في ماهية الفلسفة

في ماهية الفلسفة
د. بوبكر جيلالي
bobaker_jilali.jpg
تُناقش ماهية الفلسفة عادة في ثلاثة مستويات، مستوى لغوي ليس موضع اختلاف لما يستند إليه من دقّة لغوية وبيان كرونولوجي محدد، ومستوى عامي هو محل تعدد واختلاف باختلاف الناس في أرائهم واتجاهاتهم الفكرية والدينية والثقافية، ومستوى علمي لاعتبار سلطة العلم في توجيه الحياة المعاصرة والتحكم فيها وهو مستوى يهتم بالجانب المحسوس من الحياة ويقدم التجربة على النظر العقلي ويستهدف صياغة القوانين العلمية التي تتحكم في الطبيعة والإنسان الفرد والمجتمع والأمة، ويتجاهل الجانب الجانب الوجداني والميتافيزيقي والأخلاقي والديني الذي يدخل في تركيب الوجود البشري وكثيرا ما يقود تفكيره وحياته عامة.

أتجاوز الاختلاف بين مستويات ماهية الفلسفة وحقيقة التفلسف، وأناقش مفهوم الفلسفة في إطارين رئيسيين النسق والسياق. فمن جهة النسق تمثل الفلسفة عددا من الأبنية الفكرية والثقافية تتباين في درجة طرح المشكلات ومعالجتها على مستوى النظر والعمل معا.

أما من جهة السياق فهي ترتبط بتاريخ البشرية برمته كواقع معيشي وكفعل يسجل الفعل البشري وغيره في الزمان والمكان للذكرى والعبرة، وعندها فالفلسفة أنماط وأشكال ثقافية متباينة يصنعها الإنسان، وفي الحالين النسق والسياق أو النص والتاريخ فإن الفلسفة لا تعدو كونها أنماطا شتى ومستويات عدة من التفكير حول الإنسان والثقافة والتاريخ، يمارسها الإنسان كل في مستواه.

فالفلسفة بالمعنى العامي طرق وأساليب ونظم معرفيه وفكرية لدى الناس جميعا، تختلف باختلاف النشأة والتكوين، كثيرا ما يغلب عليها طابع الذاتية والعفوية والسذاجة وتخلو من العمق والدقة واليقين والإبداع.

أما الفلسفة بالمعنى الخاص ولدى المختصين والمشتغلين بها فهي نمط متميّز من التفكير لا هو ديني ولا هو علمي ولا هو عامي بل يتميّز بالدرجة الأولى بدقة المشكلة - بفتح الميم- وسلامة الصورنة وكفايتها، وقوّة البرهنة، تبحث في السؤالين الرئيسيين: لماذا، وكيف؟ ويمثل سؤال الماهية منطلق التفكير الفلسفي وأرضية التفلسف لا هدفا رئيسيا.

فالفلسفة تكون وتقوم حين يمارس الإنسان التفكير، عندما يتحرك العقل باعتباره خاصية إنسانية، ولا يحيا بنو البشر إنسانيتهم خارج فضاء التفكير وفعل العقل، وبالتالي لا يحيا الناس خارج الفلسفة، فقط كل واحد من الناس يحيا التفكير الفلسفي في مستواه، يمارس التفلسف حسب إمكانياته الخاصة، يمارس التفلسف في صلة التفكير بالعقل وبالواقع وبالتاريخ، وصلة كل ذلك بدرجة الدقة والعمق والموضوعية والإبداع في ضبط المفاهيم ودقة التصورات ومعقوليتها وطرح القضايا وتحديد الإشكاليات الرئيسة والمشكلات الفرعية ومدى إحكامها وضبطها، وبناء الاستدلالات وإقامة الحجج وبيانها للإقناع.

في سياق الفلسفة ونسق التفلسف تلازم الفلسفة الإنسان وحياته عامة من غير استثناء جانب من جوانبها، مادامت تلازم التفكير البشري فعل العقل الإنساني والواقع الإنساني المعيشي المباشر في أي عصر وفي كل مصر، فهي ليست خاصة بفئة ما أو بعصر ما أو بأمّة ما أو بمرحلة ما من مراحل التاريخ، فحيث وُجد الإنسان وفكّر وقدّر وتأمّل وتدبّر ذلكم هو عين الفلسفة وروح التفلسف فهي شكل من أشكال الوعي الثقافي والحضاري مثل العلم والدين والسياسة وغيرها، كما تشكل بذور أي وعي من وعاة الحياة الثقافية والحضارية، ففي الأدب مثلا قيل:"إذا كان الأدب فنّا وجمالا وتذوقا فإنّ الفلسفة بذور هذا الفن وهذا الجمال وهذا التذوق، وإذا كان الأدب نظرية وعلما ونقدا فإنّ الفلسفة ماء وسماد تربة هذه النظرية وهذا العلم وهذا النقد...". فالفلسفة كائن حيث كان الإنسان المفكر ووجد...




في حرية الإرادة

في ردّ على سؤال حول صلة الإرادة التي تختار بين بدائل شتى بالحرية في ظلّ ظروف وأوضاع ذاتية وموضوعية هي بمثابة حتميات تقود الإرادة وتوجّهها في اتجاهات تتعارض مع حرية الاختيار، مثلما هو الحال في مصادرة اختيار الإرادة لدى الأفراد والشعوب والأمم وانقياد الإرادة للآلة وللهوى، وهكذا الأمر مع تبعية الإرادة الإنسانية لأيّ جهة كانت، فكيف يتمّ الجمع بين حرية الإرادة في اختيارها مع الدوافع التي تدفع نحو اختيار ما من بين عدّة مقترحات؟
.

