التوازن في الحياة من روح الإسلام وجوهره

الدكتور جيلالي بوبكر

التوازن في الحياة من روح الإسلام وجوهره

إنّ إيماننا الراسخ واعتقادنا الثابت بصدق رسالة الإسلام مردّه إلى النشأة والتوريث الاجتماعي الديني والثقافي أولا، وإلى ما تنطوي عليه هذه الرسالة من عناصر مطلقة في القوّة، ليست قوّة الرهبة والحديد والنار كما يزعم البعض من أصحاب الملل والنحل الأخرى المناوئة لملة الإسلام، بل قوّة يُجليها تمام المنهج الإسلامي في المعتقد وفيما شرّعه الشارع لخلقه فيما أبانه في كتابه وسنّة نبيه، كل ذلك فوق البشر، يسمو عن كل خلل أو نقص، وترتاح له النفوس الطيبة والطباع السليمة والفهوم الرشيدة والعقول الواعية، كما تتجلي عظمة رسالة الإسلام في روحه العظيمة الكاملة التي لم تكن على غير مثال سابق أو لاحق ما دامت هي خاتمة الرسالات ومحمد خاتم المرسلين، والعظمة والقوّة والكمال في روح الإسلام وفي منهجه وفي جميع قيّمه وأحكامه من عظمة وقوّة وكمال الذي بعث بحق الإسلام الكامل إلى الإنسانية بأكملها، وأنزله وحيا على نبيّه الكريم العظيم في خُلقه، الصادق المصدوق في ندائه ومسعاه.

إنّ ما يميّز روح الإسلام في المعتقد والنظر والممارسة وسائر قوانينه العقدية والفقهية عن المعتقدات والشرائع والفلسفات الأخرى قيام بنيته على التوازن لا على الأحادية والمغالاة فيما يتعلق بالخلق الإلهي، أي في كل ما يعني الكون والطبيعة والإنسان، فالتوازن في البشر بين النفس والبدن، وبين النظر والعمل، وبين الحرية والضرورة، وبين الدين والدنيا، وبين الأخلاقي والسياسي وبين طرفي سائر الثنائيات التي يختل التوازن في أيّ منها إذا غلب أحد طرفيها الآخر، على عكس ما درجت عليه الكثير من الاتجاهات الدينية والفكرية والثقافية والاجتماعية والفلسفية، ومنها الاتجاهات النصرانية التي فصلت بين القيصرية والإلوهية، وبين السماء والأرض، وبين الدين والدولة، بمنظور علماني يدوس على كونية التدين والتعبد وعلى عالمية الرسالة السماوية، ويتنكر لارتباط السماء بالأرض ولاتصال السياسة والدولة والمجتمع المدني بالأخلاق وبالدين ولصلة الوحي بسائر شؤون الحياة اليومية من خلال الترهب وفصل الواقع المعيشي عن المقدس، والانفتاح الحر على العالم الدنيوي وإهمال كل ما يخرج عنه ويتصل بعالم الروح والعالم الآخر، والأمر نفسه تقريبا تعرفه اليهودية العالمية ومن ورائها الماسونية.

ونفذ هذا التوجه الديني المدعم بفلسفات كثيرة ليبرالية واشتراكية ومادية وعقلانية وتجريبية وبراغماتية وغيرها في مواقع سلطة القرار في السياسة والمال والأعمال والعسكر جعل الحياة المعاصرة تفتقر إلى التوازن المطلوب، لكونها ذات توجه مادي علماني علمي تقني، وهذا على حساب حاجة الإنسان إلى الروحيات والأخلاقيات، فأخلاق العولمة وهي أبرز خاصية للحياة في عصرنا ترتبط بكل ما يمارسه أهل المال والأعمال والسياسة من استبداد وظلم وتعسف، ومن نهب للثروات وسلب للأموال في مستوى الأفراد والحكومات والدول مع الاستعانة بالمافيا السياسية والمالية والاقتصادية وممارسة الإباحية في كل شيء، إباحة دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وصارت الإباحية الجنسية والبونوغرافيا مبتغى عصر العولمة، وانساق الإنسان وراء شهواته غير مبال بالقيّم الروحية، ففقدت الحياة توازنها، وصارت الأزمات تتوالى عليها من كل حدب وصوب وفي كل الأصعدة.

كل الأزمات التي تعاني منها حياتنا المعاصرة مردّها إلى افتقارها لشروط ولوازم التوازن المطلوب، الذي دعا ولا زال يدعو إليه الإسلام، وقوّة دعوة الإسلام تكمن أصلا وأساسا في كونها دعوة متوازنة تماما وكمالا، متوازنة في الأفكار والعقائد، وفي تصورها للإنسان في صورتيه الفردية والاجتماعية، وفي صلتها بالطبيعة والكون ككل، وفي ارتباطها بالحياة عامة.

