وتصدُّ بقوة كلَّ دعوىٍ جائِفةٍ زائِفةٍ عن حِماها ، ولكأَنَّما كلُّ جملةٍ فيه جزء أَخلاقيٌّ يُمهِّدُ السبيل أَمام كلِّ محبٍّ الخُلُقَ الطيِّب .
وما من كتاب من كتبه ، ولا رسالة من رسائِله ، إِلا وقد تأَلَّقت بسنا معانيها ، وذاعت بشذا أَلفاظها وأَدرجت كرائِم مقاصدها بين يديها ، تُرى على البُعدِ ذبدباتُ ضوئِها ، وتُسمَعُ على النأْي همسات حسِّها ، وتتلاقى هذه وتلك على صعيد الرجاءِ في ترسُّمِ خطى القرون الأَولى ، التي صدَّقت بكلمات ربِّها ورسله ، فجثت أَمامها القرون الآتية من بعدها في خشوع الرضا ، على يد كاتب مثل بكرٍ ، حتى صار يقال بها وفيها : (يضارع أُسلوب بكر فيتدفق معانيه ، وترابُطِ أَفكاره ، وجزالة أَلفاظه ، وقوة تراكيبه ، ومتانة عبارته ، وفصاحة كلمته ، وسموِّ غايته ، ودقة دَرْكَتِه ، وشمول إِحاطته ، ووضوح معالمه) .
ولسوف تَظل كتُبُه ورسائِله سقفاً علميّاً واسعاً ، قويّاً ، تستظل به عقولُ طلابِ العلم ، وترتاده آناءَ الليل وأَطرف النهار ، في نَهْمَةِ رغَبٍ ، وطُلَعةِ شوقٍ ، وأَتِيَّةِ حرصٍ ، وأَمَنَةِ عطاءٍ وأَخذٍ ، لكأَن الزمان قد انحسر بقرونه ، وذهبت غواشيه المتكاثفة ، وانزاحت أَستاره الصفيقة ، حتى لكأَن بكراً قد أَخذ من بدرة ابن القيِّم ، مكتوب على كل قطعة منها أَخذها ـ وكأَنها وصيَّة ٌ منه رحمه الله ، لبكر شفاه الله وعافاه ـ أَنْفِقْ بكرُ ، ولا تخش إِقلالاً ، فقد آتانيَ الله من خزائن رحمته ، ومن خفايا علمه ـ مما لا يُخْشى به على عقيدة التوحيد أَن تُثْلَمَ ، ولا يخاف منه على جريب أَحكام الشرع الحنيف أَنْ يُنْتَقَصَ ـ بأَعلى إِسنادٍ يُعرفُ في طبقاتِ الرجال ، لم يُعْهد إِلا على سَنَن الصحابة رضوان الله عليهم ، وهم يأْخُذون عن معلِّمهم ، ومُرَبيهم ـ وقائِدهم ، (المصطفى) صلى الله عليه وسلَّم ، مع فارق المنزلة ، بين الصحابة رضي الله عنهم ، وبين القرون كلها التي تتالت على مدرجة الزمن .
ولكن ما ينبغي أَن ننسى كلمة أَثبتها لنا الزمان على جداره العظيم الذي أَحاط بالدنيا ، منذ كانت دنيا ، يقرؤُها الأُمِّيُّ والقارئُ على حدٍّ سواءٍ : (أمتي كالمطر، لا يُدرى خير أَوَّلُه أم آخره) ، فتكون الأمة في الخير ـ علماً وعبْرة ـ وكسبه وبذله على حدّ قوله سبحانه : (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) .
فلا عجبَ إذاً من بعدُ ومن قبل ، أَن يمنَّ الله على الأُمَّة اليوم كما منَّ عليها بالأَمس ، بطائفةٍ ، يَصْطفيها لدين الإِسلام الحق ، فيها ابن القيِّم ، وابن تيمية ، لقبان متكرران متجددان على الزمن ، يمنحهما الله سبحانه من يعلم أَنَّه أَهلٌ ، ليعطي واحداً منهما أَو كليهما معاً .