ليس الإنسان مستغل – بفتح الغين- الإرادة فقط من أخيه الإنسان في جميع المستويات، بل هو كثيرا ما يكون تابعا لهواه ولغرائزه وللطبيعة ولما صنعته يده من آلات وللغزو الفكري والثقافي والمادي هو ما أنساه حرية أرادته، ونسي قدرته على الاختيار ونسي التكريم الإلهي والتفضيل الرباني له عن غيره من المخلوقات بنعمة العقل ونعمة الإرادة وبنعمة مكارم الأخلاق وبنعم لا تحصى.
امتلاك الإنسان للعقل وللإرادة ولعدد من القدرات والصفات النفسية والأخلاقية والاجتماعية وسعيه الحثيث صوب الحرية كل هذا لا يتعارض البتّة مع الظروف والأوضاع التي تعرفها حياته المتغيّرة باستمرار لما تعيشه من حركة وتشهده من تطوّرات، والطابع الأخلاقي والاجتماعي والإنساني للحياة يختلف من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى أخرى ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، هذا الطابع يتحدد بتوجّهات ومواقف الإنسان وتتحكم فيه أفعاله وتصرفاته واختياراته عن جهل أو عن علم بقصد أو بغيره في اتجاه جلب المنافع ودرأ المضرات أو العكس.
ليس المسئول عن الأخطاء في الاختيار وتحمّل تبعات هذه الأخطاء هو وجود الأهواء والميول والرغبات الذاتية، فهذا من الطبيعة البشرية والطبيعة البشرية سنّة كونية في الخلق الإلهي لا تتبدّل ولا تتحوّل، بل المسئولية كاملة تقع على الإنسان وعلى تفكيره وعلى نظره في الموجودات وفي الأفعال وعلى إرادته التي اختارت على ضوء عقل هو على غير رشد وعلى غير بيّنة، والأمر نفسه مع تبعية الإنسان لما صنعته يده أو ما صنعته يد غيره مثلما نحن عليه في تعاطينا مع وسائل التواصل الاجتماعي وتجاوبنا مع الآلة بصفة عامة، فالآلة مهما كان نوعها ودورها ومهما كان مجالها تبقى مجرد آلة، وسيلة وأداة وجدت لخدمة مصالح الإنسان ولتحقيق حاجاته ولتوفر له الجهد والوقت وليس لاستعباده ولإفقاده إنسانيته ولتعطيل قدراته العقلية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية كما هو قائم في حياتنا المعاصرة، خاصة في حياة الإنسان الذي يعيش في التخلّف ويحيا وضعا متهيبا أفقده القدرة على التفكير الحر النقدي الاستدلالي المستنير، ولما فقد هذا النوع من التفكير الذي كان وراء كل نهضة وشرط كل تقدم وأساس كل بناء حضاري ومحرك التاريخ عبر العصور، فقد تماما حرية الإرادة أساس كل تفكير إبداعي وكل فعل إبداعي، ففقد نتيجة ذلك جميع شروط الإقلاع في اتجاه المدنية والتحضر، وصر مضرب المثل في التخلّف والتبعية، وغابت كليا من حياته مظاهر الحرية والاستقلال.
إنّ مراعاة الطبيعة البشرية وفهم وتفسير التركيبة الإنسانية في إطار طبيعة البشر من واجبات العقل الحر الواعي، من خلال البحوث الفكرية والفلسفية والاجتماعية والدراسات العلمية الدقيقة والطبيعية والتكنولوجية، من أجل التوجيه والتحكّم والسيطرة والتسخير والسيادة، فعصرنا فيه السيادة للعلم، فالسيد من يمتلك العلم ويحتكره ومن يصنع المعرفة العلمية وينتج التكنولوجيا في جميع قطاعات الحياة، ويبقى العلم وسيلة والفلسفة وسيلة والتكنولوجيا وسائل وأساليب وغيرها مما يملكه الإنسان يستخدمه في مصلحته أو في غير مصلحته، تبعا لتفكيره واختياره، ووراء اختياراته تربية وتنشئة وتكوين وجغرافيا وتاريخ وغيرها.
لا يوجد فعل إنساني إرادي مطلق من الدوافع قبلية كانت أو غائية بعدية، هي بمثابة بدائل شتى تحرك الإرادة وتشدّها، والدافع مهما كان نوعه فالأكثر اتقادا والأكثر قوّة هو الذي يسيطر على الإرادة ويحركها باتجاهه، فيحصل الاختيار الأفضل، مثل التضحية ومساعدة المحتاج وبرّ الوالدين والإحسان إلى الجار وغيرها كثير أو الاختيار السيئ أو الأسوأ مثل جريمة القتل والسرقة والكذب وعدم نقض العهود وغيره كثير، وهكذا الأمر مع التكنولوجيا ومع العلم ومع الفلسفة ومع الدين ومع غيره.
فوسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا وغيرها مما توصل إليه الإنسان المعاصر من تقدم علمي وتكنولوجي مذهل ورهيب، يمكن استخدامه في راحة الإنسان وإسعاده أو تحويل كل ذلك في اتجاه شقاء الإنسان وتعاسته، ومثال ذلك بسيط فالسكين الذي صنعته يد الإنسان من مادة موجودة في الطبيعة لتحقيق حاجات مهمة وإنجاز أفعال نافعة معروفة على سبيل تحويل الطبيعة مما هو غير نافع إلى ما هو نافع، استخدمه الإنسان وبعد سبق الإصرار والترصد في أعمال إجرامية يعاقب عليها.
فالوسيلة تبقى وسيلة والإنسان هو الذي يستخدمها في طريق الخير أو في طريق الشر، والصراع أبدي بين الخير والشر، ولولا ثنائية الخير والشر ما احتاج الإنسان إلى العقل والإرادة، فالعقل ينظر في الأشياء والأفعال الذاتية والبينية وفي أفعال الآخرين ويستعين نظرا لمحدوديته وقصوره بالدين والعرف والأخلاق الفردية والاجتماعية وأحيانا بالكيان النفسي والوجداني فتسيطر الميول والأهواء والرغبات والعواطف وسائر الحياة الانفعالية على العقل، وتقوم بفعل الاختيار، إذ تختار على ضوء النظر العقلي والأحكام التي يصدرها العقل، وعلى هذا الأساس تتحدد المسئولية كاملة ويتحدد الجزاء عقابا كان أو ثوابا، ويتحقق العدل في الحياة، لهذا وجد الإنسان وقامت الإنسانية لتعمر الأرض من خلال دفع العقل باتجاه الاستقامة في النظر والاستواء في الحكم والقرار وحفظ العرض والدين والمال وقبل ذلك حفظ النفس البشرية المكرّمة من بارئها.
إنّ دور الإنسان في الحياة ورسالته في الوجود يقومان على التوازن وليس على الأحادية، التوازن بين طرفي كل ثنائية، بين الأرض والسماء في التعاطي مع الوحي إيجابا عقيدة وشريعة، وبين السياسة والأخلاق في نظام الحكم والدولة وفي صلة الحاكم بالمحكوم وفي علاقة المحكومين مع بعضهم البعض، وبين مطالب البدن ومطالب الروح، وفي استغلال كل ما هو متاح من إمكانات معنوية ومادية أو غيرها لخدمة مطالب الإنسان التي التزم بها الشرع وأقرّها العقل ووافقت القويم من الخلق، وتلتزم الإرادة في اختيارها استنادا إلى المنقول الصريح بالشرع وإلى المعقول الصحيح بالعقل وإلى الفاضل السامي استنادا إلى مكارم الأخلاق، وهكذا تتحقق الإنسانية في أسمى درجاتها.
والفلسفة حاضرة بقوةّ وبإيجابية عظيمة في المجال الذي تتحرك فيه الإرادة الإنسانية، لما لها من وشائج الصلة مع حرية الإرادة في الاختيار، لأنّ مهمة الفلسفة تحريك العقل وإعماله باستمرار وبدون توقف في اتجاه الفكر النقدي الحرّ القائم على الشك البنّاء والتحليل العميق والاستدلال والمحاجّة، كما تدفع الفلسفة الإرادة إلى الاختيار بين بدائل شتى في ضوء الفكر النقدي الحر الاستدلالي، ولا يجوز مصادرة إرادة الإنسان - فرد أو جماعة - واغتصاب اختياره تحت أي مبرر أو أي ظرف من الظروف. واغتصاب الإرادة والتعدّي على خيارها هو تعدّي على الفطرة - وهي حق طبيعي بشري- واعتقال للعقل وللإرادة وتعليق لواجب الفلسفة. فالموقف مهما كانت مبرراته الذي يعطّل إرادة أمة ما ويلغي اختيارها ويمنع تقرير مصيرها بنفسها ويؤيد استعمال الوسائل المشروعة وغيرها ومنها القوّة المتعسفة لفرض إرادة غير إرادة الأمة موقف باطل خاطئ فاشل وفاشي يجب التصدي له بكل الوسائل، ولنا في التاريخ والواقع الذكرى والعبرة.
الدكتور الجيلالي بوبكر أوت 2014

