العربية لغتي
New Member
الفتوى (8): هل صحيح أن "أعذب الشعر أكذبه" ؟؟
السائل: أبو هند
هل صحيح أنَّ أعذب الشعر أكذبه؟؟
الإجابة:
تكلّمَ النّقّادُ في هذه المسألَة، وحاولوا أن يُبرهنوا على وجه الصحّةِ فيها:فالعسكري في الصناعتين يرى أن أكثرَ الشعر مبنيٌّ على الكذب والاستحالة في الصفات الممتنعة، والنعوت الخارجة عن العادة،والألفاظ الكاذبة: من قذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان، ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله.قال: وليس يُرادُ منه إلا حسنُ اللفظ وجودة المعنى؛ فهذا الذي سَوَّغَ استعمالَ الكذبِ وغيرِه مما جرى ذكْرُه فيه. وقيل لبعض الفلاسفة:فلان يكذب في شعره، فقال: يُراد من الشّعر حُسنُ الكلام، والصدقُ يراد من الأنبياء عليهم السلام.وقال ابن أبي الأصبع في كتابه تحرير التحبير: وأنا أقول قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون أن أجود الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه.وقالَ القلقشندي في صبح الأعشى في صناعَة الإنشا: وقومٌ يرونَ المبالغةَ من عيوب الكلام، ولا يرون محاسنه إلا ما خرج مخرج الصدق، وجاء على نهج الحق؛ ويزعمون أن المبالغة من ضعف المتكلم وعجزه عن أن يخترع معنى، أو يفرع معنى من معنى؛ أو يحلي كلامه شيئاً من البديع، أو ينتخب ألفاظاً موصوفة بصفات الحُسن، و يُجيد تركيبها، فإذا عَجَزَ عن ذلك كلّه عَدَلَ إلى المبالغة يسد بها خَلَلَه ويُتم نقصه؛ لما فيها من التهويل على السامع، ويدعون أنها ربما أحالت المعاني فأخرجتها عن حد الإمكان إلى حد الامتناع.قالَ القلقشندي: وعندي أن هذين المذهبين مردودان، أما الأولُ فلِقَولِ صاحبه: إن خيرَ الكلامِ ما بولغ فيه، وهذا قولُ من لا نَظَرَ له، لأنا نرى كثيراً من الكلام والأشعار جارياً على الصدق المحض خارجاً مخرج البحث، وهو في غاية الجودة، ونهاية الحُسن، وتمام القوة؛ وكيف لا والمبالغة ضرب واحد من المحاسن، والمحاسن لا تُحصَر ضروبها؛ فكيف يقال: إن هذا الضرب على انفراده يفضُل سائر ضروب المحاسن على كثرتها! وهذا شعر زهير والحطيئة وحسان، ومَن كان مذهبه توخي الصدق في شعره غالباً، ليس فوق أشعارهم غاية لمترقٍ، ألا ترى إلى قول زهير:ومهما يكن عند امرىء مِن خليقةٍ ... وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِو إلى قول طرفة:لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المُرْخَى وثِنيَاه في اليدو إلى قوله:ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار مَن لم تُزوَّدِو إلى قول الحطيئة:مَن يفعل الخير لا يعدم جَوازِيَه ... لا يذهب العُرف بين الله والناسفإنك تجد هذه الأشعار في الطبقة العليا من البلاغة، وإن خَلَتْ مِن المبالغة. فهذا موقف وَسَط وَقَفَه القلقشندي من القضية ولم يجعَلِ الشعرَ بابه الشّرّ والكذب.[يُرجَعُ إلى الصناعَتَيْن لأبي هلال العسكري-صُبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي-تحرير التحبير لابن أبي الأصبع]
و أسوقُ في ما يَلي نصًّا مُفيدًا للشّيْخ عبد الرّحمن حَسَن حَبَنَّكَه المَيْدانيّ، رحمه الله، من كتابِه «البَلاغة العربيّة، أسُسُها وعُلومُها وفُنونُها»، دار القلم، دمشق، الدّار الشّاميّة، بيروت، ط.2،
السائل: أبو هند
هل صحيح أنَّ أعذب الشعر أكذبه؟؟