وإِني لأَرى أَنَّ بكراً لأَهلٌ ـ وقد صار عيبةً حافظةً لعلم ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ من بعد قرون خلت ـ أَن يُمْنَحَ أَحد اللقبين ، بإضافة وصفٍ إِليه يميزه من صاحب الاسم السابق ، ابن قيِّم الجوزية الذي تألَّق القرن السابع بسنا ذكره ، فنُسِّمى صاحبنا بكراً بـ : (ابن القيِّم الثاني) ، ضارعين إِلى بارئِ الأَرض ، ورافع سقف السماءِ ، أَن يمنَّ الله عليه بالشفاء ، لعلَّ الله سبحانه ، يحدِث لهذه الأُمة به وبمن هو مثله ما يُراح به إِلى آفاق المعارف الإِسلامية العربية ، ويُغْدىَ به إِلى قيعان الهدى ، وثبج المحيطات ، فيملأَ تلك من هذه ، ويُغْذي هذه من تلك ، وإذا الحياة العلمية تفيض بالخير والبركات ، بما أَلقت إِليها تلك الثروة الجليلة التي خلَّفها للأمة من بعده ، شيخ الإسلام ابن القيِّم رحمه الله ، وإِنِّيِ على يقين من أَن الأُمة كان يكفيها أَن تقف بجهدها العلمي في العقيدة ، والفقه ، وعلم السلوك ، والرقائِق ، والتفسير ، وغيرها ، على عتبة تراث الشيخين الإمامين العظيمين ابن تيمية ، وابن القيِّم ، ليكون ذلك بداية في توحيد الأُمة على مذهبٍ واحد ، تذوب به الخلافات ، وتذهب فيه النزاعات ، وتعود سيرتها الأُولى ، التي نَسَجَها قرن الصحابة ، رضوان الله عليهم ، لكنها تَظلُّ أُمنيَّةً معلَّقةً في سماءِ الأُمة ، لا ندري متى تدنو من حبل الرجاء ، والأُمة تنتهب عقولها الشُّبهاتُ المظلمةُ ، والجهالاتُ السَّافية العافية ، وتؤُودُ الأَخلاقَ فيها كبائِرُ الإِثم ، وأَجلُّها وأَفدحُها : الاستكبارُ والبغضاءُ .
وظلَّ بكر حفظه الله في منأىً عن مداراتِ الفتن ، هو وقلمه ، وكم من فتنةٍ استطارت برهَجها بين ظهراني الأُمة ، أَتت على كثير من قيمها ـ من غير إبادة لآثارها وأَسبابها ـ كأَن بينها وبين بكرٍ عهداً أَن لا تُرِيهَ نفسها إن هي حطت في أَرض الأُمة ، حتى لا يجري منها حرف أَو كلمة على لسانه ، أَو يصيب منها قلمه ، وكأَنها تعلم منه أَنها لا تفيد منه شيئاً ، فآثرت أَن يكون منها عهد له في ذلك.
بيد أَن خطأً ـ عَدَّ العقلاءُ الأَنقياء منه خطيئَة ـ واقعه ، اندفع إليه بحماسة الحبِّ ، وشيءٍ من حُسْن الظنِّ ، حين ذكرَ واحداً ممن أَوقدوا نار الفتنة في (عمَّان) ، وأَثنى عليه ثناءً ـ ندم عليه فيما بعد ولابدَّ ، إِذ تبيَّن له أَنه ليس أَهلاً لمثل هذا الثناء ـ فوصفه في مقدمته لواحد من كتبه (بالعلاَّمة) ، ونحمد الله على أَن هذا الثناءَ لم يتعدَّ هذا الواحد ، ليأْتي على الأربعة أَو الخمسة الآخرين ، غفر الله لك يا شيخ بكر صنيعك الذي كان ، ولعلك ـ ولابدَّ ـ قد علمت أَنها شهادة من مثلك ترفع بها خسيسة المغموز في دينه وأَمانته العلمية ، لكن ذاك أَبى إِلاَّ أَن يُنيل نفسه فتنةً صنعها هو وأَربعةٌ معه ، ليرتدَّ إِليهم قلمك جملةً واحدةً بالفتيا ، التي أَصدرتها لجنتكم الموقَّرة ، لجنة الإِفتاءِ الدائمةِ في حق الأربعة (صُنَّاع الفتنة) محرري مَجَلَّة الأَصالة ، المجذوذة الأَصل ، حين أَظهرت للأُمة ضلالتهم الإِرجائِيَّة التي أَبوا بكبْرِ جهلهم إِلا أَن يلصقوها بالشيخ ناصر رحمه الله ، إِذ زعموا أَنَّه شيخهم ، وأَنهم أَخذوا هذه العقيدة الباطلة الخبيثة عنه ، فانظر إِلى آثار سوءِ الفتنة التي صنعوها ، وأَذاعوها في الناس عن الأَحياءِ والأَموات ، وأَصروا عليها واستكبروا استكباراً ، ومشوا قائِلين في علانية وقحةٍ جائِرة هاجرة : اصبروا على ضلالتكم إنَّ هذا الشيءُ يُراد منكم ، ولعلكم بعد يومكم هذا لا تستطيعون أَن تنكصوا أَو تؤُوبوا عن شيءٍ أُريدَ بكم ومنكم ، بغُلْمَةِ الحرام ، وكسْب الإثم ، وأَزيز الطمع .
