س: هل ترى الاحتجاج بالحديث لمسائل اللغة والنّحو؟
............................................................
ج: الذي أراه أنه لا يُحتجّ بالحديث النبوي في الجُملة إلا الأحاديث التي نقلَها اللُّغويون كالنضر بن شميل والأصمعي وأبي عبيدة وأبي عُبيد وغيرِهم، فإنَّا نحتجُّ بها في اللُّغة والنَّحو كما نَحتجُّ بروايتِهم عن العربِ سواء أصحَّ سندُها أم لم يصحَّ، دونَ ما نقلَه غيرُهم إذْ كان هألاء معنيِّين بضبطِ اللفظ وحفظِه وكانَ هو نفسُه لهم غايةً وغرضًا، فلم يكونوا ليُجيزوا تبديلَه بما يقارِبُه. كما أنَّ عندَهم من التحقُّق بالعربيَّة والعلمِ باللُّغة ما يعرِّفهم معانيَ الألفاظ ومراتبَها وطرائقَ العربِ في كلامِهم. هذا فوقَ ما تدعوهم إليه صنعتُهم القائمةُ على تتبُّعِ الغريبِ والتحسُّس من الشاذّ من صَونِ لفظِ الحديثِ ونقلِه كما هو.
أما غيرُهم فكثيرٌ مِنهم لم يكونوا يرونَ بأسًا في رِواية الحديث بمعنَاه، قال سفيان الثوري: (إن قلتُ لكم إني أحدّثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى). ثمَّ كانَ كثيرٌ منهم حتّى من لا يرى الروايةَ بالمعنى يلحَن في كلامِه كأهلِ عصرِه، فإذا روَى الحديثَ بالمعنى فلا يُؤمَن أن ينازِعه لسانُه إلى ما اعتادَه فيغيّر بعض ألفاظ الحديثِ إلى قريبٍ من كلامِهم، فربّما جرَى في ذلك على لغةٍ رديئةٍ من لغاتِ العرب وربّما خرجَ لحنًا صَردًا لا وجهَ له، وبخاصّةٍ أنَّه ليس عنده من الفِطنة في العربيَّة والارتياضِ بها وطول الدُّربة ما يُشعِرُه اليقظةَ من الوقوعِ في مثلِ ذلك.
ويدُلُّك على هذا أنَّ في كثيرٍ من الأحاديث من اللُّغاتِ الرديئةِ والوجوهِ التي يعدُّها أيمةُ النّحو من اللَّحن ما لا يجوز أن يُّحملَ على من دون النبي عليه السلام، فكيف به وهو أفصحُ العربِ لسانًا وأسراهم كلامًا؟!
من أجلِ هذا لم نرَ علماء النَّحو يحتجّون بشيء من الحديث على مسائل النَّحو. ومن عجبٍ أن كثيرًا من المعاصرين يتخذ هذا سُلَّمًا لعيبهم ونقدهم والطَّعن عليهم وكأنَّ الحديثَ كان في زمنِهم عِلمًا خفيًّا محجوبًا لا يعلمُ به إلا نفَرٌ من الناسِ، وكأنَّ طائفةً منهم لم يَروُوا الحديثَ ولم يجالسوا أهلَه ويخالطوهم ويسمَعوا منهم كسيبويه مثَلًا الذي كانَ أول أمره طالبًا للحديث، وكأنَّهم كانوا يُضمرون النِّفاقَ بحيث يؤثِرون أحاديثَ الأعراب على حديث النبي!
فإذا علِمنا معرفتَهم به حقًّا وانتفَى عنهم كلُّ هذا فلا شكَّ أن تركَهم للحديثِ مع حاجتهم إلى الشواهدِ التي يستدلّون بها على الأحكامِ ومع إيمانهم بالنبيِّ ومحبّتهم له ومعرفتهم بفضلِ كلامِه على سائر الكلام أنَّ ذلك لعلَّةٍ مستسرَّةٍ في نفوسِهم لم يُبينوا عنها لأنَّه لم يكن في عصرِهم من يماريهم فيها ولأنها لم تكن موضع جدَلٍ وخِصومة إذْ كانوا كالمواطئين لهم عليها المسلِّمين لهم بها لما يعاينونه من دلائلِها الظاهرة، فإنه كما قال الهذليّ:
يرَى الشاهدُ الحاضرُ المطمئنُّ ** من الأمرِ ما لا يرى الغائبُ
ولو أنَّ المعاصرين صرفُوا أنظارَهم واستفرغُوا مَيعتهم في بحثِ هذه العِلَّة ودرْسها لكانَ أجدى عليهم وأدنَى أن يهتدوا من الخَبط والتجرّؤ والإسراع إلى التخطئة والتقوّل بلا عِلمٍ، فإنَّ الأوائلَ كانوا أخبرَ بحديث النبي وأبصرَ برواتِه وأدرى بالآفات التي تعرضُ للرواية من مّن بعدهم، فلعلّةٍ مّا فعلوا ذلك. وهو ما بيّنته في صدر كلامي.
......................................................
فيصل المنصور
23 ربيع الثانى 1437
............................................................
ج: الذي أراه أنه لا يُحتجّ بالحديث النبوي في الجُملة إلا الأحاديث التي نقلَها اللُّغويون كالنضر بن شميل والأصمعي وأبي عبيدة وأبي عُبيد وغيرِهم، فإنَّا نحتجُّ بها في اللُّغة والنَّحو كما نَحتجُّ بروايتِهم عن العربِ سواء أصحَّ سندُها أم لم يصحَّ، دونَ ما نقلَه غيرُهم إذْ كان هألاء معنيِّين بضبطِ اللفظ وحفظِه وكانَ هو نفسُه لهم غايةً وغرضًا، فلم يكونوا ليُجيزوا تبديلَه بما يقارِبُه. كما أنَّ عندَهم من التحقُّق بالعربيَّة والعلمِ باللُّغة ما يعرِّفهم معانيَ الألفاظ ومراتبَها وطرائقَ العربِ في كلامِهم. هذا فوقَ ما تدعوهم إليه صنعتُهم القائمةُ على تتبُّعِ الغريبِ والتحسُّس من الشاذّ من صَونِ لفظِ الحديثِ ونقلِه كما هو.
أما غيرُهم فكثيرٌ مِنهم لم يكونوا يرونَ بأسًا في رِواية الحديث بمعنَاه، قال سفيان الثوري: (إن قلتُ لكم إني أحدّثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى). ثمَّ كانَ كثيرٌ منهم حتّى من لا يرى الروايةَ بالمعنى يلحَن في كلامِه كأهلِ عصرِه، فإذا روَى الحديثَ بالمعنى فلا يُؤمَن أن ينازِعه لسانُه إلى ما اعتادَه فيغيّر بعض ألفاظ الحديثِ إلى قريبٍ من كلامِهم، فربّما جرَى في ذلك على لغةٍ رديئةٍ من لغاتِ العرب وربّما خرجَ لحنًا صَردًا لا وجهَ له، وبخاصّةٍ أنَّه ليس عنده من الفِطنة في العربيَّة والارتياضِ بها وطول الدُّربة ما يُشعِرُه اليقظةَ من الوقوعِ في مثلِ ذلك.
ويدُلُّك على هذا أنَّ في كثيرٍ من الأحاديث من اللُّغاتِ الرديئةِ والوجوهِ التي يعدُّها أيمةُ النّحو من اللَّحن ما لا يجوز أن يُّحملَ على من دون النبي عليه السلام، فكيف به وهو أفصحُ العربِ لسانًا وأسراهم كلامًا؟!
من أجلِ هذا لم نرَ علماء النَّحو يحتجّون بشيء من الحديث على مسائل النَّحو. ومن عجبٍ أن كثيرًا من المعاصرين يتخذ هذا سُلَّمًا لعيبهم ونقدهم والطَّعن عليهم وكأنَّ الحديثَ كان في زمنِهم عِلمًا خفيًّا محجوبًا لا يعلمُ به إلا نفَرٌ من الناسِ، وكأنَّ طائفةً منهم لم يَروُوا الحديثَ ولم يجالسوا أهلَه ويخالطوهم ويسمَعوا منهم كسيبويه مثَلًا الذي كانَ أول أمره طالبًا للحديث، وكأنَّهم كانوا يُضمرون النِّفاقَ بحيث يؤثِرون أحاديثَ الأعراب على حديث النبي!
فإذا علِمنا معرفتَهم به حقًّا وانتفَى عنهم كلُّ هذا فلا شكَّ أن تركَهم للحديثِ مع حاجتهم إلى الشواهدِ التي يستدلّون بها على الأحكامِ ومع إيمانهم بالنبيِّ ومحبّتهم له ومعرفتهم بفضلِ كلامِه على سائر الكلام أنَّ ذلك لعلَّةٍ مستسرَّةٍ في نفوسِهم لم يُبينوا عنها لأنَّه لم يكن في عصرِهم من يماريهم فيها ولأنها لم تكن موضع جدَلٍ وخِصومة إذْ كانوا كالمواطئين لهم عليها المسلِّمين لهم بها لما يعاينونه من دلائلِها الظاهرة، فإنه كما قال الهذليّ:
يرَى الشاهدُ الحاضرُ المطمئنُّ ** من الأمرِ ما لا يرى الغائبُ
ولو أنَّ المعاصرين صرفُوا أنظارَهم واستفرغُوا مَيعتهم في بحثِ هذه العِلَّة ودرْسها لكانَ أجدى عليهم وأدنَى أن يهتدوا من الخَبط والتجرّؤ والإسراع إلى التخطئة والتقوّل بلا عِلمٍ، فإنَّ الأوائلَ كانوا أخبرَ بحديث النبي وأبصرَ برواتِه وأدرى بالآفات التي تعرضُ للرواية من مّن بعدهم، فلعلّةٍ مّا فعلوا ذلك. وهو ما بيّنته في صدر كلامي.
......................................................
فيصل المنصور
23 ربيع الثانى 1437