الإجابة:
تكلّمَ النّقّادُ في هذه المسألَة، وحاولوا أن يُبرهنوا على وجه الصحّةِ فيها:فالعسكري في الصناعتين يرى أن أكثرَ الشعر مبنيٌّ على الكذب والاستحالة في الصفات الممتنعة، والنعوت الخارجة عن العادة،والألفاظ الكاذبة: من قذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان، ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله.قال: وليس يُرادُ منه إلا حسنُ اللفظ وجودة المعنى؛ فهذا الذي سَوَّغَ استعمالَ الكذبِ وغيرِه مما جرى ذكْرُه فيه. وقيل لبعض الفلاسفة:فلان يكذب في شعره، فقال: يُراد من الشّعر حُسنُ الكلام، والصدقُ يراد من الأنبياء عليهم السلام.وقال ابن أبي الأصبع في كتابه تحرير التحبير: وأنا أقول قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون أن أجود الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه.وقالَ القلقشندي في صبح الأعشى في صناعَة الإنشا: وقومٌ يرونَ المبالغةَ من عيوب الكلام، ولا يرون محاسنه إلا ما خرج مخرج الصدق، وجاء على نهج الحق؛ ويزعمون أن المبالغة من ضعف المتكلم وعجزه عن أن يخترع معنى، أو يفرع معنى من معنى؛ أو يحلي كلامه شيئاً من البديع، أو ينتخب ألفاظاً موصوفة بصفات الحُسن، و يُجيد تركيبها، فإذا عَجَزَ عن ذلك كلّه عَدَلَ إلى المبالغة يسد بها خَلَلَه ويُتم نقصه؛ لما فيها من التهويل على السامع، ويدعون أنها ربما أحالت المعاني فأخرجتها عن حد الإمكان إلى حد الامتناع.قالَ القلقشندي: وعندي أن هذين المذهبين مردودان، أما الأولُ فلِقَولِ صاحبه: إن خيرَ الكلامِ ما بولغ فيه، وهذا قولُ من لا نَظَرَ له، لأنا نرى كثيراً من الكلام والأشعار جارياً على الصدق المحض خارجاً مخرج البحث، وهو في غاية الجودة، ونهاية الحُسن، وتمام القوة؛ وكيف لا والمبالغة ضرب واحد من المحاسن، والمحاسن لا تُحصَر ضروبها؛ فكيف يقال: إن هذا الضرب على انفراده يفضُل سائر ضروب المحاسن على كثرتها! وهذا شعر زهير والحطيئة وحسان، ومَن كان مذهبه توخي الصدق في شعره غالباً، ليس فوق أشعارهم غاية لمترقٍ، ألا ترى إلى قول زهير:ومهما يكن عند امرىء مِن خليقةٍ ... وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِو إلى قول طرفة:لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المُرْخَى وثِنيَاه في اليدو إلى قوله:ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار مَن لم تُزوَّدِو إلى قول الحطيئة:مَن يفعل الخير لا يعدم جَوازِيَه ... لا يذهب العُرف بين الله والناسفإنك تجد هذه الأشعار في الطبقة العليا من البلاغة، وإن خَلَتْ مِن المبالغة. فهذا موقف وَسَط وَقَفَه القلقشندي من القضية ولم يجعَلِ الشعرَ بابه الشّرّ والكذب.[يُرجَعُ إلى الصناعَتَيْن لأبي هلال العسكري-صُبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي-تحرير التحبير لابن أبي الأصبع]
و أسوقُ في ما يَلي نصًّا مُفيدًا للشّيْخ عبد الرّحمن حَسَن حَبَنَّكَه المَيْدانيّ، رحمه الله، من كتابِه «البَلاغة العربيّة، أسُسُها وعُلومُها وفُنونُها»، دار القلم، دمشق، الدّار الشّاميّة، بيروت، ط.2،
1428 هـ/2007م ، ج: 1 ، ص: 55«دعوى "أعذب الشعر أكذبه":أمّا دعوى: "أعذب الشعر أكذبه" فهي دعوى لا أساسَ لها مِن الصِّحّة، لدى التحليل والبحث عن العناصر الجماليّة في الأدب.
