شروط الإصلاح والتجديد في فلسفة محمد إقبال

الدكتور جيلالي بوبكر

شروط الإصلاح والتجديد في فلسفة محمد إقبال

انتبه "محمد إقبال" في نهجه الإصلاحي إلى أمرين مهمّين: أما الأول فهو ظروف المسلم المعاصر التي تتميز بالركود الفكري والانحطاط الاجتماعي والضعف والتخلف في وقت يملك فيه المسلمون عقيدة التوحيد وشريعة سمحى. كل من العقيدة والشريعة في الإسلام جعلت المسلمين الأوائل أصحاب حضارة ورقي وازدهار. أما الأمر الثاني فهو كون الأوربي المعاصر شيّد حضارة راقية منتجاتها المادية الجديدة والبرّاقة وهي تغزوا العالم الإسلامي حاملة فكر في أسسه ومقوّماته مع مقومات وأسس الإسلام. فالغالب هو أوربا وما أنتجته من حضارة وفكر وعلم والمغلوب هو المسلم المعاصر وما يحمله من فكر وضعف وانحطاط. وحسب "ابن خلدون": المغلوب دوما مولع بتقليد الغالب حتى في نمط اللّباس والجلوس وغيرها من المظاهر، هذه الوضعية هي التي أنتجت فكرة الإصلاح عند "محمد إقبال" الذي يصف الوضع الذي آل إليه المسلم المعاصر وآلت إليه أحواله بقولـه: "إن المسلم القويّ الذي أنشأته الصحراء وأحكمته رياحها الهوجاء أضعفته رياح "العجم" فصار فيها كالناي نحولا ونواحا!! وإن الذي كان يذبح اللّيث كالشاة تهاب وطئ النملة رجلاه!! والذي كان تكبيره يذيب الأحجار انقلب وجلا من صغير الأطيار!! والذي هزأ عزمه بشم الجبال، غل يديه ورجليه بأوهام "الاكتئاب" والذي كان ضربه في رقاب الأعداء، صار يضرب صدره في اللأواء!! والذي نقشت قدمه على الأرض ثورة، كسرت رجلاه عكوفا في الخلوة!! والذي كان يمضي على الدهر حكمه، ويقف الملوك على بابه، رضي من السعي بالقنوع، ولذّ له الاستجداء والخشوع".[1]

هو الوضع الذي دفع الفيلسوف "محمد إقبال" إلى التفكير في إصلاح بنية الفكر الإسلامي وتعديلها وتجديدها بمنهج يقوم على النقد وإعادة البناء في ظروف صارت السيادة فيها للحضارة الغربية وما أنجبته هذه الحضارة من فكر وضعي وعلم تجريبي ومنتجات مادية برّاقة دخلت كلها العالم الإسلامي واستهوت عقول ونفوس العديد من المسلمين وأثّرت الحضارة الغربية ومنتجاتها الفكرية والمادية في شخصية وفكر "محمد إقبال"، بحيث يقول في ذلك "ولفردك سميث":"أن ثلاثة أشياء تركت أثرا عظيما في نفسه بالنسبة إلى أوروبا، الحيوية والنشاط في الحياة الأوروبية، فالإمكانيات الضخمة المتوافرة، ثم الأثر الإنساني الذي تركه المجتمع الرأسمالي في نفس الإنسان الأوروبي".[2] وكان الأثر اللاّإنساني الذي أفرزته الرأسمالية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تأثيره الكبير على الفيلسوف "محمد إقبال" ويقول في ذلك "الأستاذ ماجد فخري":"وقد قوّى الاعتبار الأخير إيمانه بتفوق الإسلام كمثال خلقي وروحي، فوقف حياته على الدفاع عن هذا المثال وعلى تطويره، وكانت المحاضرات الست التي ألقاها في "مدراس" سنة 1928-1929 . إسهامه الكبير في مهمة إيقاظ أبناء دينه في الهند وإعادة النظر في الإسلام بمفاهيم معاصرة وحيّة، مستمدة بالدرجة الأولى من حصيلة الفكر الأوروبي في القرن التاسع وأوائل القرن العشرين".[3]

أمام الوضع المتردي الذي آل إليه المسلم المعاصر وأمام حضارة أوروبا التي فقدت وحدتها وتماسكها يرى الفيلسوف "محمد إقبال" أن التجديد أصبح أكثر من ضرورة على الرغم ما يحتويه الفكر الإسلامي من سعة وعمق وترسُخ في العالم الإسلامي، ينبغي على هذا العالم "أن يُقدم في شجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره، على أن لهذا التجديد ناحية أعظم شأنا من مجرد الملائمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها، فإن "الحرب العالمية الكبرى الأولى" بما خلّفته نهضة تركيا، التي وصفها حديثا كاتب فرنسي بأنها عنصر الاستقرار في عالم الإسلام، والتجربة الاقتصادية الجديدة التي تُجرّب على مقربة من آسيا الإسلامية يجب أن تفتح أعيننا على ما ينطوي عليه الإسلام من معنى وعلى مصيره، إنّ الإنسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور: تأويل الكون تأويلاً روحياً، وتحرير روح الفرد ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي".[4]

إذا كان الإسلام يتمتع بمثالية لا ترفض الواقعية بل تطلبها وتعيش معها، فإن أوروبا في العصر الحديث قد عرفت نظما فكرية وفلسفية مثالية، "لكن التجربة بيّنت أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يُشعلها، وهذا هو السبب في أن التفكير المجرد لم يؤثر في الناس إلا قليلا في حين أن الدين استطاع دائما أن ينهض بالأفراد ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها وينقلهم من حال إلى حال".[5]