فمن ناحية المعتقد يتأسس التوازن في العقيدة الإسلامية على التوحيد والخلق والعدل وغيرها مما لله من ذات وصفات وأفعال، فمن غير المعقول أن يكون الكون حادثا مصنوعا في صورة إبداعية منظمة والإنسان جزء من الكون من غير محدث صانع مبدع بالمشيئة والفعل، فالله مبدع الكون وخالق الإنسان وهو واحد لا شريك له، لا يتعدد ولا يتبدل سبحانه، فعقيدة التوحيد تضمن توازن المعتقد في تصور رابطة الإلوهية والربوبية والوحدانية بالإنسانية، وتقتضي ارتباط الإنسان بربه إيمانا واعتقادا راسخا وتقرّبا تعبدا ورغبة ورهبة، هذا التوازن المؤيد للفطرة العقدية يزيل التردد والشكوك والوساويس من نفس الإنسان ويسطع لها الحق فتعرف الحق وتدافع عنه وتضحي لأجله، ويترتب عن إدراك الحق التسليم به في كله وأجزائه، وتصديق الإسلام فيما ظهر وما خفا في السرّ والعلن، فالله واحد فرد صمد لا شريك له، مبدع الكون من دون تفاوت في الخلق، ملائكته حق وكتبه حق ورسله حق و والآخرة حق والقدر خيره وشره حق، حقائق تقطع الشك باليقين فيما اختُلف فيه، وكثيرا ما عجز الإنسان أمامه وعاش بسببه طيلة حياته في الضلال والتيه بعيدا عن السداد والرشاد غارقا في الجدل والاختلاف والمهاترات ، وليس هناك ما هو أفضل من الاطمئنان بالإيمان الراسخ في النفس الذي يضع حدا للشك والحيرة والقلق والتساؤل، ويحيل صاحبه صوب عالم روحي مليء بالأمان والسلام ومفعم بالصدق والإخلاص والوفاء لعقيدته، وهذا هو عين التوازن الروحاني والتماسك العقدي في عقيدة الإسلام.

أما من ناحية التوازن المطلوب في الوجود الإنساني لاستقامة الحياة في عالم الدنيا، والإنسان جزء من الوجود الكوني ككل، إذ يستلهم تماسكه على المستوى البيولوجي والنفسي والعقلي والاجتماعي من التوازن العقدي والإلهي، فتلتقي الأرض مع السماء من غير مكابرة بل في انسجام وتكامل، والمسلم بتوجيه من دينه يبني حياته عامة على الوحي الإلهي والنقل مستخدما العقل مجتهدا في مساعيه الدنيوية، يجمع بين النص الديني الموحى إليه لاستثماره مع الواقع المعيشي في السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية وسائر شؤون الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء، ويحفظ للحياة مطالبها الروحية والمادية، ويعمل للعالمين معا عالم الحياة الدنيا وعالم الحياة بعد الموت، ويحفظ للفردية وجودها وكرامتها وسائر مطالبها، كما يصون الاجتماعية ويرعاها في سائر حقوقها وصورها، الأسرة والمجتمع والدولة والأمة إلى الإنسانية، ويجمع بين الحق والواجب في توزيع الثروة ويساوي في الفرص وبين الكفاية الاستحقاق وفي الثواب والعقوبة وغيرها.

إذ أنّ الحياة تفقد معناها وطعمها إذا خلت من التناسب بين الكون والطبيعة والإنسان والله في حياة الإنسان على سبيل النسبية والمحدودية ليس على سبيل الإطلاق، والسرّ في أن للحياة معنى في حدود التوازن المطلوب وللإنسان قوامة في هذه الحياة هو ما يتميز به من ضعف وقصور ومحدودية فيحتاج دوما إلى ما يأخذ بيده نحو الرشاد، فأوحى الله إليه من هديه وحكمته، وله من التكريم والتفضيل الإلهي ما ليس لغيره، فهو العاقل الواعي استطاع أن يبني المجتمع ويحرك التاريخ ويبدع الحضارة مستلهما إرادته في الإبداع من الإرادة الإلهية، فصار أقوى مخلوق على وجه الأرض بعدما ولد أضعف مخلوق تكوينا وبنية وصار سيد الكون بما له من قدرة على التسخير والتحويل ، تحويل الكون مما هو غير نافع إلى ما ونافع.