إنّ الحقّ إذا لَبِسَ ثوباً أدبيّاً جميلاً كان أجملَ من الباطل لا محالةَ، مهما لبس من أثواب جميلة مزخرفة.إنّ الحُلَّة والحِلْيَة الأدبيَّة اللَّتَيْن يرفل بهما قول الله –تعالى- في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول):"أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)".للفكرة الحقِّ التي تُبيِّنُ واقعَ انتصار الحقّ والمحقِّين بعد أحداث الصِّراع بين الفريقين، أجمل من كل أدب يُزيِّن فكرة باطلة لتكون مقبولة محبَّبَة.ربّما يكون تضخيم الحقّ وتجسيمُه في الصورة الأدبيّة عملاً أدبيًّا جميلاً، لأنّ التضخيم والتجسيم في مفاهيم النّاس لون من ألوان البيان والشرح للحقيقة، وبعد الشرح ترجع الحقيقة في تَصَوُّرِ النّاس إلى حجمها الطبيعي.إنّ الفكرة المشتملة على كذب سخيف ممجوج قد يستعذِبها الذهن لطرافتها، ولكن يمجّها الذَّوق والحسُّ المرهف العارف بألوان الجمال لسخافتها ومجافاتها للحقيقة مجافاةً واسعة المسافة.في قول المتنبّي:
*كفى بجسمي نحولاً أنّني رجل * لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني*وفي قول الآخر:
*ولوْ أنّ ما بي من جَوىً وصبابةٍ * على جَمَلٍ لم يدخل النّار كافر*
قد نلاحظ فكرة غريبة لا يتصيّدها إلاَّ شاعر ذَكِيّ، فنُعْجَبُ بطرافتها، ولكنّنا مع ذلك نمُجُّها، لأنَّها تشتمل على دعوى كاذبة سخيفة.أمَّا حين تكون الفكرةُ مبتكرةً حُلوةً، وتكون الدَّعوى صادقةً في أصلها، مضخَّمةً مجسَّمةً مبالغاً بها في صورتها الأدبيّة، فإنّ الكلام يكون حينئذٍ أرفع أدبًا، وأعلى كعبًا، وأوقع في النّفس.
هَلُمَّ فَلْنَلْحظ اجتماع الصدق والأدب الرفيع في قول الله –تعالى- في سورة (ق/ 5 مصحف/ 34 نزول):"يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30)".إنَّ في هذه الآية حلاوة فكرة السؤال والجواب. وحلاوة الجواب الذكي الذي لم يكن مباشرة بصيغة: (لم أمتلىء) أو بصيغة (لا) مع كثرة الذين أُلقوا فيها. إنّما جاء على صغية سُؤال النَّهِم الشَّرِه طالب المزيد: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ}؟!!وما دام باستطاعة الإِنسان أنْ ينتقي من الحقّ والصدق عناصر جماليّة لأدبه فما أوفر الحقّ والصدق في بيانات الإِسلام أما الدّعاة إلى الله، وما عليهم إلاَّ أنْ يغترفوا فمذهبُ جمهور العلماء والأدباء أنّهُم قد توسَّطُوا في هذه القضيّةِ؛ فقبلوا من المبالغة ما كان منها حَسنًا جاريًا مجرَى الاعتدال الذي لا يراه الناسُ مستنكَرًا ولا مُسْتَهْجَنًا، أو ما كانَ قائمًا على التصوير الخيالي في سياقٍ من الكلام يَسْمَحُ بذلك، بشرط أن لا يكون في المبالغة إيهامٌ بأنّ المتكلّم يُقَرِّرُ حقيقةً واقعة بكلّ عناصرها، بل يُدْرِكُ المتلقِّي أنَّ الكلام مَسُوقٌ على سبيل المبالغة، فيأخذ منها المعنَى المعتادَ في الكثرة مع زيادةٍ مقبولة.
أ.د. عبد الرحمن بودرع
نائب رئيس المجمع
التعديل الأخير بواسطة المشرف: