محمد شتيوى
مستشار سابق
نبغ من الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – الكثير من الشعراء ومنهم شاعر النبى صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضى الله عنه , والخنساء بنت عمرو رضى الله عنها , وهذه القصة تحكى مفاضلة بين حسان والخنساء فى سوق عكاظ فى الجاهلية , حيث كانت تُعقد مجالس للموازنة بين الشعراء , ويجلس للتحكيم فيها أكابر الشعار أمثال النابغة الذبيانى وغيره , حيث كان هؤلاء الحكام يفاضلون بين الشعراء وينقدون أشعارهم , ويصححون ما قد يرد فيها من أخطاء , وإليكم الرواية كما جاءت فى كتاب الأغانى للأصفهانى
[ ... ما كان بين النابغة وحسان بسوق عكاظ حين مدح النابغة الخنساء ..
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثني محمد بن سعد الكراني عن أبي عبد الرحمن الثقفي، وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة ، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة:-
أن نابغة بني ذبيان كان تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء؛ فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى وقد أنشده شعره , وأنشدته الخنساء قصيدتها التى مطلعها :
" قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ ... أَم ذَرَفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ "
حتى انتهت إلى قولها:
وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِـهِ ... كَأَنَّهُ عَلَــمٌ فـي رَأســِهِ نــارُ
وَإِنَّ صَخراً لَمولاِنا وَسَيِّدُنا ... وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحّارُ
ومعنى البيتين أن صخرا إمام للناس يأتمون به ويهتدون بهديه , كأنه جبل على قمته نار مشتعلة فلا تخفى على أحد ( وهذا البيت صار مثلا بعد ذلك كما يقولون : فلان اشهر من نار على علم .. )
وتقول فى البيت الثانى أن صخرا مولاهم ويدهم , وأنه كريم فمتى يأتى علي الناس الشتاء ببرودته وصقيعه , يكثر من نحروذبح الذبائح لضيوفه
فقال: لولا أن أبا بصيرٍ – يقصد الأعشى وهو شاعر مشهور من أصحاب المعلقات - أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس !!
فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها.
قال: حيث تقول ماذا؟
قال: حيث أقول:
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى ... وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجـدَةٍ دَما
وَلَدنا بَني العَنقاءِ وَاِبني مُحَـــرَّقٍ ... فَأَكرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِذا اِبنَما
ومعنى البيتين أن حسان رضى الله عنه يفخر بقومه وكرمهم وأن لهم جفان ضخمة أى أوعية ضخمة للطعام , تنصب فى الضحى ليأكل منها الناس , وفى نفس الوقت فهم شجعان واسيافهم تقطر دما من كثرة نجدة الناس , ثم يفخر بأنهم أخوال لهذين الحيين ( بنى العنقاء ) و ( ابنى محرق ) فأكرم بهم أخوالا وأكرم بهم ابناء
وكلمة ( ابنما ) تعنى ابن , ويجوز زيادة ( ما ) فيها .
فقال: إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت " الجفنات " فقللت العدد ولو قلت " الجفان " لكان أكثر. وقلت " يلمعن في الضحى " ولو قلت " يبرقن بالدجى ". لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت: " يقطرن من نجدة دماً " فدللت على قلة القتل ولو قلت " يجرين " لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسراً منقطعاً. .. ]
طبعا نقد النابغة واضح وهو ينبه إلى أن حسان لم يوفق فى إختيار الألفاظ المناسبة التى تدل على معانى الكثرة والمبالغة , كما أنه نقده فى معنى من المعانى وهو أنه فخر بأبنائه ولم يفخر بآبائه , والعادة عند العرب أن يفخر المرء بآبائه , ويترك لأولاده الفخر به .
ولقد دافع قدامة بن جعفر فى كتابه ( نقد الشعر ) عن بيت حسان السالف ذكره فقال :-
[ ... فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله: الغر، أن يجعل الجفان بيضاً، فإذا قصر عن تصيير جميعها أبيض نقص ما أراده، وإنما أراد بقوله: الغر، المشهورات، كما يقال يوم أغر ويد غراء، وليس يراد البياض في شيء من ذلك، بل تراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، أنه لو قال: بالدجى، لكان أحسن من قوله: بالضحى، إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهو خلاف الحق وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء، مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه، فمن ذلك الكواكب، وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا، دائماً تلمع بالليل ويقل، لمعانها بالنهار حتى تخفى، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار، والليل تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها، وكذلك اليراع حتى تخال ناراً.
وأما قول النابغة، أو من قال: إن قوله في السيوف: يجرين، خير من قوله: يقطرن، لأن الجري أكثر من القطر، فلم يرد حسان الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا: سيفه يقطر دماً، ولم يسمع: سيفه يجري دماً، ولعله لو قال: يجرين دماً، لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر عادة العرب به. .. ]
ثم إن حكم النابغة للخنساء رضى الله عنها بالتفوق لا يحط من شأن حسان بن ثابت البتة , فهو أكبر الشعراء المخضرمين وسيدهم , وهو سيدنا لأنه صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم وشاعره , ولكنما هو خلاف فنى فحسب .