في حرية الإرادة

في ردّ على سؤال حول صلة الإرادة التي تختار بين بدائل شتى بالحرية في ظلّ ظروف وأوضاع ذاتية وموضوعية هي بمثابة حتميات تقود الإرادة وتوجّهها في اتجاهات تتعارض مع حرية الاختيار، مثلما هو الحال في مصادرة اختيار الإرادة لدى الأفراد والشعوب والأمم وانقياد الإرادة للآلة وللهوى، وهكذا الأمر مع تبعية الإرادة الإنسانية لأيّ جهة كانت، فكيف يتمّ الجمع بين حرية الإرادة في اختيارها مع الدوافع التي تدفع نحو اختيار ما من بين عدّة مقترحات؟
.

ليس الإنسان مستغل – بفتح الغين- الإرادة فقط من أخيه الإنسان في جميع المستويات، بل هو كثيرا ما يكون تابعا لهواه ولغرائزه وللطبيعة ولما صنعته يده من آلات وللغزو الفكري والثقافي والمادي هو ما أنساه حرية أرادته، ونسي قدرته على الاختيار ونسي التكريم الإلهي والتفضيل الرباني له عن غيره من المخلوقات بنعمة العقل ونعمة الإرادة وبنعمة مكارم الأخلاق وبنعم لا تحصى.
امتلاك الإنسان للعقل وللإرادة ولعدد من القدرات والصفات النفسية والأخلاقية والاجتماعية وسعيه الحثيث صوب الحرية كل هذا لا يتعارض البتّة مع الظروف والأوضاع التي تعرفها حياته المتغيّرة باستمرار لما تعيشه من حركة وتشهده من تطوّرات، والطابع الأخلاقي والاجتماعي والإنساني للحياة يختلف من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى أخرى ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، هذا الطابع يتحدد بتوجّهات ومواقف الإنسان وتتحكم فيه أفعاله وتصرفاته واختياراته عن جهل أو عن علم بقصد أو بغيره في اتجاه جلب المنافع ودرأ المضرات أو العكس.
ليس المسئول عن الأخطاء في الاختيار وتحمّل تبعات هذه الأخطاء هو وجود الأهواء والميول والرغبات الذاتية، فهذا من الطبيعة البشرية والطبيعة البشرية سنّة كونية في الخلق الإلهي لا تتبدّل ولا تتحوّل، بل المسئولية كاملة تقع على الإنسان وعلى تفكيره وعلى نظره في الموجودات وفي الأفعال وعلى إرادته التي اختارت على ضوء عقل هو على غير رشد وعلى غير بيّنة، والأمر نفسه مع تبعية الإنسان لما صنعته يده أو ما صنعته يد غيره مثلما نحن عليه في تعاطينا مع وسائل التواصل الاجتماعي وتجاوبنا مع الآلة بصفة عامة، فالآلة مهما كان نوعها ودورها ومهما كان مجالها تبقى مجرد آلة، وسيلة وأداة وجدت لخدمة مصالح الإنسان ولتحقيق حاجاته ولتوفر له الجهد والوقت وليس لاستعباده ولإفقاده إنسانيته ولتعطيل قدراته العقلية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية كما هو قائم في حياتنا المعاصرة، خاصة في حياة الإنسان الذي يعيش في التخلّف ويحيا وضعا متهيبا أفقده القدرة على التفكير الحر النقدي الاستدلالي المستنير، ولما فقد هذا النوع من التفكير الذي كان وراء كل نهضة وشرط كل تقدم وأساس كل بناء حضاري ومحرك التاريخ عبر العصور، فقد تماما حرية الإرادة أساس كل تفكير إبداعي وكل فعل إبداعي، ففقد نتيجة ذلك جميع شروط الإقلاع في اتجاه المدنية والتحضر، وصر مضرب المثل في التخلّف والتبعية، وغابت كليا من حياته مظاهر الحرية والاستقلال.
إنّ مراعاة الطبيعة البشرية وفهم وتفسير التركيبة الإنسانية في إطار طبيعة البشر من واجبات العقل الحر الواعي، من خلال البحوث الفكرية والفلسفية والاجتماعية والدراسات العلمية الدقيقة والطبيعية والتكنولوجية، من أجل التوجيه والتحكّم والسيطرة والتسخير والسيادة، فعصرنا فيه السيادة للعلم، فالسيد من يمتلك العلم ويحتكره ومن يصنع المعرفة العلمية وينتج التكنولوجيا في جميع قطاعات الحياة، ويبقى العلم وسيلة والفلسفة وسيلة والتكنولوجيا وسائل وأساليب وغيرها مما يملكه الإنسان يستخدمه في مصلحته أو في غير مصلحته، تبعا لتفكيره واختياره، ووراء اختياراته تربية وتنشئة وتكوين وجغرافيا وتاريخ وغيرها.