ينتقد الفيلسوف "محمد إقبال" مثالية وعقلانية أوروبا في قوله:"إن مثالية أوروبا لم تكن أبدا من العوامل الحيّة المؤثرة في وجودها، ولهذا أنتجت ذاتا ضالة أخذت تبحث عن نفسها بين ديمقراطيات لا تعرف التسامح وكل همّها استغلال الفقير لصالح الغني، وصدقوني أن أوروبا اليوم هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان".[6] فإذا كان هذا حال مثالية أوروبا والتي لم تنتج سوى الفساد والاستغلال والظلال فإن المسلم "له هذه الآراء النهائية القائمة على أساس من تنزيل يتحدث إلى الناس من أعماق الحياة والوجود، وما تعني به هذه الآراء من أمور خارجية في الظاهر يترك أثره في أعماق النفوس، والأساس الروحي عند المسلم هو يستطيع أقلّها استنارة أن يسترخص الحياة في سبيله وبما أن القاعدة الأساسية تقول إنّ محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه ينبغي أن تكون من أكثر شعوب الأرض في الحرية الروحانية والرعيل الأول من المسلمين الذين تخلّصوا من الرّق الروحي في آسيا الجاهلية لم يكونوا، بحيث يستطيعون إدراك المعنى الصحيح لهذه القاعدة الأساسية، فعلى المسلم اليوم أن يُقدّر موقفه، وأن يُعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية وأن يستنبط من أهداف الإسلام التي لم تتكشف بعد إلا تكشفا جزئيا، تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده".[7]

أمام مثالية أوروبا الضالّة واعتدال الإسلام الجامع بين الواقعية والمثالية والمحافظة على التوازن الإنساني الروحي المادي: وأمام النهضة الأوروبية الحديثة وتطور العلم التجريبي وسيطرة الفلسفة الوضعية وطغيان النزعة المادية فالإنسانية في نظر :محمد إقبال" "تحتاج اليوم إلى ثلاث أمور: تأويل الكون تأويلاً روحيا، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي".[8] ذلك ما كان يهدف إليه الفيلسوف "محمد إقبال" من وراء خطته في الإصلاح والتجديد بصفة خاصة ومن وراء فلسفته بصفة عامة لمواجهة أزمة العالم الإسلامي المعاصر ومحنة الإنسانية المعاصرة، "فلا أسلوب التصوف في العصور الوسطى، ولا القومية، ولا الاشتراكية بقادرة على أن تُشفي علل الإنسانية البائسة ولا ريب في أن اللّحظة الحاضرة تمثل أزمة خطيرة في تاريخ الثقافة العصرية، وقد أصبح العالم اليوم مفتقرا إلى تجديد بسيكولوجي، والدين الذي هو أسمى مظاهره ليس عقيدة فحسب أو شعيرة من الشعائر، هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري إعدادا خلقيا يؤهله لتحمل التبعية العظمى التي لا بد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث وأن يرد إليه تلك النزعة من الإيمان التي تجعله قادرا على الفوز بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بهما في دار البقاء، إن السمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله من أين جاء وإلى أين المصير، هو وحده الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية بما انطوت عليه من صراع بين القيّم الدينية والقيّم السياسية، والدين كما بيّنت من قبل من حيث هو سعي المرء سعيا مقصودا للوصول إلى الغاية النهائية للقيّم، فيمكنه بذلك أن يعيد تفسير قوى شخصيته هو حقيقة لا يمكن إنكارها".[9]

إنّ نظرية "محمد إقبال" في الإصلاح والتجديد تقوم أساسا على عمليتين أساسيتين في الأسلوب الإصلاحي التجديدي وهما عملية الهدم وعملية إعادة البناء، أما عملية الهدم فتقوم على النقد، نقد الوضع العام للإنسانية وللعالم الإسلامي ونقد الوضع الفكري القديم والحديث الذي شهدته الإنسانية بصفة عامة والعالم الإسلامي بصفة خاصة، وأما عملية إعادة البناء فتقوم على دفع المسلم إلى إدراك ذاته ومحيطه ورسالته في التاريخ، وفهم العالم ومعرفة الله، وأن يتحرك في التاريخ فيغير حياته وفق ما تمليه التطورات والمستجدات في عصره، وعلى أسس روحية تكفل له توازن الحياة والاعتدال في السلوك.

ما دام التغيير أو التجديد أمراً ضرورياً ولا بد منه، فيكون هذا التغيير ويكون هذا التجديد في فهم الإنسان لوجوده الإنساني ولذاته وللعالم وللذات المطلقة وللإسلام وللعلاقة بين هذه الأمور ككل، لذا ينصب بحثنا بعد هذه المقدمة على فلسفة الإصلاح والتجديد عند "محمد إقبال" حول الإنسان والتاريخ وحول الذات الإنسانية وبنائها، وحول قصة الخلق وحول الوجود وتغيّره وحول المنهج الإسلامي وكماله ودوره.