ومثلكم في ذلك صاحبكم (أَبو ذُنيبٍ المتسوِّل) ، الذي أَذاع في الناس بنفسه خبره المشين ، إِذ أَراد أَن يتبرَّأَ من صنيعه ، فسقط إِما على أُمِّ رأْسه ، وإِمَّا على عَجْبِ ذَنَبه ، فلم يعد من شدة الأَلم يدرى ما يقول ، وفَّاه الله سوءَ حسابه ، وأَعجل له في الدنيا من عقابه .
ولكأَنما جعل الله للبلاءِ حقاً أَن يتخيَّر لنفسه ما يريد ومن يريد فيهبَ من يتخيَّر شيئاً مما يتخير من صنوف الشدة ، وأنواع المرض بحسب ما يعلم من قوة تحمُّل من يتخيَّر لنفسه ، في نيله من شدته ، ويوقع فيه من مرضه ، وكلُّ ما يكون بأَمرٍ من الله ، ولا رادَّ له ، حتى يغسل من ذنبه .
وكان لبكر حظٌّ جمٌّ في جعبة البلاء ، أَوفره له فيه ربُّه سبحانه منذ كان صورةً في تقدير الله وعلمه ، حتى إِذا حان وقت ظهوره فيه أَظهره عليه ، وأَسبغه نعمةً على رأسه العظيمة ، التي وعت القرآن والحكمة ، وجمعت علم الشيخ ابن القيِّم إِمام الأُمة ، وأَدنت مسائِله من العلماء ، وقربت شوارده ، وألَّفَت بين متفرِّقاته ، وحَّلت معضلاته ومشكلاته ، وأَصارته إِلى أَيدي طلاب العلم في سهولةٍ ويسر ، حتى غدا ليس من علم عالمٍ أَحبَّ إليهم منه ، إِلا أَن يكون عِلْمَ شيخه ابن تيمية رحمهما الله ، وأَسبغ عليهما وأَفاض عليهما من نعمائه ، وبَّوأَهما منازلَ الصدِّيقين والشهداءِ والصالحين والنَّبيين ، وآواهما إِلى ربوة في الفردوس الأَعلى ذات قرارٍ ومعين ، وأَلحقنا بهما على خير ، ورزقنا نحن وبكرٌ ومن نحب من علمهما ، ما يكون لنا به شرف المنازل العالية في الدنيا وفي الآخرة .
ولستُ يا شيخُ بكر بالمواسيك ـ وأَنت من كنتَ تواسيني حين كنت تعودني ، في مرضي في (الرياض) فتدعو لي بِقَولك : (جمع الله لك بين الأجر والعافية) ـ بأَجملَ ولا أَلطف منها ، وإن كان الأحْسنَ والأَطيبَ ـ بِل هو كذلك ـ تلك الدعوة التي كان يدعو بها المصطفى عليه الصلاة والسلام ، حين كان يعودُ مريضاً من أَصحابه : (أَسأل الله العظيم رب العرش العظيم أَن يشفيك) سبع مرات .
ولستُ بالمصبِّرك بأَحسنَ ولا بأَطيبَ من تذكيرك بشيءٍ مما تحفظ عن نَبيِّنا عليه الصلاة والسلام من مثل قوله : (من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه) وقوله : (ما يزال البلاءُ بالمؤْمنِ في نفسه وولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئَة) وقوله : (إِذا أَراد الله بعبده الخيرعجَّل له العقوبة في الدنيا) ، فأَيُّ نعمةٍ يا حبيبنا بكرُ قد أَنعم الله بها عليك ، وأَيَُ فضلٍ أنالكه ، وأَنت ترتدي ثوب البلاءِ ، الذي مَنَّ الله به على الصالحين من عباده ، فَتَصبرَ وتُصابرَ ، وتُعِلِّم الناس الصَّبرَ .
