أنت متهم بالرجعية ... فلا تنكر !!

محمد شتيوى

مستشار سابق
أصحاب الأيكة المعاصرون !!

عبد العزيز الجليل​

إن من المصطلحات التي كان الشيوعيون والبعثيون القوميون في العقود السابقة يرمون بها المتمسكين بشريعة الإسلام مصطلح (الرجعية)، ويعنون بذلك الرجوع إلى الوراء مئـات السـنين حـيث نزل القرآن على قلـب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ فمن كان على ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام فهو ـ بزعمهم ـ رجعي عندهم.

وما أكرمها وأجملها من رجعية نرفع الهام ونفتخر بها بين الـناس! فكـفـانا فخـراً أن يكـون الله ـ عز وجل ـ لنا رباً لا رب لنا سواه..! وكفانا عزاً أن نكون له عبيداً! وما أجمل قول الشاعر:

ومما زادني شرفاً وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك (يا عبادي) ...وأن صيّرت أحمد لي نبيا

ومع أن هذا المصطلح قد أكل عليه الدهر وشرب غير أنه ما يزال يطرح للتنفير من المتبعين للأثر ومنهج السلف الصالح، وقد تستبدل أحياناً بمصطلحات أخرى؛ كالأصولية والراديكالية وغيرها من المصطلحات الحادثة، وتطرح اليوم ممن يسمون أنفسهم بالعلمانيين أو الليبراليين أو الحداثيين، وهذه المصطلحات التي يفرح بها أصحابها ويسرون بإطلاقها عليهم تحمل في ألفاظها معاني التحرر من كل قديم أو أي شيء يحد من حرية الإنسان سواء أكان ذلك ديناً وشريعة أو عادة أو تقاليد، وهي عندهم تقابل الرجعية والأصولية المكروهتين في نظرهم.

وليس المقام هنا مقامَ نقدِ وهدم هذه المصطلحات والممارسات؛ فهي تحمل في طياتها معاول هدمها؛ وبيان ذلك له مقام آخر.

وإنما المراد في هذه المقالة بيان أن هؤلاء القوم، العاقين المتمردين على دينهم ونبيهم وأمتهم، الذين يدعون التحرر والتقدم والانعتاق من كل قديم، هم في الحقيقة غارقون في الرجعية الضاربة في أعماق التاريخ القديم. ويا ليتها رجعية إلى ما كان عليه الرسل الكرام من التوحيد والطريق المستقيم! وإنما هي رجعية إلى ما كان عليه أعداء الرسل وأقوامهم المشركون، وبيان ذلك في قصة شعيب ـ عليه السلام ـ مع قومه، وذلك عندما دعاهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم، وأن لا ينقصوا المكيال والميزان؛ فما كان جواب قومه إلا أن: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّكَ لأَنتَ الْـحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] .

وقوم شعيب هؤلا هم أصحاب الأيكة المذكورون في سورة الشعراء، وذلك في قوله ـ عز وجل ـ: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْـمُرْسَلِينَ * إذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 176 - 177]؛ فمرة ينسبون إلى قبيلتهم (مدين)، ومرة ينسبون إلى (الأيكة) وهي شجرة كبيرة في ديارهم.

والمقصود أن أصحاب الأيكة ـ قوم شعيب ـ استنكروا على نبي الله ـ عز وجل ـ شعيب ـ عليه السلام ـ تدخُّـلَه في شؤونهم التي يرون أنهم أحرار في فعلها، فقالوا: ما لك ولحريتنا الاعتقادية..؟! وما دخل دينك في اقتصادنا وتصرفنا في أموالنا؟! فنحن أحرار نفعل فيها ما نشاء! {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّكَ لأَنتَ الْـحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، الله أكبر! إنها والله المقولة ذاتها التي يقولها اليوم دعاة الليبرالية والعلمانـية حـذو القذة بالقذة: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].

وإنها والله لَهي الرجعية المقيتة التي ينادي بها العلمانيون والليبراليون في زماننا اليوم، ومع ذلك يدعون أنهم المتقدمون والمتحضرون..! في الوقت الذي يجترون ويقتاتون على أقوال سلفهم أصحاب الأيكة المشركين الذين سبقوهم بآلاف السنين؛ فما الفرق بين أصحاب الأيكة الأقدمين وأصحاب الأيكة المعاصرين؟

إن أصحـاب الأيـكة المعـاصرين والأقدمين لا يدركون، أو لا يريدون أن يدركوا، أن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ـ عـز وجل ـ ونـبذ ما يعـبد من دون الله، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شـأن مـن شـؤون الحـياة والتـعامل؛ فهي لُـحمة واحدة لا يفترق الاعتقاد فيها عن الصلاة.. عن شرائع الحياة..، وعن أوضاع الحياة.

