( 11 ) مواقف رائعة لرجاء بن حيوة
----------------------------------
تعريف وتقدمة :-----------------------------------
كان في قرن التابعين ثلاثة رجال ما عرف أهل زمانهم لهم مثيلاً ، ولا رأوا لهم ضريباً ...
كأنهم إلتقوا على ميعاد ، فتواصوا بالحق والصبر ، وتعاهدوا على الخير والبر ...
ووقفوا حياتهم على التقى والعلم ، وجعلوا أنفسهم في خدمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعامة المؤمنين وخاصتهم ... هم :
محمد بن سيرين .. بالعراق ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر .. بالحجاز ، ورجاء بن حيوة .. بالشام ...
فتعالوا نقض ِهذه اللحظات المباركات في رحاب ثالث هؤلاء الأخيار الأبرار رجاء بن حيوة !!..
ولد رجاء بن حيوة في بيسان من أرض فلسطين ، وكانت ولادته في أواخر خلافة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أو نحو من ذلك ...
وكان ينتمي إلى قبيلة كندة العربية ، وعلى هذا فرجاء فلسطيني الوطن ، عربي الأرومة ، كندي العشيرة ...
وقد نشأ الفتى الكندي في طاعة الله منذ حداثة سنه ، فأحبه الله وحببه إلى خلقه ، وأقبل على طلب العلم من نعومة أظفاره فوجد العلمُ فؤادَه غضاً طرياً خالياً فتمكن منه واستقر فيه ، وجعل همه الأكبر التضلع من كتاب الله ، والتزود من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فاستضاء فكره بنور الإيمان ، واستنارت بصيرته بهدي النبوة ، وامتلأ صدره بالموعظة والحكمة ... ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ...
وقد أتيح له أن يأخذ عن طائفة كبيرة من أجلة الصحابة من أمثال أبي سعيد الخدري ، وأبي الدرداء ، وأبي أمامة ، وعبادة بن الصامت ...
ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والنواس بن سمعان ، وغيرهم .....
فكانوا له مصابيح هداية ومشاعل عرفان ...
وقد وضع الفتى المحظوظ لنفسه دستوراً ظل يلتزم به ويردده ما امتدت به الحياة ، حيث كان يقول :
ما أحسن الإسلام يزينه الإيمان !! وما أحسن الإيمان يزينه التقى !! وما أحسن التقى يزينه العلم !! وما أحسن العلم يزينه العمل !! وما أحسن العمل يزينه الرفق !!!
وقد وَزَرَ رجاء بن حيوة لطائفة من خلفاء بني أمية إبتداءًا من عبد الملك بن مروان ، وانتهاءًا بعمر بن عبد العزيز ... لكن صلته بسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز فاقت صلاته بمن سبقهما من الخلفاء ...
وقد أدناه من قلوب خلفاء بني أمية :
رجاحة في رأيه ، وصدق في لهجته ، وإخلاص في نيته ، وحكمة في معالجته الأمور ...
ثم توج ذلك كله بزهده بما في أيديهم من عرض الدنيا مما كان يتزاحم عليه المتزاحمون !!
وقد كان إتصاله بخلفاء بني أمية من عظيم رحمة الله بهم ، وجزيل إكرامه لهم ..
فلقد دعاهم إلى الخير ودلهم على طرقه ، وثناهم عن الشر وأوصد دونهم أبوابه ، وأراهم الحق وزين لهم إتباعه ، وبصرهم بالباطل وكره إليهم إتيانه .. فنصح لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم !!
ولقد وقعت لرجاء قصة أنارت له طريقه في مخالطة الخلفاء ، وحددت له مهمته معهم رواها بنفسه فقال :
إني لواقف مع سليمان بن عبد الملك في جموع من الناس ، إذ رأيت رجلاً يتجه نحونا وسط الزحام ، وكان حسن الصورة جليل الهيئة ، فمازال يشق الصفوف ، وأنا ما أشك أنه يروم الخليفة حتى حاذاني ، ووقف إلى جانبي ، ثم حياني وقال :
يارجاء إنك قد ابتليت بهذا الرجل ، وأشار إلى الخليفة ، وإنَّ في القرب منه الخير الكثير ، أو الشر الكثير !!
فاجعل قربك منه خير لك وله وللناس ، واعلم يا رجاء أنه من كانت له منزلة من السلطان ، فرفع إليه حاجة امرئ ضعيف لا يستطيع رفعها ، لقيَ الله تعالى عز وجل يوم يلقاه وقد ثبت قدميه للحساب ...
واذكر يا رجاء أنه من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته ، واعلم يا رجاء أنه من أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال الفرح على قلب امرئ مسلم ، وفيما كنت أتأمل كلامه وأترقب أن يزيدني منه ، نادى الخليفة قائلاً : أين رجاء بن حيوة ؟؟ فانعطفت نحوه وقلت : ها أنَذا يا أمير المؤمنين .. فسألني عن شئ ، فما كدت أفرغ من جوابه حتى التفتُ إلى صاحبي فلم أجده ، فنفضت المكان عنه نفضاً فلم أقع له على أثر بين الناس !!..