والسلام عليك في الأَخيارالطيِّبين ، وعجَّل لك الشفاءَ وجمع شملك بقلمك ، وأَنعم عليك بالرضا ، ولقَّانا وإِياك في الفردوس الأَعلى من حبِّه ما يُكافئُ رجاءَنا فيه بالحسنى وزيادة ، وأَقامنا على الحقِّ الذي أَقام عليه نبيَّه ، وباعَدَ بيننا وبين الباطل الذي أَزاغ الله إِليه قلوب أَهل الإرجاءِ بزيغهم ، وعلَّمنا وإِياك ما لم نكن نعلم ، إِنه سميعٌ مجيب .
واسلم رعاك الله لمحبيك وإخوانك الذين هم على خير ما أنت عليه واذكرني بدعوةٍ صالحة في بلائك .
وكأَن التلاميذ الأَدعياءِ ، تلاميذ النَّوم والموائَد ، سنحت لهم سانحة بِصَنيع الشيخ رحمه الله ببكر في كتابه النافع : (تمام المِنَّة) ، فحوَّلوا رحالهم ، وفوَّقوا سهامهم إِلى بكر ، ظانِّين أَنهم بذلك يسكتون صوته ، ويكسِرون قلمه ، الذي وشَّح فتوى لجنة الإفتاء الصادرة في حق أربعتهم ، ومن تبعهم بغير إحسان .
وصحبته في زيارته هذه إِلى الشيخ ، فرأَيت منه ـ على علمه ـ ما يُرى من طالب العلم ، الحريص على الإِفادة من شيِخه ، أَن تَندَّ عنه نادَّة ، أَو تشرد منه مسأَلة ، سأل الشِيخَ سُؤالاتٍ عدَّة ، وكان منه إِيراداتٌ على جوابات الشيِخ ، كمَّل بعضها بعضاً ، ظهر فيها الخلق العلمي ، الذي أَطاح به طلابُ العلم في زماننا ، بالإِغلاظ ، وسوءِ الأَدب ، والتعالم ، الذي وضع فيه بكرٌ كتاباً مستقلاً ، أَبان فيه عوارالمتعالمين الساجحين ، وحدَّد معالم الطلب خير تحديد ، ودعا طلاب العلم أَن يتركوا البُنَيَّات للجادَّة ، وأَن يستقيموا على الأَمر كما أمر الله ، وبيَّن رسوله .
ولا زالت حروف كتابه (حراسة الفضيلة) تقطع آفاق الدنيا ، تدعو الأُمة إِلى أَن يتواضعوا على قواعد واضحة ثابتة ، تنبو عنها كلُّ رذيلةٍ تسعى في الأمة بسُمِّها ، وتصدُّ بقوة كلَّ دعوىٍ جائِفةٍ زائِفةٍ عن حِماها ، ولكأَنَّما كلُّ جملةٍ فيه جزء أَخلاقيٌّ يُمهِّدُ السبيل أَمام كلِّ محبٍّ الخُلُقَ الطيِّب .
وما من كتاب من كتبه ، ولا رسالة من رسائِله ، إِلا وقد تأَلَّقت بسنا معانيها ، وذاعت بشذا أَلفاظها وأَدرجت كرائِم مقاصدها بين يديها ، تُرى على البُعدِ ذبدباتُ ضوئِها ، وتُسمَعُ على النأْي همسات حسِّها ، وتتلاقى هذه وتلك على صعيد الرجاءِ في ترسُّمِ خطى القرون الأَولى ، التي صدَّقت بكلمات ربِّها ورسله ، فجثت أَمامها القرون الآتية من بعدها في خشوع الرضا ، على يد كاتب مثل بكرٍ ، حتى صار يقال بها وفيها : (يضارع أُسلوب بكر فيتدفق معانيه ، وترابُطِ أَفكاره ، وجزالة أَلفاظه ، وقوة تراكيبه ، ومتانة عبارته ، وفصاحة كلمته ، وسموِّ غايته ، ودقة دَرْكَتِه ، وشمول إِحاطته ، ووضوح معالمه) .