فمحاولة "محمد إقبال" الفكرية والفلسفية لإصلاح الفكر الإسلامي من خلال النقد محاولة جادة وجديدة مغايرة للحركات الدينية والفكرية التي تعتمد على تبسيط تعاليم الإسلام لتقريبها من العامة، فهي محولة لها فكر وفلسفة ومنهج يعتمد أساسا النقد والهدم لا لغرض النقد، بل بهدف إعادة النظر والصياغة والبناء في إطار واحد هو الإسلام وقيّمه في توجيه الإنسانية، ويصرح "محمد إقبال" قائلا: "ولقد حاولت في هذه المحاضرات التي أعددتها بناء على طلب الجمعية الإسلامية بمدراس، وألقيتها في مدراس وحيدرأباد وعليكرة، بأن أحاول بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدا آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة. واللحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لعمل كهذا".[10]

يذكر "محمد إقبال" مبيّنا قيمة النقد في تطوير المعرفة وبناء الحضارة وتحريك التاريخ: "لقد تعلمت الطبيعيات القديمة نقد أسسها التي قامت عليها أولا، فأدى هذا النقد إلى سرعة اختفاء المادية التي قالت الطبيعيات بوجودها أول الأمر وليس ببعيد ذلك اليوم الذي يكشف فيه كل من الدين والعلم اتفاقا متبادلا بينهما لم يكن حتى اليوم منتظراً".[11] فالنقد هو السبيل الوحيد لأحداث التغيير والوصول إلى الجديد، وهو السبيل إلى وضع دعائم وسبل تضمن بلوغ الهدف الأسمى للدين، وهو الحياة على النسق الخاص بالرياضة الباطنية الدينية، هذه الرياضة التي صار المسلم المعاصر لا يطيقها بل يقلل من شأنها وذلك لسيطرة التفكير الواقعي المادي على حياته عامة. وكان القدماء من الصوفية وأصحاب الرياضة الدينية فقد قدّموا عملا طيّبا في تكييف التجارب الصوفية وتوجيه مسارها في الإسلام فإن أصحاب التصوف في العصر الحديث عجزوا عن هذه المهمة بسبب ابتعادهم عما أنتجه العقل الحديث، وعجزوا عن قبول أي وحي جديد من الفكر الحديث والتجارب العصرية، لأن ما لديهم من تجارب يختلف عما للأجيال السالفة من ثقافة ونظرة إلى الحياة في جوانب مختلفة.

على ضوء النقد تتم عملية إعادة البناء وفق إستراتيجية تضبط الهدف بدقة، كما تحدد المبادئ والوسائل والسبل الكفيلة بتقديم خطة للإصلاح والتجديد قائمة دائما على النقد والهدم وإعادة البناء، وهو أمر ضروري ولا بد منه للعالم الإسلامي في العصر الحديث يحتمه التواجد الاستعماري الصليبي في بلاد المسلمين عامة وفي بلاد الشرق بصفة خاصة. وما يستهدفه الاستعمار من محاولات تدمير القيّم الإسلامية، وطمس هوية المسلم ليذوب في الغرب وفي فكره وفي قيّمه. كما يتطلبه الفكر الغربي المتميز بالطابع المادي الإلحادي وما يحدثه هذا الفكر من تأثير سلبي على المسلمين يزيد في ضعفهم وانحطاطهم. كما تفرضه حالة المسلمين من الضعف المتعدد الجوانب والتي طال أمدها، هذا الضعف الذي استولى على الفرد والجماعة في سائر الشعوب الإسلامية.

الإسلام في نظر "محمد إقبال" يمثل بحق وسيلة قوية تربط بين المسلمين أفراد وجماعات، ويمثل المنبع الأول والمصدر الأصل لاستعادة المسلمين لقوتهم من جديد، والوصول إلى القوة التي صاروا بها أسياداً وأصحاب حضارة ومنعة، ولم يخضعوا حينها لغير الله وحده، لذا على المسلمين أن يعتمدوا عليه في إيقاظ المسلم والثورة ضد الاستعمار، وفي تجمع قوى الشعوب الإسلامية على العمل من أجل تطهير كافة البلاد الإسلامية منه وأن يقرّبوا في كيفية عرضهم للإسلام وأن يقرّبوا بين تعاليمه وبين غايات الحياة القائمة، وأن يكشفوا القيّم الذاتية للإسلام كمصدر قوة في الحياة، فهو رسالة الإنسان في الحياة في العالم الواقعي.

لما كانت المحاولة الإصلاحية عند "محمد إقبال" ضرورة لابد منها جاءت في الوقت المناسب، فإنها تمثل دراسة تقييمية للفكر الإسلامي القديم والحديث، ولظروف المسلم المعاصر وللحضارة الغربية الحديثة، لا لمبادئ الإسلام وتعاليمه وجوهره وروحه، فالإصلاح هنا يخص الفكر لا الدين ذاته ولم تكن هذه المحاولة تخلو من إعادة البناء بعد عمليات الهدم، فكتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" ينطوي على إستراتيجية النقد وإعادة البناء التي اختارها "محمد إقبال" للانتقال بحياة المسلم من جوِّ الركود والانحطاط والضعف، إلى جوّ الحركة والتقدم والازدهار، وكانت هذه الإستراتيجية – وصاحبها جندي في معركة النهضة- صدرت من شخص تسلّح بالإيمان والقرآن، وحمل لواء الإصلاح والتجديد بعد أن اطّلع على تاريخ الفكر الإسلامي، وألّم بالفكر الغربي وتعرّف على الحضارة الغربية ومنتجاتها، ودخل المعترك الحضاري والصراع الثقافي والفكري بين فكر ارتبط بالإيمان والإسلام والرياضة الدينية، وبين فكر غربي ارتبط بالواقع وحضارة غربية ذات أصول مادية مظاهرها ومنتجاتها برّاقة ومغرية. أي بين عالم أوربي متقدم علميا وتكنولوجيا يفرض أفكاره وقيّمه على الجميع وعالم متخلف – والعالم الإسلامي جزء منه – يريد أن يتحرر ويشارك في السيطرة على الكون. ولكي يربح العالم المتخلف المعركة ويحقق الانتصار تلزمه إستراتيجية النقد وإعادة البناء التي تمثل فلسفة الإصلاح والتجديد في مجال النفس والفكر والإنسان أولا، وفي مجال الواقع بعد ذلك.