إن أصحاب الأيكة المعاصرين، الحاصلين على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم، يتساءلون أولاً في اسـتنكار: ومـا للإسـلام وسـلوكنا الشخصي؟! وما للإسلام والسياسة؟! وما للإسلام وزيّ المرأة في الطريق؟! وما للإسلام وبناء الأسرة ونظامها؟! فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 87]؟

وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف، أن يتدخل الدين في الأدب والاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد؛ فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغـش والسـرقة ما لم يقـعا تحـت طـائلة القـانون الوضعي؟ بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده، وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية ـ النظرية الأخلاقية مثلاً ـ ويعدونها تخليطاً من أيام زمان! فما الفرق بين هذا وبين سؤال أصحاب الأيكة قوم شعيب: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]؟

فلا يذهبنّ بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى ونحن اليوم نرى خَلَفَهم الرجعيين من العلمانيين والليبراليين؛ الذين يدّعون العلم والمعرفة والحضارة، ويتهمون الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق، .. يتهمونه بالرجعية والتعصب والـجمود!! فأي الفريقين أحق بالرجعية الجاهلية لو كانوا يعلمون؟!

ويحسن في هذا المقام أن نقف مع ذلك الليبرالي الذي يتبجـح بليـبراليته ويعلـنها، وكان مـن قـبل ذلك يستخفي بها ويطرحها على استحياء، لنقول له: حدد لنا معنى هذا المصـطلح الذي تتـشرف بالانتسـاب إليه! فسـيقول لـنا: إنها لفظة أجنبية تعني التحرر والانطلاق من كل قيد يقيد حرية الإنسان ولو كان ذلك القيد هو شرع الله ـ عز وجل ـ وديـنـه، حينـئـذٍ نقـول له: إنـك بتحـررك مـن شـريـعـة الله ـ عـز وجل ـ والتي هي عقيدة وأحكام وسلوك، تكون بذلك قد ارتكستَ في العبودية لهواك ووضعت رِبقة الرق الحقيقي في عنقك. وإن كنت ترى أن هذه هي الحرية فأنت مخادع لنفسك، مغالط لغيرك؛ حيث إن ما أنت فيه إنْ هو إلا الرق والذلة والعبودية الجاهلية؛ كما قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عن أمثال هؤلاء الليبراليين:

هربوا من الرق الذي خلقوا له ... وبُلوا برق النفس والشيطان

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «من لم يكن مخلصاً لله، عبداً قد صار قلبه مستعبداً لربه وحده لا شريك له؛ بحيث يكون هو أحب إليه مما سواه ويكون ذليلاً خاضعاً له؛ وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين»(1).

ويقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ:

«إنه حـين تكون الحاكمـية العلـيا لله وحـده في مجتمع ـ متمثلة في سيادة شريعته الربانية ـ تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد، وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة كما هي في ميزان الله؛ لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعـدة أسـاسية من الكرامة والتحرر لكل فرد. ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد، لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا؛ وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب! والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية؛ فالقيم والموازين والأخلاق والتقـاليد كلها تـشريع يُخضـع الأفراد لضغـطه شـاعِرين أو غير شاعرين..! ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف»(2).

بهذا يتضح لنا بجلاء أن الليبراليين الذين يتشدقون بنِحْلتهم هذه، وينادون بالحرية ويطالبون بتحقيقها في المجتمعات، ثم هم ينشدونها في نُظُمٍ جاهلية بعيدة عن المصدر الحقيقي للحرية؛ وهي عبادة الله ـ عز وجل ـ وحده لا شريك له، إنما هم ضالون مضلون صادُّون عن سبيل الله عز وجل؛ إذ لا حرية حقيقية إلا في نقل الناس من عبادة غير الله ـ عز وجل ـ إلى عبادة الله وحده، وبدون ذلك فهو الرق والاستعباد والذلة والشقاء مهما تشدق أصحاب هذه المطالب باسم حقوق الإنسان أو غيرها.

والواقع المرير الذي تعيشه البشرية اليوم أكبر شاهد على ذلك؛ حيث تحولت البشرية اليوم إلى استعباد القوي للضعيف والكبير للصغير، وذلك على مستوى الأفراد والطوائف والدول. ثم إذا نظرنا إلى حياة من أعرض عن عبادة الله ـ عز وجل ـ ودينه رأيناه مرتكساً في عبوديات مذِلة؛ فهذا أصبح عبداً لشهوته، وهذا لمنصبه، وهذا لكبرائه، وهذا لماله، واستبدلوا بعبادة الله ـ عز وجل ـ التي فيها القوة والكرامة والحرية عبادة بعضهم لبعض وعبادة الهوى؛ حيث الذلة والمهانة والرق الحقيقي؛ وهذه هي الحرية والتحرر الذي يريده دعاة الليبرالية المعاصرون؛ شر خلف لسلفهم الطالح أصحاب الأيكة الأقدمين.