لا يوجد فعل إنساني إرادي مطلق من الدوافع قبلية كانت أو غائية بعدية، هي بمثابة بدائل شتى تحرك الإرادة وتشدّها، والدافع مهما كان نوعه فالأكثر اتقادا والأكثر قوّة هو الذي يسيطر على الإرادة ويحركها باتجاهه، فيحصل الاختيار الأفضل، مثل التضحية ومساعدة المحتاج وبرّ الوالدين والإحسان إلى الجار وغيرها كثير أو الاختيار السيئ أو الأسوأ مثل جريمة القتل والسرقة والكذب وعدم نقض العهود وغيره كثير، وهكذا الأمر مع التكنولوجيا ومع العلم ومع الفلسفة ومع الدين ومع غيره.
فوسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا وغيرها مما توصل إليه الإنسان المعاصر من تقدم علمي وتكنولوجي مذهل ورهيب، يمكن استخدامه في راحة الإنسان وإسعاده أو تحويل كل ذلك في اتجاه شقاء الإنسان وتعاسته، ومثال ذلك بسيط فالسكين الذي صنعته يد الإنسان من مادة موجودة في الطبيعة لتحقيق حاجات مهمة وإنجاز أفعال نافعة معروفة على سبيل تحويل الطبيعة مما هو غير نافع إلى ما هو نافع، استخدمه الإنسان وبعد سبق الإصرار والترصد في أعمال إجرامية يعاقب عليها.
فالوسيلة تبقى وسيلة والإنسان هو الذي يستخدمها في طريق الخير أو في طريق الشر، والصراع أبدي بين الخير والشر، ولولا ثنائية الخير والشر ما احتاج الإنسان إلى العقل والإرادة، فالعقل ينظر في الأشياء والأفعال الذاتية والبينية وفي أفعال الآخرين ويستعين نظرا لمحدوديته وقصوره بالدين والعرف والأخلاق الفردية والاجتماعية وأحيانا بالكيان النفسي والوجداني فتسيطر الميول والأهواء والرغبات والعواطف وسائر الحياة الانفعالية على العقل، وتقوم بفعل الاختيار، إذ تختار على ضوء النظر العقلي والأحكام التي يصدرها العقل، وعلى هذا الأساس تتحدد المسئولية كاملة ويتحدد الجزاء عقابا كان أو ثوابا، ويتحقق العدل في الحياة، لهذا وجد الإنسان وقامت الإنسانية لتعمر الأرض من خلال دفع العقل باتجاه الاستقامة في النظر والاستواء في الحكم والقرار وحفظ العرض والدين والمال وقبل ذلك حفظ النفس البشرية المكرّمة من بارئها.
إنّ دور الإنسان في الحياة ورسالته في الوجود يقومان على التوازن وليس على الأحادية، التوازن بين طرفي كل ثنائية، بين الأرض والسماء في التعاطي مع الوحي إيجابا عقيدة وشريعة، وبين السياسة والأخلاق في نظام الحكم والدولة وفي صلة الحاكم بالمحكوم وفي علاقة المحكومين مع بعضهم البعض، وبين مطالب البدن ومطالب الروح، وفي استغلال كل ما هو متاح من إمكانات معنوية ومادية أو غيرها لخدمة مطالب الإنسان التي التزم بها الشرع وأقرّها العقل ووافقت القويم من الخلق، وتلتزم الإرادة في اختيارها استنادا إلى المنقول الصريح بالشرع وإلى المعقول الصحيح بالعقل وإلى الفاضل السامي استنادا إلى مكارم الأخلاق، وهكذا تتحقق الإنسانية في أسمى درجاتها.
والفلسفة حاضرة بقوةّ وبإيجابية عظيمة في المجال الذي تتحرك فيه الإرادة الإنسانية، لما لها من وشائج الصلة مع حرية الإرادة في الاختيار، لأنّ مهمة الفلسفة تحريك العقل وإعماله باستمرار وبدون توقف في اتجاه الفكر النقدي الحرّ القائم على الشك البنّاء والتحليل العميق والاستدلال والمحاجّة، كما تدفع الفلسفة الإرادة إلى الاختيار بين بدائل شتى في ضوء الفكر النقدي الحر الاستدلالي، ولا يجوز مصادرة إرادة الإنسان - فرد أو جماعة - واغتصاب اختياره تحت أي مبرر أو أي ظرف من الظروف. واغتصاب الإرادة والتعدّي على خيارها هو تعدّي على الفطرة - وهي حق طبيعي بشري- واعتقال للعقل وللإرادة وتعليق لواجب الفلسفة. فالموقف مهما كانت مبرراته الذي يعطّل إرادة أمة ما ويلغي اختيارها ويمنع تقرير مصيرها بنفسها ويؤيد استعمال الوسائل المشروعة وغيرها ومنها القوّة المتعسفة لفرض إرادة غير إرادة الأمة موقف باطل خاطئ فاشل وفاشي يجب التصدي له بكل الوسائل، ولنا في التاريخ والواقع الذكرى والعبرة.
الدكتور الجيلالي بوبكر أوت 2014