لقد استمد "محمد إقبال" فلسفة الإصلاحية من الوحي الإلهي (القرآن( كمصدر للتوجيه، ومن نقد الفكر الإنساني والإسلامي ودراسة تاريخهما، ونقد ظروف المجتمع الأوربي وحضارته وعلومه وأفكاره، ونقد ظروف العالم الإسلامي وتخلّفه وانحطاطه. والنقد لا يعني الرفض وإلغاء الآخر بل تكشّف ما في الفكر الإنساني والحضارة الغربية الحديثة من قيّم وثوابت يجب مراعاتها، وما فيها من تجاوزات من شأنها تجعل النظرة قاصرة، والتحليل ناقص ولا تنسجم مع طبيعة الإنسان والوجود والحياة التي ترد إلى حقيقة واحدة، وأصل واحد هذه الحقيقة وهذا الأصل روحيان، وغياب الانسجام بين الفكر وطبيعة الحياة المتميزة بالحركة والتغير يؤدي إلى اختلال الموازين، ولا يتحقق مبتغى الدين ومقصده، وهو بلوغ الروحانية والسمو الروحي في الفكر والسلوك والحياة عامة، من خلال سيطرة الإنسان على العلاقات بين وحدات الكون وضمان التوازن بينهما.

ففي إستراتيجية النقد عند "محمد إقبال" نجد التوازن والاعتدال هما ما يميزان فكره النقدي، بحيث يأخذ من الفكر القديم ومن الفكر الحديث ما هو مؤسس على قوة الأساس وسلامة الدليل، ويقتبس المفاهيم والتصورات والمناهج التي يرى فيها جوانب الحقيقة الملائمة لذات الإسلام وروح القرآن، فيكشف عنها ويكشف عن القيّم الذاتية للإسلام، ويبدي رأيه بكل حرية وجرأة ووضوح. فلا يتعصب لتعاليم دينه، ولا يرفض الرأي الآخر، ولا يقبل الرأي الآخر دون نقد وتمحيص. ومحاولته الفكرية التي يتضمنها كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام" مليئة بالانتقادات التي تدل على جديّة نقده وصرامة مناقشته وقوة مواقفه وآرائه.

مما انتقده "محمد إقبال" الفلسفة اليونانية، على أنها كانت قوة فكرية وثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، وسّعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام لكنها لم تسمح لهم بفهم الإسلام، وذلك لأن "سقراط" ركز في فلسفته على الإنسان وحده وأهمل العوالم الأخرى، وهدا يخالف روح القرآن. وأفلاطون الذي قلّل من قيمة الإدراك الحسي لأنه يفيد الظن ولا يفيد اليقين، وهذا بعيد عـن تعالـم القرآن، "وقد فات هذا الأمر المتقدمين من علماء الإسلام الذين عكفوا على درس القرآن بعد أن بهرهم النظر العقلي القديم،فقرءوا الكتاب على ضوء الفكر اليوناني،ومضى عليهم أكثر من قرنين من الزمان قبل أن يتبين لهم في وضوح غير كاف أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تعاليم الفلسفة القديمة. وقد نجم عن إدراكهم هذا نوع من الثورة الفكرية لم يُدّرك أثرها الكامل إلى يومنا هذا".[12]

يعتبر "محمد إقبال" المسيحية البدائية باعتبارها لونا من الإيمان والتفكير لم تستطع بناء وحدة سياسية ومدنية، بل كانت نزعة رهبانية في عالم غير طهور، لاتهامها أمور الدنيا، فأنتج ذلك الخصومة الحادّة بين الدولة والكنيسة. وذلك لا يكون في الإسلام لأن الإسلام كوّن مجتمعا سياسيا ومدنيا منذ الأول. ويؤكد "محمد إقبال" ذلك من خلال نقده للمسيحية فيقول: "ولا شك في أن المسيحية عندما رسمت مثلا أعلى لحياة أخرى نجحت في تهذيب الحياة وطبعها بالطابع الروحي، ولكنها قصرت هَمّها على حياة الفرد، فأصبحت عاجزة عن إدراك ما للعلاقات الإنسانية الاجتماعية المتشابكة من قيمة روحية".[13] ويستشهد على ذلك بقول "ناومان" "Naumann" في كتابه "بحوث الدين":"إن المسيحية البدائية لم تجعل قيمة ما لحفظ كيان الدولة، ولم تحفل بالتشريع والتنظيم والإنتاج، بل إنها لم تفكر في أحوال المجتمع الإنساني قط... ومن ثم فإما أن نتجه إلى أن نكون من غير حكومة فنلقي بأنفسنا بين براثين الفوضى متعمدين، وإما أن نقرر أن تكون لنا عقيدة سياسية إلى جانب عقيدتنا الدينية".[14] والإسلام كوحدة روحية مثالية هذه الوحدة تتجلى في مظهر خارجي واقعي ومادي، هذا المظهر ينطوي على فكرتين هما: ختم الرسالة الإلهية والاجتهاد في الأحكام الشرعية.