إن الحكمة من توازن المخلوقات هو ضمان للاستقامة في الكون والطبيعة والإنسان، وتحقيق القوامة في الحياة لصالح الإنسان، لأن الله في غنى عن العالمين، مثلما نجد ظاهرة التسخير والقدرة عليها وفعل الاجتهاد وما يترتب عنه من إبداع وتجاوز القديم في كل المستويات، كل ذلك يقع في عالم الإنسان ولا تعرفه العوالم الأخرى، ويقتضي التوازن في حياة الإنسان العدل الإلهي الذي منه يستلهم الإنسان العدل في حياته التي لا تستقيم بدونه، عدل في الخلق وعدل في الفعل والتأثير وعدل في المآل والمصير، فالذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، كرّمه وفضّله على كثير من مخلوقاته، وهبه العقل والوحي ومنحه لحكمته هو الإرادة والقدرة على الاختيار، وأودع فيه ومن حوله ما يستحيل إحصائه من النعم والخيرات، وكلّفه باعتبار الفطرة والاجتهاد وفق سننه، وعلّمه أنّ الانحراف عن سننه مصيره اختلال التوازن، وبان ذلك على طول مراحل الإنسان في معتقده وفي فكره وفي سائر اجتهاداته، فعين التوازن هو الامتثال للسنن الكونية.

إنّ حياة المسلم عامة ينبغي أن تُبنى على الروحانية من دون إهمال المادية، الروحانية التي تنفذ في داخل الفرد وفي المجتمع وفي الإنسانية، وينبغي أن يكون المسلم أكثر ارتباطا بالحرية في روحانيته لا على سبيل التمرد على السنن بل على طريق الفعل الاجتهادي الذي يحقق الروحانية التي تستمد مقوماتها من أهداف الإسلام، والتي تتكشف تدريجيا ببذل الوسع واعتبار السنن.

إنّ الإنسان هو مركز الكون ومحركه، له فردية ذات روحانية مستمدة من الذات الإلهية المطلقة، فيه يتجلى المركب من المادة والروح أي من البدن والنفس، ومن الواقع والمثل ومن الحس والعقل لا هو روح فحسب ولا جسم فحسب، بل هما معا، ولم يخلق عبثا بل لأجل رسالة عظمى ومهمة قصوى إنها تمثيل الله على الأرض وخلافته في فرديته وفي مجتمعه وفي مصيره، ولم يترك ريشة في مهب الريح، فبين يديه دستور إلهي يستوعبه وينفذه ويكشف قيمته ومعانيه، فيضع التاريخ ويبني الحضارة.

الإنسان موهوب قادر على إنتاج الحضارة في التاريخ، باعتبار التاريخ مصدرا للمعرفة الإنسانية يقدر عليه من له خبرة كبيرة وعلم واسع، فتتحقق الأفكار الأساسية عن طبيعة الحياة والزمان، هذه الأفكار التي تقرر وحدة الأصل الإنساني وتسمح بإدراك حقيقة الزمان إدراكا دقيقا، وتؤكد أن التاريخ ليس ثابتا، وليس فيه الركود والجمود بل ينطوي على حركة التغير فهو حركة مستمرة في الزمان، حركة فيها الإبداع والتجديد، وعوامل وشروط البناء الحضاري كلها بيد الإنسان مصدرها روحانيته التي هي من الذات الإلهية وواقعيته الفردية والاجتماعية وعالم الطبيعة، وحينما يتحرك التاريخ ويتحرك الإنسان لبناء حضارة في التاريخ يبدأ الإنسان في تنفيذ الإرادة الإلهية، وتطبيق المثالية في الواقع بواسطة التغيير الذي يبدأ من داخل الذات وهو تسخير للروحانية، ثم تحويلها إلى ظروف زمنية، ثم ينتقل إلى الخارج وهو تسخير للكون، فالتغيير الذي هو أساس التطور يكتمل بواسطة البناء حينما يسخر الإنسان ما في ذاته وما في الكون لبلوغ منتهى غاية الإسلام ومقصده.

ودوافع الحركة التغيير والتوازن حالّة في وحدات الوجود الثلاث، الإنسان والكون والله، مرتبة من الأدنى نحو الأعلى، والحياة متغيّرة باستمرار لا تعرف الثبات والجمود، وتستمد تغيرها وخلودها من طبيعتها النهائية ومن أصلها الأول وهو الذات المطلقة. والتغيير لا يحصل في الإنسان ولا يجري في الواقع دون أن يحدث في أغوار الذات الإنسانية وأعماقها أولاً، ويتعلق هذا التغيير بمعنى الحياة والإنسان، وأساليب التفكير والعمل بالمبادئ التي يؤمن بها الإنسان، وبالأهداف والغايات التي يصبو إليها في توازن دائم.

والتوازن في أصله وفي مساره، وفي مقصده ومبتغاه روحي ومادي في قوى النفس ومحتوياتها الروحية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية، وفي قوى الطبيعة والكون وسائر القوى الإلهية، وفي كل هو ما يدعو إليه الإسلام، إذ يعتبر التوازن في أعماق الذات في اتجاه المستقيم فكرا وشعورا وسلوكاً هو أصل توازن الحياة وشرط الاستقامة والاعتدال في المقول والمعمول.
 

المرفقات

  • SAM_0140.JPG
    SAM_0140.JPG
    1.1 MB · المشاهدات: 0
عودة
أعلى