في حرية الإرادة

في ردّ على سؤال حول صلة الإرادة التي تختار بين بدائل شتى بالحرية في ظلّ ظروف وأوضاع ذاتية وموضوعية هي بمثابة حتميات تقود الإرادة وتوجّهها في اتجاهات تتعارض مع حرية الاختيار، مثلما هو الحال في مصادرة اختيار الإرادة لدى الأفراد والشعوب والأمم وانقياد الإرادة للآلة وللهوى، وهكذا الأمر مع تبعية الإرادة الإنسانية لأيّ جهة كانت، فكيف يتمّ الجمع بين حرية الإرادة في اختيارها مع الدوافع التي تدفع نحو اختيار ما من بين عدّة مقترحات؟
.

ليس الإنسان مستغل – بفتح الغين- الإرادة فقط من أخيه الإنسان في جميع المستويات، بل هو كثيرا ما يكون تابعا لهواه ولغرائزه وللطبيعة ولما صنعته يده من آلات وللغزو الفكري والثقافي والمادي هو ما أنساه حرية أرادته، ونسي قدرته على الاختيار ونسي التكريم الإلهي والتفضيل الرباني له عن غيره من المخلوقات بنعمة العقل ونعمة الإرادة وبنعمة مكارم الأخلاق وبنعم لا تحصى.
امتلاك الإنسان للعقل وللإرادة ولعدد من القدرات والصفات النفسية والأخلاقية والاجتماعية وسعيه الحثيث صوب الحرية كل هذا لا يتعارض البتّة مع الظروف والأوضاع التي تعرفها حياته المتغيّرة باستمرار لما تعيشه من حركة وتشهده من تطوّرات، والطابع الأخلاقي والاجتماعي والإنساني للحياة يختلف من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى أخرى ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، هذا الطابع يتحدد بتوجّهات ومواقف الإنسان وتتحكم فيه أفعاله وتصرفاته واختياراته عن جهل أو عن علم بقصد أو بغيره في اتجاه جلب المنافع ودرأ المضرات أو العكس.
ليس المسئول عن الأخطاء في الاختيار وتحمّل تبعات هذه الأخطاء هو وجود الأهواء والميول والرغبات الذاتية، فهذا من الطبيعة البشرية والطبيعة البشرية سنّة كونية في الخلق الإلهي لا تتبدّل ولا تتحوّل، بل المسئولية كاملة تقع على الإنسان وعلى تفكيره وعلى نظره في الموجودات وفي الأفعال وعلى إرادته التي اختارت على ضوء عقل هو على غير رشد وعلى غير بيّنة، والأمر نفسه مع تبعية الإنسان لما صنعته يده أو ما صنعته يد غيره مثلما نحن عليه في تعاطينا مع وسائل التواصل الاجتماعي وتجاوبنا مع الآلة بصفة عامة، فالآلة مهما كان نوعها ودورها ومهما كان مجالها تبقى مجرد آلة، وسيلة وأداة وجدت لخدمة مصالح الإنسان ولتحقيق حاجاته ولتوفر له الجهد والوقت وليس لاستعباده ولإفقاده إنسانيته ولتعطيل قدراته العقلية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية كما هو قائم في حياتنا المعاصرة، خاصة في حياة الإنسان الذي يعيش في التخلّف ويحيا وضعا متهيبا أفقده القدرة على التفكير الحر النقدي الاستدلالي المستنير، ولما فقد هذا النوع من التفكير الذي كان وراء كل نهضة وشرط كل تقدم وأساس كل بناء حضاري ومحرك التاريخ عبر العصور، فقد تماما حرية الإرادة أساس كل تفكير إبداعي وكل فعل إبداعي، ففقد نتيجة ذلك جميع شروط الإقلاع في اتجاه المدنية والتحضر، وصر مضرب المثل في التخلّف والتبعية، وغابت كليا من حياته مظاهر الحرية والاستقلال.
إنّ مراعاة الطبيعة البشرية وفهم وتفسير التركيبة الإنسانية في إطار طبيعة البشر من واجبات العقل الحر الواعي، من خلال البحوث الفكرية والفلسفية والاجتماعية والدراسات العلمية الدقيقة والطبيعية والتكنولوجية، من أجل التوجيه والتحكّم والسيطرة والتسخير والسيادة، فعصرنا فيه السيادة للعلم، فالسيد من يمتلك العلم ويحتكره ومن يصنع المعرفة العلمية وينتج التكنولوجيا في جميع قطاعات الحياة، ويبقى العلم وسيلة والفلسفة وسيلة والتكنولوجيا وسائل وأساليب وغيرها مما يملكه الإنسان يستخدمه في مصلحته أو في غير مصلحته، تبعا لتفكيره واختياره، ووراء اختياراته تربية وتنشئة وتكوين وجغرافيا وتاريخ وغيرها.