لقد انتقد "محمد إقبال" الفكر الفلسفي الإسلامي في كبريات قضاياه، وفي اتجاهاته الكبرى، وعند رواده أمثال "الأشاعرة" و"المعتزلة" و"أبي حامد الغزالي" و"ابن رشد" وغيرهم، فالشك الفلسفي في محاولة "الغزالي" لتأسيس الدين على دعامة أمر يتعارض مع روح الدين وتعاليم القرآن، ودفاع "ابن رشد" عن الفلسفة متأثر "بأرسطو" صاحب مذهب خلود العقل الفعّال، يتعارض هو الآخر مع نظرة القرآن إلى قيمة النفس الإنسانية وإلى مصيرها، "بهذا غابت عن ابن رشد فكرة إسلامية مثمرة عظيمة وساعد عن غير قصد على نمو فلسفة للحياة تورث الضعف، وتغشى على بصر الإنسان عند نظره إلى نفسه وإلى ربه وإلى دنياه".[15] ويقول "محمد إقبال" في فرقتي "الأشاعرة والمعتزلة": "وليس من شك أن البناة من مفكري الأشاعرة كانوا على طريق الصواب، وقد سبقوا الفلسفة المثالية إلى قدر من أحدث أرائها، وإن كانت حركة الأشاعرة في جملتها لا غاية لها إلا الدفاع عن رأي أهل السنة بأسلحة من المنطق اليوناني… أما المعتزلة وقد قصروا إدراكهم للدّين على أنه مجموعة من العقائد متجاهلين أنه حقيقة حيوية – فلم يحفلوا بأساليب إدراك الحقيقة إذا كانت لا تقبل التصور، وأرجعوا الدين إلى نسق من المعاني المنطقية، انتهى إلى موقف سلبي بحت، وغاب عنهم انه في ميدان المعرفة –علمية كانت أو دينية– لا يمكن للفكر أن يستقل تمام الاستقلال عن الواقع المتحقق فـي عالـم التجربـة".[16] ويؤكد "محمد إقبال" على أن ماضي الفكر الإسلامي التشريعي قد خلا تماما من النقد والتمحيص، ويوافق أحد المجددين في رأيه بأنه إن "لم نستطع إضافة الجديد إلى التفكير الإسلامي العام فقد نوفق –عن طريق النقد المحافظ السديد- في كبح جماح حركة التحلل من الدين التي تنتشر بسرعة في الدين الإسلامي".[17]

ينتقد "محمد إقبال" التفكير الديني في الإسلام ويعيب عليه ركوده خلال القرون الخمسة الأخيرة، كما يعيب على المسلمين نزوعهم الروحي نحو الغرب، ويذكر ما قد ينجر عن هذا النزوع وهذا الانهيار، فيقول: "فإن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزح بها المسلمون في حيتاهم الروحية نحو الغرب. ولا غبار على هذا المنزع فإن الثقافة الأوربية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام. وكل الذي نخشاه هو أن المظهر الخارجي البرّاق للثقافة الأوربية قد يشلّ تقدمنا، فنعجز عن بلوغ كنهها وحقيقتها".[18] ويذكر "محمد إقبال" "لجمال الدين الأفغاني" دقة بصره لتاريخ الفكر والحياة في الإسلام وسعة خبرته بالرجال والأحوال، ربط بين الماضي والحاضر، ولو اقتصر نشاطه على الإسلام كونه عقيدة وخلق وأسلوب في الحياة لكان العالم الإسلامي قويّا من الناحية العقلية فيأخذ المعرفة العصرية، ويقدم تعاليم الإسلام في ضوء هذه المعرفة. ويشير "محمد إقبال" بما يتطلع إليه شباب المسلمين في آسيا وفي إفريقيا وما يريدونه من توجيه جديد بعقيدتهم، وهم يواجهون الفكر الأوروبي، "ولهذا لا بد من أن يصاحب يقظة الإسلام تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكر الأوروبي، وكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا أن تعيننا به في إعادة النظر في التفكير الديني في الإسلام، وعلى بنائه من جديد إذا لزم الأمر، أضف إلى هذا أنه لا سبيل إلى تجاهل الدعوة القائمة في أواسط آسيا ضد الدين على وجه عام، وضد الإسلام على وجه خاص – تلك الدعوة التي عبرت حدود الهند بالفعل، وبعض دعاة هذه الدعوة من أبناء المسلمين".[19]

إنّ محاولة "محمد إقبال" الفكرية الفلسفية تستهدف تقدم الإسلام باعتباره رسالة إلى الإنسانية جمعاء، وعلى الأخص للمسلم ، في وقت سيطر فيه الطابع التجريبي المادي على المعرفة الإنسانية، فهي فلسفة تسعى إلى كشف قيمة الإسلام وقيّمه الذاتية عند الإنسان التجريبي، وهو الإنسان الغربي والإنسان المسلم، وإذا كان المذهب الوضعي التجريبي مكّن صاحبه من السيطرة على قوى الطبيعة فإنه قد سلبه مصيره وروحانيته، وجعله أسير صراع مع نفسه ومع غيره في الحياة الاقتصادية والسياسية، يجد نفسه عاجزا عن الاتصال بأعماق وجوده فهو إن كان عقليا أو تجريبيا أو اشتراكيا ماركسيا يعيش في اضطراب وتوتر إما مع ذاته أو مع غيره. إن الطابع العقلي للفكر الغربي الحديث عاجز عن إشعال جذوة الإيمان الصادق، تلك الجذوة التي لا يستطيع أن يشعلها إلا الدين، فالدين استطاع دوما أن ينهض بالأفراد ويغير الجماعات ويحوّلها من حالة إلى أخرى، و"مثالية أوروبا لم تكن أبدا من العوامل الحيّة المؤثرة في وجودها، ولهذا أنتجت ذاتا ضالّة أخذت تبحث عن نفسها بين ديمقراطيات لا تعرف التسامح، وكل همّها استغلال الفقير لصالح الغني، وصدقوني أن أوروبا اليوم هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسـان".[20]

