( 9 ) موقف الأوزاعي مع أبي جعفر المنصور
----------------------------------------------
قال الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي محدثا عن نفسه : بعث إليَّ أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل , فأتيته فلما وصلت إليه سلّمت عليه بالخلافة فرد عليَّ واستجلسني , ثم قال لي : ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي ؟؟----------------------------------------------
قلت : وما الذي تريد يا أمير المؤمنين ؟؟
قال : أريد الأخذ عنكم والإقتباس منكم ..
قلت : أنظر يا أمير المؤمنين إنك لا تجهل شيئاً مما أقول ..
قال : وكيف لا أجهله وأنا أسألك عنه , وفيه وجهت إليك وأقدمتك له ..
قلت : أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به ..
قال الأوزاعي : فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف ، فانتهره المنصور وقال : هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة ..
فطابت نفسي وانبسطت في الكلام , فقلت : يا أمير المؤمنين حدثني مكحول بن عطية بن بشر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه , فإن قبلها بشكر ، وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد إثماً ويزداد الله بها سخطاً عليه ) ..
يا أمير المؤمنين : من كره الحق فقد كره الله , إنَّ الله هو الحق المبين , إن الذي ليّن قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد كان بهم رؤوفاً رحيماً مواسياً لهم بنفسه من ذات يده محموداً عند الله وعند الناس , فحقيق بك أن تقوم له بالحق , وأن تكون بالقسط لهم فيهم قائماً , ولعوراتهم ساتراً , ولا تغلق عليك دونهم الأبواب ولا تقم دونهم الحجاب , تبتهج بالنعمة وتبتئس بما أصابهم من سوء ..
يا أمير المؤمنين : قد كنت في شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم ومسلمهم وكافرهم ، وكل له عليك نصيب من العدل , فكيف إذا انبعث منهم فئام وراء فئام , وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بليّة أدخلتها عليه , وظلمة سقتها إليه ..
يا أمير المؤمنين : إنَّ الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك , وكذا لا يبقى لك كما لم يبقى لغيرك ..
يا أمير المؤمنين بلغني أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " لو ماتت بغلة على شاطىء الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها " ، فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك ؟؟ يا أمير المؤمنين : قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة لاتحصيها ) .. نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئا إذ أوحى الله إليه : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } ، فقال : يا عباس , يا صفيّة عمة النبي , ويا فاطمة بنت محمد , إني لست أغني عنكم من الله شيئاً , لي عملي ولكم عملكم ..
وقال عمر بن الخطاب : " الأمراء أربعة : فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله .. يد الله باسطة عليه بالرحمة ، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله ، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة .. الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شرّ الرعاة الحطمة ) ، فهو الهالك وحده ، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً "..
ثم قال : يا أمير المؤمنين , إنَّ أشدّ الشدّة القيام لله بحقه , وإنَّ أكرم الكرم عند الله التقوى , وأنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه , ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه , فهذه نصيحتى إليك والسلام عليك !! ثم نهضت فقال لي : إلى أين ؟؟
فقلت : إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله ..
فقال : أذنت لك وشكرت نصحك وقبلتها ..
قال محمد بن مصعب : فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله !!
وقال : أنا في غنىً عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض الدنيا !!
وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك .. ( أي لم يغضب عليه ) !!..
==================================
المصدر كتاب ( صور من إبتلاء العلماء للشيخ وحيد بالي )
==================================
المصدر كتاب ( صور من إبتلاء العلماء للشيخ وحيد بالي )
==================================