لا يوجد فعل إنساني إرادي مطلق من الدوافع قبلية كانت أو غائية بعدية، هي بمثابة بدائل شتى تحرك الإرادة وتشدّها، والدافع مهما كان نوعه فالأكثر اتقادا والأكثر قوّة هو الذي يسيطر على الإرادة ويحركها باتجاهه، فيحصل الاختيار الأفضل، مثل التضحية ومساعدة المحتاج وبرّ الوالدين والإحسان إلى الجار وغيرها كثير أو الاختيار السيئ أو الأسوأ مثل جريمة القتل والسرقة والكذب وعدم نقض العهود وغيره كثير، وهكذا الأمر مع التكنولوجيا ومع العلم ومع الفلسفة ومع الدين ومع غيره.
فوسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا وغيرها مما توصل إليه الإنسان المعاصر من تقدم علمي وتكنولوجي مذهل ورهيب، يمكن استخدامه في راحة الإنسان وإسعاده أو تحويل كل ذلك في اتجاه شقاء الإنسان وتعاسته، ومثال ذلك بسيط فالسكين الذي صنعته يد الإنسان من مادة موجودة في الطبيعة لتحقيق حاجات مهمة وإنجاز أفعال نافعة معروفة على سبيل تحويل الطبيعة مما هو غير نافع إلى ما هو نافع، استخدمه الإنسان وبعد سبق الإصرار والترصد في أعمال إجرامية يعاقب عليها.
فالوسيلة تبقى وسيلة والإنسان هو الذي يستخدمها في طريق الخير أو في طريق الشر، والصراع أبدي بين الخير والشر، ولولا ثنائية الخير والشر ما احتاج الإنسان إلى العقل والإرادة، فالعقل ينظر في الأشياء والأفعال الذاتية والبينية وفي أفعال الآخرين ويستعين نظرا لمحدوديته وقصوره بالدين والعرف والأخلاق الفردية والاجتماعية وأحيانا بالكيان النفسي والوجداني فتسيطر الميول والأهواء والرغبات والعواطف وسائر الحياة الانفعالية على العقل، وتقوم بفعل الاختيار، إذ تختار على ضوء النظر العقلي والأحكام التي يصدرها العقل، وعلى هذا الأساس تتحدد المسئولية كاملة ويتحدد الجزاء عقابا كان أو ثوابا، ويتحقق العدل في الحياة، لهذا وجد الإنسان وقامت الإنسانية لتعمر الأرض من خلال دفع العقل باتجاه الاستقامة في النظر والاستواء في الحكم والقرار وحفظ العرض والدين والمال وقبل ذلك حفظ النفس البشرية المكرّمة من بارئها.
إنّ دور الإنسان في الحياة ورسالته في الوجود يقومان على التوازن وليس على الأحادية، التوازن بين طرفي كل ثنائية، بين الأرض والسماء في التعاطي مع الوحي إيجابا عقيدة وشريعة، وبين السياسة والأخلاق في نظام الحكم والدولة وفي صلة الحاكم بالمحكوم وفي علاقة المحكومين مع بعضهم البعض، وبين مطالب البدن ومطالب الروح، وفي استغلال كل ما هو متاح من إمكانات معنوية ومادية أو غيرها لخدمة مطالب الإنسان التي التزم بها الشرع وأقرّها العقل ووافقت القويم من الخلق، وتلتزم الإرادة في اختيارها استنادا إلى المنقول الصريح بالشرع وإلى المعقول الصحيح بالعقل وإلى الفاضل السامي استنادا إلى مكارم الأخلاق، وهكذا تتحقق الإنسانية في أسمى درجاتها.
والفلسفة حاضرة بقوةّ وبإيجابية عظيمة في المجال الذي تتحرك فيه الإرادة الإنسانية، لما لها من وشائج الصلة مع حرية الإرادة في الاختيار، لأنّ مهمة الفلسفة تحريك العقل وإعماله باستمرار وبدون توقف في اتجاه الفكر النقدي الحرّ القائم على الشك البنّاء والتحليل العميق والاستدلال والمحاجّة، كما تدفع الفلسفة الإرادة إلى الاختيار بين بدائل شتى في ضوء الفكر النقدي الحر الاستدلالي، ولا يجوز مصادرة إرادة الإنسان - فرد أو جماعة - واغتصاب اختياره تحت أي مبرر أو أي ظرف من الظروف. واغتصاب الإرادة والتعدّي على خيارها هو تعدّي على الفطرة - وهي حق طبيعي بشري- واعتقال للعقل وللإرادة وتعليق لواجب الفلسفة. فالموقف مهما كانت مبرراته الذي يعطّل إرادة أمة ما ويلغي اختيارها ويمنع تقرير مصيرها بنفسها ويؤيد استعمال الوسائل المشروعة وغيرها ومنها القوّة المتعسفة لفرض إرادة غير إرادة الأمة موقف باطل خاطئ فاشل وفاشي يجب التصدي له بكل الوسائل، ولنا في التاريخ والواقع الذكرى والعبرة.
الدكتور الجيلالي بوبكر أوت 2014