أرق تحياتى
المصدر / كتاب الأغاني للأصفهانى / الجزء 9 . بتصرف
[ ... ما كان بين النابغة وحسان بسوق عكاظ حين مدح النابغة الخنساء ..
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثني محمد بن سعد الكراني عن أبي عبد الرحمن الثقفي، وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة ، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة:-
أن نابغة بني ذبيان كان تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء؛ فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى وقد أنشده شعره , وأنشدته الخنساء قصيدتها التى مطلعها :
" قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ ... أَم ذَرَفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ "
حتى انتهت إلى قولها:
وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِـهِ ... كَأَنَّهُ عَلَــمٌ فـي رَأســِهِ نــارُ
وَإِنَّ صَخراً لَمولاِنا وَسَيِّدُنا ... وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحّارُ
ومعنى البيتين أن صخرا إمام للناس يأتمون به ويهتدون بهديه , كأنه جبل على قمته نار مشتعلة فلا تخفى على أحد ( وهذا البيت صار مثلا بعد ذلك كما يقولون : فلان اشهر من نار على علم .. )
وتقول فى البيت الثانى أن صخرا مولاهم ويدهم , وأنه كريم فمتى يأتى علي الناس الشتاء ببرودته وصقيعه , يكثر من نحروذبح الذبائح لضيوفه
فقال: لولا أن أبا بصيرٍ – يقصد الأعشى وهو شاعر مشهور من أصحاب المعلقات - أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس !!
فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها.
قال: حيث تقول ماذا؟
قال: حيث أقول:
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى ... وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجـدَةٍ دَما
وَلَدنا بَني العَنقاءِ وَاِبني مُحَـــرَّقٍ ... فَأَكرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِذا اِبنَما
ومعنى البيتين أن حسان رضى الله عنه يفخر بقومه وكرمهم وأن لهم جفان ضخمة أى أوعية ضخمة للطعام , تنصب فى الضحى ليأكل منها الناس , وفى نفس الوقت فهم شجعان واسيافهم تقطر دما من كثرة نجدة الناس , ثم يفخر بأنهم أخوال لهذين الحيين ( بنى العنقاء ) و ( ابنى محرق ) فأكرم بهم أخوالا وأكرم بهم ابناء
وكلمة ( ابنما ) تعنى ابن , ويجوز زيادة ( ما ) فيها .
فقال: إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت " الجفنات " فقللت العدد ولو قلت " الجفان " لكان أكثر. وقلت " يلمعن في الضحى " ولو قلت " يبرقن بالدجى ". لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت: " يقطرن من نجدة دماً " فدللت على قلة القتل ولو قلت " يجرين " لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسراً منقطعاً. .. ]
طبعا نقد النابغة واضح وهو ينبه إلى أن حسان لم يوفق فى إختيار الألفاظ المناسبة التى تدل على معانى الكثرة والمبالغة , كما أنه نقده فى معنى من المعانى وهو أنه فخر بأبنائه ولم يفخر بآبائه , والعادة عند العرب أن يفخر المرء بآبائه , ويترك لأولاده الفخر به .
ولقد دافع قدامة بن جعفر فى كتابه ( نقد الشعر ) عن بيت حسان السالف ذكره فقال :-
[ ... فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله: الغر، أن يجعل الجفان بيضاً، فإذا قصر عن تصيير جميعها أبيض نقص ما أراده، وإنما أراد بقوله: الغر، المشهورات، كما يقال يوم أغر ويد غراء، وليس يراد البياض في شيء من ذلك، بل تراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، أنه لو قال: بالدجى، لكان أحسن من قوله: بالضحى، إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهو خلاف الحق وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء، مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه، فمن ذلك الكواكب، وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا، دائماً تلمع بالليل ويقل، لمعانها بالنهار حتى تخفى، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار، والليل تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها، وكذلك اليراع حتى تخال ناراً.
وأما قول النابغة، أو من قال: إن قوله في السيوف: يجرين، خير من قوله: يقطرن، لأن الجري أكثر من القطر، فلم يرد حسان الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا: سيفه يقطر دماً، ولم يسمع: سيفه يجري دماً، ولعله لو قال: يجرين دماً، لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر عادة العرب به. .. ]
ثم إن حكم النابغة للخنساء رضى الله عنها بالتفوق لا يحط من شأن حسان بن ثابت البتة , فهو أكبر الشعراء المخضرمين وسيدهم , وهو سيدنا لأنه صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم وشاعره , ولكنما هو خلاف فنى فحسب .
أرق تحياتى
المصدر / كتاب الأغاني للأصفهانى / الجزء 9 . بتصرف