مواقفه الرائعة مع خلفاء بني أمية
------------------------------------
" إنَّ في كِنْدَة لثلاثة رجال يُنزل الله بهم الغيث ...
وينصر بهم على الأعداء ... أحدهم رجاء بن حيوة " !!..
( مسلمة بن عبد الملك )
لقد كانت لرجاء بن حيوة مع خلفاء بني أمية مواقف صدق ما زال يُكِنـُّهـَا التاريخ في أزهى صفحاته ، ويرويها الخلف عن السلف ...------------------------------------
" إنَّ في كِنْدَة لثلاثة رجال يُنزل الله بهم الغيث ...
وينصر بهم على الأعداء ... أحدهم رجاء بن حيوة " !!..
( مسلمة بن عبد الملك )
من ذلك أنه كان ذات يوم في مجلس عبد الملك بن مروان ، فوُصِفَ للخليفة رجل بسوء طويته على بني أمية وقيل له :
إنه يشايع إبن الزبير ، وينتصرُ له .....
وذكر الواشي له من أفعاله وأقواله ما أثار حفيظته فقال :
والله لئن أمكنني الله منه لأفعلنَّ ، ولأفعلنَّ ....
ولأضعنَّ السيف في عنقه ...
ولم يمض طويل وقت حتى أمكنه الله من الرجل ، وسيق إليه سوقاً ...
فلما وقعت عيناه عليه ، كاد يتميز من الغيظ ، وهمَّ بأن ينفذ وعيده به ...
فقام إليه رجاء بن حيوة وقال :
يا أمير المؤمنين .. إنَّ الله عز وجل صنع لك ما تحبه من القدرة ...
فاصنع لله ما يحبه من العفو ...
فسكنت نفس الخليفة ، وسكت عنه غضبه ...
وعفا عن الرجل ، وأطلق سراحه ، وأحسن إليه ....
******
وفي سنة إحدى وتسعين حجَّ الوليد بن عبد الملك وبصحبته رجاء بن حيوة ...فلما بلغا المدينة زارا مسجدها النبوي الشريف يرافقهما عمر بن عبد العزيز ...
وقد رغب الخليفة في أن ينظر إلى الحرم النبوي نظرة أناة وروية ...
إذ كان قد عقد العزم على توسعته حتى يكون مائتي ذراع ...
فأخرج الناس من المسجد ليتمكن الخليفة من تأمله ...
ولم يبق فيه غير سعيد بن المسيب ، إذ لم يجرؤ الحرس على إخراجه ...
فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز ( وكان يومئذٍ والياً على المدينة ) رسولاً يقول له :
لو خرجت من المسجد كما خرج الناس !!
فقال سعيد بن المسيب : لا أغادر المسجد إلا في الوقت الذي إعتدت أن أغادره فيه كل يوم ...
فقيل له : لو قمت فسلمت على أمير المؤمنين !!
فقال : إنما جئت إلى هنا لأقوم لرب العالمين ...
فلما عرف عمر بن عبد العزيز ما دار بين رسوله وسعيد بن المسيب ، جعل يعدل بالخليفة عن المكان الذي فيه سعيد ...
وأخذ رجاء بن حيوة يشاغله بالكلام ، لما كانا يعلمان من شدة عنفوان الخليفة ...
فقال لهما الوليد : من ذلك الشيخ ؟؟
أليس هو سعيد بن المسيب ؟؟
فقالا : بلى يا أمير المؤمنين ...
وطفقا يصفان من دينه وعلمه وفضله وتقواه الشئ الكثير ...
ثم قالا : ولو علم الشيخ بمكان أمير المؤمنين لقام إليه وسلم عليه ، ولكنه ضعيف البصر !!
فقال الوليد : إني لأعلم من حاله مثلما تذكران ...
وهو أحق أن نأتيه ونسلم عليه ...
ثم دار في المسجد حتى أتاه ، ووقف عليه ، وحياه وقال :
كيف الشيخ ؟؟
فلم ينهض من مكانه ، وقال :
بنعمة من الله ، وله الحمد والمنة ...
فكيف أمير المؤمنين ، وفقه الله لما يحبه ويرضاه ؟؟
فانصرف الوليد وهو يقول :
هذا بقية الناس ...
هذا بقية سلف هذه الأمة ....
******
ولما أفضت الخلافة إلى سليمان بن عبد الملك كان لرجاء بن حيوة عنده شأن يفوق شأنه عند سابقيه ...فقد كان سليمان عظيم الثقة به ، شديد الإعتماد عليه ، حريصاً على أن يأخذ برأيه في صغير الأمور وكبيرها ...
ومواقف رجاء بن حيوة مع سليمان بن عبد الملك كثيرة مثيرة ...
بيد أنَّ أكبرها شأناً وأعظمها على الإسلام والمسلمين خطراً ، موقفه من أمر ولاية العهد ، وأثره في البيعة لعمر بن عبد العزيز *** !!..
-------------------------------------
المصدر ( صور من حياة التابعين / عبد الرحمن رأفت الباشا )
-------------------------------------
المصدر ( صور من حياة التابعين / عبد الرحمن رأفت الباشا )
-------------------------------------
*** هذا ما قد يأذن الله بتوضيحه وشرحه في أقرب فرصة إن كان في العمر بقية !!..