يختلف الفكر الإسلامي عن الفكر الغربي وعن مثالية أوروبا في أن المسلم له أراء وفهوم للحياة وللوجود انطلاقا من أعماق هذه الحياة وهذا الوجود وهي فهوم مرتبطة بأعماق النفس، والأساس الروحي للحياة لدى المسلمين هو إيمان يمثل مقصد ومبتغى الدين، تُستغل الحياة كلها في سبيله. ويقوم الإسلام على مبدأ ختم الرسالة الإلهية وعلى مبدأ الاجتهاد في الأحكام، وهما مبدآن يجعلان أهل الإسلام أكثر شعوب المعمورة في الديمقراطية الروحانية والحرية، بعيدا عن الرق الروحي وما ينتج عنه من رق حيواني اجتماعي وسياسي واقتصادي، ويطلب "محمد إقبال" من "المسلم اليوم أن يقدّر موقفه وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية، وأن يستنبط من أهداف الإسلام، التي لم تتكشف بعد إلا تكشفا جزئيا تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده".[21]

تلك الديمقراطية الروحية لا تتكشف للإنسان المعاصر إلا إذا أعاد النظر في ذاته وتفكيره ومحيطه والعالم، وأعاد بناء تفكيره وحياته الاجتماعية ضمن إستراتيجية تقوم في أساسها على الحياة الروحية، وترتبط بالقيّم الدينية، وتستفيد من التراث الفكري الإنساني والإسلامي، ومن الفكر الغربي الحديث والحضارة الأوروبية المعاصرة، فالتغيير صار ضرورة ملحّة في وضعيته وفي حياته الحاضرة، لأن العالم صار في حاجة ماسة إلى تجديد نفساني ووجداني، والدين ليس مجرد عقيدة فحسب بل هو الوحيد الذي يقدر على تكوين الإنسان تكوينا خلقيا وسيكولوجيا يؤهله لتحمل المسؤولية الكبرى، ويمكّنه من بلوغ السمو إلى مستوى جديد في فهم الكون والتحرّر وامتلاك مبادئ وأسس علمية تسمح بالتحضر وتوجيه تطور المجتمع البشري، وفي هذا يقول "محمد إقبال": "إن السمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله من أين جاء وإلى أين المصير هو وحده الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية بما انطوت عليه من صراع بين القيّم الدينية والسياسية، والدين كما بيّنت من قبل من حيث هو سعي المرء سعيا مقصودا للوصول إلى الغاية النهائية للقيّم فيمكنه بذلك أن يعيد تفسير قوى شخصيته هو حقيقة لا يمكن إنكارها".[22]

يصف الأستاذ "محمد البهي" محاولة "محمد إقبال" لإعادة بناء الفكر الإسلامي بقوله: "كان "إقبال" دقيقا عندما عبّر عن حركته الفكرية بإعادة بناء الفكر الديني في الإسلام دون التعبير بالإصلاح الديني لأن أيّة محاولة إنسانية تدور في محيط الإسلام، لا تتعلق بتعديل مبادئه ،طالما أن مصدره هو القرآن له صفة الجزم والتأكيد والأبدية وأيّة حركة "إصلاحية" في "الإسلام" بعد ذلك هي إذن في دائرة الفكر الإسلامي حوله، وفي دائرة أفهام المسلمين لمبادئه، وأيّ تطور "للإسلام" يجب أن يكون بهذا المعنى في دائرة أفهام المسلمين وتفسيرهم لتعاليمه، وليس هناك تطور للإسلام نفسه... وإصلاح الفكر الديني في الإسلام يقوم -عند إقبال- على طلب تغيير الوضع الذي وصل إليه المسلم الآن، ووصلت إليه الجماعة الإسلامية وهو وضع الضعيف المتهيب الحياة النافر من الواقع... يقوم على مكافحة الهرب من الحياة وعدم استطاعة السيطرة على المادة أو الطبيعة...".[23]

تقوم فكرة الإصلاح والتجديد في فكر "محمد إقبال" وفلسفته على إعادة النظر إلى الذات وتغيير مفهوم عالمها وإعادة بنائها انطلاقا من تعاليم الإسلام وقيّمه الذاتية ومن وضعية المسلم وظروفه الراهنة، وعلى تغيير مفهوم الواقع الطبيعي والاجتماعي على أساس أن الطبيعة ميدان لحركة الإنسان وسعيه ومعرفته، وبالتالي إزالة ما لديه من تصور عن كون عالم الطبيعة شرّا ومخيفا، وعلى مبدأ الحركة في الإسلام الذي يقوم على شرح المبادئ الإسلامية، كمبدأالتوحيد من حيث هو تنفيذ لفكرة المساواة وفكرة الحرية وفكرة الاتحاد، وكمبدأ ختم الرسالات ومبدأ الاجتهاد وغيرها. إن التغيير أو الإصلاح بهذا المعنى هو الذي يميّز بين المذهب المادي الغربي الذي يسيطر على الطبيعة لكنه عرف الحقيقة في جزء منها فقط، وبين التفكير الإسلامي الذي يصل إلى معرفة الحقيقة المطلقة من خلال التجارب الإنسانية الواقعية والدينية والتاريخية باعتبار مصادر المعرفة ثلاثة: الواقع والدين والتاريخ.