في حرية الإرادة

في ردّ على سؤال حول صلة الإرادة التي تختار بين بدائل شتى بالحرية في ظلّ ظروف وأوضاع ذاتية وموضوعية هي بمثابة حتميات تقود الإرادة وتوجّهها في اتجاهات تتعارض مع حرية الاختيار، مثلما هو الحال في مصادرة اختيار الإرادة لدى الأفراد والشعوب والأمم وانقياد الإرادة للآلة وللهوى، وهكذا الأمر مع تبعية الإرادة الإنسانية لأيّ جهة كانت، فكيف يتمّ الجمع بين حرية الإرادة في اختيارها مع الدوافع التي تدفع نحو اختيار ما من بين عدّة مقترحات؟
.

ليس الإنسان مستغل – بفتح الغين- الإرادة فقط من أخيه الإنسان في جميع المستويات، بل هو كثيرا ما يكون تابعا لهواه ولغرائزه وللطبيعة ولما صنعته يده من آلات وللغزو الفكري والثقافي والمادي هو ما أنساه حرية أرادته، ونسي قدرته على الاختيار ونسي التكريم الإلهي والتفضيل الرباني له عن غيره من المخلوقات بنعمة العقل ونعمة الإرادة وبنعمة مكارم الأخلاق وبنعم لا تحصى.
امتلاك الإنسان للعقل وللإرادة ولعدد من القدرات والصفات النفسية والأخلاقية والاجتماعية وسعيه الحثيث صوب الحرية كل هذا لا يتعارض البتّة مع الظروف والأوضاع التي تعرفها حياته المتغيّرة باستمرار لما تعيشه من حركة وتشهده من تطوّرات، والطابع الأخلاقي والاجتماعي والإنساني للحياة يختلف من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى أخرى ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، هذا الطابع يتحدد بتوجّهات ومواقف الإنسان وتتحكم فيه أفعاله وتصرفاته واختياراته عن جهل أو عن علم بقصد أو بغيره في اتجاه جلب المنافع ودرأ المضرات أو العكس.
ليس المسئول عن الأخطاء في الاختيار وتحمّل تبعات هذه الأخطاء هو وجود الأهواء والميول والرغبات الذاتية، فهذا من الطبيعة البشرية والطبيعة البشرية سنّة كونية في الخلق الإلهي لا تتبدّل ولا تتحوّل، بل المسئولية كاملة تقع على الإنسان وعلى تفكيره وعلى نظره في الموجودات وفي الأفعال وعلى إرادته التي اختارت على ضوء عقل هو على غير رشد وعلى غير بيّنة، والأمر نفسه مع تبعية الإنسان لما صنعته يده أو ما صنعته يد غيره مثلما نحن عليه في تعاطينا مع وسائل التواصل الاجتماعي وتجاوبنا مع الآلة بصفة عامة، فالآلة مهما كان نوعها ودورها ومهما كان مجالها تبقى مجرد آلة، وسيلة وأداة وجدت لخدمة مصالح الإنسان ولتحقيق حاجاته ولتوفر له الجهد والوقت وليس لاستعباده ولإفقاده إنسانيته ولتعطيل قدراته العقلية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية كما هو قائم في حياتنا المعاصرة، خاصة في حياة الإنسان الذي يعيش في التخلّف ويحيا وضعا متهيبا أفقده القدرة على التفكير الحر النقدي الاستدلالي المستنير، ولما فقد هذا النوع من التفكير الذي كان وراء كل نهضة وشرط كل تقدم وأساس كل بناء حضاري ومحرك التاريخ عبر العصور، فقد تماما حرية الإرادة أساس كل تفكير إبداعي وكل فعل إبداعي، ففقد نتيجة ذلك جميع شروط الإقلاع في اتجاه المدنية والتحضر، وصر مضرب المثل في التخلّف والتبعية، وغابت كليا من حياته مظاهر الحرية والاستقلال.
إنّ مراعاة الطبيعة البشرية وفهم وتفسير التركيبة الإنسانية في إطار طبيعة البشر من واجبات العقل الحر الواعي، من خلال البحوث الفكرية والفلسفية والاجتماعية والدراسات العلمية الدقيقة والطبيعية والتكنولوجية، من أجل التوجيه والتحكّم والسيطرة والتسخير والسيادة، فعصرنا فيه السيادة للعلم، فالسيد من يمتلك العلم ويحتكره ومن يصنع المعرفة العلمية وينتج التكنولوجيا في جميع قطاعات الحياة، ويبقى العلم وسيلة والفلسفة وسيلة والتكنولوجيا وسائل وأساليب وغيرها مما يملكه الإنسان يستخدمه في مصلحته أو في غير مصلحته، تبعا لتفكيره واختياره، ووراء اختياراته تربية وتنشئة وتكوين وجغرافيا وتاريخ وغيرها.