ولسوف تَظل كتُبُه ورسائِله سقفاً علميّاً واسعاً ، قويّاً ، تستظل به عقولُ طلابِ العلم ، وترتاده آناءَ الليل وأَطرف النهار ، في نَهْمَةِ رغَبٍ ، وطُلَعةِ شوقٍ ، وأَتِيَّةِ حرصٍ ، وأَمَنَةِ عطاءٍ وأَخذٍ ، لكأَن الزمان قد انحسر بقرونه ، وذهبت غواشيه المتكاثفة ، وانزاحت أَستاره الصفيقة ، حتى لكأَن بكراً قد أَخذ من بدرة ابن القيِّم ، مكتوب على كل قطعة منها أَخذها ـ وكأَنها وصيَّة ٌ منه رحمه الله ، لبكر شفاه الله وعافاه ـ أَنْفِقْ بكرُ ، ولا تخش إِقلالاً ، فقد آتانيَ الله من خزائن رحمته ، ومن خفايا علمه ـ مما لا يُخْشى به على عقيدة التوحيد أَن تُثْلَمَ ، ولا يخاف منه على جريب أَحكام الشرع الحنيف أَنْ يُنْتَقَصَ ـ بأَعلى إِسنادٍ يُعرفُ في طبقاتِ الرجال ، لم يُعْهد إِلا على سَنَن الصحابة رضوان الله عليهم ، وهم يأْخُذون عن معلِّمهم ، ومُرَبيهم ـ وقائِدهم ، (المصطفى) صلى الله عليه وسلَّم ، مع فارق المنزلة ، بين الصحابة رضي الله عنهم ، وبين القرون كلها التي تتالت على مدرجة الزمن .
ولكن ما ينبغي أَن ننسى كلمة أَثبتها لنا الزمان على جداره العظيم الذي أَحاط بالدنيا ، منذ كانت دنيا ، يقرؤُها الأُمِّيُّ والقارئُ على حدٍّ سواءٍ : (أمتي كالمطر، لا يُدرى خير أَوَّلُه أم آخره) ، فتكون الأمة في الخير ـ علماً وعبْرة ـ وكسبه وبذله على حدّ قوله سبحانه : (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) .
فلا عجبَ إذاً من بعدُ ومن قبل ، أَن يمنَّ الله على الأُمَّة اليوم كما منَّ عليها بالأَمس ، بطائفةٍ ، يَصْطفيها لدين الإِسلام الحق ، فيها ابن القيِّم ، وابن تيمية ، لقبان متكرران متجددان على الزمن ، يمنحهما الله سبحانه من يعلم أَنَّه أَهلٌ ، ليعطي واحداً منهما أَو كليهما معاً .
وإِني لأَرى أَنَّ بكراً لأَهلٌ ـ وقد صار عيبةً حافظةً لعلم ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ من بعد قرون خلت ـ أَن يُمْنَحَ أَحد اللقبين ، بإضافة وصفٍ إِليه يميزه من صاحب الاسم السابق ، ابن قيِّم الجوزية الذي تألَّق القرن السابع بسنا ذكره ، فنُسِّمى صاحبنا بكراً بـ : (ابن القيِّم الثاني) ، ضارعين إِلى بارئِ الأَرض ، ورافع سقف السماءِ ، أَن يمنَّ الله عليه بالشفاء ، لعلَّ الله سبحانه ، يحدِث لهذه الأُمة به وبمن هو مثله ما يُراح به إِلى آفاق المعارف الإِسلامية العربية ، ويُغْدىَ به إِلى قيعان الهدى ، وثبج المحيطات ، فيملأَ تلك من هذه ، ويُغْذي هذه من تلك ، وإذا الحياة العلمية تفيض بالخير والبركات ، بما أَلقت إِليها تلك الثروة الجليلة التي خلَّفها للأمة من بعده ، شيخ الإسلام ابن القيِّم رحمه الله ، وإِنِّيِ على يقين من أَن الأُمة كان يكفيها أَن تقف بجهدها العلمي في العقيدة ، والفقه ، وعلم السلوك ، والرقائِق ، والتفسير ، وغيرها ، على عتبة تراث الشيخين الإمامين العظيمين ابن تيمية ، وابن القيِّم ، ليكون ذلك بداية في توحيد الأُمة على مذهبٍ واحد ، تذوب به الخلافات ، وتذهب فيه النزاعات ، وتعود سيرتها الأُولى ، التي نَسَجَها قرن الصحابة ، رضوان الله عليهم ، لكنها تَظلُّ أُمنيَّةً معلَّقةً في سماءِ الأُمة ، لا ندري متى تدنو من حبل الرجاء ، والأُمة تنتهب عقولها الشُّبهاتُ المظلمةُ ، والجهالاتُ السَّافية العافية ، وتؤُودُ الأَخلاقَ فيها كبائِرُ الإِثم ، وأَجلُّها وأَفدحُها : الاستكبارُ والبغضاءُ .