إنّ إعادة بناء الذات والفكر يقوم أساساً وابتداء على تغيير ما بداخل الذات وهو أمر يقرره القرآن في الآية الكريمة: ﴿إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما في أنفسهم﴾.[24] يقول "محمد إقبال": "وفي هذا المنهج من التغيّر التقدمي لا يكون الله في عون المرء على شريطة أن يبدأ هو بتغيير ما في نفسه… فإذا لم ينهض الإنسان إلى العمل، ولم يبعث ما في أعماق كيانه من غنى وكفّ عن الشعور بباعث من نفسه إلى حياة أرقى، أصبحت روحه جامدة جمود الحجر، وهوى إلى حضيض المادة الميتة، على أن وجود الإنسان وتقدمه الروحي يتوقفان على إحكام العلاقات بينه وبين الحقيقة التي يواجهها".[25]

إذا كانت النصرانية في نظر "محمد إقبال" اهتمت في أول عهدها بالبحث عن مستقر للحياة الروحية، هذه الحياة لا تسمو عن طريق إمكانات العالم الخارجي وقواه، "وإنّما يتجلى عالم جديد في داخل النفس ذاتها، والإسلام يقرّ هذه النظرة تماما ويكملها بنظرة أخرى هي أن النور الذي يضيء هذا العالم الجديد المتجلّي على هذا النحو ليس غريبا عن عالم المادة، بل هو متغلغل في أعماقه".[26] وتكون تزكية النفس بالعمل وحده، لأن الحياة تضع النفس في ميدان العمل ولا يوجد من الأعمال ما يجلب اللّذة ولا منها ما يورث الألم بل هناك أعمال تضمن للنفس الخلود والبقاء وأخرى تضمن لها الفناء والزوال فالعمل هو الذي يعدُّ النفس للزوال أو يهيئها لحياة حرّة مستقلة، "ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء هو احترامي للنفس فيَّ وفي غيري من الناس".[27] والخلود لا يتحقق بكونه حقّا نناله، إنما يبلغه الإنسان بما يبذله من جهد شخصي، والإنسان هو المخلوق الوحيد المرشح لذلك. وبما أن النفس خالدة فعملها دائم وحركتها مستمرة لا تعرف التوقف ولا الانقطاع، وهي جزء من العالم، والعالم بجميع جزئياته يعود في حركته إلى الحركة الإلهية، وهو تجلى"الإنية" العظمى أو "العلى الأعلى"، "على أن هناك درجات في تجلّى الروحية أو الذاتية، وتجليّ هذه الروحية يرتقي في سلّم الوجود درجة درجة إلى أن يبلغ كماله في الإنسان، وهذا السرّ في تصريح القرآن أن الله أو الذات القصوى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد".[28]

إنّ العالم في نظر "محمد إقبال" ليس جامدا ثابتا وليس خلقاً مكتملاً، فهو قابل للزيادة والنّماء، وهذا التغيّر في العالم يجعل الإنسان يسعى إلى ضمان التلاؤم بين ذاته وبين مستلزمات هذا التغيّر ويدفعه لاستعمال ما لديه من قوّة التغلّب على الصعوبات. وامتداد الكون في الزمان والمكان " يحمل في طياته الأمل في أن الإنسان الذي يجب عليه أن يتفكّر في آيات الله سيتم غلبته على الطبيعة بالكشف عن الوسائل التي تجعل هذه الغلبة حقيقة واقعة".[29] والغلبة تكون عن طريق تسخير قوى الطبيعة لخدمة أغراضه ومطالبه. ويتضح هذا في قول "محمد إقبال": "والإنسان إذا استهوته القوى التي تحيط به فإنه يقدر على تكييفها وتوجيهها حيث شاء، أما إذا غلبته على أمره فإنه قادر على أن ينشئ في أعماق نفسه عالما أكبر يجد فيه منابع من السعادة والإلهام لا حد لهما ولا نهاية ولهذا فإن الإنسان في صميم كيانه كما صوّره القرآن قوّة مبدعة وروح متصاعدة تسمو في سيرها قدما من حالة وجودية إلى حالة أخرى".[30]ويضيف"محمد إقبال": "لقد قدّر على الإنسان أن يشارك في أعمق رغبات العالم الذي يحيط به، وأن يكيّف مصير نفسه ومصير العالم كذلك، تارة بتهيئة نفسه لقوى الكـون وتـارة أخرى ببذل ما في وسعه لتسخير هذه القوى لأغراضه ومراميه".[31]

لقد دعا القرآن في أكثر من آية إلى تأمل الطبيعة ليبعث في النفس الإنسانية الشعور بالذات الكلية التي تُعدّ الطبيعة آية عليه. "والاتجاه التجريبي للقرآن" شكّل في أصحابه شعورا بأهمية الواقع وقدْره، فاستطاعوا أن يصنعوا أسس العلم الحديث. إنّ التطور الحاصل في العالم يجعل حياة الإنسان تنبني بصورة جديدة، والجهد العقلي المبذول لتجاوز عقبات العالم يمكن الإنسان من التعمق في جزئيات التجربة الإنسانية، ويجد في آفاق الحياة وتجريدها ثراء وخصوبة، واتصال العقل بعالم الأشياء الحادثة هو الذي يدرب على النظر العقلي فيما هو مجرد. "والقرآن يُبصّرنا بحقيقة التغيير العظيمة التي لا تتسنى لنا بغير تقديرها والسيطرة عليها حضارة قوية الدعائم. ولقد أخفقت ثقافات آسيا بل ثقافات العالم القديم كله لأنها تناولت الحقيقة بالنظر العقلي ثم اتجهت منه إلى العالم الخارجي، فأمدّها هذا المسلك بالتفكير النظري المجرد من القوة، وليس من الممكن أن تُقام على النظر العقلي المجرد وحدة حضارة يُكتب لها البقاء".[32]