لا يوجد فعل إنساني إرادي مطلق من الدوافع قبلية كانت أو غائية بعدية، هي بمثابة بدائل شتى تحرك الإرادة وتشدّها، والدافع مهما كان نوعه فالأكثر اتقادا والأكثر قوّة هو الذي يسيطر على الإرادة ويحركها باتجاهه، فيحصل الاختيار الأفضل، مثل التضحية ومساعدة المحتاج وبرّ الوالدين والإحسان إلى الجار وغيرها كثير أو الاختيار السيئ أو الأسوأ مثل جريمة القتل والسرقة والكذب وعدم نقض العهود وغيره كثير، وهكذا الأمر مع التكنولوجيا ومع العلم ومع الفلسفة ومع الدين ومع غيره.
فوسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا وغيرها مما توصل إليه الإنسان المعاصر من تقدم علمي وتكنولوجي مذهل ورهيب، يمكن استخدامه في راحة الإنسان وإسعاده أو تحويل كل ذلك في اتجاه شقاء الإنسان وتعاسته، ومثال ذلك بسيط فالسكين الذي صنعته يد الإنسان من مادة موجودة في الطبيعة لتحقيق حاجات مهمة وإنجاز أفعال نافعة معروفة على سبيل تحويل الطبيعة مما هو غير نافع إلى ما هو نافع، استخدمه الإنسان وبعد سبق الإصرار والترصد في أعمال إجرامية يعاقب عليها.
فالوسيلة تبقى وسيلة والإنسان هو الذي يستخدمها في طريق الخير أو في طريق الشر، والصراع أبدي بين الخير والشر، ولولا ثنائية الخير والشر ما احتاج الإنسان إلى العقل والإرادة، فالعقل ينظر في الأشياء والأفعال الذاتية والبينية وفي أفعال الآخرين ويستعين نظرا لمحدوديته وقصوره بالدين والعرف والأخلاق الفردية والاجتماعية وأحيانا بالكيان النفسي والوجداني فتسيطر الميول والأهواء والرغبات والعواطف وسائر الحياة الانفعالية على العقل، وتقوم بفعل الاختيار، إذ تختار على ضوء النظر العقلي والأحكام التي يصدرها العقل، وعلى هذا الأساس تتحدد المسئولية كاملة ويتحدد الجزاء عقابا كان أو ثوابا، ويتحقق العدل في الحياة، لهذا وجد الإنسان وقامت الإنسانية لتعمر الأرض من خلال دفع العقل باتجاه الاستقامة في النظر والاستواء في الحكم والقرار وحفظ العرض والدين والمال وقبل ذلك حفظ النفس البشرية المكرّمة من بارئها.
إنّ دور الإنسان في الحياة ورسالته في الوجود يقومان على التوازن وليس على الأحادية، التوازن بين طرفي كل ثنائية، بين الأرض والسماء في التعاطي مع الوحي إيجابا عقيدة وشريعة، وبين السياسة والأخلاق في نظام الحكم والدولة وفي صلة الحاكم بالمحكوم وفي علاقة المحكومين مع بعضهم البعض، وبين مطالب البدن ومطالب الروح، وفي استغلال كل ما هو متاح من إمكانات معنوية ومادية أو غيرها لخدمة مطالب الإنسان التي التزم بها الشرع وأقرّها العقل ووافقت القويم من الخلق، وتلتزم الإرادة في اختيارها استنادا إلى المنقول الصريح بالشرع وإلى المعقول الصحيح بالعقل وإلى الفاضل السامي استنادا إلى مكارم الأخلاق، وهكذا تتحقق الإنسانية في أسمى درجاتها.
والفلسفة حاضرة بقوةّ وبإيجابية عظيمة في المجال الذي تتحرك فيه الإرادة الإنسانية، لما لها من وشائج الصلة مع حرية الإرادة في الاختيار، لأنّ مهمة الفلسفة تحريك العقل وإعماله باستمرار وبدون توقف في اتجاه الفكر النقدي الحرّ القائم على الشك البنّاء والتحليل العميق والاستدلال والمحاجّة، كما تدفع الفلسفة الإرادة إلى الاختيار بين بدائل شتى في ضوء الفكر النقدي الحر الاستدلالي، ولا يجوز مصادرة إرادة الإنسان - فرد أو جماعة - واغتصاب اختياره تحت أي مبرر أو أي ظرف من الظروف. واغتصاب الإرادة والتعدّي على خيارها هو تعدّي على الفطرة - وهي حق طبيعي بشري- واعتقال للعقل وللإرادة وتعليق لواجب الفلسفة. فالموقف مهما كانت مبرراته الذي يعطّل إرادة أمة ما ويلغي اختيارها ويمنع تقرير مصيرها بنفسها ويؤيد استعمال الوسائل المشروعة وغيرها ومنها القوّة المتعسفة لفرض إرادة غير إرادة الأمة موقف باطل خاطئ فاشل وفاشي يجب التصدي له بكل الوسائل، ولنا في التاريخ والواقع الذكرى والعبرة.
الدكتور الجيلالي بوبكر أوت 2014
 
عودة
أعلى