وظلَّ بكر حفظه الله في منأىً عن مداراتِ الفتن ، هو وقلمه ، وكم من فتنةٍ استطارت برهَجها بين ظهراني الأُمة ، أَتت على كثير من قيمها ـ من غير إبادة لآثارها وأَسبابها ـ كأَن بينها وبين بكرٍ عهداً أَن لا تُرِيهَ نفسها إن هي حطت في أَرض الأُمة ، حتى لا يجري منها حرف أَو كلمة على لسانه ، أَو يصيب منها قلمه ، وكأَنها تعلم منه أَنها لا تفيد منه شيئاً ، فآثرت أَن يكون منها عهد له في ذلك.
بيد أَن خطأً ـ عَدَّ العقلاءُ الأَنقياء منه خطيئَة ـ واقعه ، اندفع إليه بحماسة الحبِّ ، وشيءٍ من حُسْن الظنِّ ، حين ذكرَ واحداً ممن أَوقدوا نار الفتنة في (عمَّان) ، وأَثنى عليه ثناءً ـ ندم عليه فيما بعد ولابدَّ ، إِذ تبيَّن له أَنه ليس أَهلاً لمثل هذا الثناء ـ فوصفه في مقدمته لواحد من كتبه (بالعلاَّمة) ، ونحمد الله على أَن هذا الثناءَ لم يتعدَّ هذا الواحد ، ليأْتي على الأربعة أَو الخمسة الآخرين ، غفر الله لك يا شيخ بكر صنيعك الذي كان ، ولعلك ـ ولابدَّ ـ قد علمت أَنها شهادة من مثلك ترفع بها خسيسة المغموز في دينه وأَمانته العلمية ، لكن ذاك أَبى إِلاَّ أَن يُنيل نفسه فتنةً صنعها هو وأَربعةٌ معه ، ليرتدَّ إِليهم قلمك جملةً واحدةً بالفتيا ، التي أَصدرتها لجنتكم الموقَّرة ، لجنة الإِفتاءِ الدائمةِ في حق الأربعة (صُنَّاع الفتنة) محرري مَجَلَّة الأَصالة ، المجذوذة الأَصل ، حين أَظهرت للأُمة ضلالتهم الإِرجائِيَّة التي أَبوا بكبْرِ جهلهم إِلا أَن يلصقوها بالشيخ ناصر رحمه الله ، إِذ زعموا أَنَّه شيخهم ، وأَنهم أَخذوا هذه العقيدة الباطلة الخبيثة عنه ، فانظر إِلى آثار سوءِ الفتنة التي صنعوها ، وأَذاعوها في الناس عن الأَحياءِ والأَموات ، وأَصروا عليها واستكبروا استكباراً ، ومشوا قائِلين في علانية وقحةٍ جائِرة هاجرة : اصبروا على ضلالتكم إنَّ هذا الشيءُ يُراد منكم ، ولعلكم بعد يومكم هذا لا تستطيعون أَن تنكصوا أَو تؤُوبوا عن شيءٍ أُريدَ بكم ومنكم ، بغُلْمَةِ الحرام ، وكسْب الإثم ، وأَزيز الطمع .
ومثلكم في ذلك صاحبكم (أَبو ذُنيبٍ المتسوِّل) ، الذي أَذاع في الناس بنفسه خبره المشين ، إِذ أَراد أَن يتبرَّأَ من صنيعه ، فسقط إِما على أُمِّ رأْسه ، وإِمَّا على عَجْبِ ذَنَبه ، فلم يعد من شدة الأَلم يدرى ما يقول ، وفَّاه الله سوءَ حسابه ، وأَعجل له في الدنيا من عقابه .