فالتغيير عند "محمد إقبال" يبدأ في داخل النفس الإنسانية، لأن الإيمان ليس مجرد شعور فهو يماثل رضا النفس وقبولها واطمئنانها عن دراية وعلم وإدراك. ولأن الدين باعتباره عقيدة فهو جملة من الحقائق العامة لها تأثير في توجيه الخُلق وتكييفه. "وإذا كانت غاية الدين وهدفه الأسمى تكييف الإنسان وهدايته في تدبيره لنفسه وفي صلاته بغيره، أصبح من الجلي أن الحقائق التي يشمل عليها الدين ينبغي ألاّ تبقى غير مقررة، فما أحد من الناس يغامر بالإقدام على عمل ما على أساس مبدأ خلقي مشكوك في قيمته".[33]فالتغيّر ميزة الكون والواقع تدل هذه الميزة على الأصل الروحي الأول لكل حياة، والإنسان مطالب بتغيير ذاته ووجوده الاجتماعي، ولكي يوفق الإنسان بين درجات التغير والدوام ينبغي أن تكون له مبادئ أبدية تنظم حياته الجماعية وتوجه أمورها، فالأبدي الخالد يثّبت وجود الإنسان في عالم التغيّر المستمر. "ولكنّا إذا فهمنا أن المبادئ الأبدية تستبعد كل إمكان للتغيّر وهو في نظر القرآن آية من الآيات الكبرى على الذات الإلهية- فإن هذا الفهم يجعلها تنزع إلى تثبيت ما هو أساسيا متغيّر في طبيعته وإخفاق أوروبا في علم السياسة وعلم الاجتماع يوضح المبدأ الأول، وركود الإسلام في القرون الخمسة الأخيرة يوضح المبدأ الثاني".[34]

فالإسلام لا يكون خصيما لفكرة التطور هذا التطور ليس تغيرا بحتا بل فيه عناصر تنزع للمحافظة على القديم، "فالإنسان في الوقت الذي يستمتع فيه بنشاطه الخلاّق ويركز جهوده باستمرار في كشف مسالك للحياة جديدة، يحس بالقلق عندما ينكشف له ما في ذات نفسه، ولا مفرّ له في خطوة إلى الأمام من أن يرجع البصر إلى ماضيه، وهو يواجه نماءه الروحي في شيء من الخوف، وروح الإنسان يعوقها في سيرها قدما قوى يظهر أنها تعمل في الاتجاه المضاد، وما هذا إلى ضرب من القول بأن الحياة تتحرك وهي تحمل على عاتقها أثقال ماضيها وأنه في أي تغيّر اجتماعي لا يمكن أن يغيب عن النظر ما لقوى التمسك بالقديم من قيمة وعمل".[35]

التجديد في نظر "محمد إقبال" يصدر دوما من الحق اللاّمتناهي، مما يجعل تلقي الإنسان إيجابيا فيبدع ويجدد. ويقول "محمد إقبال": "فالحياة واحدة ومتصلة والإنسان يسير دائما قدما فيتلقى على الدوام نورا جديدا من الحق غير المتناهي الذي هو ﴿كل يوم هو في شأن﴾ ومن يتلقى نور الهداية الربانية ليس متلقيا سلبيا فحسب لأن كل فعل لنفس حرة يخلق موقفا جديدا وبذلك ينتج فرصا جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد".[36] وعملية التجديد والإصلاح ليست من نصيب المسلم المعاصر في ظل الظروف القائمة بل تشترط تحرير الفكر، مع اتخاذ الحذر والحيطة، لأن حرية الفكر قد تؤدي إلى الانحلال. إن فكرة القومية العرقية التي تأثر بها المسلمون في العصر الحديث قضت على النظرة الإسلامية الشاملة العامة التي أروت نفوس المسلمين ، وزعماء الإصلاح في الدين والسياسة يأخذهم حماسهم خارج الحدود الصحيحة للإصلاح والتجديد إذا غاب ما يوقف جماح "حميتهم الفتيّـة".

إذا كان المسلم يتلقى إيجابيا فتصير ذاته حرة طليقة تخلق الموقف الجديد دون أن تدوس على القديم، فإن التقوقع –عند محمد إقبال- في القديم والجمود عليه يهلك النشاط الإنساني، "فهو يقضي على حرية الذات المبدعة، ويَسدُّ المنافذ الجديدة للإقدام الروحاني".[37] ومهمة المسلم المعاصر جدّ ضخمة، "إذ عليه أن يفكر تفكيرا جديدا في نظام الإسلام كلّه دون أن يقطع ما بينه وبين الماضي قطعا تاما".[38]

إن فكرة التجديد والإصلاح التي أرادها "محمد إقبال" ودافع عنها وعبّر عنها بـ"تجديد التفكير الديني في الإسلام" تمثل تفكيراً ومنهجاً يقوم على النقد وإعادة البناء وينتهي إلى دور الإسلام في توجيه حياة الإنسان، وهي ضرورة لابد منها للتخلص من الاستعمار الصليبي ولمواجهة الفكر الغربي المادي الإلحادي ولإزالة الضعف العام عن المسلم المعاصر، وتنشد هذه الفكرة تأويل الوجود على أساس روحيه، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ إنسانية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحيته. أي تغيير في مفهوم الإنسان لعالم الطبيعة وتحديد مبادئ عالمية لضمان التغيّر والتجدّد في المجتمع الإنساني، كل هذا يجري في الكون، ومن خلال سيطرة الإنسان على العلاقات بين وحداته: الإنسان، الوجود، والله. وإدراكه لظاهرتين أساسيتين هما ظاهرة تغيّر العالم وظاهرة حركة الإنسان، هذه الحركة التي جعلت الحياة متجددة باستمرار، هذا التجدد يبدأ في داخل نفس الإنسان في تفكيره ووجدانه ومشاعره ثم يتحول إلى خارج النفس، فيكون عبارة عن تسخير في عالم الطبيعة بواسطة العلوم الطبيعية والصناعات، ويكون اجتهادا في الواقع الاجتماعي وفي الأحكام، هذه الحركة وهذا التجدد في داخل النفس أو في الطبيعة أو في المجتمع هي من أصل واحد تعود إلى الحركة الإلهية، وتسعى إلى بلوغ الروحانية الإلهية التي هي مصدرها ومقصدها.
 
عودة
أعلى