نسأل الله ـ عـز وجل ـ أن يهديهم ويهدي ضال المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

_____________________________________
(1) العبودية لشيخ الاسلام ابن تيمية ص 36.
(2) في ظلال القران 3/1257 .

المصدر : موقع مجلة البيان
 
ومما زادني شرفاً وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك (يا عبادي) ...وأن صيّرت أحمد لي نبيا
سبحانك ربي
هده الأبيات كان امام المسجد القريب من بيتنا يرددها في خطبته اليوم بعد صلاة الظهر وكان يتكلم عن التقوى ........ ما أجملها من صدفة .

فما الفرق بين أصحاب الأيكة الأقدمين وأصحاب الأيكة المعاصرين؟
لا فرق سوى الزمان
فهم يريدون أن يجعلوا الدين غريبا كما كان يريدون فصله عن الدولة

بهذا يتضح لنا بجلاء أن الليبراليين الذين يتشدقون بنِحْلتهم هذه، وينادون بالحرية ويطالبون بتحقيقها في المجتمعات، ثم هم ينشدونها في نُظُمٍ جاهلية بعيدة عن المصدر الحقيقي للحرية؛
هدا صحيح فهم يحسبون دلك تقدما و أن من يتمسك بدينه هو المتأخر الرجعي
فنحن نقول
ادا كان في ترك ديني تقدمي .......... فموتي يا نفس قبل أن تتقدمي

اشكرك شتيوي على هدا النقل المميز دائما
 
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «من لم يكن مخلصاً لله، عبداً قد صار قلبه مستعبداً لربه وحده لا شريك له؛ بحيث يكون هو أحب إليه مما سواه ويكون ذليلاً خاضعاً له؛ وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين»

كلمات صادقة رائعة صافية أقل مايقال عنها أنها تستحق أن تكتب بماء الذهب ؛ وهكذا هو دوماً شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - !! جزاك الله خيراً أخي وحبيبي محمد شتيوي !!00
 
ومما زادني شرفاً وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك (يا عبادي) ...وأن صيّرت أحمد لي نبيا
سبحانك ربي
هده الأبيات كان امام المسجد القريب من بيتنا يرددها في خطبته اليوم بعد صلاة الظهر وكان يتكلم عن التقوى ........ ما أجملها من صدفة .

فما الفرق بين أصحاب الأيكة الأقدمين وأصحاب الأيكة المعاصرين؟
لا فرق سوى الزمان
فهم يريدون أن يجعلوا الدين غريبا كما كان يريدون فصله عن الدولة

بهذا يتضح لنا بجلاء أن الليبراليين الذين يتشدقون بنِحْلتهم هذه، وينادون بالحرية ويطالبون بتحقيقها في المجتمعات، ثم هم ينشدونها في نُظُمٍ جاهلية بعيدة عن المصدر الحقيقي للحرية؛
هدا صحيح فهم يحسبون دلك تقدما و أن من يتمسك بدينه هو المتأخر الرجعي
فنحن نقول
ادا كان في ترك ديني تقدمي .......... فموتي يا نفس قبل أن تتقدمي

اشكرك شتيوي على هدا النقل المميز دائما


مناقشة ممتازة وتفاعل مشجع حقا
أتمنى أن تكون الفكرة وصلت
مع عظيم الامتنان للحضور المثمر
كل الاحترام
 
كلمات صادقة رائعة صافية أقل مايقال عنها أنها تستحق أن تكتب بماء الذهب ؛ وهكذا هو دوماً شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - !! جزاك الله خيراً أخي وحبيبي محمد شتيوي !!00

مرحبا ابو قصى
حياك الله أخى ....
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , فهو كما وصفه الدكتور محمد اسماعيل المقدم بأنه ( رجل لكل العصور ... ) وصدق والله

ومن شعر شيخ الإسلام :
أنا الفقير إلى رب البريات .. أنا المسيكين فى مجموع حالاتى
أنا الظلوم لنفسى وهى ظالمتى .. والخير من عنده إن يأتنى آتى

وقوله :
أنا المكدى وابن المكدى ... وهكذا كان ابى وجدى

أطيب التحية :)

 
موضوع هام للغاية..بارك الله فيك أخوي..
و بانتظار الأفضل منك دائما..
 
عودة
أعلى