ولكأَنما جعل الله للبلاءِ حقاً أَن يتخيَّر لنفسه ما يريد ومن يريد فيهبَ من يتخيَّر شيئاً مما يتخير من صنوف الشدة ، وأنواع المرض بحسب ما يعلم من قوة تحمُّل من يتخيَّر لنفسه ، في نيله من شدته ، ويوقع فيه من مرضه ، وكلُّ ما يكون بأَمرٍ من الله ، ولا رادَّ له ، حتى يغسل من ذنبه .
وكان لبكر حظٌّ جمٌّ في جعبة البلاء ، أَوفره له فيه ربُّه سبحانه منذ كان صورةً في تقدير الله وعلمه ، حتى إِذا حان وقت ظهوره فيه أَظهره عليه ، وأَسبغه نعمةً على رأسه العظيمة ، التي وعت القرآن والحكمة ، وجمعت علم الشيخ ابن القيِّم إِمام الأُمة ، وأَدنت مسائِله من العلماء ، وقربت شوارده ، وألَّفَت بين متفرِّقاته ، وحَّلت معضلاته ومشكلاته ، وأَصارته إِلى أَيدي طلاب العلم في سهولةٍ ويسر ، حتى غدا ليس من علم عالمٍ أَحبَّ إليهم منه ، إِلا أَن يكون عِلْمَ شيخه ابن تيمية رحمهما الله ، وأَسبغ عليهما وأَفاض عليهما من نعمائه ، وبَّوأَهما منازلَ الصدِّيقين والشهداءِ والصالحين والنَّبيين ، وآواهما إِلى ربوة في الفردوس الأَعلى ذات قرارٍ ومعين ، وأَلحقنا بهما على خير ، ورزقنا نحن وبكرٌ ومن نحب من علمهما ، ما يكون لنا به شرف المنازل العالية في الدنيا وفي الآخرة .
ولستُ يا شيخُ بكر بالمواسيك ـ وأَنت من كنتَ تواسيني حين كنت تعودني ، في مرضي في (الرياض) فتدعو لي بِقَولك : (جمع الله لك بين الأجر والعافية) ـ بأَجملَ ولا أَلطف منها ، وإن كان الأحْسنَ والأَطيبَ ـ بِل هو كذلك ـ تلك الدعوة التي كان يدعو بها المصطفى عليه الصلاة والسلام ، حين كان يعودُ مريضاً من أَصحابه : (أَسأل الله العظيم رب العرش العظيم أَن يشفيك) سبع مرات .
ولستُ بالمصبِّرك بأَحسنَ ولا بأَطيبَ من تذكيرك بشيءٍ مما تحفظ عن نَبيِّنا عليه الصلاة والسلام من مثل قوله : (من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه) وقوله : (ما يزال البلاءُ بالمؤْمنِ في نفسه وولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئَة) وقوله : (إِذا أَراد الله بعبده الخيرعجَّل له العقوبة في الدنيا) ، فأَيُّ نعمةٍ يا حبيبنا بكرُ قد أَنعم الله بها عليك ، وأَيَُ فضلٍ أنالكه ، وأَنت ترتدي ثوب البلاءِ ، الذي مَنَّ الله به على الصالحين من عباده ، فَتَصبرَ وتُصابرَ ، وتُعِلِّم الناس الصَّبرَ .
والسلام عليك في الأَخيارالطيِّبين ، وعجَّل لك الشفاءَ وجمع شملك بقلمك ، وأَنعم عليك بالرضا ، ولقَّانا وإِياك في الفردوس الأَعلى من حبِّه ما يُكافئُ رجاءَنا فيه بالحسنى وزيادة ، وأَقامنا على الحقِّ الذي أَقام عليه نبيَّه ، وباعَدَ بيننا وبين الباطل الذي أَزاغ الله إِليه قلوب أَهل الإرجاءِ بزيغهم ، وعلَّمنا وإِياك ما لم نكن نعلم ، إِنه سميعٌ مجيب .
واسلم رعاك الله لمحبيك وإخوانك الذين هم على خير ما أنت عليه واذكرني بدعوةٍ صالحة في بلائك .
أخوكم المحب أَبو مالك محمد إبراهيم شقرة
---------------------------------------------------------
المصدر : رسالة من الشيخ محمد شقرة إلى أخيه الشيخ بكر أبو زيد أثناء مرضه
---------------------------------------------------------
المصدر : رسالة من الشيخ محمد شقرة إلى أخيه الشيخ بكر أبو زيد أثناء مرضه